كيف وفي ظل أي شروط يمكن للوعي العربي أن يمتلك عالمه ويوحَّـده، ويحوز القدرة على الإبداع الثقافي؟ كيف له أن ينظم الواقع ويسيطر عليه ويتحرر منه لينتقل من الواقعية الغافلة السلبية (الواقع يقود الوعي ويتحكم به) إلى الواقعية الفاعلة الإيجابية؟ النهضة هي مدار هذه الأسئلة، ومحور النهضة هو الإبداع والتجديد .
بادئ ذي بدئ يجب أن نرفض فهماً معيناً للإبداع. فليس الإبداع على صعيد المعرفة، وليست الفاعلية العقلية للإنسان بعامة، بالشيء الفطري الذي يتفتح عفوياً إن لم تحجبه وتشوَّش عليه. ضغوط أجنبية عنه. ولا يحتاج الأمر إلى أي استدلال عويص، إذ تكفي الإشارة إلى اختلاف وتنوع الثقافات الراهنة والماضية لنقتنع أنها ليست انبساطاً في التاريخ للفطرة الإنسانية الواحدة .
ولا يُعْترض على هذا الكلام بأن الحروب والتدخلات الخارجية والاحتلالات والعدوان المدمر قد حرّفت بعض الثقافات عن مسارها الطبيعي. فلا طبيعية في تاريخ بني البشر. والتدخلات والنزاعات والسيطرات تشكل من تاريخ الماضي وتاريخ الحاضر، اللُحمة والسدى، ولا يبقى منه شيء إن استبعدناها. إننا نُصفي مفهوم التاريخ ليس فقط حين ننكر التغير والتحول والانقطاع-فقلّ من يفعل هذا- ولكن حين نجعله تفتحاً لبذرةٍ أصليّة ما، كامنةٍ في العرق أو اللغة أو الدين أو "الهوية". في وسعنا أن نرفض هذا المفهوم غير العضوي للتاريخ، لكن يجب أن نعي متضمنات رفضنا العقلية ونتائجه العملية: ليس من حقنا أن نبحث عن النهضة والفاعلية والقوة ونحن نرفض مفهوم التاريخ الحديث وغير العضوي. هذه نقطة .
أما النقطة الثانية، فهي أن الإبداع الثقافي ليس ميزة أصلية لبعض الثقافات. ما من ثقافة هي حليفة تلقائياً لتفتح العقل الكامل. ليس هذا الانفتاح مستحيلاً فحسب بل ربما غير مرغوب به أيضاً. وكل الثقافات تحدُّ بصورة ما من "الحرية العقلية"، ولو لم يكن ذلك إلا بتعريفها الخاص لهذه الحرية، وإذن لما هو عكس الحرية أو خلافها. وهذا ما يتجلى عبر مجموعة أو مدوّنة القواعد والمبادئ المستقرة -غير المدركة غالباً- التي قد يتناولها الفلاسفة أو مؤرخو الفكر أو الابستمولوجيون، والتي ترسم حدود الأفق العقلي لهذه الثقافة، أعني مفهومات العقل والمعقول والممكن والضروري والمستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه..
والواقع أن هذه النقطة مشتقة من النقطة الأولى. فإن رفضنا اعتبار الثقافة تَكَشُّفاً للفطرة، وتناولناها بوصفها تفاعل الإمكانات أو الاستعدادات الإنسانية والشروط الطبيعية والتاريخية، فإننا سنرفض اعتبار الثقافة نظاماً عضوياً تام الإحْكام يحيط كلّياً ونهائياً بالأذهان ولا خارج له . ولن نقبل إذن مبدأ الحتمية الثقافية الذي قد ينصُّ على أن صورة الثقافة في لحظة ما تحدد صورها وممكناتها في كل الأوقات. لن نقبل أيضاً تصور الهويات كأقدار فوق تاريخية وُزّعت على الجماعات البشرية وقُسّمت عليها هكذا مرة واحدة وإلى الأبد. ثم سنرفض مفهوم الكلية منظوراً إليه كمبدأ تفسيري للتاريخ بدلاً من بنائه –أعني مفهوم الكلية- ونقضه أيضاً، انطلاقاً من تصور التاريخ كجدة وطرافة وخروج.
