أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - ندوة حول الارهاب وعالم ما بعد 11 ايلول - المشاركون: د. صادق جلال العظم، ,د. برهان غليون، , د. يوسف سلامة















المزيد.....



ندوة حول الارهاب وعالم ما بعد 11 ايلول - المشاركون: د. صادق جلال العظم، ,د. برهان غليون، , د. يوسف سلامة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 658 - 2003 / 11 / 20 - 05:35
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


المشاركون: د. صادق جلال العظم، المفكر وأستاذ الفلسفة المعروف.
د. برهان غليون، مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في السوربون بباريس وأستاذ علم الاجتماع السياسي فيها.
د. يوسف سلامة أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق.
المحاور: ياسين الحاج صالح، مترجم وكاتب سوري.
ليس هناك مشكلة عالمية أساسية واحدة نشأت عن 11 أيلول الأمريكي، لكن 11/9 كما يسميه الأمريكيون، كان مناسبة لإعادة هيكلة ودوزنة المشكلات العالمية المزمنة والحادة جميعا، كما لإعادة ترتيب وتوزيع الأوزان النوعية على هذه المشكلات، وذلك باتجاه تهميش المشكلات المتصلة باختلالات توزيع القوة والثروة والمستقبل وفرص التوازن والتكامل بين مختلف دول العالم وكتله الجيوسياسية و"الحضارية" من جهة، وإبراز مشكلات الأمن والاستقرار الدولي بالمعنى الأمريكي للتعبير الأخير من جهة أخرى. وما كان لـ11/9 أن يكون تاريخا ـ مفصلا إلا لأن القوة العالمية الوحيدة القادرة على تفعيل وحدة العالم، والتي تحتكر وحدها اليوم القدرة على بناء حلف أو أحلاف سياسية وعسكرية، هي الطرف الأول المعني في ما حدث قبل قرابة عام من اليوم. وإذا كان جدول الأعمال العالمي يتمحور اليوم حول "الحرب على الإرهاب" فليس هذا لأن "الإرهاب" أهم قضايا العالم ولكن لأن القضايا "الأهم" هي التي وراءها أناس مهمون. ومن المفهوم بالتالي أن تكون القضايا عديمة الأهمية، كالفقر والنظم الدكتاتورية ومشكلات البيئة والإيدز في أفريقيا...، هي قضايا الضعفاء والمضطهدين والمعدمين.    
هذه الندوة مساهمة في مناقشة قضايا الوضع الدولي والإقليمي والعربي والسوري المحلي على ضوء التغيرات الواقعة أو المحتملة بعد 11/9.
عقدت الندوة في السابع من الشهر الأول من هذا العام. وقد تسببت مشكلات فنية في التسجيل الأصلي في تقسيم الحوار إلى قسمين، قسم أول يشمل الأسئلة العشرة الأولى هو عبارة عن ندوة حية فعلا بمشاركة الأساتذة الثلاثة؛ وقسم ثان (بدءا من السؤال عن مستقبل الدول والحركات الإسلامية بعد 11 ايلول) ضاع من التسجيل فاستكملناه عبر الانترنت والفاكس. قاد هذا الخلل إلى تأخير نشر الندوة التي ارتأت "الآداب" نشرها بمناسبة مرور عام على 11 أيلول. أضفت السؤالين الأخيرين في شهر آب الفائت بهدف إضاءة المخاطر المحتملة، بل المرجحة، التي تستهدف البلاد العربية ومنطقة الشرق الأدنى راهنا. وقد اقتصر هذان السؤالان على الأستاذين برهان غليون ويوسف سلامة لأسباب خارج استطاعتي.
المحاور. آب 2002
  الندوة
* تسابق المعلقون والكتاب والصحفيون على تأكيد تاريخية 11 أيلول وفرادته وعلى أن العالم بعده لن يكون كما قبله. ما مصدر أهمية هذا الحدث؟ ولماذا يبدو أنه يحمل قيمة تدشينية وبحثية وإعلامية عظيمة بحيث يكاد لا يستنفد قراءة وتحليلاً وتداعيات .. هل 11 أيلول حدث عالمي بامتياز ؟
د. برهان: يبدو لي أولا أنه حدث مهم موضوعياً. فلأول مرة منذ القرن التاسع عشر تهاجم أمريكا على الأرض الأمريكية، ولأول مرة تبرز أمريكا معرضة أيضاً لخطر عسكري، معرضة للضرب .. بمعنى أنها ليست بعيدة عن الأخطار التي تتعرض لها الدول الأخرى. وهذا قد يدفع إلى الاعتقاد أن أمريكا ستضطر أكثر فأكثر إلى أن تأخذ مسألة الأمن الجماعي باعتبارها، وبالتالي ربما ينفتح الأفق نحو تعددية قطبية، بينما عشنا خلال العقد الماضي على الأقل أو العقدين الماضيين على أساس أحادية القطب المعروفة على المستوى الجيوسياسي.
