أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا















المزيد.....

عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 660 - 2003 / 11 / 22 - 07:15
المحور: الادب والفن
    


 هنا وضمن اشتراطات المنفى تعمد الشاعر عدنان الزيادي ان يستحضر  طفولته وماضيه ، وان يكتب عن هذا بذاكرة ملتهبة بملكوت الشعر حتى يكون قادرا على استعادة زمنه الشعري المسروق وهو في منفاه ، بعد تجربته الحياتية في العراق ومع المقاومة الفلسطينية  في بيروت وتونس . وما عزلة الشاعر إلا  لملامسة هذا الماضي من جديد  واكتشاف  لغز الشعر والتوحد الشعري ، فالشاعر عموما  يمتلك دائما ذاكرة ديناميكية ووجود شعري مطلق . لذا فان زمن الشاعر يرتبط بزمن الشعر فقط  ، وهذا يتحقق من خلال تلامس الازمنة الثلاث. وبما ان الماضي دائما مبثوثا في الحاضر ليمنحه جوهرا مكثفا يمتد الى المستقبل ، يصبح الشعر  تكثيفا للحظة الإبداعية التي تختزن غموض الوجود وتؤكد ميتافيزيقيا الزمن ، وهذا هو الزمن الشعري ، وهذا يجعل من كينونة  الشاعر وجودا مكثفا بالشعر ، ويجعل من الشعر وجودا مكثفا بالزمن . من هنا يأتي تفرد الشعر كلغة وتأويل ورموز تستجلي الاغوار السحيقة  للوجود المعطى ( الواقع ) ، ضمن هذا الوعي فان هدفية الشعر لدى عدنان الزيادي في ديوانيه (نوارج الى هذا الحد ) و ( هكذا …..طوال الضفاف )  هي البحث في منفى ذاكرة الشاعر عن جوهر الزمن المفقود منذ اللحظة التي تخطى بها عتبة داره متجها الى متاهات المنفى . ومن أجل ان يعدّ ينا ، فان الشاعر يستفزنا بأسئلة لا نملك  لها جوابا ، انها أسئلة الحلم والرؤيا التي تشبع بها ذات يوم في مكان  وزمان ما .انها رؤيا لفضاء تلتبس فيه الاشياء والانا والذات الاخرى . ومثل هذه الرؤيا يكون الشعر فيها كالندى في صباحات الوادي المقدس  عندما يدخله الشاعر متسلحا بأسئلة مثل ( إذن لماذا جاء ، / ولماذا انا شجرته الدائمة /وكم رايت ياربي  ، رغيفي مغمس بدم / وتناهت ألي صيحة الجريح في الوهاد /وجاء في تاملاتي إنني ذللت الصعاب ./ ذاهبا إلى الحتم ، ومامن عضو يطاطئ  )  والشاعر  معزول ومستوحش ووحيد  في  وادي الرؤيا يبحث عن كنزه ولغزه الذي يغني البصيرة والوجود ، ولكن هل يمكن مبادلة هذا الشاعر المستوحد ، كما في قصيدة ( الجدائل تحجب القمر أيضا ) حيث يود أن يبادلك كل شئ ، هوسه ، ذاكرته جدائل طفولته ، منفاه زغاريده ، عنفوانه وأغنياته المشردة ، فقط   خل له اؤلئك يأتون كل ليلة (  وجدائلهم تحجب القمر ، خلهم في عزفهم ، أما أنت فعليك أن تراقب الشعلة والضحايا والاساطير التي تتهاوى )  إنها حقا ذاكرة الشاعر العامرة بالتعاويذ الشعرية والاسرار .
