1 - جوهر المشكلة
منذ بدء الانفراج السياسي في المملكة ظل الجدل ناشطا حول الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية، مما يعتبر مؤشرا على حيوية مختلف قوى مجتمعنا البحريني وكثرة المهام المطروحة على جدول أعماله بعد عقود من سنوات التكلس. أما الآن فقد أصبح من الواقعي والضروري تناول القضايا المادية المباشرة في حياة المجتمع، وفي مقدمتها الاقتصادية. فمهما انشدت هذه القوى لهذه أو تلك من القضايا، إلا أنها مع مضي الوقت ستعيد اصطفافاتها في نهاية المطاف على أساس المصالح الاقتصادية الاجتماعية أكثر فأكثر، بحيث تحتل السياسية في وعي المواطن العادي مكانها ودورها الطبيعيين كمتغير غير مستقل عن تلك المصالح، بل تابع لها ومعبر عنها. ويبدو أنه مع بداية الفصل التشريعي الجديد ستفرض القضايا المتصلة بهذا الموضوع نفسها على مؤسسات الدولة والمجتمع واحدة تلو الأخرى. لقد أصبح الكثير من الناس يشعر بأهمية أن تحل الآن لحظة الانعطاف في التاريخ الاقتصادي. وهذه اللحظة تتطلب من الجميع الارتفاع فوق الاختلافات الخاصة والطرق الفردية أو الفئوية لإدارة القضايا. وهنا ننطلق من مقدمة واحدة وجوهرية جدا، وهي أن حل كل من القضايا المرتبطة بالاقتصاد والحياة المعيشية يقوم على أساس أن المجتمع المتنازع المصالح والمتحرر من عقد الخوف هو، بشكل عام، متحد الإرادة من أجل أن يفسح في طريق تقدمه نحو الأفضل. ويجب ألا يضعف من هذه الإرادة حقيقة وجود قوى محدودة تتعارض مصالحها مع هذا الاتجاه وستظل تعمل على مقاومته.
وعندما تدرج مصطلحات مثل الأجور والحد الأدنى للأجور وتمليك الأسهم للعاملين في المؤسسات والتخطيط والمحاسبة والشفافية ومحاربة الفساد وإنتاجية العمل وغيرها في التداول في المجتمع صحافة ومجالس وتحت قبة البرلمان وفي أروقة الحكومة فذلك يعني أن ساعة هذه اللحظة بدأت تدق. أما بالنسبة للاقتصاديين والمهتمين بالشأن الاقتصادي من رجال دولة وأعمال ونقابات فإن تفكيرهم يجب أن ينصرف منذ الآن نحو المعالجة الملموسة لخمس قضايا هامة سيتوقف عليها في نهاية المطاف مستقبل البلاد: إصلاح الدخول ، مصادر النمو ، الإصلاحات المؤسسية ، النظام الضريبي والنظام المالي والنقدي. وأجازف بالقول أن ما سنتحدث عنه يعبر عن ذلك العام الذي يجمعنا ويمس الخط العام للتطور الاستراتيجي.
ومن بين القضايا الخمس المذكورة نود التركيز هنا على أولاها : إصلاح الدخول. وسنتناول في هذه المقالة وما سيليها جانبا واحدا من إصلاح الدخول وهو مشكلة الأجور بشكل عام. لكن الحديث سيتركز أكثر على مسألة الحد الأدنى للأجور التي هي مدار بحث مختلف الأوساط هذه الأيام.