باختصار، ليست هناك أقدار ثقافية، وليست الثقافة، أية ثقافة، تنظيماً محكماً ونهائياً للإنسان والعالم.
وليس أقل صواباً، إذن،أن الإبداع –وهو مفهوم ثقافي، لا يوجد بشكل حر ونقي في الطبيعة- ليس قدراً بدوره، ولا هو بالأمر البديهي الذي كنا سنحرزه لولا تشويه ثقافتنا أو عدوان غيرنا . بل إن التشويه والتفاوت ومختلف أشكال عدم التطابق هي حافز الإبداع ومبرره.
والواقع أن النظرة إلى الثقافة كنظام مغلق محكم ، أو نقيضتها التي تطابقها مع الإبداع الحر والتلقائية، تجدان، معاً، شروط إمكانهما وحدود صحتها في واقع جميع الثقافات. فلكي نتحدث عن ثقافة مُحدّدة، ولكي توجد هذه الثقافة وتتمايز، لا بد لها من قدر من الانغلاق، يمنحها الطابع الخاص والمتميز. ثم أنها لكي تستطيع أن تحضن أوسع جوانب حياة أهلها وتؤمَّـن لهم الدليل، دليل الوجود والمعرفة، وتمكَّـنُهم من استيعاب الطوارئ وحسن التصرف في مواجهة تجارب جديدة، فلا بد لها من بعض الانفتاح. تكاد هذه الملامح تتولّد عن تعريف مفهوم الثقافة ذاته. فإذا فشلت الثقافة في صيانة ثبات العالم الاجتماعي والنفسي والطبيعي لحملتها، فضلاً عن استقرارا أنظمتها هي، فإنها تفقد تمايزها وتذوب في غيرها. وحين هي تعجز عن التجدد والتطور، تنتهي إلى قوالب جامدة عقيمة وتنهار بسهولة أمام غيرها .
ويمكن لنا دائماً أن نفهم الثقافة كتنسيق نوعي للتجربة البشرية، أو كتشكيلٍ مختلف لعناصر الاستعداد البشري وللأوضاع المحيطة به. لكن هذه الصيغ المختلفة للتنسيق لا تقبل بسهولة الإرجاع التام إلى هذه الأصول أو أية أصول أخرى، رغم أن الإرجاع هو نمط استيعاب العقل لتنوع الظواهر (وهذا التنوع هو سر غنى أشد الثقافات فقراً ). لماذا ؟ لأن الثقافات بنات الثقافات، أو بعبارة مختلفة لأن الثقافة صعيد متميز يتمتع ببعض الاستقلال والصلابة الذاتية، ولا يقبل الإرجاع إلى مالا يقبل الإرجاع كالاقتصاد (ماركس) أو الجنسية (فرويد) أو غيرها. فقد ينشأ الحب والعقد النفسية من حاجة جنسية غير مشبعة، وقد تقوم الثورات وأجهزة الأمن بسبب الجوع، لكنها ما أن توجد حتى تكتسب غريزة بقاء خاصة بها، ولا تلبث أن تُوَرّث أو يعاد إنتاج نظامها. ويمكن إذن أن تنتقل عناصر من الماضي إلى الحاضر دون الحاجة لاستئذان أية منهجية إرجاعية بوصفها -هذه المنهجية – صيغة ثقافية تاريخية محددة للعقلنة. معلوم أن ماركس واجه صعوبة كبرى في تفسير التأثير الجمالي للدراما الإغريقية القديمة أو الشكسبيرية رغم أفول عالمها. وأمر ذو دلالة أن كتابة "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يقف تقريباً عند هذه النقطة ولا يكتمل. بالطبع يصح الأمر ذاته على انتقال عناصر من ثقافة إلى أخرى. وهذا يعني أن الثقافة شبكة معقدة ذات تماسك خاص بها، وبالتالي لا نواجه أبداً استعدادات بشرية خام من ناحية، وشروط تاريخية وطبيعية عارية من ناحية أخرى؛ إذ يدخل دائماً عامل إضافي وهو الثقافة كصعيد مستقل عنهما. أي أن انفتاح الثقافة على ذاتها أكبر من انفتاحها على أي شيء آخر. ويبدو لنا أن الأمر يصح أيضا على السياسة والتنظيم الاجتماعي. وهو على كل حال سر الطابع الخاص المميز للثقافات، كما هو شرط إمكان دعاوي الهوية الثابتة التي تقوم على المبالغة في درجة استقلال الثقافة عن تاريخها هي وعن غيرها من الثقافات؛ ثم إنه يفسر أيضاً أن تغير السياسية أبطأ من تغير النخب السياسية .