ومن هنا فان شعر عدنان الزيادي اكد على تطور موضوعاته ، ففي ديوانه (نوارج الى هذا الحد ) نلمس قصديته في استباحة اليومي  وكشفه ، مع محاولة استخدام مفردات لغوية قريبة حتى من القارئ غير النموذجي  . أما ديوان ( هكذا…….طوال الضفاف  ) فانه يوحي بضفاف عزلة الشاعر التي يعّبرَ من خلالها أحلام الليل الى ذلك الحلم النهاري الذي يشكل تأملاته الشعرية الواعية . أنها الأحلام التي تخلق ترددات الشعر لاستجلاء ذاته وماضيه ولإعادة صدى الوجود القلق في دواخلنا ، مما يؤدي إلى أن يصبح وجود الآخر والأشياء مستقلان عن ذات الشاعر . ففي تجربته  الشعرية ينهمر الماضي كشلال  شاهق في يوم ضبابي  ، فتكون ذاكرة الحاضر عامرة بالزمن الشعري . 
خيول الذاكرة النارية     
في عزلة الشاعر تصبح ذاكرة الماضي هي المَعبرَ الحقيقي للحاضر  لتحقيق التداعي ، لذا فان شعر الزيادي يرتكز على ( الذاكرة اللاإرادية) من اجل استحضار الماضي  المرتبط بالحاضر  مادام  (ماضينا يعيش باستمرار في طعم الاشياء ورائحتها )  ولونها ومكانها الاول الذي إنقذفت فيه . ولذلك فان ذاكرة الماضي هي ذاكرة مثيولوجية  بواسطتها يحاور الشاعر  " الاشياء " كوجود صرف ومكثف قائم في الواقع . وبالرغم من توصيف الحدث والصورة  ، إلا ان اللحظة الشعرية هي تكثيف للحدث في الماضي  ، يستحضره الشاعر
 " الآن "   في الحاضر الذي هو بؤرة تلامس الازمنة .لذلك فان تداخل ذاكرة الماضي بالحاضر ياخذ امتداده المستقبلي ، وهذا كله يؤدي الى تكامل دائرية اللحظة الشعرية الابداعية التي تنبع من ذات الشاعر لتمتد الى الذات الاخرى  ليتحقق زمن السرد القرائي  ( زمن القارئ الذي يقوم بتأويله الخاص )او مايطلق عليه إمبرتو إيكو بالتأويل التعاضدي . لذلك فان الشعر عموما يحتاج الى قارئ نموذجي يعاضد تأويليا النص والشاعر في ذات الوقت .
وفي أنموذجنا هذا فان أهمية القارئ الواعي تكمن في انه يصبح جزءا من عزلة الشعر ، لان الزيادي بالرغم  من أنه يصبو الى ان يسمعنا إيقاعه البهيج أحيانا ، إلا ان شعره منفي بعزلته ، وهذا يعني انجلاء اللحظة الشعرية . والقارئ النموذجي بعد  التأمل سيتوصل الى  لغز الشاعر المبثوث في العوالم الخفية للقصيدة  . فتتراءى  أحلام الشاعر كغزلان لازوردية في غابة الشعر ، وهناك يقوم بتشذيب شجرة النار ، وتصبح أحلامه كالألغاز  او حكايات ، وأساطير عن الأسرى والمرضعات اللواتي احتضن طفولته . غير ان أمومة الشاعر تتبارك دائما ببرق الوميض : ( ولأجلها يتشظى كل جوهر ، وثمة ناظرون ، من هناك الى الشعلة المواظبة في قلوب ممثلين يحفظون أدوارهم ، وهذه أدواري : مثلما آخذ بالوردة الى عطالةٍ/ سآخذ بي الى مالايسلو  في صميم هذه العٌـلّية حيث تتوجب إطلاقات  غزيرة على قطافين تكهنو بجذل جذور ومناهل ملح في مقامي الأهل بأسلاك تدلت كغصون ، وعلي / إذا ما أطفأت غصون النار في إمارتي /أن أقترح بصوّانين شرارة تاريخ من الصيحات عَبَر الضفاف .) 