لنبدأ من إظهار مغزى هذه المشكلة. من وجهة نظرنا تعتبر مشكلة الدخول، ومن بينها مشكلة الأجور هي المركزية من بين كل القضايا الأخرى. والمشكلة ليست بالجديدة إذ هي ضاربة بجذورها لأكثر من نصف قرن. وكثيرا ما يشاع بأن الأجور لدينا ضعيفة لأننا لا نعمل جيدا، ولأن إنتاجية العمل هابطة. وبهذا إنما يتم ابتسار الوجه الآخر للمشكلة. فالمشكلة الأكبر من إنتاجية العمل هي أننا متخلفون في وتيرة " النمو المطلق للأجور" التي ظلت ثابتة بقيمها المطلقة لسنوات طوال. ففي بلدان أخرى تعتبر نسبة مقدار زيادة الأجور في مقدار زيادة الإنتاجية واحدا من مؤشرات الاقتصاد الهامة. فهي في أوربا على سبيل المثال تتراوح بين 55 - 60%. أما في حالتنا، حيث تدني الإثنين ، إضافة إلى غياب أدوات قياسهما الدقيقة ، فإن ذلك يعني أن استغلال عمل الأجير لا حدود له. ولا يغير من هذه الحقيقة وجود عدد من القطاعات الاقتصادية المتقدمة ذات الإنتاجية المرتفعة للعمل، لكنها غير قادرة على التوسع في خلق فرص عمل كبيرة، وغير ذات ارتباط عضوي ببقية قطاعات الاقتصاد الوطني. إن من الواجب علينا أن نواجه الحقيقة ونعلن صراحة بأننا لا نعمل جيدا وبأن إنتاجية العمل لدينا هابطة على مستوى الاقتصاد الوطني بأكمله بالذات لأننا نتقاضى لقاء عملنا أجورا قليلة إلى حدود غير مقبولة. إننا للأسف لم نستنبط الدروس من ماضينا في هذا الصدد. إنه ليس فقط لم يجر حل مشكلة تدني الأجور، لكنها استمرت في السنوات اللاحقة في الاحتداد بشكل كارثي. وإذا شئتم ففي الإفرازات الاجتماعية لمشكلة الأجور بالذات يكمن الأساس المادي الرئيسي للتوترات الاجتماعية - السياسية التي شهدتها سنوات التسعينات على وجه الخصوص.
ما يثير القلق الآن هو أنه مع تباطؤ الإصلاحات السياسية تنشط على الصعيد الاقتصادي، وبقوة، توجهات تحرير كل عوامل الإنتاج، بينما في الوقت نفسه تشتد ظاهرة الإغراق المصطنع للسوق الداخلي بالعمالة الأجنبية وما يحدثه من ضغط على سعر قوة العمل المفترض وفق فوانين السوق الطبيعي. وإذا ما سار الوضع على هذا المنوال فإن ذلك سيظل يجبر الإنسان العامل على مبادلة قوة عمله مقابل أجور متدنية جدا عن المستويات العالمية، وبعد ذلك، في السوق، مبادلة هذه الأجور المتدنية مقابل سلع وخدمات تتساوى أسعارها والأسعار العالمية أو تزيد. والحقيقة أن ما نسميه بأجر العمل لم يعد يستحق هذه التسمية منذ زمن بعيد. فمستواه الحالي لا يضمن حتى إعادة الإنتاج البسيطة لقوة العمل، واستمرار أسباب الحياة الكريمة. ولعل في هذا بعض ما يفسر تراجع معدل النمو السكاني منذ عقد التسعينات فصاعدا. بكلمات أخرى لقد فقدت أجرة العمل منذ زمن بعيد محتواها الاقتصادي كسعر لقوة العمل. وعليه فإنه يجب النظر اليوم إلى زيادة الأجور ليس كنتيجة لزيادة محتملة في إنتاجية العمل، بل كشرط أساسي لزيادة هذه الإنتاجية. وبدون ذلك فإن الحديث عن اقتصاد السوق غير ممكن بكل بساطة. ومن هنا فإن الحد الأدنى للأجور الذي يضع قاعا محددا للأجر لا يهبط به دون تلبية متطلبات المعيشة الأساسية يبدو أمرا ملحا ليس من ناحية الكرامة الإنسانية فقط، بل وحاجة اقتصادية لرب العمل والاقتصاد الوطني أيضا.
