سَعْد اليَاسِري
الحوار المتمدن-العدد: 2144 - 2007 / 12 / 29 - 10:19
المحور:
الادب والفن
عن دار الخيّال في بيروتَ ؛ صدر الديوان الشعريُّ ( و أوتيت بلقيسُ ) , و هو الأوّل للشاعرة السعودية المقيمة في الكويت (عنود عبيد ) , و يقع في ستٍ وتسعين صفحةً من القطع المتوسط ؛ ضمّ بين دفّتيه اثنتين و عشرين قصيدةً .
مدخل :
تأبى ( عنود عبيد ) ؛ إلاّ أن تصدّر لنا الإنسان المشرق كما تعتقد هي , دون أن تمنحنا ما يكفي لمناقشة تلك الفكرة ومدى جديّتها . إذ أنّ الشاعرة تركّز على مضامين تدخل معانيها القريبة و الأبعد في تأويل النفس البشرية من خلال ( الحب – الزيف – الحزن – الوطن – الرغيف – القمح – السنبلة – النهر – النور – الأمل – الغيب – الفصول – الضعف – الضفيرة – الله – الفداء ... إلخ ) و كل مفردة مما سبق تحتل مكانةً في قصيدة ( عنود عبيد ) , تلك القصيدة التي تتبنّى نهجًا شجاعًا برأيي في زمن يلجأ الكثيرون فيه إلى استسهال الشِّعر .
العنوان :
( بلقيس ) ؛ اسم ذو دلالة طاغية في العهد القديم ( سفر الملوك الأوّل ) , و القرآن ( سورة النمل ) , و قصتها شهيرة . و إذا كانت الديانتان ( اليهودية – الإسلامية ) تتّفقان على وجود المرأة ولكنّهما لا تتفقان على مجريات الأحداث , فإنّ الأكيد لدينا بأنّها التقت النبيّ (سليمان) و اختلفت الروايات ( إسلاميًا ) حول زواجهما أو عدمه .
نحن نعرف – عبر الأقوال التأريخية المتواترة الحقيقي منها و الأسطوري – ما الذي كانت عليه ( بلقيس ) أو ( ملكة سبأ ) كما يرمز لها عادةً ؛ إذ يقول القرآن في سورة النمل – الآية 23 : ( و أوتيت من كل شيءٍ و لها عرشٌ عظيمٌ ) . لكنّ ( عنود عبيد ) تستخدم الفعل ( أوتيت ) لتضفي على ( بلقيس ) بعدًا شاعريًّا لا ينقصه الغموض , و كأنّها تريد أن تقول – من خلال العنوان - : و أُوتيتْ بلقيسُ القصيدةَ .. !!
في الديوان :
أحبّ أن أتأمّل الديوان كاملاً ؛ و لكنّني سأقف بشكل دقيق على معنى ( السنبلة – القمح – الرغيف ) في ديوان ( و أوتيت بلقيس ) و أترك ما سواه لمن سيتناول العمل بعدي .
في نص ( بين القلوب وبين الوله ) الغارق في عاطفية ترتكز بمرفقيها على الأمل تقول الشاعرة :
شتاءٌ ..قدمتُ إليهِ بطيفينِ
منذُ استوى الطيبُ
ذاتَ دعاءٍ .. بصورةِ أمي .. !
وحينَ عزفتُ لسنبلةٍ
كبرياءَ الرغيفِ ..
عقدتُ الضفائرَ بالياسمينِ !
اجتبيتُ صباحاً يكافئُ لونَ الغصون
ويمكنننا أن نلمس أهمية ( السنبلة ) لدى الشاعرة ؛ حيث أنها تزاوج بين دعاء الأم و كبرياء الرغيف , وهي دلالة معتادة في تقريب صورة أكفّ الأمّهات و وجوههن بثراء الرغيف أو بتدوّره في بعض الأحيان .
في حين أنّها تبتكر وجهًا آخرَ للقمح في نص ( تأمَّل ) الذي يعتمد على ذاكرة شخصية وجدانية تم توظيفها بالتوافق مع استشراف للقادم وإن كان بعيدًا :
وكيف تتيهُ ثكلى لم تجد زمناً
لجمعِ القمحِ !
و أيضًا :
يكبرُ .. ينحني ..
ويمرُّ مختلطاً بلونِ الأرضِ أو ..
قمحِ السماواتِ الحزينةِ
فالقمح في المقطع الأوّل أخذ شكل التراب الذي تهيله الثّكالى , فيما يتّجه في المقطع الثاني إلى معنى يقترب من المطر بسبب ورود لفظ الحال ( مختلطًا ) .. على اعتبار أنّ المطر – وإن كان حزينًا – هو في مقام الخير الذي تجود به السماء .