قانون اللجوء
لا تفلت المشاكل التي يواجه بها التاريخ المجتمعات والثقافات من قانون عام يقضي بأن المشاكل التي لا تجد حلاً على صعيدها وبوسائله ستبحث عن صعيد آخر ووسائل أخرى. وقد واجهت المجتمعات العربية منذ أكثر من قرنين –وهي تواجه اليوم- عُسْراً تاريخياً يتلخص في أن ثقافتها ونظمها الاجتماعية القديمة كانت قد آلت إلى اليباس والتخشب، أي انحطت ممكناتها وتدهور احتياطيّها للإصلاح الذاتي في مواجهة ثقافة ناهضة وفتية وبالغة الحيوية. ولم يكن من الممكن استيعاب هذا التحول واحتواؤه من ضمن ثقافتنا ، وهذا أمر يشاركنا فيه كل العالم تقريباً في بداية "صدمة الحداثة". فما تتميز به عصور الصدمة والتحوّل القيامي هذه هو أن من يتصرف التصرف الصحيح وفق مواثيق الصحة الموروثة يخسرُ السباق، بل قد يخرج منه. حين نهض المماليك لجيش بونابرت فعلوا الشيء الوحيد الصحيح، لكنهم خسروا –بل وسيُحذفون من المشهد التاريخي بعد عقدين من السنين- لأنهم لم يدركوا أن نظام الحقيقة والصواب، أو بالطبع أيضاً القوة والقيمة، قد اختلف كليا. إن الحقيقة تنتج في مكان آخر وفقاً لقواعد أخرى. ولم ينتصر الفاتح الفرنسي لأنه ندّد بالبيروقراطية المملوكية أو أدّعى حماية الإسلام الصحيح، ولا حتى لامتلاكه المدافع أو المعرفة عن مصر وأهلها، إلا لأن هذه كلها تندرج في سياق حيازته على استراتيجية لإنتاج حقيقة وبناء واقع وامتلاك قوة،الحقيقة والواقع والقوة***********************. بعبارة أخرى، من لا ينتج الحقيقة يبقى مخطئاً أبداً. واستباقاً لما يأتي نقول: إن الاكتشافات المتكررة لأخطائنا كلها جدّت حقيقة في الغرب –فلسفية، علمية، سياسية..- تعكس بالضبط غيابنا عن أفق صنع الحقيقة وتشكيل الواقع. وهكذا كان اللجوء إلى الخارج ناجماً عن هشاشة الداخل وفقدانه للقوام الذاتي أو لمقوّم داخليته، كما عن جاذبية الخارج وتفوقه. وبعد الاستقلال أُوكِلَ للسياسة والدولة حل المشكلة، أما الوعي فقد صاغته الإيديولوجيات العملية والسياسية التي تصب كل تركيزها على السلطة والعمل السياسي. في تلك الحقبة التي لم تتجاوز العقدين بدأ أن المشكلة العربية مشكلة عملية، أي يمكن التعبير عنها بلغة برنامجية وسياسية، وهناك أولويات واضحة، والحل النهائي هو مسألة وقت. ولم تلبث المشكلة أن عادت للانفجار من جديد على الصعيد الثقافي لتشير دوماً إلى الفشل في حيازة الفاعلية التاريخية أو إنتاج الحضارة. وليست الفرصة اليوم أكبر لأن نَحُلَّ بوسائل الثقافة مشكلة ليست الثقافة جوهرها. والواقع أن الأزمة العربية بصيغة برهان غليون القوية، لا تتمثل في