وعندما يغزو الماضي ذاكرة الشاعر ، يبدأ  القصيدة  متسلحا بوعي جديد قادرا فيه على التعبير عن الزمن وقدرته على تآكل الذات وتلاشي حميّتها حسب مفهوم أندريه موروا . ولذلك فان الزيادي يطابق بين إحساس حدث في الحاضر وبين ذكرى حدثت في الماضي كتراكم زمني ، وهذا واضح في الكثير من شعره . ولكن في ديوانه ( نوارج الى هذا الحد )  تفاجئنا قصيدة بعنوان ( سوق التجار ) توضح  ما ما ذكرناه حول استعادة الذاكرة  باختلاف الزمن ، حيث ان رؤيته لشفتين ورديتين  ( في الحاضر ) تذكره بأيام طفولته عندما كان الزمن ينساب كالهواء بين الأصابع ،وهو طفل لاهث يحث خطاه نحو سوق التجار ) تريد ان أحدثها عن أيامي الخواليّ / وقد مطت شفتين /فذكرتني بالحلوى التي ذابت بين أصابعي / وأنا أجئ وأذهب في الطريق ذاته / الى سوق التجار  بدءاً من خطوةٍ موحلةٍ / ألفت الطريق بطينه المٌخاض ) فزمن الحبيبة او الاميرة ( في الحاضر ) يفرض على الشاعر ان يغزل لها حكاياته  ، وهي تمط شفتيها . إن هذه الصورة الشعرية الوصفية هي التي تلهب ذاكرة الشاعر ( اللاإرادية ) عن طريق التطابق باختلاف الزمن ، فتستعاد ذاكرة الماضي  لتستحضر أحلام الطفولة الشاردة  التي اعتادت الطريق الى السوق فيتحقق التداخل او التلامس الزمني . أما الشاعر المنفي  فانه سيطرد من سوق التجار لأنه إذا دخله الان فسيدخله بذاكرة واعية مسلحة بأسئلة معكوسة بالمرايا ( نحن حملة كسِر المرايا / عاكسي أشعة الشمس / كمخترعين مطرودين من سوق التجار )
إذن حضور الماضي عن طريق التطابق ، يؤدي الى انبثاق مدينة بصباحاتها وبساتينها وشوارعها وصباياها الحالمات بأطفال شعراء أوملائكة كانوا يحلمون بتلك الكواكب العجائبية التي تغزو مخيلاتهم . في هذه المدينة يتجوهر الماضي بعتاليه الذين يلتهمون النهار ، ومرضى الريف ، غزاة المدن الموحلة ، والجنود الذين عادو للتو من حرب غير مجدية ، ورجل العطور  وكأنه كينونة ابدية  يحلم بالجنة  ، وهو الوحيد الذي سيدخلها  ، وتلك المرايا والشموس المعكوسة في عيون السحرة طارقي الابواب الذين نسوا تعاويذهم في كهف مسكون بالساحرات . انها مدينة أحلام كانت تهدر في طفولة الشاعر في الايام الخوالي ، واستطاع الزمن تخريبها وتآكلها ، وقد تتحول الى سراب ، لان حنين ذاكرة ماضي الشاعر سيعيدها كما كانت ( وهنا تصبح الذاكرة عدوة للزمن ويصبح الزمن عدو الذاكرة )
أحلام الشاعر في اللازمان
 وعندما يلج الشاعر طفولته  يكون لديك يقين بان صور الماضي  واضحة لدرجة  أنها ستقفز خارج التجربة والكتابة . لان الشاعر يظهرها من خلال برازخ الذاكرة فيتحتم هتك حجاب الطفولة والماضي  ، وفي ذات الوقت  يسطو على طفولتنا وأحلامنا . ان لحظة التذكر هذه هي ( استعادة الزمان وقهره في الوقت نفسه ، لان قطعة كاملة من الماضي استطاعت ان تصبح قطعة من الحاضر ، وان مثل هذه اللحظات لتشعر الفنان بانه احتل الأبدية ـ حسب اندريه موروا ـ  ) والابداع الحقيقي لا زماني دائما ،أما الابدية فهي اللازمان   ـ كما يشير ميرهوف  )فالشاعر يتحرر من الزمان والمكان الواقعي فقط عن طريق الابداع ، الذي هو استحضار لازماني للذاكرة والاحاسيس وتأملات الحلم النهاري المتحرر من الزمان والحلم الليلي ( حسب غاستون باشلار )
وشعر الزيادي يختزل ماضيه فيتحول  الى فضاء لتذكر مقتله في ليل المذابح بلا وداع ولا حنين فقط تحف به طيور الافق الشرقي ( من ليل المذابح ياسيدتي / فإذا اردت أريتك مقتلي بين نهرين ). إن نوايا الشعراء عموما تحاول أن تخلق لنا حرية متمنية  ، لأنها كالخيول النارية في كهولة الشعراء عندما يتخلون عن عالمنا الواقعي ، لينغلقوا مع ذواتهم في عزلة تبدو أبدية .