والحقيقة أن مسألة الحد الأدنى للأجور لم تعد اليوم مرتبطة بطيعة هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي أو ذاك، ولا بأيديولوجية بعينها. الولايات المتحدة - قلعة الرأسمالية كما أسماها سعادة وزير العمل السابق - في إحدى الندوات أخذت بالحد الأدنى للأجور منذ الثلاثينات . وهذه المسألة موضوع جدل اجتماعي وسياسي دائم هناك. وفي الحملة الانتخابية الماضية للسيدة هيلاري كلنتون، وهي من الديمقراطيين كان رفع الحد الأدنى للأجور واحدا من وعودها الرئيسية الأربع. وقد اضطر الرئيس جورج بوش الإبن ، وهو من عتاة المحافظين في الحزب الجمهوري، لاستبعاد مرشحته لوزارة العمل السيدة تشافيز بعد الانتقادات المريرة التي صوبت إليها بسبب توجهاتها المغرقة في يمينيتها ومن ذلك رفضها رفع الحد الأدنى للأجور. وفي معركة الانتخابات البريطانية في منتصف عام 2001 هاجم المحافظون السياسة الاقتصادية لحزب العمال الحاكم ، ومع ذلك فقد وعدوا بعدم إلغاء الحد الأدنى للأجور الذي تبناه خصومهم في حزب العمال. والحد الأدنى للأجور معمول به أيضا في الدول الرأسمالية التي سلكت نهج ما يسمى "بالاشتراكية الديمقراطية" كالدول الاسكندنافية، وفي البلدان النامية الأكثر تطورا كالنمور الآسيوية. ففي حوالي سبعين بلدا من بلدان العالم على اختلاف أنظمتها الاقتصادية الاجتماعية تحتل قضية مستوى الحد الأدنى للأجور مكانة هامة في الجدل الاجتماعي المحتدم، بما في ذلك على المستوى القطاعي. وقبل أكثر من عام خرجت خادمات البيوت في هونغ كونغ، وغالبيتهن من الفلبينيات، في مظاهرات صاخبة احتجاجا على نية الإدارة المحلية الاستجابة إلى ما دعا إليه بعض المشرعين ورجال الأعمال بخفض الحد الأدنى لأجورهن وأجور عمال النظافة ( الذي يزيد على 180 دينارا بحرينيا في الشهر ) بمقدار 20% للمرة الثانية في نفس السنة بحجة تراجع الوضع الاقتصادي في البلاد. وعموما أصبحت مسألة الحد الأدنى للأجور اليوم من مستلزمات الدولة العصرية التي تنشد التنمية الاقتصادية بأبعادها الاجتماعية الإنسانية في إطار ما سمي "بالطريق الثالث" أو "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي دعت إليه قمة الدول الصناعية الكبرى في أكيناوا عام 2000 في مقابل السياسات "الليبرالية الجديدة" التي تعود وبالا على الاقتصاد الأمريكي نفسه كما على الدول النامية والتي مثلت أحداث الأرجنتين أحد آثارها المؤلمة للشعوب.
والبحرين ، تاريخيا، ليست بالغريبة عن هذا السياق. ففي أول إضراب عمالي في الخليج والجزيرة العربية قام به عمال شركة نفط البحرين "بابكو" في عام 1938 ، أي بعد مضي ست سنوات على بدء عملها، كان مطلب الحد الأدنى للأجور في مقدمة القائمة : " ألا تقل أجرة العمل العادي عن أربع روبيات يوميا" . وقد تضمنت القائمة 13 مطلبا تركز عدد منها على تحسين الأجور عبر معالجة مشاكل المواصلات والعطلات والمرض وإصابات العمل وعلاوة الحرب ووقف تغريم العمال على الأخطاء الصغيرة ومراعاة مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي بين العمال أو مشرفي العمل البحرينيين والأجانب. ولكي نعود بالذاكرة إلى ظروف التخلف الشديد الذي صدرت فيه هذه المطالب نذكر بأنها تضمنت أيضا مطلب : " ألا يعامل العمال بقسوة ويضربون من قبل رئيسهم ولا يحقرون" !
إذن، فمع تطور تاريخ الحركة العمالية وتطور الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية في بلادنا فليس من قبيل الصدفة أن يدفع المجتمع بقضية الحد الأدنى للأجور لتحتل الصدارة بين كل الأمور الأخرى مع بداية الفصل التشريعي الحالي مما يعكس وعي جميع أطراف العمل من عمال وأصحاب أعمال ودولة بضرورة معالجة مشكلة الأجور بدءا بحدها الأدنى.
لقد كان من المفترض أن تنطلق الإصلاحات الاجتماعية لدينا من ضرورة رفع المستوى الحالي المتدني وغير المقبول للدخول، ومن ثم البدء في خطوات الإصلاح الاجتماعي الأخرى، لكن ليس العكس أبدا.
ومن التقاليد الحسنة التي درجت عليها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في البحرين دعوتها خلال عامي 2001 - 2002 لممثلي مختلف الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحافة إضافة إلى ممثلي الدولة لمناقشة المواضيع التي تنوي الوزارة بصددها رفع مشروع قرار إلى الجهات العليا في الدولة، وخصوصا ما تعلق بقضايا البطالة والأجور. وفي 9 يناير 2002 تقدمت الوزارة بورقة أعدها خبير أجنبي تحت اسم "الشروط المرجعية لدراسة سياسة الأجور في البحرين". وكان المقصود تحديدا موضوع الحد الأدنى للأجور. لكن الورقة لم تنطلق من الإقرار بالحد الأدنى للأجور كضرورة اجتماعية وسياسية قبل كل شيئ، بل طرحت مناقشة جدوى الحد الأدنى للأجور كفكرة. أكثر من ذلك نجد أن المنطق الداخلي للورقة كان يدفع بقوة إلى احتمال نقض هذه الفكرة والتحول عنها إلى بدائل أخرى.
