حينما يفتح التاريخ بواباته , يتراكم الزمن .... يجذب أطراف انشطارا ته , عوالم تمضغ عوالم
استحالات تجيء من اللامستحيل , السماء تغمر نشوة البكاء ... تسقط الغيوم بهدوء .. تفرقنا قطرة
وتجمعنا بحار .... نلتقي أم نلقي .. نتلقى أم نلقى ... نيمم وجوهنا الشاردة نحو القدسية .. تبلل
دموعنا الرحمة الإلهية ... اللهم ارحم ... اللهم أرح ...
وبين هذا وذاك يا إيمان ... تطفو الاسئله فوق جداول الذاكرة ......
شارع النجارين وقهوة ( حسين القهوجي ) الصغيرة وشايه الذي يجلب عشاق الشاي ... ( ع?د الصفارين ) .. وطرقه العروضية الجميلة وكأنني ( بالخليل ابن احمد ) وهو يضع بحوره في قوارير القصائد ... ( ناجي الصفار ) وابتكاراته الفطرية في عالم هذا السوق وضجة أنغامه ...
والتي تبدو للوهلة الأولى بأنها سيمفونية القدر ( لبيتهوفن ) تطرق أسماع كل من يمر به .. يا لروعة المشهد وجماله الأثري .
وذاك السوق المسقوف ...الذي يحتضن بين أضلاعه تفرعات تاريخ وخطوط ماض ... يرتمي في أحضانه سوق القصابين و ( ع?د السادة ) وانزواءات الخياطين والتي يطلق عليها ( القيصرية )
( عبد العزيز حاج حمود ) صاحب القرطاسية اشهر من نار على علم ....
يا إيمان حينما تشرع المدارس بفتح أبوابها كان أهلنا يبتاعون لنا القرطاسية منه ، أما ( لطفي جبر ) فصاحب المكتبة التي كنا نشتري منها الكتب ....هؤلاء يا سيدتي وهبوا ارث تلك المهنة إلى أولادهم ... أما مقهى ( رؤوف) الذي كان له عالم خاص وصوت ( منصور أبو السرة ) الشاعر الفطري ما إن تستمعي إليه يا صغيرتي.. ألا وينقلك إلى حقبة الأدب الأموي أو العباسي ... كانوا يغضبونه لكي يهجوهم ... ذات مرة اغاضه أحدهم وكان اسمه ( جواد ) فهجاه ( أبو السرة ) بقصيدة جاء مطلعها :
( سمتك أمك بالجواد لأنها ... علمت بأنك بعد حين تركب ) ...مات ( أبو السرة ) وماتت معه كل
قصائده وكل مخطوطاته التي تركها وديعة عند أولاده الذين أضاعوها فأضاعوا نوادر أبيهم..
أما يا ( إيمان ) عن أخريات هذا السوق فهناك ( عبد علي الحلاق ) اقدم حلاق في السماوة وكالمعتاد في بلادنا يمارس أيضا ( ختن الأطفال ) كما يداوي ويجبر الكسور .. كان أشبه بطبيب فطري .. يشعر الكثير من أهل السماوة بالارتياح _ ولو من باب الاعتياد_ حينما يقصدوه لكي يصف لهم دواءهم أو يعالج كسورهم ولكن يا صغيرتي الحبيبة أنا لعبد علي أن يجبر كسر القلب ....
باشر ( عبد علي ) هذا ختن ثلاثة أرباع المدينة .. أما ( جيجان ) العشاب ودكانه المليء بكل أنواع الأعشاب والعطارة فقد كان هو الآخر طبيب المدينة أو ما يسمونه في المدينة ( المرزه) فقد كان يقصده أيضا أهل المدينة لعلاجهم أو علاج أطفالهم ... كانوا يشفون هم وأطفالهم من وصفته ... وعلى فطرتهم البريئة .
وهناك يا إيمان شخصيات وشخصيات وحرف كثيرة يخبئها هذا السوق ( عبد علي التتنجي)
و(آل البازي) الصاغه وهم ( سماوي وحبيب وحسين وظاهر) و(آل أبو خشه) والخياطين(صبحي شفيج) و (جرجيس الخياط) و.....و.......الخ
والقماشين ( باقر آل حجي عبيد) و ( موسى كركوش) وخان ( آل مندل) وهناك الكثير الكثير لا تسعف ذاكرة المنفى لإحصائهم .