مادية الصعوبات وجسامتها: تأخر تقني وضعف عسكري ونظم سياسية فئوية ومتسلطة وتدهور اقتصادي وندرة الإسهام العلمي.. الخ ، إنها ليست أزمة إلا لأنه ينضاف إليها ويثبتها انعدام الوعي بوحدة هذه المشاكل، وغياب أو تغييب أي استراتيجية كبرى تتيح مواجهتها أو تحشد القدرات الفردية والاجتماعية لحلها. تكون هذه الأزمة مجرد مشكلة -مهما تكن صعبة عملياً- حين يستطيع المجتمع أن يعبئ قدراته المادية والمعنوية لمجابهتها. ومنذ أن تبرز كمشكلة عمل فإنها تكون محلولة مبدئياً. الأزمة إذن هي استسلام الإرادة والوعي للمشكلة، أو مفاقمة مشاكل الواقع بمشاكل تفكك الذات أي تحلل الذاتية العربية كوعي وإرادة، أو تراجعها إلى مستوى ما تحت الذات: العاطفة والحنين والانفعال والهوية. وينفتح هذا النقاش على قضايا معقدة تتجاوز إطار هذا المقال مثل فقدان المجتمعات العربية لاجتماعيتها أو وحدتها ودمار كل أطر الإجماع الحية، ومسألة أزمة القيادة المعنوية والسياسية ، أي أيضاً مسائل الهيمنة والسيطرة، كذلك ماقد نسميه التعادل السلبي مع التاريخ، أي تغذية ردود الفعل السلبية لاستحكام الأزمة وتحول الحلول إلى وقود للمشاكل.
والواقع أن لجوء الأزمة إلى صعيد الثقافة، وبروزها كصراع بين قيم أبدية ، بين الحق الصراح والباطل الجلي، بين المتغربين أو الخارجين على الأمة من جهة والجامدين الخارجين من العصر والحضارة من الأخرى (الجاحدين والجامدين بتعبير شكيب أرسلان)، يعكس خروج المشكلة من العمل والإرادة وتحولها إلى أزمة شاملة. ولعل واحداً من جوانب شمولها هو استحالة مجرد تكوين تصور معقول عنها على صعدها النوعية . نقصد أن حل مشاكل الاقتصاد يحيل إلى قضايا السياسة والمجتمع وهذه إلى مسائل الهوية والوعي والثقافة. بمعنى آخر إن حل أصغر القضايا يطرح للتساؤل جملة النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي. ويعني شمول الأزمة استحالة تجزئتها إلى مشاكل قطاعية، اقتصادية وسياسية وثقافية ، عسكرية وتقنية وقانونية .. الخ أو لا جدوى الحلول القطاعية . وليس هذا هو الوضع "الطبيعي" للأمور. فمن المفترض أن يكون الحل القطاعي ممكناً للمشاكل القطاعية. لكن الدلاله العامة لهذا الوضع هو انحلال الصعد الاجتماعية وفقدانها لاستقلاليتها وتمايزها. هذا ما يفسر بروز المشكلة على صعيد الثقافة (لم تعد الثقافة صعيداً اجتماعياً بل تحول المجتمع إلى ثقافة، وهذا هو معنى الهوية) من ناحية، ومن ناحية أخرى إحالة قضية توحيد المجتمع بقدر متزايد إلى السلطة السياسية القسرية (لم يعد القسر سياسة للسلطة بل أصبح هو السلطة السياسية) .
وكلما انسدت آفاق العمل الاجتماعي العام حصل انقسام اجتماعي وتزوّد بمواثيق ثقافية، عقائدية وقيمية وأخلاقية، تثبَّته وتحوله إلى انقسام أبدي بين هويات متنافية. والواقع أننا نرى أن انقسام الثقافة العربية المعاصرة وتوليدها لتيارات متنازعة ومتعازلة يعكس الفشل في تحقيق الوحدة والعمومية، كما أنه في الآن ذاته شكل إحرازها، أي أن العمومية التي لا تتحقق بالتواصل وتنظيم الاختلاف تتحقق في شمول الانقسام وعمومه، وفي استحالة بناء عمومية حقيقية منتجة. فبقدر ما تتزود الفئات الاجتماعية بمواثيق ثقافية لتميزها وخصوصيتها فإنها تتحول إلى أصناف اجتماعية مغلقة وتتحول التمايزات النسبية إلى حواجز مطلقة، والاختلافات الثقافية المتحولة والمحدودة إلى عقائد ثابتة لا تقبل الترجمة المتبادلة والحوار.
انتحال صفة
لكن لخذلان الطاقات الإبداعية مصدر آخر انتحل اسم الإبداع والتجديد، وهو استهلاك المعاني والأفكار والقيم المأخوذة من الثقافة الغربية .
إن مصدر فاعلية الجديد وأقوى تبرير له يتمثل في كونه حلاً لمشكلة القديم، أي أن القديم لا يستطيع أن يصون ذاته ويستمر ويبقى إن لم يتغير، ويندرج في هياكل وديناميات اتصال وانفصال تحفظ له استمراراً وظيفياً أو رمزياً أو معنوياً؛ وفي الوقت ذاته تقطعه عن بناه الأصلية أي التراكيب الاجتماعية والعقلية والسياسية التي تكون في ظلها. على سبيل المثال، لم تعد ثمة قيمة علمية لعلومنا القديمة، بما فيها تلك المتقدمة في زمانها، قيمتها الآن تاريخية ومعنوية. من ناحية أخرى ، تضايف الإسلام مع هياكل اجتماعية وبنى سلطة لا مجال لاستمرارها اليوم، ولم تفعل جهود المصلحين والمفكرين الإسلاميين إلا محاولة فصل "الجوهر الإسلامي " أو "الإسلام الحقيقي" عن الإسلام التاريخي لتتيح له استمرارية وظيفية في ظل انقطاع بنيوي مؤكد.
ولعل من أسوأ الالتباسات التي أصابت الوعي العربي الحديث الخلط بين الجديد والتجديد، والاستغناء بالأول عن الثاني، مما يجعل الجديد جوهراً أو شيئاً مبدعاً قائماً برأسه وليس فاعلية حية وإنشاء خالقاً . نجد هنا استلاب الجهد في الثمرة ، أو العمل في الشيء الجاهز. ويقال أحياناً أننا نأخذ من الغرب القشور، ويشار إلى أمثلة من السلوك وأساليب التحدث والزي، أو إلى بعض الموضات الفكرية الرائجة هناك.. هذا الموقف ناشئ بالذات من اعتبار الجديد تجديداً. فكل جديد منظوراً إليه كحصيلة وثمرة هو مجرد قشرة ، واللب الحقيقي هو امتلاك الفاعلية العقلية والعملية التي تمكننا من إنتاج الجديد. لذلك أيضاً نحن لا نأخذ من التراث إلا القشور رغم كل البلاغة المعاكسة .