وبذلك فالورقة لم تبدأ مما انتهت إليه اللقاءات السابقة التي دعت إليها الوزارة لمناقشة "مشروع الاستراتيجية الوطنية لتوظيف وإدماج العمالة الوطنية في سوق العمل". فاللجنة المصغرة المنبثقة عنها - وهي بالمناسبة مكونة من ممثلين عماليين وأصحاب عمل وأكاديميين بالإضافة إلى وزارة العمل - أوصت باعتماد حد أدنى للأجور : .. " يشمل العمالة المحلية والوافدة، يصحح بشكل دوري بما يتناسب والحد الأدنى للمعيشة، وباتباع سياسة واضحة للأجور على أساس الأجر المتساوي للعمل المتساوي دون تمييز، ومنح المواطنين نفس امتيازات الأجانب، مع إيجاد حوافز تشجع البحرينيين على مواجهة الظروف القاسية في بعض المهن".
كما أن ورقة الخبير لم تبدأ من حيث انتهت إليه توصيات اللجنة الفرعية لمناقشة موضوع البطالة المتفرعة عن لجنة تفعيل مبادئ ميثاق العمل الوطني بوضع حد أدنى للأجور .. "على أن يكون مصحوبا بضوابط معينة خصوصا تلك المتعلقة بالقدرة التنافسية للاقتصاد البحريني. وأن يتم احتساب التكلفة الإجمالية للعامل الأجنبي ومستويات المعيشة في البلاد في وضع حد أدنى للأجر. وضرورة أن تتم دراسة تنفيذ ذلك".
أثناء مناقشة ورقة الخبير انقسمت الآراء بالتساوي بين مؤيد ومعارض لفكرة الحد الأدنى للأجور مع تحفظ إثنين. وفي مقالة الغد سنتناول بالنقد ما يساق من حجج الضد.
2 - نقد حجج الضد
تحدث عدد من المتداخلين في ذلك اللقاء الذي نظمته وزارة العمل مشكورة عن أن سعر قوة العمل كسعر أية سلعة أخرى مرهون بتقلبات العرض والطلب، وأنه ليس لأحد حق التدخل في عفوية السوق والدعوة إلى سياسة سعرية. إن تبني سياسة سعرية بحد ذاته موضوع جدل. لكنه، وبخلاف سعر السلعة العادية، يرتبط سعر قوة العمل بحق العامل ومن يعيلهم في الحياة الكريمة وببقائه وأدائه في العمل، كما يرتبط بتركيبة العمالة وبمشكلة البطالة والهوية الوطنية وغيرها من القضايا ذات الآثار المباشرة ليس على الاقتصاد وحده، بل والمجتمع برمته. وإلى ذلك يغفل هؤلاء أيضا أن سوق العمل في البحرين ليس طبيعيا في جانب العرض، وعليه فهو ليس عفويا. العمالة الوطنية محدودة الكم طبيعيا، بينما هذا الكم مطاط إلى درجة كبيرة بالنسبة للعمالة الأجنبية. وبالتالي فإن سعر قوة العمل، حسب هذا السوق المشوه، يتناسب عكسا وإمكانية أصحاب الأعمال وذوي النفوذ من رجال السياسة في إغراق السوق بالعمالة الأجنبية والتأثير قسرا في العرض الطبيعي للعمالة.
ويغفل هؤلاء أيضا حقيقة أن الأسعار لدينا فالتة بشكل عام من حول قيمها الحقيقية إلى حدود بعيدة. إنها فالتة بالمعنى المزدوج للكلمة، وفي اتجاهين متضادين : ارتفاعا في أسعار السلع والخدمات المختلفة وانخفاضا في سعر قوة العمل. وهنا تطرح نفسها كضرورة اجتماعية ملحة فكرة التطبيع السعري. وذلك يعني أن العدالة الاجتماعية تقتضي ضرورة قلب هذين الاتجاهين، أي خفض أسعار السلع والخدمات ورفع سعر قوة العمل باتجاه الاقتراب من القيمة الحقيقية لكل منهما.