لكن عدنان الزيادي يعود إلى ماضي الحنين كخلاص يتدفق ، كعودة المياه التائهة إلى المجرى ، فتومض الذاكرة بكليتها وزمنها لتنبثق عوالم وأحاسيس ورؤى مازالت حية في الثنايا السحيقة من الذاكرة .
بالرغم من أن الماضي يظهر لنا المكان بكليته ، تتوسطه كرات مغزولة دائما ورحى تدور لتلاحق الزمن  المنفلت ، انه ذاكرة الطفولة التي ترينا  الشاعر الطفل أو عالم الطفل الشاعر تضج به  نساء تربعن  في جلستهن يغزلن الزمن متشحات بسواد كل هذا العالم ، فنسمع بانفعال هسيس  أحاديثهن عن ملائكة ، تسجل على أجنحتها كل نأمة ، والنار تترك آثارها على خبز الماضي ، فيغسل الشاعر أحزانهن بندى الصباح . وعندما يهم بالحديث مع شاعره الطفل ، تتشظى النساء حمائم سود تهيم في ملكوت الذاكرة وتتلاشى .
وبالرغم  من ان الزيادي يلامس الواقع بمباشرته  أحيانا ، إلا انه  واقع  جديد عن طريق الصور الشعرية في زمن شعري جديد . فمرة يطوف بنا كأبناء  ملعونون  في ظلام العالم السفلي لرؤية مدن جهنمية ، أو تلك المدن التي توهت الشاعر بنكرانها وصدودها ، فلعنها ومازالت تستغيث .ومرة يسلمنا بكامل اليقين مفاتيح مدينة الأحلام التي يبحر لها الشعراء المنبوذين  دائما .ومرة أخرى يدخلنا مدن كانت أحلاما ، لكنها طردت شعرائها لانهم يغذون شجرة النار ، ومنذ أزل يلاسنون القرصان المبحر نحو مدن اللآلئ وجزر الاحلام النائية ، وسيواجهون مصيرهم بين الادغال بجرأة كمن سيواجه الجريمة بوميضها ، او كمن يرى الانسان أثرا على الرمال في فضاء يغترب الشعراء فيه ، فيطاردهم عواء مسعور من بين ورقة مسعورة . ( كأنها دين مستحق / أو دعوة من أجل ان يعود الى البيت / نافضا غبار دعابة حدثت  ذات صيف ) هنا تتحول الاحلام الى  ( تأملات شاردة )  لا يمكن تأكيد وجودها إلا بالكتابة ، فيمنح الشاعر وجودا مكثفا " للأشياء " ، لأن الورقة البيضاء التي تشيه كون لتجسيد التأملات الشاعرية ، تتحول الى عواء يطارد الشعراء .