أما يا سيدتي طقوس عاشوراء، تلك التي تحمل ذاكرة خاصة وتاريخ خاص فلها عالم مليء بكل ما يحمل التاريخ، والسماويون يحيون شعائر هذا الشهر المقدس وما يحمله من ذكرى مؤلمة، هي
استشهاد الإمام الحسين عليه السلام....... كانوا يجلبون من خارج المدينه قراء المراثي الحسينيه المعروفين على صعيد المنبر الحسيني، ( ملا فاضل الراد ود و رسول محي الدين، وعباس الترجمان، وحمزة الزغير، وعباس الكوفي،) وبالرغم من أن لهذه المدينه قراءها وهم من أبناء جلدتها والذين كانوا يسمونهم ( الرواد يد) من هؤلاء ( الحاج عباس هو يدي وداخل السماك، خضر صن?ر) أطال الله في عمر الإحياء منهم ورحم الله الأموات..... ومن مفارقات هذا الطابع سأحكي لك يا سيدتي عن واحدة منها، عام 1970 جلبت الحكومة العراقية نوعا من أنواع الحنطة وكانت مطلية بمادة سامه، كوقاية للحنطه من الآفات التي قد تتلفها- وقامت بتوزيعها على الفلاحين- وكان قد استخدم فلاحي المدينه جزءا منها للأكل وكانوا يظنون أنها مطلية ( بمعجون الطماطم) فكانوا يقولون ( معجونها منها وبيها) وقد تسمم خلق كثير جراء ذلك ......كان ذلك مصادفا لأيام عاشوراء فكتب السيد داخل السماك قصيدة تحكي هذا الموقف وقراها على المنبر( هاي الحنطة المسمومة......جابتها النا الحكومة.....سموا بيها المعدان ..) ....ذلك أن كان المنبر الحسيني يستخدم للتعبير عن الرأي وطرح الأفكار و كان أشبه بالصحيفة التي ترشد وتخلق وعيا خاصا للجمهور وتتفاعل مع الحدث العام في البلاد وإضافة إلى المنبر الحسيني هناك المواكب الحسينيه أي المجاميع التي تخرج زمرا تندب الإمام الحسين عليه السلام وتحيي ذكراه في شهر محرم الحرام ومن بين هذه المواكب موكب الشرقي الكبير وموكب شباب الشرقي وموكب الجمهور الذي كان ينظر إليه على انه يمثل الطبقة الأكثر وعيا وثقافة بين المواكب(الطبقة الثورية) والذين يطلق عليهم ( عزاء موسكو) وجمهور( الجديدة) وعزاء ( باقر جونه) وفي الصوب الصغير (عزا مجلي) و..و.........الخ.
في عاشوراء الحسين هذا، كان السواد يلف المدينه والحزن يخيم على أكتافها، طيلة شهر محرم الحرام، ونحن نتشح بالسواد كذلك تعبيرا عن الحزن وولاءا للامام الصابر المحتسب و الذي قتل مظلوما في واقعة الطف ... وما يقترب أربعين الإمام الحسين عليه السلام في العشرين من شهر صفر حتى نجهز رحلنا ثم ونسير مشيا على الأقدام باتجاه مدينة كربلاء المقدسة حيث ضريح الإمام والتي تبعد ما يقارب المائة وستون كيلومترا عن السماوة وتعرف هذه العادة باسم ( الركضه) و يصاحبها هتافنا ( من السماوة أتى جمهورها..إلى بطاح كربلا يزورها) وكانت مواكب السماوة يا إيمان لها وقع خاص في كربلاء، كما أن لها صدى كبير بين المواكب، إذ ينتظر الجمع اللفيف في كربلاء والذي يضم المسلمين من كافة أقطار الأرض هذا الموكب(عزاء السماوة) ليستمعوا إلى أناشيدهم وهتافهم الذي يعطي صفة خاصة ونفسا مميزا لهذا الطابع القدسي المهيب، وكيف يتغنى شاعرهم المرحوم ( عبدالحسين الخطيب) وهو يردد أروع القصائد في هذه الذكرى الأليمة .... وبصوت الروا يد وجمع الموكب بصوت واحد شجي.
ولهذه الطقوس حكايا وحكايا يطول شرحها ... ويصعب سردها بهذا الإيجاز.
يا إيمان... حاول البعثيون جاهدون القضاء على هذه الممارسات وهذه التقاليد، فمنعوها ردحا من الزمن ولكن المجتمع السماوي أسوة بكل المجتمع العراقي، كان يمارسها خفية وبسرية ولكن شاء الله أن يعيد إلى الأذهان هذه الذكرى، وهذه الممارسات الشعائرية العظيمة بعد سقوط حكم الطغاة، وليرفع الله شعائر من أقام شعائر الدين .....رأيت هذا الأمر عيانا حينما وقع بصري_عبر التلفاز اثر سقوط النظام القمعي_ على مشهد خروج العراقيين لممارسة طقوسهم بعد سقوط الطاغية بأيام ..... وكيف احتشدوا حول ضريح سيد الشهداء وأبى الأحرار الحسين بن على عليه السلام .
اللهم احفظهم بحفظك، واحفظ العراق من أقصاه إلى أقصاه.
يا إيمان... نسأل الله أن نكون على خطى الحسين سائرين وبنهجه مهتدين، ورايات ولائنا خفاقة : (من السماوة لكربلا راياتنا منشورة ...غصبن على خشوم العدا ?بر الشهيد انزوره) يا إيمان سأتلو عليك أناشيد أخرى وحكايا أخرى فافتحي دفترك واكتبي كل حكايا مدننا الخالده القادمة من تراب السماوة وريح الجنوب وأناشيد السومريين وسنلتقي على دفاتر الذكرى والسماوة تفتح أبوابها لكل القادمين من بوابات الذاكرة.