وقد جاءت الإجراءات الإصلاحية المهمة التي بادر بها عظمة الملك على هيئة تدخل مباشر من قبل الدولة لصالح التطبيع السعري بإحداث تعديلات سعرية جوهرية على عدد من الخدمات الحيوية كالكهرباء والماء والتعليم والإسكان لتزيح عبئا ثقيلا من على كاهل عشرات الآلاف من الأسر البحرينية. غير أن تخفيض الرسوم الجمركية لم ينعكس إيجابا في السوق التجاري على أسعار السلع الاستهلاكية والبضائع الأخرى لحد الآن. وبذلك تبقى بنى الأسعار السائدة في السوق إجمالا، وما تخفيه من هوامش ربح، تنال من الآثار الإيجابية للإجراءات الإصلاحية في جانبها الاجتماعي بسبب الامتيازات الاحتكارية. فأسعار السوق وهوامش الربح كلاهما بعيدان عن تدخل الدولة، بالضبط كما هو الحال بالنسبة للأجور. وهذا لا يعطي للأسعار، مع الوقت، أن" تلتهم" الأجور فقط، بل ومعها الدعم الاجتماعي أيضا.
يدفع آخرون بأن إقرار حد أدنى للأجور سيرفع كلفة الإنتاج ويشكل عاملا معوقا له. ونقول بأنه عندما يتقاضى العامل أجرا يقل عن الحد الأدنى المطلوب للمعيشة ويوقعه وعائلته تحت خط الفقر فإن ذلك يعني أن هذا العامل لا يتقاضى من الأجر ما يسمح له بإعادة إنتاج قوة عمله بشكل طبيعي، وبالتالي يؤثر سلبا على إنتاجيته، ومن ثم على ربحية المؤسسة التي يعمل بها وأداء الاقتصاد الوطني الذي فيه يسعى. أما المؤسسة الاقتصادية التي لا تستطيع تلبية هذه المعادلة على الأقل، فهي غير ناجحة أصلا من وجهة النظر الاقتصادية. وفي أيامه قال هنري فورد أن لصاحب العمل مصلحة في ارتفاع أجور العامل لا تقل عن مصلحة العامل نفسه. وكان فورد بذلك إنما يصوغ واحدا من أسس اقتصاد السوق. ومعروف أنه في البلدان المتطورة كاليابان حيث إدخال وتجديد التقنية الحديثة في الإنتاج باستمرار تبلغ إنتاجية العامل درجة أن ينتج خلال دقائق معدودة فقط ما يعادل أجره اليومي. وإذا ما أردنا أن نستخلص من ذلك ما يفيدنا سنجد الوضع لدينا يشي حقيقة أن رأس المال المحلي الخاص، بعكس رأس المال الأجنبي الخاص في بلادنا، يعتمد تدني الأجور بدلا من إدخال التقنيات والتكنولوجيات المتطورة أساسا لخفض التكاليف. ومن هنا الفوارق الكبيرة في الأجور بين الشركات الأجنبية أو التي يشارك فيها رأس المال الأجنبي وبين شركات القطاع الخاص.
إذن، فليست الأجور المجزية ، المنطلقة من حد أدنى للأجور، من معوقات الإنتاج، بل من محفزاته. وهي يجب أن تعتبر مؤشرا على نجاح أية مؤسسة، وعلى تعافي وحسن أداء الاقتصاد الوطني ككل. وفي العديد من الدول تستخدم مستويات الأجور كمعايير قياسية Parameters في التغيرات الاقتصادية الاجتماعية.