إذن هناك معالم تغيير حقيقي في الساحة الجيوسياسية وفي توازن العلاقات الدولية بما يعطي للحدث أهمية موضوعية لا جدال فيها. لكن الحدث مهم أيضاً لأننا اعتبرناه مهماً، وخصوصا لأن أمريكا اعتبرته مهماً؛ لا يكفي القول إنه مهم من الناحية الموضوعية بالنظر إلى مضمونه الجيوستراتيجي والجيوبوليتيكي… وإنما لأن أمريكا كدولة عظمى اعتبرته أساسا لإعادة بناء وترتيب الساحة الدولية لتأكيد هيمنتها وسيطرتها.
هنا أصبح لدينا حدثان: أولهما موضوعي يمكن أن نمر عليه دون إعطاءه الأهمية الكبرى، والثاني هو توظيف الحدث الأول من قبل الدولة العظمى (أمريكا) لإعادة تأكيد هيمنتها ولإعادة ترتيب العالم والعلاقات الدولية. ومن هنا جعلت منه أساسا لعالم جديد، للعالم كما تتصوره هي على ضوء الضربة التي تلقتها، أي لعالم خال من القوى المعادية لها. ومن هنا تحولت حربها ضد الإرهاب أو ضد أفغانستان أو ضد طالبان إلى حرب لتصفية كل الحركات السياسية والعنفية التي قد تشكل تحديا لها. وبرأيي ليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت أن الحرب طويلة .. فبحربها الطويلة هذه ضد الإرهاب تريد إعادة ترتيب الساحة الدولية وفق منظورها .. بهذا المنطق أصبح حدث 11 أيلول حدثاً مؤسِساً لحقبة جديدة لن تنهي الصراع ولا يراد لها أن تنهيه، لا بين الدول الكبرى ولا بين الشمال والجنوب، ولكنها تضعنا في سياق جديد لاستمرار الصراع ونموه. فهو فرصة سانحة أمريكيا لإجبار جميع الدول الأخرى على الاصطفاف وراء أمريكا والسير على أساس الأجندة الأمريكية التي ستصبح هي الأجندة الأساسية المُعتمدة لأي تحالف أو تفاهم دولي .. لقد خلق الحدث بالفعل أوضاعا جيوسياسية جديدة، خلق أجندة جديدة للولايات المتحدة، وخلق تحديات جديدة لكل الدول في مواجهة المستقبل وإعادة بناء العلاقات الدولية. إذن بهذا المعنى يمكن اعتباره حدثا مهما بالمعنيين الموضوعي والذاتي .
 د. يوسف: كان للحدث بحد ذاته طبيعة الزلزال لأنه بدا وكأنه فاجأ الجميع، وعلى رأس من فوجئوا الولايات المتحدة الأمريكية. فأن تتعرض أكبر قوة في العالم لتحد بهذا المستوى وهذا الحجم، وأن تفشل أكبر مؤسسات أمنية في العالم (CIA  وFBI) وما يرتبط بهما من عملاء منتشرين في كل مكان…  هذا الفشل أصاب الأمن القومي الأمريكي بثغرة ضخمة مست جسد الاستراتيجية الأمريكية ذاتها ووجهت ضربة إلى القطب الأوحد الذي كان يخيف الجميع ويهيمن على الجميع ويحسب له ألف حساب. أظهر الحدث أن من الممكن تحدي هذا القطب الوحيد، وأن من الممكن أن يتشكل أقطاب متعددين أو قطب نقيض للولايات المتحدة. ليس من الضروري أن يكون هذا القطب عبارة عن دولة أو قوة منظمة على هيئة مجتمع وجيش وسياسة الخ؛ وإنما مجموعة من البشر لها رؤية مخالفة للولايات المتحدة وتمتلك من الإعداد والخبرات ما يكفي لتحدي قطبيتها.
 د. صادق: إنه حدث عالمي بامتياز، لا شك . ولكني أعتقد أن هناك مبالغات كثيرة في تقييمه، وكأن التاريخ سيبدأ بعد 11 أيلول، وكأنه حد فاصل وقبله الجاهلية. أتفهّم هذه المبالغات وخاصة في الإعلام بسبب الوقع الشديد للحدث، بسبب طبيعته الجديدة والمستوى العالي جداً للتخطيط والتفكير والتحضير والتنسيق.. وكما قال لي أحدالزملاء: هل من المعقول أن "يطلع" هذا العمل من العرب؟ .. فنحن نعرف عاداتنا ومواعيدنا وتلكأنا العربي…  ولكني أرجع بذاكرتي إلى الهجوم الفلسطيني في الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972؛ فقد تكهرب العالم وكان رد الفعل كبيرا ضد العرب والمسلمين، وكان وقع الهجوم كبيراً جداً، وقال الناس إنه انعطاف في التاريخ وحدث عالمي بامتياز الخ، لكن زال الحدث من الذاكرة بعد فترة وعادت الأمور لوضعها الطبيعي. ما أريده من هذا الحديث هو أن أدخل قليلاً من التوازن في النظرة لحدث 11 أيلول … لا شك أن الولايات المتحدة وجدت فيه كما قال د. برهان فرصة لتأكيد هيبتها وهيمنتها، ورأت أنه سيوصلها إلى مناطق لم تكن لتطالها يدها بصورة مباشرة .. وهي تتحدث عن حرب طويلة الأمد لأنها تعتبر نفسها مركز الإمبراطورية، والمركز دائما، سواء كان الإمبراطورية العثمانية أو الرومانية أو العربية، يتصرف بهذه الطريقة مع أي تمرد في الأطراف، فما بالك إذا كان التمرد ضرب قلب المركز من قبل أطراف كان المركز ذاته مسؤولا بالأساس عن صنعهم. لكن يبقى الحدث فاصلا بمعنى أننا سنشهد ترتيبات جديدة في العلاقات الدولية كما قال د. برهان .