أسطورة اليومي الشعرية 
 يأمل الزيادي الى ملامسة الاسطوري في اليومي ، وبذلك فانه يخلق أسطورته  المليئة بالعجائبية حيث يفاجئنا بمصّلح الدراجات الذي يتقدمه موته ، وعندما يحضر بائع السمك ، فان حضوره يوحي وكأنه يحمل دائما شبكة الصيد ، وأحاديثه كأنهار فائضة بمائها العذب .ويدهشنا الشاعر أيضا عندما يقاسمنا أحلاما عن الارخبيلات او عن القمر الذي لامس ذؤبات نخيل .
ان إلتقاط اليومي بشاعريته يحقق تلامس حاضر المنفى مع ماضي الشاعر . فرؤيته لبائعة من  الشمال الاسكندنافي مسكونة  بجمالها  ، تفرض على ذاكرة الشاعر استحضار الفتيات المتلفعات بالشمس في شارع النهر البغدادي في موطنه الاول ( في بلاد تمشي على رؤوس أصابعها / كي لاتوقض الموتى / وأنا ……../أيضا سأمشي على رؤوس أصابعي / في طريقي الى شجرة تين / ستذكرني كلاجئ إليها في ظهيرة طفولة ما .)
ولكن  منح اليومي أسطورته لا تخلو  أحيانا من  استخدام تلك  اللغة التي توهم الشاعر فينشغل بها مضطرا من اجل خلق تنوع لغوي ومقاربة مع القارئ ،  أو بتأثير الأيديولوجيا ، فيفقد  الشعر توازنه وأسطورته  وسيؤنب الشاعر ذاته في سنين مستقبلية : ( غير آبه بأوجار الكلاب / ولا دفتر  الغياب /ولا البنات اللواتي ظنّ سيغمزنه / قائلات أثناء اوبتهن الى الاحلام / هو ذا الذي شق عصا الطاعة / فَعَفَطَ على الفرقة الاولى / والمتصرفية …)
أن عثرة الشاعر تكمن في تمسكه بالخداع اللغوي أحيانا(اللغة  التجريدية )   . ولكن طموحه الى قول الشعر الصافي ، والصورة الشعرية المعبرة ، يدفعانه الى تكثيف وعيه الشعري الاول الى اشراقات أسطورية في ذاكرة الحاضر . ففي بعض قصائده يمكن ان نكتشف العلاقة بين اليومي وبين الأسطوري وبالذات المثيولوجيا البابلية أيضا ، عندما يستخدم مضمون أسطورة ( هنالك في الاعالي ) ويكيف بعض أحداثها في قصيدة
( لأنهم أنصاف آلهة ) فالاسطورة تحكي عن مغامرات الالهة البدئية " آبسو " المياه العذبة و "تيامة " المياه الاولى المالحة و "ممو" الضباب المنتشر بينهما والمنبعث منهما ، حيث كانوا يعيشون في حالة سرمدية من السكون المطلق ، ممتزجة ببعضها في وضع هيولي بدئي دونما شكل او حركة او نظام ، وعندما تناسلت بدأ الصراع بينهما . ( انظر فراس سواح . مغامرة العقل الاولى )
ينقل الزيادي الجو الاسطوري الى الحياة اليومية في العراق تحديدا ، فيخلق جوا شعريا يعبر عن الصراعات بشموليتها .( حيث أرسلت المياه العذبة / رسولها العاشق وتجاذبت / مع المياه المالحة الشواطئ / طرفا لطرف ثم صارا / يمتزجان  ويفترقان / وآلاف الرعاة / كأنصاف آلهة يصغون للتلاطم / في المرعى /
……………………………………………………
…………………………………………………..
اؤلئك  / أبناء المالحة / أبناء تيامة المالحة / ما أجملهم /في جدائلهم / وفي حيرتهم باكرا / لم تبرحهم ظلالهم إذا سألوا / ولأنهم غضاب / كسروا الرياح / كسروا أجنحة الرياح حزمة /ورموها أمام خلودهم / وأنين احشائهم /
………………………………………………….