مسألة أخرى تشهر في وجه إقرار الحد الأدنى للأجور وهي أنه سيؤدي إلى إضعاف القدرة التنافسية في بعض المؤسسات والقطاعات مع نظيراتها في اقتصادات بلدان الخليج الأخرى، وخصوصا في دولة الإمارات الشقيقة. وهذه حقيقة، خصوصا بالنسبة للعمال غير المؤهلين. فمتوسط مجمل كلفة العامل غير المؤهل في قطاع الإنشاءات ، بما في ذلك الأجر، تتراوح هناك بين 90 و 100 دينارا والمؤهل بين 110 و120 دينارا ( يختلف الأمر في حالة إعادة تأجير العمال من قبل الكفيل الأصلي فيتقاضى هذا الأخير من المستأجر الثاني ما متوسطه 150 و192 دينارا بالنسبة للمؤهل وغير المؤهل على التوالي، لكنها تصل بالنسبة لعامل الكهرباء مثلا قرابة 240 دينارا). وهنا نتوقف عند الأمور التالية : أولا، أن أسواق العمل في بلدان الخليج هي الأخرى غير طبيعية كما هو الحال في البحرين حسبما ذكرنا، بل أشد اختلالا. وبالتالي فهي أيضا بحاجة إلى إجراءات لإصلاح اختلالها. إن هذا يستدعي ضرورة أن تتصدى الدوائر الرسمية والمنظمات النقابية والمهنية في بلدان مجلس التعاون لمعالجة جماعية لهذا الوضع والعمل على التقريب بين الأجور، خصوصا في القطاعات التي تكون فيها هذه الأجور جد متدنية. أما بالنسبة للبحرين، وهذا ثانيا، فالقضية لا تحتمل الانتظار. إن حل مسألة الحد الأدنى للأجور يشكل حاجة اجتماعية وأمنية ماسة ويخدم كأداة فعالة من أدوات مكافحة الفقر وللحد من البطالة، التي طالما هددت الأمن والاستقرار الاجتماعي وتطرح نفسها بحدة أشد مما في شقيقاتها من دول مجلس التعاون الأخرى، حيث لا تمس معيشة المواطن مباشرة هناك بالدرجة التي نشهدها في البحرين.
ثالثا، ومع ذلك نجد أن دول الخليج الأخرى الأقل معاناة بدأت تطرح المعالجات على جدول أعمالها، ناهيك عن أن الحد الأدنى للأجور معمول به بقوة القانون في كل من السعودية ودولة قطر. وفي سبتمبر من عام 2000 صرح وكيل وزارة العمل د. خالد الخزرجي بأن مجلس الوزراء في دولة الإمارات طلب إعادة النظر في العديد من الوظائف والتراخيص الممنوحة لجلب العمالة من الخارج، وأشار إلى أن الاتجاه للحد من ذلك هو في رفع تكلفة العمالة غير الماهرة، ووضع شروط إضافية على جلب العمالة من الخارج، منها اشتراط حصول العامل على الشهادة الثانوية على الأقل مهما كانت طبيعة عمله داخل الدولة ، ورفع الحد الأدنى للأجور. وفي ديسمبر 2001 نشرت وزارة المالية في دولة الإمارات دراسة طالبت " بتحديد سقف يتحرك إلى أسفل لخفض العدد المطلق للعمالة الوافدة مع مرور الوقت بالإضافة إلى مساعدة المؤسسات المشغلة للعمالة الوافدة على اعتماد طرق إنتاج ذات كثافة رأسمالية اكبر". وأشارت الدراسة إلى انه " ربما يكون من المفيد فرض حد أدنى للأجور بغية رفع معدل أجور القطاع الخاص وجذب المزيد من العمالة الوطنية".كما دعت الدراسة إلى " تضييق الفارق في الأجور بين القطاعين العام والخاص مع التركيز على التدريب والتأهيل واعادة التأهيل بين أوساط المواطنين بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية أخرى لزيادة مشاركة العمالة الوطنية في القوى العاملة في الدولة خصوصا في قطاع الصناعة التحويلية". وبما أننا نحب أن نقتدي بسنغافورة في كثير من المجالات تجدر الإشارة إلى أن الفرق بين رسوم جلب العمالة غير الماهرة نسبة إلى الماهرة يقارب 16 ضعفا في هذا البلد.
رابعا، فيما يخص المنافسة ذاتها. إن غالبية ذوي الأجور المتدنية في بلدان الخليج يعملون في قطاع الإنشاءات ، حيث عدم تداخل أسواقه مع سوق قطاع الإنشاءات في البحرين بشكل مباشر، فعلام المنافسة ؟!