* هل من المحتمل أن يترك 11 أيلول أثارا هامة ودائمة على وضع الحريات العامة في الولايات المتحدة ودول الغرب الأخرى؟ هل سيترك آثار دائمة على الجاليات العربية هناك؟
د. صادق ـ  ما يهمني وضع الحريات عندنا وفي بلادنا. ولن أنفعل كثيراً على الحريات في أوروبا أو في الولايات المتحدة لأنني أعرف أن لديهم ضمانات هائلة وكبيرة لحرياتهم. وحتى لو انجرفت بعض هذه الضمانات في لحظة مثل هذه اللحظة، يبقى الهامش واسعا لدرجة إن الحريات لن تتأثر عمليا. ولذلك لن أعطيها كعربي أهمية كبيرة. لقد خاضوا الحرب العالمية الثانية ومع ذلك ظلت الرقابة على الصحافة في حدودها الدنيا في بلدان الحلفاء، وبقيت الضمانات القانونية للأفراد  على حالها أو تقلصت قليلاً فقط . وبعد الحرب عادوا إلى مسيرتهم الطبيعية، لذلك لا أعتقد أن وضع المواطنين هناك مشكلة كبيرة.
نلاحظ، مثلاً،أنه عندما حاولت الحكومة الأمريكية حظر نشر حديث ابن لادن التلفزيوني أو "قصقصته" على قناة الجزيرة، قام داخل أمريكا من يدافع عن حق الجزيرة في أن لا تُراقب وأن تذيع هذه الأشرطة كاملة من أجل الرأي العام.. هذا ملفت للنظر ويدل على يقظة هذا المجتمع على نفسه وتنبهه إلى احتمالات أن تقوم السلطات بتقليص حرياته وحقوقه الخ .
 بالنسبة للجاليات العربية والإسلامية لا أعتقد أن الآثار  دائمة وطويلة المدى. أعود هنا لمثال الهجوم الفلسطيني في ميونيخ عام 1972. لقد عانى العرب وقتها من اضطهاد وتمييز، وبعد ذلك عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي، وعاد  التمييز للمستوى المعتاد بالنسبة لهم قبل الحدث. لذلك لا أتوقع تأثيرات هامة على الجاليات، وخاصة في بلد مثل أمريكا قائم أصلا على الهجرة.
د. يوسف: السؤال عن مدى ما ستتركه أحداث 11 أيلول على الحريات في أمريكا هو سؤال مهم بالنسبة لنا ليس خوفاً على الحريات الأمريكية وإنما خوفاً من انخفاض مقياس درجة الحرية عندنا.. إذ ما قيل: حتى الحرية في أمريكا هامشها يضيق، فسيصبح من الطبيعي في ظل النظم الشمولية والتسلطية عندنا أن يتم اقتطاع القدر الأكبر من الهامش الصغير الذي قد يكون متاحاً في بعض الأوقات. ومن هنا أعطي يا د.صادق أهمية للسؤال. نحن محتاجون إلى أن نرصد بعناية  تأثير هذا الحدث على مفهوم الولايات المتحدة للحرية وللحياة الليبرالية؛ أهمية الموضوع إذن أهمية ذاتية ومحلية قبل أن تكون أهمية بالنسبة الأمريكان.. تحضرني من الذاكرة واقعة أن الولايات المتحدة احتجزت أثناء الحرب العالمية الثانية الأمريكان من أصول يابانية لفترات طويلة. أرجو أن لا يتكرر هذا مع الجاليات العربية والإسلامية حتى لو كان بشكل مخفف، لا سيما  أن هذه الجاليات الآن أكثر اندماجاً مما كانت عليه الجاليات  اليابانية الأمريكية . 
د. برهان: أنا أميل لما قاله صادق لأني لا أعتقد أن هناك مخاطر كبيرة على حرية الجاليات في الولايات المتحدة أو في أوروبا؛ قد توجد قليل من التجاوزات كالمحكمة العسكرية .. وقد يتعرضون لبعض المضايقات العنصرية وهي بالأساس موجودة لكنها قد تزيد قليلاً، لكن في المجتمع الأمريكي، سواء كمجتمع ليبرالي يقوم جوهر ميثاقه الداخلي على الليبرالية والحرية، أو كمجتمع من المهاجرين، من الصعب أن تستمر هذه التعديات لفترة طويلة. أعتقد أيضا أنه لا يوجد خطر على الديمقراطية  في الولايات المتحدة. ومن الصعب انخفاضها هنا في بلادنا، ولو لأن لموضوع الحرية والديمقراطية في بلادنا استقلاليته الخاصة...