تتقدمهم ثيرانهم / أحدثوا في الارض هذه الجلبة /ثم غابوا / كأنما روضوا الأبد / لأنهم أبد )
وهنا تتحول الذاكرة الى وجود شعري ذات بعد مثيولوجي .

 

فضاء الأشياء المٌتخّيل
ان التكثبف الشعري يمنح "  الاشياء  " وجودا لذاته مستقلا عن الوجود  الآخر، يتكامل من خلال زمنها الخاص وإيقاعها وهارمونيتها المتنافرة او المنسجمة .وهنا يمنح الزيادي  هذه الاشياء التي يتناولها في شعره وجودا ملتصقا بالانسان ، عندما يمنحها الاحاسيس والمشاعر الانسانية مثل ( كلما طلعت وألقت الشمس تحيتها على الصباح ) او ( لماذا تتصوف الزهرة هذا اليوم / ضمها الى صدرك كتابا تصوفيا /أوحت به حديقة زهرة )
وبالتأكيد فان هذا له علاقة بالتركيز على الوجود الشعري المكثف للأشياء التي تختزن في ذاكرة الشاعر على شكل لون او رائحة او ايقاع صوتي مثل ( وكم ركضت في جلاجلها البراري ) او ( تظاهر الغبار ) .او تأخذ شكل حالة شعورية ـ نفسية ( عش خائف ) او ( تلعثم الضوء )  وهي حالة داخلية في طبيعتها قبل أن تكون خارجية ، حيث إن النور الذي كان متوهجا في ذات الشاعر تلعثم في لحظة من لحظات وجوده .أما (وشعرها يهطل غزيرا على الشرفات ) فهي حالة توصيف شعري .
 ويمكن للقارئ المتفاعل  مع قصيدة ( سوق التجار ) المارة الذكر ، أن يسمع الاصوات ويشم روائح الحاجيات والاشياء  او يتماهى مع  أبدية الزمن في هذا السوق ،  ، وينفعل مع  أشياء  الغرباء ، وان يرى الالوان الغريبة المختلفة التي تشكل فرحا للروح . او يلامس قماش الموسلين عند التجار  فيتحول الى خيوط حريرية تُغزل مع أحلام فتيات يرفلن في بكورتهن ، لكن كبريائهن ورائحة الصباح ودفاترهن المدرسية هي شفيعهن ، لكي يسمح لهن ان يتهادين في سوق هو ملك الرجال ـ التجار ـ  المزيفون . وحالما يصبح الشعر هو الوجود المستقبلي للإنسان ، يودع الشاعر طفولته وبعض أحلامه  كتعاويذ للأغراب والتجار والمتزلفين ،ويتنبأ بحرائق مستقبلية يحذر القارئ منها بكل إباء ، فالبرابرة الملثمون الذين سمخوا  النهار سياتون فجرا . لذا يغلق الشاعر بيت أحلامه على عجل (ليس هنالك من أحد / وحده الهواء في معتركه / أزاء اشجار ستذرف اوراقها الصفراء وقد استبدت بها ريح )
وقبل أن يودعنا الشاعر يأمر أميره أن يهبط الأدراج ، ويطفئ المصباح ، ليوقظ بصولجانه هدأة الغرف ، وفي حضرة الأقمار وحتى لا يجد سرابا في عينيه  (سيطفئ أميرنا القنديل / ويغلق دوننا البوابة السابعة ) إذن احتفوا بالشاعر حتى وان جاءكم متعثرا بخيوط الشمس والغبار .

                     كوبنهاكن 
        شمال الكوكب 



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف
- توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه
- خليل شوقي وليالي شجون المسرح العراقي
- توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان
- المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
- الفضاء السميولوجي لعمل الممثل
- الوعي البائس للمثقف المتكيف
- مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري
- جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا