الكلام الأميركي عن الديمقراطية والتعددية في العراق ذو تمحور إثني وليس سياسي. فهم يتحدثون عن العراق كمجتمع متعدد إثنيا وعن ضرورة تمثيل كافة فئات وعناصر المجتمع العراقي في حكم عراق ما بعد صدام. والفئات والعناصر المقصودة هي عُصب أو روابط أولية جمعية، أي عشائر وطوائف وإثنيات، أكثر مما هي أحزاب سياسية أو تيارات أيديولوجية.
والأرجح أن هذا التمحور متولد عن التقاء عنصرين: المنظور الفسيفسائي الاستشراقي عن المجتمعات العربية و"الشرق أوسطية" الذي يشكل "اللاشعور السياسي" للمخططين الأميركيين، ومن جهة أخرى ضعف الأحزاب السياسية العراقية المضمونة الولاء أميركيا. فالأحزاب الأميركانية مصطنعة والأحزاب غير المصطنعة ليست أميركانية. ورغم أن الأحزاب الأخيرة كالشيوعي والدعوة أحزاب ضعيفة بدورها إلا أن ضعفها يعود إلى ما تعرضت له من دمار على يد نظام صدام حسين لا إلى هزال جذورها في المجتمع العراقي ولا إلى ضعف جذورها التاريخية. أما ضعف الأحزاب الأميركانية فيعود إلى اصطناعيتها وكونها في الأصل اختراعات أميركية لا تستطيع البقاء على قيد الحياة دون الدعم الأميركي والمال الأميركي والغطاء السياسي الأميركي.[1]
ستحكم هذه الواقعة، أعني افتقار الأميركيين إلى مساندة حزب أو أحزاب وطنية عراقية، طبيعة علاقتهم بالعراق في مرحلة ما بعد صدام. وبالخصوص ستكون لها الكلمة الفصل في تحديد وجهة هذه العلاقة: علاقة أقرب إلى الاحتلال والتبعية أم إلى الصداقة والتفاهم. فلو استطاع الأميركيون بناء علاقات ثقة مع قوى حقيقة داخل العراق لأمكنهم بالتدريج تخفيف الطابع الاحتلالي لسيطرتهم، ولربما أضحت هذه العلاقة دعامة للاستقرار العراقي. لكن المانع في وجه علاقة من هذا النوع هيكلي وتكويني، وتشترك في صنعه عوامل ثقافية وسياسية وتاريخية. ومجمل هذه العوامل التي لا يمكن التعبير عنها دون استخدام كلمات البترول وإسرائيل والإسلام وتاريخ الاستعمار الغربي والسيطرة الأمريكية، ومنها دور الولايات المتحدة في حربي الخليج الأولى والثانية، "تبرمج" العلاقة العراقية الأمريكية على تنافر قد يتحول إلى عداء أكثر مما على التفاهم والثقة. والأرجح أن برنامج العداء سيبدأ تفعيله بعد انصرام "مرحلة انتقالية"، مرحلة الصدمة والاحتلال إن جاز التعبير. ويمكن لأي حادث خطير أن يحول العداء إلى مواجهة خصوصا إن التقى مع مشاعر الاستبعاد عند هذه القوة السياسية أو تلك.
تحدد خيار الحرب الأميركي أصلا بثلاثة عناصر: ما يملكه العراق من ثروة وما هو عليه من ضعف ونوعية نظام حكمه. وبينما قامت الثروة بدور "السببية الفاعلة" أو الجاذبة، والضعف بما قد نسميه السببية "المهوّنة"، أي المضعفة لدواعي التردد والإقدام على العمل لدى الأميركيين (بعد 4 ايام من 11 أيلول برر بول وولفويتز فكرة هجوم على العراق بقوله إن القيام بذلك ممكن ومضمون)، فإن نوعية نظام صدام حسين قد قللت من الوساوس والترددات الأخلاقية بقدر ما سهِّلت صنع "قضية عادلة" ضد نظام حكمه. ولا شك كذلك أن ما عليه العراق من "حضارة" (بالمعنى الهنتنغتوني للكلمة،أي ثقافة ودين) قد لعب دورا مسهلا ايضا وذلك عبر خفض عتبة الاقتناع في الغرب بعدالة القضية الأميركية ضد العراق، وخصوصا بعد 11 ايلول وما ترتب عليه من احتلال المسلمين الدور الشاغر للشيطان. ولم يمكن تقنيع هذا العنصر الأخير، "الحضاري"، إلا بأبلسة مكثفة ومطلقة، انصبت على شخص حاكم العراق سيئ الذكر. هنا لم يعد الرمز الهتلري كافيا؛ فتلبية الأذواق المتنوعة في الغرب وتوسيع القاعدة الثقافية والرمزية للجبهة الداخلية المؤيدة للحرب استدعت أيضا جعل صدام نسخة نووية من صلاح الدين Nuclear Saladin حسب هايدي كنغستون (جيروزاليم بوست، 21/10/2002). ترى ألا يمكن أن نرى في أبلسة صدام إسقاطا على شخص مفرد بعينه لهوامات جماعية غربية عميقة الجذور حول العالم الإسلامي ؟
... والديمقراطية؟
أي موقع تحتله الديمقراطية عند تقاطع الثروة والضعف ودمار المجتمع المدني العراقي و"صدام الحضارات"؟
الأميركيون محتاجون بالفعل لإقامة نظام سياسي تعددي في العراق تأكيدا ل"التزامهم الديمقراطي" من جهة، وضمانا لاستقرار مصالحهم من جهة أخرى. ما الذي يمكن أن يفعلوه إذن؟ أو ما هي الصورة المرجحة للنظام السياسي العراقي بعد صدام على ضوء محددات السياسة الأمريكية وحاجاتها؟
نرجح، بالنظر إلى التمحور الإثني للتصور الأميركي لمجتمعات "الشرق الأوسط"، أن العراق سيحكم بنظام تمثيلي إثني، أو نوع من نظام المحاصصة السياسية على قاعدة إثنية ودينية وطائفية. ولا شك أن اللاشعور السياسي الاستشراقي هو الذي يطل برأسه في إعلان حاكم العراق الأميركي جاي غارنر عن رغبته بأن تكون الحكومة العراقية الجديدة "فسيفساء" تضم كل العناصر العراقية (الحياة، 24/4/2003). هذا النوع من التمثيل الانعكاسي، أو التمثيل الساكن بتعبير غسان سلامة، يضمن التعددية لكنه مرتبط بطبيعته بإضعاف السلطة المركزية، ويتعارض مع الوظائف القيادية والتغييرية للدولة. سنكون، إذا صح هذا التقدير، حيال سلطة متعددة الرؤوس الصغيرة، وبالتالي ثقيلة الحركة وشبه مشلولة، الأمر الذي يستدعي أن تتلقى دفعات محركة متكررة من الإصبع الأمريكية. ثم أن تنافس الرؤيسات في السلطة الجديدة سيجعل من الأميركيين قوة توازن دائمة بينها ومرجعية مشتركة لها.
قد تكون الصورة العامة لنظام الحكم العراقي الآتي مزيجا من "حصحصة" سياسية وخصخصة اقتصادية ونزع عروبة العراق أو ردها إلى المستوى الإثني كما في دول الخليج. وبينما تتيح "الحصحصة" للأميركيين الهيمنة على نظام توزيع الحصص السياسية والإشراف على التحالفات التي قد تنشأ في كنفه، فإنه سيراعى أن تتيح الخصخصة للشركات الأميركية أن تكون "الأكثر تساويا" بين الشركات الغربية "المتساوية" المتنافسة على الغنيمة العراقية. وتحت قناع نزع بعثية العراق يراد إجراء عملية تحويل ثقافي بعيدة المدى مضمونها الفعلي معاداة العرب وحذف الشؤون العربية من الأجندة العراقية (مستفيدين هنا بلا شك من كابوسية الترجمة الصدامية لهذا المشروع).
جاء الأمريكيون إلى العراق ليبقوا. لكن ليس من الضروري أن يكون الاحتلال هو صيغة بقائهم. سيحتفظون بلا شك بعدد من القواعد والتسهيلات العسكرية، على السُنّة الخليجية والبلقانية والقزوينية والأفغانية. وسيضعون أيديهم على البترول العراقي لا كهدف بحد ذاته ولكن لاستخدام سلاح البترول للتحكم بهامش مساومة أي خصوم محتملين وبالخصوص الصين، أي كوسيلة (بين وسائل أخرى) ل"تأمين" القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا. وسيشرف الأميركيون كذلك على علاقات العراق الخارجية، وفي المركز منها تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وربما تصنيع تحالفات إقليمية فتية تخفض من مرتبة (ولا تلغي) التحالفات الأميركية الأقدم، أي التحالفات الخليجية أو التحالف المصري.
ليست هذه الترجيحات تنبؤات مستقبلية ولا هي رجم بالغيب. فهي خطط ونيات أميركية متداولة بكثرة، ثم أنها تنسجم تماما مع سوابق ومصالح السياسة الأميركية في المنطقة. ومؤداها المشترك تحويل كبير للسيادة العليا للدولة العراقية إلى الجهة الأميركية، الراعية والمشرفة. هذا التحويل عنصر الجوهري في العلاقة الامبراطورية، أما نهب الثروات الاستعماري فيندرج ضمن هذه العلاقة الامبراطورية. وأن يكون العراق بلدا غنيا فأمر من شأنه أن يقرب الوصاية الأميركية عليه من صيغة الاستعمار البريطاني لكل من الهند ومصر. ولعلنا لا نخطئ إلا أقل الخطأ إذا بنينا على هذه الخلفية توقعاتنا للديمقراطية العراقية الموعودة.
*********************************
[1]هامش وحيد: تقول جماعة الأزمات الدولية (إنترناشنال كرايزز غروب، ومقرها في بلجيكا) في تقرير لها نشر في 23/12/2002 إن العراقيين يميزون بين المعارضة" التاريخية"، أي التي لها "جذور حقيقة في البلد مثل الشيوعيين والأكراد وبعض الإسلاميين" وبين المعارضة "الزائفة" التي ولدت في أعقاب حرب الخليج الثانية، وتشمل "المؤتمر الوطني العراقي والميثاق الوطني العراقي والضباط العراقيين الأحرار". ويلخص التقرير المعنون: أصوات من الشارع العراقي، الشعور العراقي العام حيال هؤلاء المعارضين كالتالي: "إن المعارضة العراقية في المنفى نسخة طبق الأصل من أولئك الذين يحكمونا الآن...الفرق الوحيد هو أن الأخيرين قد شبعوا من سلبنا طوال الأعوام الثلاثين الماضية. أما أولئك الذين سيأتون مع الأمريكيين فسيكونون نهمين جدا". www.crisisweb.org. وبعد الغزو والاحتلال تتوارد الأخبار عن عدم ثقة العراقيين بممثليهم المستوردين.