*  تشير بعض الممارسات الأمريكية والغربية إلى أننا نتجه نحو وضع استعماري شبه كلاسيكي. هل من الممكن الحديث عن إعادة بناء النظام والأيديولوجية الاستعماريين على قاعدة الحرب ضد الإرهاب وصدام الحضارات؟
د. برهان ـ أنا ميال إلى الإجابة بنعم لأنه يوجد موجة من الهيمنة الجديدة الأمريكية تتجه نحو إعادة بناء النظام الدولي لترسيخ نمط السيطرة الراهن وتكريس امتيازات الدول الصناعية الكبرى وأمريكا في العالم. أقول نعم إذن على هذا المستوى. وفي نفس الوقت أقول لا، لأنه يجب أن لا نخلط أنماط الهيمنة الجديدة بأنماط الهيمنة الاستعمارية الكلاسيكية السابقة من أجل عدم الخلط في التحليل.
أعتقد أن الخطر الآن أن الولايات المتحدة بقيادة اليمين الأمريكي الجديد الذي تمثله حكومة بوش وعلى رأسها وزير الدفاع رامسفيلد ستعتمد أكثر فأكثر على مفهوم الأمن القومي والسيطرة  والإملاء بالقوة على الشعوب والمجتمعات الأخرى بدلا من التوجه الذي يقوم على إيجاد وتطوير سياسة رأسمالية ناجعة اقتصادياً وإن في  إطار المفهوم الرأسمالي ذاته .. أعتقد أن الخطر في إطار السياسة اليمينية القومية الجديدة يتجسد في أن الأمريكيين يتعاملون مع العالم كما لو كان حقل صيد: يأخذون الموارد والكوادر والأسواق التي يريدون ويرمون ما لا يلزمهم خارجا. هذا نمط من الهيمنة الإمبريالية ( أفضل من أن نقول الاستعمارية) المتوحشة العنيفة يقود إلى عدم توازن مطلق ويؤدي إلى دمار واجتياح الجنوب( كما في الأرجنتين)، وهو بداية أنماط الاجتياحات والانهيارات التي يمكن أن تحصل في مجتمعاتنا. هذه السياسة أخطر بكثير من سياسة إمبريالية بدورها كانت تمثلها سياسة كلينتون القائمة على بسط الهيمنة الاقتصادية من خلال العولمة، من خلال منطق التوسع وخلق سوق عالمية لدمج بعض الشعوب أو البلدان التي لديها إمكانيات في  سوق واحدة.
أعتقد أن الولايات المتحدة سارت على هذه السياسة ـ سياسة السيطرة والإملاء ـ بعد 11سبتمبر، لكن ليس الحدث هو الذي خلقها؛ فمنذ نجاح بوش مشت أمريكا بخط إمبريالي متوحش ومدمر فعلا لمستقبل الإنسانية.
د. صادق: أوافق على ما قاله برهان وليس لديّ ما أضيف، إلا إذا حاولت إجراء نوع من المماثلة: إذا أخذنا حكم الحزب الديمقراطي، أي اليسار بالمعنى الأمريكي نجد أن سياسته الداخلية تقوم على الضمان الاجتماعي ودولة الرفاه ونوع من العدالة بالنسبة لمواطنيهم. ولهذا ترجمته وتطبيقاته في سياستهم الخارجية أيضا. أما فريق بوش الحاكم الآن فسياسته يمينية معادية للنقابات وتهاجم الضمان الاجتماعي… هذا توحش داخلي وله بدوره ترجمته الدولية: إمبريالية متوحشة مفترسة ضارية… الخ .
* برأيكم هل تطرح الهجمات الإرهابية على أمريكا قضية أخلاقية متميزة مستقلة عن المواقف السياسية، وعن الخلفيات "الحضارية" المتقابلة؟
د. يوسف ـ الهجمات الإرهابية التي شنت على أمريكا هي من صنع  أمريكا. ومن هنا إذا كان هناك هاجس أخلاقي فيجب أن ينصب على مراجعة السياسة الأمريكية لنفسها أكثر من التساؤل عن وجود أو عدم وجود البعد الأخلاقي في الإرهاب.
القضية بالدرجة الأولى ليس قضية أخلاقية بل قضية سياسية مدارها نزاع على السلطان والسلطة، نزاع على تأكيد المقدرة على بسط سلطان جهة ما أو جهات متعددة في العالم، وتنافس على مقدار ما يمتلكه كل طرف من القوة أو من السلطة التي تخوله إرسال رسائله إلى الغير وترجمة هذه الرسائل إلى حقائق ملموسة  في العالم.
هذا النزاع في جوهره سياسي وهذه الهجمات في جوهرها هجمات سياسية تريد أن تقول أن بوسع الآخرين أن يوجهوا ضربة مؤلمة إلى الولايات المتحدة.
لكن في هذا الهجوم الذي ندّ عن مجموعات معينة لا نعرف ما هي ومن هي اختلطت الرسالة السياسية التي تريد أن توجهها بالتباس وغموض المصدر الذي نشأت عنه الرسالة إلى درجة أن أصبح مضمونها غير محدد بشكل  واضح ..  ماذا يريد أصحاب هذه الرسالة أن يقولوا؟ هل يريدون أن يقولوا أن الولايات المتحدة تمارس طغياناً في العالم؟ هل يريدون أن يقولوا أن الولايات المتحدة تمارس نوعاً من العولمة التي تحرم بموجبها شعوباً بأكملها من العدالة الاقتصادية ومن الحق في اتخاذ القرار السياسي؟
في رأيي أن غموض الرسالة السياسية لهذه الهجمات جعلت منها أقرب إلى صرخة احتجاج غير  منظمة سياسياً وغير ممنهجة أكثر مما هي دعوة إلى موقف محدد، لأن كل عمل إرهابي بطبيعته عمل فردي وفي كثير من الأحيان يصدر عن  دوافع أنانية وشخصية  .