من الحجج التي يدفع بها ضد مبدأ الحد الأدنى للأجور هي القلق على مصير المؤسسات الصغيرة أو المؤسسات الناشئة بتأثرها سلبا من إقرار قانون بهذا الصدد. وهذا القلق مشروع إلى حد، لكنه لا يرتقي إلى "دحض" فكرة الحد الأدنى للأجور. الصحيح هو أنه يجب تشجيع هذه المؤسسات على الاندماج مع بعضها ومساعدتها لكي تكون قادرة على دفع الأجور اللائقة لعمالها والوفاء بالتزاماتها الأخرى تجاههم دون تأخير، ولكي تربح المؤسسة وتتطور في نفس الوقت. ومن أجل ذلك فلا بد، في السنوات الأولى على الأقل، من دعم مباشر أو غير مباشر من قبل الدولة لهذه المؤسسات بمنحها الإعانات والإعفاءات والتسهيلات المختلفة وتزويدها بالمواد الخام المتوفرة ومواد الطاقة بأسعار تفضيلية وغير ذلك من وسائل الدعم الأخرى من أجل حماية منتجاتها في حمى المنافسة. وفي نفس الوقت من المهم التأكيد بأن هذه الأشكال من الدعم للمؤسسات هي بالذات التي يجب أن تحل بديلا عن الفكرة الداعية إلى تحمل الدولة، وعلى نطاق الاقتصاد الوطني، لأشكال مختلفة من الدعم للمواطنين مباشرة عوضا عن وضع حد أدنى للأجور أو سياسة عادلة للأجور عموما. إن أشكال الدعم - الإعانات - هذه مطلوبة بالتأكيد، ولكن كآلية أخرى مستقلة من آليات إعادة توزيع الدخل الوطني خارج نطاق سياسة الأجور. وهي تندرج ضمن السياسة الاجتماعية، لكنها لا ترتبط بأي حال بالعمل ولا تشكل حافزا من جانب المؤسسة الاقتصادية لزيادة إنتاجية العمل. ويبقى من الضروري الإشارة ايضا إلى أن الميل لتغليب فكرة الدعم هذه لا يأخذ بعين الاعتبار إمكانية اصطدامه بحدود إمكانيات الدولة مستقبلا في مختلف مستويات الرعاية الاجتماعية. فالدولة تعتمد في الأساس على المردود المالي لبيع النفط والذي لا يستطيع أحد التنبؤ بحقيقة تطور أوضاع أسواقه العالمية المضطربة. ومن الجهة الأخرى لا يبدو لحد الآن أن الدولة مقبلة على سن نظام ضرائب مباشرة كما هو الحال في أي نظام اقتصادي اجتماعي طبيعي كي تستمر الدولة في أداء وظائفها الاجتماعية والقطاع الخاص في أداء التزاماته الاجتماعية بغض النظر عن حجم دخول النفط.
يطرح بعض منتقدي الأخذ بالحد الأدنى للأجور محذور أن يعزز ذلك من ميلان الأجر الوسطي في البلاد انحدارا باتجاه الحد الأدنى للأجور. وللحقيقة فإن هذا يمكن أن يحدث ، وبتسارع أيضا. وبالفعل، فقد حدث ذلك لدينا للأسف. ففي نهاية التسعينات كان قطاع الفندقة في البحرين قد اعتمد طوعا حدا أدنى للأجور قدره 170 دينارا. لكن، وبما أن الحديث كان يجري عن 150 دينارا بشكل عام كحد أدنى للأجور، فسرعان ما عادت أجور عمال الفنادق للانخفاض إلى 150 دينارا فأقل مع غياب الجهات المعنية بالرقابة والسيطرة. وكان وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق قد صرح مرة بأن السنوات الأخيرة - من التسعينات - شهدت تناقص أجور البحرينيين في قطاع التشييد والبناء بمقدار 24 دينارا للذكور و35 دينارا للإناث. والغريب أيضا أنها ارتفعت بالنسبة لغير البحرينيين خلال الفترة نفسها بمقدار 15 دينارا للذكور و41 دينارا للإناث، حسب الوزير.
إذن، فللحيلولة دون تراجع الأجور بشكل عام يجب أن يربط الحد الأدنى للأجور بسياسة الأجور عامة. وهذا ما أحسن فعله المجلس النوعي للتدريب في قطاع التموين والفندقة في بداية هذا العام. فلقد أقر 350 دينارا كحد أدنى لأجور المتدربين في السنتين الأولى والثانية، و400 دينارا شهريا في السنتين الثالثة والرابعة. ودعا في نفس الوقت إلى أن لا يقل الحد الأدنى المطلق في القطاع عن 200 دينارا شهريا، لكي يبنى سلم الأجور فيما بعد انطلاقا من هذا الحد.
ومن بين أكثر الحجج انتشارا ضد رفع أجور العمالة غير البحرينية إلى مستوى الحد الأدنى للأجور هو أن ذلك سيلحق أضرارا بالاقتصاد الوطني لأنه سيؤدي إلى مضاعفة النزيف المالي عن طريق التحويلات المصرفية للأسواق التي أتت منها هذه العمالة. بهذا الصدد نود أن نقول ، أولا، أن ثغرة نزيف المال إلى خارج البلاد هذه إنما فتحت يوم فتح على مصراعيه باب هجرة العمالة الأجنبية إلى داخل البلاد في الأصل. وثانيا، أن الدواء هنا لن يكون إلا من نفس الداء، بالضبط مثل التطعيم ضد أي مرض. أي بزيادة أجر العامل الأجنبي وفق المبدأ الإنساني العام " الأجر المتساو للعمل المتساو". لكن تطبيق هذا المبدأ سيرفع بدوره من كلفة العامل الأجنبي. بمعنى آخر إن حجة الضد المذكورة صحيحة لبعض الوقت فقط، لكنها ستنتفي على المديين المتوسط والأبعد. كيف؟
يمكن الجزم بأن الحسابات التي سيقت في عدد من المقالات كأمثلة في هذا الصدد لم تصب الحقيقة. ودون الدخول في تفاصيل أرقام تلك المقالات نورد هنا حقيقة أن من بين أرقام المسجلين لدى التأمينات الاجتماعية لعام 2000 يشكل عدد العمال غير البحرينيين الذين بتقاضون دون 150 د.ب. قرابة 77.5 ألف شخص. وإذا كان متوسط أجر العامل الواحد كما جاء في بعض تلك المقالات يقدر بسبعين ديتارا في الشهر، فحسب معرفتنا لواقع بعض كبريات شركات المقاولات والإنشاءات في المنطقة يبلغ متوسط كلفة العامل الأجنبي قرابة 100 د. ب. شاملة متوسط الأجر. وعليه فإن المطلوب زيادة ما متوسطه خمسين دينارا للعامل الأجنبي شهريا، أو ما إجماليه 46.5 مليون د. ب / سنة. وما دمنا نقول بأننا نهدف، فيما نهدف، إلى استخدام الحد الأدنى للأجور كأداة مساعدة لإحلال العمالة المحلية وتحسين ظروف العمل وزيادة المشاريع ذات الكثافة الرأسمالية عوضا عن الكثافة العمالية وإدخال التقنيات التي سترفع من إنتاجية العمل، وتفادي التضخم الوظيفي في القطاع الخاص الناتج عن تدني أجور العمالة الأجنبية ، كما أشار إلى ذلك بحق تقرير التنمية البشرية للعام 2001 ، فإنه ، وباحتساب العاطلين البحرينيين الحاليين وتدفقات العمالة المحلية الجديدة على سوق العمل خلال السنوات الأخيرة ، يجب أن يحل قسم من هؤلاء محل ما لا يقل عن ربع العمالة الأجنبية. وإذا ما تم تفعيل العوامل الأخرى المساعدة على تقليص التضخم الوظيفي فإن كل العوامل مجتمعة يمكن أن تؤدي على المدى المتوسط إلى الاستغناء عما لا يقل عن نصف العمالة الأجنبية.
عندها، وعندها فقط سنكون أمام لوحة أخرى تقول بأن العمال الأجانب ذوي الأجور المتدنية كانوا يكلفون القطاع الخاص حوالي 93 مليون دينارا في السنة. أما بعد انخفاض عددهم إلى النصف تقريبا وبالرغم من زيادة إجمالي كلفة العامل الواحد إلى ما يعادل 150 د.ب. المفترضة ، فإن كلفتهم الإجمالية ستنخفض إلى قرابة 70 مليون د.ب. وبذلك ستحقق البلاد وفرا يزيد على 20 مليون د.ب في السنة سيتم إعادة تدويرها في الاقتصاد الوطني بدلا من ترحيلها إلى الخارج. نعود لنقول بأن هذه تقديرات تقريبية ، كما أن تحقيقها يحتاج إلى توافر إرادة القطاع الخاص والدولة في تأمين شروط التحول نحو اقتصاد يلبي شروط التحقيق. لكنها على أية حال كافية للطمأنة بأن النزيف المالي لن يزيد. والاقتصاد الوطني لن يخسر جراء ذلك سوى قسم كبير من العمالة الأجنبية غير الماهرة تحديدا. لكننا كقطاع خاص واقتصاد وطني ومجتمع سنربح في الأفق مواطنا نكون قد ارتقينا به وبالعمل إلى مستويات أكثر أمنا وإنتاجية ومتعة.