وليس في وسعنا اليوم أن نضمن التجديد العقلي ونهضة الثقافة من الوعي إن لم نمضِ من رصد انقسام الوحدة إلى "تراثية" و "حداثية" إلى وعي وحدة الانقسام. وهذا يعني وعي أن الشروط ذاتها تنتج هذا وذاك، أو أن ما يولد الخصام هو الذي يولد الخصوم. ثم أننا لا نرى إمكانية لتوحيد الوعي العربي وإطلاق القدرات الفكرية والعملية بالاستناد إلى مبادئ أولى أو معايير مجردة مفصولة عن تاريخها. لا يمكن لوحدة الوعي أن تبنى انطلاقاً من فكرة وتعميمها أو من الأفكار أياً تكن. وبقدر ما نخلص للمعيار الفكري الجاهز، الحداثي أو القومي أو الإسلامي أو الديمقراطي… فسنغذي السخط والاختلاط والبلبلة. فلن يكون الواقع إلا ناقصاً مادام المعيار بالتعريف كاملاً. لذلك نحن نعتقد أن استقرار الوعي ووحدته وتماسك العمل وكفاءته رهن بقلب منظوراتنا الفكرية التي تكمن نتائجها دائماً في مقدماتها، والتي تحول العمل الفكري إلى وكالة عقلية عن مطلق مفصول عن الواقع يُفترض بالفكرة المطلقة أن تدركه وتنظمه، ومفصول أيضاً عن تاريخ تكونه كما قلنا. ويقتضي قلب المنظومات الفكرية تحويل النظر إلى المحسوس والمعاش الذي يمثل مشكلة مزدوجة: مشكلة لنظم المعقول الحاكمة، ومشكلة لنظم السياسة والسلطة والسائدة؛ أي في الواقع لمبدأ السلطة في الحالين. في المشكلة (الشيء الذي لا شكل له، المضطرب الشكل) تتوحد معاً فاعليات المقاومة والتمرد وخرق الأشكال بوصفها كفاحاً من أجل الحرية وجهدا من أجل العقل. ويشهد التاريخ أن انتصاراً على إحدى الجبهتين مهدد بالانتكاس إن لم يرافقه انتصار على الأخرى. تحررنا من الاستعمار مثال على ذلك، حيث أن خذل مطالب العقل قد قاد إلى خسف تطلع الحرية ذاته. الغرب مثال معاكس . إذن لن يستطيع الفكر العربي أن ينهض ويتقدم إلا بقدر ما يضطلع بالنزاعات والمقاومات والظلامات الفعلية التي تخترق عتباتنا الإدراكية كما شكلتها نظمنا الفكرية المتحولة باطراد إلى رطانة لاتبين، أي إلا بقدر مايبني نظم وعيه انطلاقاً من إحساسه وشعوره "الطبيعي". وأصل هذه الضرورة هو أن النظم الفكرية المذكورة تقوم على احتكار تعريف الواقع والقيم، فلا تحس إلا بما تعرف وتقر، وبالتالي تجرد تلك النزاعات والتمردات من كل قيمة وتنكر كونها مشكلة. وإذ هي مستقرة ومطمئنة تحتمي بها كل أنواع السلطات. إن ممارسة ثقافية امتثالية عاجزة عن إنتاج شرعيتها العقلية الخاصة ، هي اعجز عن التساؤل عن شرعية ممارسة سياسية تدعي تمثيل روح المجتمع أو وحدته. وبخلاف ذلك لكل فعل ثقافي منتج للمفاهيم والأسئلة وبانٍ للإشكاليات استهداف سياسي لا يأتيه من خارج . فبمجرد أن يتساءَل عن الشرعيات والأصول والتواريخ فإنه يفسخ "العقد الثقافي" الذي يحرس مبدأ السلطة والامتياز .
لا نذهبن بعيداً. تدين كل التجديدات النظرية في الفكر العربي في العقدين الأخيرين إلى القبول بوجود مشكلة -مهما يكن حلها- طرحتها المقاومات والحركات الاجتماعية، وخاصة منها الإسلامية.
نريد أن نقول أن الفكر العربي لن يضمن أصالته بالانتساب والولاء لنبرات متزايدة الشكلية، بل بالقبول بتميز ونوعية المحسوسات والتجارب التي يتناولها . وبقدر مايعترف بهذه فإنها تحدد نوعية توظيف المفاهيم والأفكار، وتفرغها من الشحنات الوجدانية والأخلاقية وتملأها بالفهم، وتكسب من ثم شرعية العمل والبرهان وليس فقط شرعية الأصول أو شرعية الجديد والحداثة . وبذات الخطوة يضمن معاصرته التي لا تحيل عندئذ إلى عصرية معيارية ومجردة، بل هي تزامن أو تعاصر مشاكل الواقع وأسئلة العقل .
على هذا المستوى البنائي -ما نسميه حقل العقلنة، أي المجال المستقل لتداول المشاكل والمسائل- ثمة وحدة للأصالة والمعاصرة في العمل المنتج للمعاني بوصفهما تحديدين داخليين للفعل الثقافي، وليس كلونين أو عباءتين خارجيتين.في الحقيقة تزول الإشكالية على هذا المستوى تماماً وتفقد معناها ، لأنها تدين بأصلها لحاجات الصراع ومنطقه أكثر مما لمطالب العقل.
وضمن هذا المنظور لن يكون التقدم التقني هو السعي للتطابق مع أحدث التقنيات، مما يدفع لاستحالته إلى اليأس وإبعاد مشكلة الفجوة التكنولوجية المتوسعة عن النظر والعمل؛ بل تطوير مابأيدينا من مهارات ومعارف وصناعات لملاقاة الاحتياجات القائمة المعاشية والعسكرية وغيرها . لاشك أن العالم لا يتركنا بحالنا ، وهو يفرض علينا تحديات لانستطيع مجابهتها بوسائلنا الهزيلة . هذا مؤكد الآن، ولا سبيل إلى التغلب عليه بصورة رعوية وغنائية للمجتع تهيب بأخلاقيات زهدية لا يمكن أن تنتصر إلا على يدي سلطة قمعية. لكن لا نستطيع أن ننتصر بقدرات الغير وسلاح الغير ومعرفته، هذا طريق الاستسلام وليس المواجهة أو النصر. وأفضل من ذلك اضطلاع شجاع بأعباء شرطنا التاريخي والسعي للظفر بالاتزان والرؤية والسداد بدلاً من تقلب لا ينتهي بين هياج وتهويش لا يفيدنا ولا يضر أعدءَنا، وبين استسلام مخزٍ يتغذى من انفصال معاييرنا وعقم عقولنا ووهن إرادتنا، وليس فقط –ولا أساساً- عن ضعفنا الراهن. يمكن لهذا الضعف أ ن يكون مؤقتاً إن طرحنا الأمر طرحاً معقولاً وتولينا توحيد وعينا بالواقع على أساس من وعي وحدة الواقع الفعلية : وحدة نزاعاته وصراعاته وأمنياته ومطامحه . ليست الشجاعة فضيلة أخلاقية فحسب بل هي ضرورة حيوية.
ثم أن السياسة والتنظيم الاجتماعي المتحرر، أي قضايا الديمقراطية وما إليها، ليست بدورها تطابقاً مع معايير جاهزة . إنها الجهد، العسير دونما شك،، لتنظيم وضبط النزاعات الفعلية والالتقاء بالمطالب والشكاوي الواقعية، والتنبه لمواطن الصراع وأسبابه، وتركيز التفكير حول الظلامات والحرمانات المعاشة ، وعدم التغطية عليها بحلول عامة تتفرغ من المعنى كلما جابهت الواقع. هذا يعني أن التساؤل المفيد ليس ماهي الديمقراطية التي نريد، بل ماهي النزاعات والمشاكل التي نريد حلها. نصوغ المشاكل في مسائل معقولة، وقابلة لذلك للحل العملي، بدلاً من الانطلاق الفوقي من مفاهيم مجردة؛ انطلاق يعني في منطقه الذاتي الضروري مخاطبة السلطة وطلبها حتى لو أنكر منطوقه ذلك، وهذا مايديم من تهافت الوعي وبلبلته. نخطئ إذا اعتقدنا أننا بالتهدج بالبلاغة الديمقراطية نعزز فرص التحويل الديمقراطي ونحسّن من التعبئة لأجله. إن مفهوماً مفرط التجريد يعترف فقط بغاياته النهائية وينكر وسائله وفرصه والواقع الذي ينبغي تحويله، لاينقض –بل يتحالف مع- استبداد فائق الواقعية، تماماً كما أن أصالة تطابق نفسها مع الواقع وتحتكر تعريفه هي طباق وصنوّ معاصرة تحتكر العقل. بتجاوز الأفق الذي ترسمه المعايير الجاهزة والمُثل الخارجية يمكن أن نتحدث عن وعي متماسك وموحد يقدر على فحص أدواته وإنتاج أدوات متجددة ويبني المناهج ويتساءَل عن ذاته .
وهكذا أيضاً لا يجوز للإبداع الفني أن يتوسل التطابق مع أشكال محددة له (كيف يكون الإبداع تطابقاً؟) وحبسه من ثم تحت سقوفها، بل هو أقرب للبحث اللجوج عن معادل جمالي لخبرة حية. الجميل هو المختلف، أي هو خروج على القاعدة وتمرد واستقلال. إنه كسر النمط وتحطيم القالب. لذلك بالذات لا يمكن إنتاج الجمال بالجملة.
ولا يتقدم إنتاجنا الفلسفي بمحاكاة أحدث الأزياء الفلسفية في الغرب. إنه يحقق إبداعه الأصيل عبر البحث في ماهو فاقد للشكل، وما هو محروم من الشكل، وليس فيما اعتبر الشكل بأل التعريف.
ولا يُعترض علينا بأن هذا بطيء الإثمار، فخلافه أبطأ بل عقيم تماماً، لأنه ببساطة عاجز عن بناء استراتيجية حقيقية للعمل العام، نعني فتح آفاق العمل التاريخي وبرامجه. ثم أن هذا التناول لا يعني أبداً أي نزعة انغلاقية. فليس الواقع، ولا يمكنه أن يكون، أصيلاً أو معاصراً بالمعاني المعيارية للكلمتين. هنا نقيم وراء الأصالة والمعاصرة، ولذلك أيضاً نتجاوز التوفيقية. نتجاوزها على مستوى إنتاج المعرفة وتحويل الواقع لأنها -التوفيقية- حل على مستوى التوزيع للقيم الثقافية، الحل الذي يبرز بقدر مالا تتجدد هذه القيم. ثم أن التوفيقية أيضاً حل فوقي يصالح بين المذهبيات المختلفة التي تدين بتكونها لحاجات الصراع كما قلنا، وإمكانية اختراقها لذلك ترتبط ببناء عمومية تنفتح عليها الخصوصيات وتُمكَّنها من التعرف على ذاتها كمكونات أصيلة للمجتمع الوطني.
كذلك تملك الاستفادة من التراث ، أو من تراث الإنسانية، فرصة أكبر في ظل التأسيس السليم للعقل والثقافة. فتوسيع الطاقة الاستيعابية لثقافتنا المعاصرة رهن بحسن أخذها وعطائها مع الواقع أولاً، أي مع مضطرب حيوات وتطلعات أهلها؛ وكذلك في الواقع رهن باختراقها لمبدأ الهوية، أو عدم استسلامها للرد إلى مجرد هوية. إن العجز عن استيعاب موارد ثقافية خارجية أو تراثية لا ينفصل عن /بل يتجذر في/ انحطاط القدرة على استيعاب وتنظيم الواقع .
في اللب من هذه النظرة نقد المعيار أو الفكرة - المثال التي تستلب الوعي والعمل.
إن نقد المثال هو الشرط الأول لإدراك الواقع . ولكن هنا تنفتح أيضاً أسئلة كبيرة وعسيرة: أصل الوعي المعياري للمثقفين العرب، أي في الواقع أصل الفكر المثالي، وهذه نقطة تستحق قدراً كبيراً من التوضيح؛ حدود النقد الراهن، المنطقي والأخلاقي للتوفيقية؛ الشروط الاجتماعية والسياسية لانطلاق الوعي النقدي؛ قضية الطاقة الاستيعابية للثقافة ، إلخ. إن قيمة هذا التناول المجرد والمتعجل لا تتجاوز تيسير طرح هذه الأسئلة .