تعلم الشاعرة – فيما أزعم – بأنّ لكل مفردة في اللغة دلالة وإن لم تكن –أي المفردة - في محلّها الأنسب ستذبل و تكون في عداد العدم . و من هذا المنطلق تحاول الشاعرة – و نجحت إلى حد بعيد – أن تبتكر معاني لثلاثية ( السنبلة – القمح – الرغيف ) و إن كانت بعيدة عن المتداول في العادة , وهذا أمر محمود في رأيي , إذا ليس أسوأ من تجميد المفردة على معنىً يتيم . و نجد بأنّ النص ( عازفة ) يبتكر للسنبلة معنىً أحمرَ , يقترب من الشريان و يتحد مع الوتر :
عازفةٌ..سنبلةُ القلبِ
إذ لامسَ هذا الوترُ / الجوعُ أناملَها
ثقُلتْ من حزنٍ مودعةً
في الكفِّ رغيفْ .. !
والمقطع أعلاه يقوم على متتالية ترتكز على الإحساس العالي بالزمن واللحظة و الصراع الذي يصل بالنص إلى معنى لا يحفل بالسطحي مطلقًا ؛
حيث أن ترتيب المقطع رياضيًا سيمنحنا :
شعور – خفقة قلب – حب – انتظار – رحيل – حزن – بكاء – قصيدة .
يقترب النص ( بلا عبثٍ ) من كمال التوظيف لـ ( السنبلة ) ؛ حيث أنّ النص أنثوي النزعة , حاد الفكرة , رؤوفٌ بالتلقّي :
قرِّبوني من نخيلِ اللهِ في دمها .. ، وقصّوا حمرةَ التفاحِ من خجلِ الغزالةِ ، لا خطيئةَ في رؤاها حينَ يحضنها البياضُ .. وحيدةً ، لا غصنُ يسندها إلى عرشِ السماءِ .. سوى سنابلَ حلمها ؛
تلتفُّ كالدفءِ الحميمِ بحضنِ أغنيةٍ .. وترحلُ ؛
تارةً للسربِ تطعمهُ رغيفاً خلف نافذةِ السحابِ ؛
وتارةً .. ترقى إلى " فلكِ الشناشيلِ " التي رقصتْ .. على إثْرِ النساءِ بلا .... عبثْ !!
يروق لي أن أرنو إلى دم يساقط رطبًا , و غزالة بوجنتين حمراوين , و حلم بلا دنس يتمُّ إطعامه خلف المدى , و ارتقاء دون سلّم , ورقص بلا عبث . ولأجل كلّ هذا قلت أعلاه بأنّ هذا النص يقترب من كمال التوظيف بوعي .
في نص ( و أوتيت بلقيس ) الذي ارتأت الشاعرة عنونة الديوان باسمه ؛ يتم استعمال ( السنبلة ) و مرادفاتها .. بشكل صوفي و عاشق :
" وأوتيت بلقيسُ .. " من ورقي حجاباً للشعورِ .
رأيتها صبحاً .. تقيمُ بعرشها مدنَ الحمائمِ .. والسنابلِ / والصلاة .
و أيضًا :
حملتُ في رَحلِ " الخيالِ " سنابلَ الأرضِ التي ناحتْ بها " ثكلى " النساءِ ؛
ومات في كفي رغيفٌ .. لم أجد جوعاً هناكَ
بكيتُ للقمحِ الذي عبرَ الحدودَ .. وأعدموهُ .. بحكم خائنة العيونِ .. ؛
" وإن ربي سوف يؤتي عبدهُ .. قلبي " .
بشكل يتحد مع الصلاة و الخشوع والمساجد والأعياد و ما إلى ذلك . فيما يتخذ ( القمح – الرغيف ) شكل الحب الذي تقتله القبيلة دومًا .
في قصيدة ( آية ) ؛ تتناول الشاعرة شخصية الإمام ( الحسين ) , بشكل روحاني يبتعد عن نمطية التناول المعتاد . و تربط حضوره في القصيدة بنفس الثيمات التي تبني عليها الديوان كاملاً ( القمح – الخبز ) التي تأتي مترافقة مع معنى معتاد وهو ( الجوع ) . فيما تستعيض عن الخيل بغيمة , فهي - كما يبدو لي - تحب أن ترى ( الحسين ) ممتطيًا ظهر الغيم :
" حسينٌ " فوق ظهورِ الغيمِ ..
وأحفادُ الجوعى يبكونَ .. !
فلا قمحٌ يعتنقُ القطرَ ..
ولا جوعٌ بالخبزِ تعفّفَ
يأتي معجونَ العبراتِ !!
في النص تناول يقترب من نقد الطقوس البريّة التي تُمارس في إحياء ذكرى الحسين من كل عام , و هو سبب كاف – بالنسبة إليّ – كي أحترمَ النص .
تقف الشاعرة موقفًا منحازًا للشِعر أكثر من أي وقت آخر في قصيدة ( لأنّ الخيول تخاف التّنائي ) و هو نص يحتشد بالصور الأنيقة , ولا يتعارض مع الثيمة الأمّ ؛ إنّما يحتويها :
لِيَ العِشْقُ دونَ ضَجيجِ النِّسَاءِ ..
وخوفُ الظَّباَءِ
وَمَكْرُ الرَّغيفِ ؛
ولي خَصْرُ أُنْثى
يَشُقُّ النِّطَاقَ ؛
ويلْبَسُ كَفَّيْكَ !
في هذا المشهد – تمامًا – تمسك عنود بالخيط المؤدي لطريق القصيدة الأهمّ , وهذا لا يعني قصور القصائد السابقة , ولكنْ كما أسلفت هي في هذه القصيدة منحازة للشِعر دون سواه .
في قصيدة ( الملائكة ) التي كُتبت في أجواء تأبينية بعد رحيل الشاعرة ( نازك الملائكة ) , تجتهد – وليس بالضرورة أن تكون ناجحة - الشاعرة في الخروج على الطريقة المعتادة في الرثائيات , وهي تحاول أن تقول الكثير دون الوقوع في فخّ المباشرة , وتنجح في أماكن عدّة , مثل :
لا زلتِ على مرمى فراتينِ ،
لكِ الخبزُِ .. ؛ شناشيلُ " ابنةُ القمحِ
على خارطةٍ بيضاء أرخى زهركِ العطرَ
.. وأسدى جسدٌ حرٌّ لطفلِ الأرضِ
منديلاً .. !
كما نرى في المقطع أعلاه ؛ هناك محاولة جادّة للوصول إلى معمارية تمنح الصورة الشعرية بُعدًا آخرَ . و لهذا السبب تمّ توظيف ( الشّناشيل ) بما تحمله من نكهة عراقية | تراثية في جانب , و جمالية و تجسيم للأبعاد من جانب آخر . و أيضًا ؛ لا أدري إن كانت الشاعرة قد انتهبت للأمر بأنّ ( الشناشيل ) تخفّف من وزن الأبنية على أرض ( البصرة ) الرّخوة , و الشاعرة أتت بها هنا لتخفف وقع كلمات مثل ( المرمى – أسدى .. إلخ ) لأنّها مفردات تحتاج إلى الحذر في استعمالها كي لا يتحوّلَ النصُّ إلى مقال . ولذا كانت ( الشناشيل ) حلاًّ ناجعًا في هذا الجانب , أمّا في الجانب الآخر من الصورة و لسائل أن يسأل : " كيف تكون شناشيل القمح .. ؟ " , وهذا سؤال لا يجيب عليه سوى صاحبة الشّأن , و لكن الجملة - كاملةً - ألهمتني بعدًا هندسيًا للقمح .
أمّا في قصيدة ( المسك .. من صمت الغزالة ) المؤلَّفة من خمسة مقاطعَ أهمّها الأوّل و الأخير ؛ فتحاول الشاعرة أن تتحدّث بصوت أعلى عن أنثى تشتاق . القصيدة حافلة بالاستعارات والمجاز , و قيمتها الفنية والشعرية عالية . و هي لا تنسى أن تعود بالقارئ إلى ذات ( السنبلة ) كما في المقطع الأوّل :
ستجتاحُ السنابلُ لونَ شرفتنا
تُذهِّبها النذورُ ،
وتستحيلُ خرافةً تشتاقُ
_ في غنجٍ _
لنضجِ الخبزِ !
لوقوع مفردات مثل ( الشرفة – الغنج – النضج ) في تسلسل منطقي كهذا ؛ معنىً واحد .. و هو أن القصيدة وردية تقترب من الأحمر .
في قصيدة ( تورَّدي ) ؛ يتوجّه الخطاب إلى الأمكنة , وتحضر ( بغداد ) برمزية ( كهرمانة ) و بشكل قويّ . أمّا من ناحية المفردات فالنص يعتنق فكرًا روحانيًا متمثّلاً بـ ( التنسّك – الطوائف – النبيّة – الرعاة – الفوانيس – البصيرة ... إلخ ) , و لا تغيب عن النص مفردات الشاعرة التي اعتدنا على مدى الديوان مثل ( الرغيف – السنبلة – الجوع – الخبز – العبرات .. إلخ ) ... فتقول :
قمحٌ يسلسلُ للرغيفِ حكايةً في نحرِ سنبلةٍ تواترَ نبضُها ، لا بأسَ إن كفرَ الصغارُ بيتمهمْ ، وأتوا ليعتنقوا أمومةَ جوعِها ؛ أمٌّ تطوقها الحبالُ .. ولا رضيعُ يشقُّ أغنيةَ السكونِ ؛ كجذعِ بغدادَ الذي غطتْ مواجِعَهُ الكرومُ .. وجاءَ من قطفوا دموعَ صباحِها. تبدينَ عابقةً بريحِ الـ ” هَالِ ” إذْ خطرَ الزمانُ على ضفافِ القلبِ وابتسمتْ ” فوانيسُ ” البصيرةِ .. فيضَ حزنٍ سوسنيِّ العشقِ .. ،
قد ناموا .. وظلت ” كَهْرمانةُ ” تسكبُ العَبَراتِ في صدرِ الجرارْ .
النصّ الأخير ( قبل الميلاد .. وردة ) ؛ نصٌّ مطوّلٌ , تحتشد فيه الصورة بتتابع تختاره الشاعرة , لا يخلو من الصدق حتمًا , وليس من شكٍّ في أنّه يحمل بعض جوانبه الأرشفة لسيرة ذاتية , صوت الشاعرة طاغٍ على كل ما سواه في النصّ . راقت لي طريقة تقسيمه إلى مقاطع بمسمّيات مختلفة كي لا يصاب القارئ بشعور " الإطالة " , وتفاديًا لهذا أيضًا ؛ كتبت الشاعرة النص على بحرين مختلفين ( الكامل – المتقارب ) يتغيّران بين المقاطع المختلفة . النصّ يوظّف مرادفات ( السنبلة ) بشكل غير مفاجئ .
و أعتقد بأنّه من النصوص الجميلة , لا يحتاج لأكثر من رغبة في قراءة الشعر , و فنجان قهوة .. و سيجارة بالنسبة للمدخنين أمثالي .
لمحات :
1/ الديوان في جلّه تفعيلي ؛ و احتوى على نصّين عموديين فقط .
2 / كتبت الشاعرة مقدّمة للديوان بعنوان ( لكي يلتفَّ الظِّلُّ و تستريحَ الشّجرةُ ) جاء فيه :
" هَكَذَا وُلِدْتُ في شَرَفِ الذّاكرةِ التي تَوَحَّدَتْ بِآتٍ لا يَنْقُلُني مِنّي .. إلَيْكُم ؛ وَلكِنَّهُ يَنتَقِلُ بي وَإيَّاكُم إِلى مَلامِحَ قُدْسِيَّةٍ تَنْتَمي إِلى وُجُوهِنا البَيْضاءِ الّتي أَحْبَبْنا .. مُنْذُ اسْتَوَى الْمَطَرُ في َأعْيُنِنا الصَّغِيرة ! "
و بالفعل كان للذاكرة قول في الديوان .. أو هكذا يخيّل إلي .
3/ تفاوتت قيمة القصائد من الناحية الشعرية ؛ وذلك لاختلاف الفترات الزمنية التي كتبت بها النصوص , إذ أنني أتوقّع – لأنّني من مجايلي الشاعرة - أنّ أعمار النصوص المنشورة في الديوان ؛ تتراوح بين سبعة أعوام و عام واحد أو أقل .
4 / لوحة الغلاف منحت أبعادًا حرّة للمخيّلة , و أناقتها ظاهرة للعيان .
خاتمة :
بعد أن استعرضنا أهمَّ مراحل تطوّر ( السنبلة ) في ديوان ( و أوتيت بلقيس ) , نستطيع أن نلمس بأنّ الشاعرة تحاول أن تمنح المتلقى فرصةً لاقتناص المعنى المراد , دون أن يكون – بالضرورة – على صواب . لذا فكلّ ما خرجتُ به من تكهّنات حول معاني ( السنبلة ) ربّما لا تكون قد خطرت على بال الشاعرة , لأنّني أؤمن بأنّ الشِّعر يقوم على تعدّد المعاني والمفاجآت , و إلاّ سيقتله التفسير الأوحد والرّتابة .
( و أوتيت بلقيس ) ؛ ضربة أولى و ماتعة على وتر الشِّعر , و لا أشكُّ بأنّ ( عنود عبيد ) شاعرة صادقة تختار طريق القصيدة الأكثر كلفة , و تجتهد بحماسة في خلق قاموسها و أجوائها بعيدًا عن الضجّة .
سَعْد اليَاسِري
السُّوّيْد
كَانُونُ الأَوَّلْ / 2007
#سَعْد_اليَاسِري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