تختلط في هذه العمليات التي وجهت إلى الولايات المتحدة الرغبة بالانتقام بالرغبة في توجيه رسالة سياسية. ومرة تُحمل على أنها رسالة إسلامية ومرة أنها رسالة فلسطينية وأخرى رسالة إنسانية. وفي رأيي في النهاية ورغم أن الرسالة في جوهرها سياسي إلا أنها لا تعرف ما تريد أن تقول ولا تعرف الهدف الذي تريد الوصول إليه، بل هي نوع من الصرخة الرافضة، نوع من كلمة لا بصوت مرتفع ضد القهر دون أن يكون لدى مرسليها البصيرة النافذة التي تصل بهم إلى هدف محدد. فلو كان لديهم رسالة إسلامية فقد انقلب الأمر على المسلمين، وإذا  كانوا يريدونها فلسطينية فالعنف زاد على الفلسطينيين… رسالتهم لم تحقق شيئا، بل قدموا لأمريكا مسوغا لسرعة تنفيذ مخططاتها الموضوعة سلفا، وأضعف فعلهم الجانب الأوروبي الذي كان في بعض الأحيان يقف موقف مؤيد للقضية الفلسطينية. وكان البيان الختامي الذي صدر عن قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة التي عقدت في بلجيكا برهاناً ساطعاً على أن هذه العملية لا تحمل رسالة سياسية ذات  جدوى. فقد أنضم الأوروبيون إلى الأمريكان في دمغ المقاومة الفلسطينية بجوانب كثيرة منها بأنها إرهابية وهذا يشكل خسارة كبيرة من الناحية السياسية .. مما يؤكد أن الرسالة السياسية التي انطوى عليها هذا العمل رسالة ملتبسة وغامضة وغير واعية ولم ترسم لنفسها أهدافاً محددة الأمر الذي انتهى إلى هذه الخسائر التي لحقت بنا رغم إننا لسنا طرفاً في هذا العمل لا من قريب ولا من بعيد. لأول مرة لا يجرم الفلسطينيون بأنهم طرف في "عملة" ما، ومع ذلك حصدوا أبشع أنواع العنف…
* تحدث الدكتور يوسف سلامة عن النجوع السياسي وأغفل الجانب الأخلاقي. د. برهان حيث أن معظم العرب كانوا مزدوجي المشاعر تجاه هذا الحدث .. هل هناك عنصر أخلاقي مستقل عن المواقف السياسية والميول الانفعالية يجدر بنا فرزه مما جرى وكان ينبغي إبرازه بصورة أكبر؟ 
د. برهان: هل الإرهاب أخلاقي؟ هل هو ناجع؟ هل الاعتداء على أبرياء أو غير أبرياء من أجل تأثير على سياسات الدول أمر مبرر...؟ هذا يستحق النقاش  وخاصة في العالم العربي حيث لم يناقش موضوع الإرهاب على الإطلاق، بل استخدم كشعار لاتهام الآخرين.
 أهم المناقشات التي حصلت حول الموضوع هي التي جرت في روسيا بين البلشفيين حول تحديد الموقف من الحركات الإرهابية الأخرى وتحت شعار هل الغاية تبرر الوسيلة؟ هل قتل  القيصر وهو مجرم ومدان مبرر أو قتل ابنه الخ؟
الموضوع أهم من 11 أيلول وسابق له. والإرهاب لم ينشأ مع 11 أيلول، فهو أحد أنماط العنف التي تستخدمها الجماعات لتحقيق أهداف يصعب تحقيقها بوسائل سياسية .
نحن كعرب اليوم  حين نناقش الإرهاب يجب أن نطرح السؤال من طرفين. طرف أخلاقي: هل نسمح لأنفسنا قتل أبرياء لغايات شريفة ؟ وطرف سياسي: هل الإرهاب ناجع من الناحية السياسية؟  في كثير من الأحيان الإرهاب رد على إرهاب أو على إغلاق كل باب من أبواب التحويل الممكن حتى بعنف غير إرهابي لوضع واجب التحويل. فالمسؤولية السياسة تقع إلى حد كبير على الإرهاب الأصلي. مثلا يحدث في فلسطين قتل لأبرياء إسرائيليين ولكن سبب هذا هو انغلاق الباب أمام الفلسطينيين. ولكن يجب مع ذلك أن ندين الإرهاب، فقتل الأبرياء مدان بصرف النظر عن طبيعة الهدف والغاية .. هذا من حيث المبدأ، لكن إذا وقفنا عند إدانة الجانب الأخلاقي فقط نكون مخطئين سياسيا؛ لا نكون مخطئين أخلاقياً بل سياسياً. إذا أردنا تجاوز إدانة الإرهاب نحو إزالة الإرهاب يجب تحديد المسؤوليات السياسية بوضوح. في هذه الحالة  ننتقل من المجرم أخلاقياً إلى المجرم السياسي الذي دفع  الآخرين لاستخدام الإرهاب كحل وحيد للاحتجاج أو كوسيلة وحيدة للتعبير عن الذات.
أنا اعتقد أن الخطأ في موقف أمريكا والدول التي أدانت الإرهاب هو أنها وقفت فقط عند الإطار القانوني. هذا الموقف صحيح من منظور جنائي فقط: فمن يقتل إنسانا بريئا يجب إدانته. لكن عندما يصبح الإرهاب هو الوسيلة الوحيدة للاحتجاج، ويصبح الانتحار التعبير الوحيد عن مصالح لا يمكن التعبير عنها بوسائل أخرى، عندئذ تشمل المسؤولية القتلة والذين دفعوهم أو اضطروهم لسلوك سبيل القتل. وأمريكا تحاول اليوم أن تخفي المسؤوليات السياسية عن ظهور الإرهاب وتوسع انتشاره في فلسطين بشكل أساسي وفي العالم ككل. السياسة الأمريكية قائمة على إملاء القرار ولا تتسامح حتى تجاه حلفائها. إنها سياسة قائمة على الانفراد بالقرار ورفض الحوار والتفاوض، وهذا الانفراد والرفض هو المصدر الرئيسي للإرهاب. يتطلب منا الموقف الأخلاقي أن نأخذ بالاعتبار المسؤوليات السياسية عن الإرهاب، وهي التي يجب أن تدان إن شئنا إزالة الإرهاب من العالم.
د. صادق: سأبدأ بازدواجية المشاعر. فككل عربي كان لدي ازدواج في المشاعر وشمتّ في داخلي بالأمريكان. هذا على الصعيد  العاطفي البدائي.. أما على صعيد التحليل السياسي والمردود وعلاقات القوة فهناك حكم من نوع آخر ..مثلا عندما ظهر فلسطينيون على التلفزيون يوزعون حلوى ويحتفلون بهذه الضربة، وظهرت أيضا جماعة السلطة الفلسطينية وبينهم أبو عمار يؤكدون بأن هؤلاء حفنة من الصبية لا عتب عليهم ونفوا فرحهم وشماتتهم، ثم ظهر عرفات وهو يتبرع بالدم لضحايا نيويورك…كنت وقتها في اليابان وقلت لهم إن ما يفعله عرفات هو "الزعبرة" وما فعله الصبية هو الشعور الحقيقي؛ ولا تتصوروا عربيا مهما يكن مستوى علمه ورجاحة عقله وتحكمه بنفسه ليس عنده شماتة بالأمريكيين أو ليس في داخله مساحة من الفرح لما حدث بغض النظر عن التحليل السياسي… أما إذا جئنا إلى التحليل فالمسألة لا تعود أخلاقية بل قضية سياسية. فالإرهاب هو سلاح الضعفاء أحيانا لأنه ليس لديهم أي خيار آخر. هذا يجب أخذه بعين الاعتبار. في الوقت ذاته أنا اعتبرت ما جرى ليس انتحارا فحسب بل هو تدمير للحركة الإسلامية كلها. فما قامت به القاعدة بهذه العملية هو تدمير الحركات الإسلامية التي ستتحول بعد 11 أيلول إلى ما يشبه ما آلت إليه الناصرية بعد هزيمة 1967.
* د. برهان كتبتَ في مكان ما أن وجهاً أساسياً لـ "الحرب ضد الإرهاب" موجهُُ نحو منع تبلور قطب أوروبي مناظر للقطب الأمريكي. وقرأتُ كلاماً لكيسنجر يفهم منه أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي كانت موجهة قبل 11 أيلول نحو التمايز عن أمريكا .. وأن الغلبة اليوم للوحدة الأطلسية، أي مع أمريكا، بمبادة نشطة من بلير وشرودر الخ. فما رأيك؟
د. برهان :لقد وضعتُ ما قلت ضمن إطار تحليل التحولات الجيوسياسية لما بعد 11 أيلول. المطروح منذ حرب العراق 1990 إعادة بناء النظام الدولي على أسس جديدة: هل الولايات المتحدة تأمر وتقرر وتنفرد بالقرار أم أن للدول الأخرى دور كما كان خلال الحرب الباردة فيؤخذ برأيها ولها هامش استقلال…؟ حاولت الولايات المتحدة تحت قيادة بوش اليمينية أن تستفيد وتوظف حادثة 11 أيلول لإعادة أوروبا إلى بيت الطاعة بعد ظهور علامات تنافس حقيقي بينهما. والرهان في "الحرب ضد الإرهاب" في جزء منه على الأقل هو إعادة السيطرة على أوروبا أو إجبار الأوروبيين على أن يطيعوا من جديد ويتبعوا أمريكا.. إذ كلما تعزز الانفراج في العالم نما اتجاه أوربا نحو الاستقلال في المواقف وفي المؤسسات. وعلى العكس من ذلك تحاول أمريكا استغلال كل حدث للعودة إلى مناخ الحرب الباردة. فما فعلته حكومة بوش هو العودة إلى الحرب الباردة دون خصم أو عدو سوفييتي. ولا شك أن مناخ الحرب الباردة مناخ موحّد للمعسكر الغربي. وليس من قبيل الصدفة أن رأى هنتنغتون أن الحرب التالية لـ 11 سبتمبر دفعت إلى توحيد القطب الغربي من جديد بينما كان يواجه قبلها خطر الانشقاق. لذلك نعتبر أن تكريس وتعزيز  السيطرة على الإدارة الأوربية النازعة أكثر فأكثر إلى  الاستقلال هو جزء من الأجندة الأمريكية لما بعد 11 سبتمبر.
* سارعت الدول والكتل الكبرى إلى الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة وعرض الخدمات عليها: الهند، الصين، أوروبا، روسيا… كيف نفهم هذه المواقف؟ وهل يحتمل أن يتكون "مجلس أمن" جديد بحكم الواقع وليس بالضرورة بحكم الحق( أي ليس بالضرورة أن تضم الهند أو اليابان لمجلس الأمن) يتكون من هؤلاء الكبار ويفرض إرادته على الصغار؟
د.يوسف: من المؤكد أن الأطراف التي عرضت خدماتها على أمريكا فعلت ذلك إما تجنباً لضربة ما منها (ليس بالضرورة ضربة عسكرية… ربما عقاب اقتصادي، حرمان من مزايا إلخ كما حدث للصين التي لديها اقتصاد محتاج لفرص تصدير…)، ودولة مثل الهند بحاجة لحليف قوي ضد الباكستان من أجل فرض رأيها في القضية الكشميرية التي طالت حروبها ولم تحل رغم أنه تمت تجزئة الباكستان عام 1971 تحت الضغط الهندي نتيجة الحرب المعروفة وقيام دولة بنغلادش.
بهذا المعنى لا يوجد مجلس أمن دولي محتمل أن ينشأ خارج الأمم المتحدة. بل ولا يمكن أن يقوم حتى تحالف دولي ضد الإرهاب بالمعنى الحقيقي للكلمة. لأن الإرهاب ليس طرفاً حتى يقوم ضده تحالف دولي. وبالتالي ليس هناك من إمكانية لقيام مجلس أمن خارج الأمم المتحدة ولو لأن الولايات المتحدة لا تقبل بذلك. الهدف من تضخيم حدث 11 أيلول هو انفراد الولايات المتحدة بدرجة أكبر بالقرار الدولي, وهي لا تستطيع أن تتصور وجود شريك لها بصورة أو بأخرى في اتخاذ القرارات الأساسية والمصيرية في السياسة الدولية. ومن هنا كما قال برهان إذ كانت أوروبا نفسها مطلوب ضبطها أمريكياً وإعادتها إلى الجادة المستقيمة، فما بالك بدولة مثل الهند أو إندونيسيا أو دول الشرق  الأوسط أو لبنان أو مثل الحركات المعارضة الصغيرة؟ في النهاية، لا تقبل الإدارة الأمريكية اقتسام القرار مع أي طرف في العالم، وعلى الأطراف العالمية الأخرى أن تعرف مصالحها. فإما أن تكون مع الولايات المتحدة وفي هذه الحالة لن تخسر شيئاً، وإما أن تتجنب عقاب الولايات المتحدة وفي هذه الحالة قد تربح شيئاً. وأنا لا أقول إن هذا يجب أن يظل أبدياً ولكنه وصف للوقائع فقط.
* كان القصد من السؤال هو أن الدول الكبرى لم تعد ترى أن مصلحتها تكمن في منازعة الولايات المتحدة بل في التفاهم معها بطريقة من الطرق مع التسليم الصريح بتفوقها وأرجحيتها العالمية. بينما ستبقى الدول الأفريقية ومعظم الدول العربية أو كلها وبعض دول أسيا وأمريكا اللاتينية خارج المركب ووضعها ميؤوس منه تماما.. بتقديري بعض الدول مستفيد ماديا أو اقتصادياً وبعضها مستفيدة أمنيا أو عسكرياً وثبتت وجودها العالمي، بمعنى أنها مشاركة بشكل من الأشكال في نظام السيطرة الدولي وإن بموقع ثانوي، وبعض الدول أصبحت موضع سيطرة نهائية ومهددة بالانهيار والخروج من اللوحة العالمية...
د. صادق: أوافق مع د. يوسف ولن أكرر. بهذه الحالة الاصطفاف مع أمريكا له مردودات كثيرة بعضها إيجابي وبعضها سلبي. أثناء الحرب الباردة كان للاصطفاف مع هذا أو ذاك وحتى الوقفة في المنتصف ثمن يفترض دفعه، لكن الآن الوقوف مع أمريكا لا يعني الكثير. وكما قال الدكتور يوسف ليس الإرهاب طرفاً كبيراً فاعلاً يجب أن يحسب له حساب. وهناك مسألة أخرى بعض هذه الدول التي ذكرتها استفادت، مثل الهند وغيرها، لأنها تعاني من حركات داخلية أصولية أو مسلحة أو إرهابية وفي بعض الأحيان انفصالية. هذه مناسبة لها لكي تفرض سيطرتها عليها. وبعض هذه الحركات كانت أمريكا تغذيها ضمناً أو صراحة، لإضعاف الصين مثلا كما في التيبت. الآن أمريكا توقفت عن مثل هذا الدعم أو اللعب بالحركات الداخلية، وهذا مكسب لبلد مثل الصين. أما بالنسبة للبلدان العربية فقد تعرض بعضها لحروب أهلية أو شبه حروب أهلية وتعرض رؤساء بعضها لمحاولات اغتيال، لذا فهي مهيأة لمسايرة الولايات المتحدة بغض النظر عن التقييم. نحن نصف واقع وحالة راهنة .
* يتحدث إنياسو رامونيه في لوموند دبلوماتيك عن هشاشة العولمة وميل الأمريكيين لإنشاء جهاز أمن لها إما بالبناء على الناتو أو عبر اتفاقات ثنائية تكون أمريكا طرفاً دائماً  فيها .. سؤالي المتصل بالسؤال السابق: هل نتجه إلى حالة طوارئ عالمية مديدة، ديكتاتورية عالمية،  نظام حزب واحد عالمي؟
د. برهان ـ  نحن نعيش فعلا حالة دكتاتورية عالمية. لا يوجد أي مشاركة حقيقية لأغلب سكان البشرية، مجتمعات ودول، في تقرير السياسات العالمية. هذه السياسات تقررها اليوم الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها أمريكا، وأحياناً بعض الأمور تقررها واشنطن وحدها. ولا أعتقد أن خيار العولمة أو سياسة العولمة منفصلة أصلا عن الأمن وعن بناء نظام للأمن. كما لا أعتقد أن واشنطن بعد 11 أيلول فقط أصبحت تفكر باستخدام الناتو كوسيلة للدفاع عن مصالحها وللدفاع عن سياساتها واستراتيجياتها بما فيها استراتيجية التجارة العالمية وتطوير سوق التجارة العالمية، المسألة مسألة استمرار. أنا أيضا بالعمق لا أعتقد أن الولايات المتحدة غيرت بعد 11 أيلول أجندتها. أعتقد أنها ستستغل وتوظف 11 أيلول لتحقق في أحسن الظروف أجندة كانت تتعرض إلى مقاومات عديدة جداً بما فيها في أوروبا، في المفاوضات والتجارة الخ وكذلك في العالم الثالث.
 قد يكون تحليل رامونيه دقيقا أو لا يكون، لكن الأوضاع الجديدة بعيدا عن إظهار هشاشة العولمة يمكن أن تؤثر على حركة مناهضة العولمة وتضعفها. شيء آخر: لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن العولمة. وعندما نقول أن الأولوية اليوم لفكرة الأمن والسيطرة هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستتخلى عن العولمة، لكن الأولويات الآن هي للأمن والسيطرة. والعولمة اليوم هي النقطة الثانية للأجندة الأمريكية. لذلك يمكن للولايات المتحدة اليوم يمكن أن تقدم بعض التنازلات للدول الأوروبية والكتل الصناعية الكبرى في المفاوضات في إطار منظمة التجارة العالمية من أجل أن تضمن تعاونها الأوثق في مجال إعادة بناء نظام دولي  قائم فعلا على هيمنة مباشرة وشرعية على الدول التي يسمونها مصادر الإرهاب، والتي هي أساسا منطقتنا في الشرق الأوسط وربما أفريقيا وبعض مناطق  آسية وأمريكا اللاتينية .
د. صادق: هم يقدمون تنازلات في النهاية للأقوياء. بالفعل، حتى الصين قدمت تنازلات نستغربها لأننا نعتبرها قوة حقيقية، أما باقي الدول فهي هامشية الدور في العملية. ما المقصود بشيء مثل هشاشة العولمة؟ العولمة process (صيرورة) تنطلق من دول المركز باتجاه الأطراف ويبنى لها مؤسسات وإدارات، وسيبنى لها أمن أيضا. وهذا يكمل بعضه كما هو الحال في أوروبا عندما بنوا الإتحاد الأوروبي لم يكتفوا بمؤسسات مصرفية وتجارية وحكومية وبرلمان فأضافوا مؤسسة أمنية تحمي أمن مصالحهم. وأعتقد أن هذا ينطبق على process  العولمة إذا استمر ولم ينتكس ويتراجع. أحياناً الحركات التاريخية تنتكس  وتتراجع إلا إذا استمرت قوة دفعها وازدادت مؤسساتها وكثرت وتوسعت.
د. سلامة ـ  لا يمكن تصور وجود أي انفصال في داخل نظام القوة. نظام القوة الاقتصادي بحد ذاته ينطوي على نظام قوة أمني. فالعملية الاقتصادية لوحدها غير كافية للتحكم بالناس والهيمنة عليهم وفرض المصالح والدفاع عنها. فمن هنا أنت محتاج لنظام قوة آخر، وهذا ما يفسر أن الولايات المتحدة لها أساطيل جبارة منتشرة في كل محيط  في العالم وقادرة على خوض حرب في المنطقة التي توجد فيها وكسبها غالباً. هذا معناه أن نظام القوة سابق على فكرة العولمة. فكرة العولمة بحد ذاتها إذا كانت القاعدة الأساسية التي تنطلق منها هي القاعدة الاقتصادية فالقاعدة الخفية التي يستند إليها النظام الاقتصادي هي قاعدة أمنية مؤلفة من جهاز استخباراتي قوي وجبار قادر على الاستطلاع والتنبؤ ومن قوة عسكرية قادرة على التدخل في أي مكان في العالم. وهذه التجربة أثبتت صحتها ابتداء من حرب الخليج الأول والثانية وفي الأحداث التي تلت 11 أيلول. واليوم يبدو أن هذا التداخل الأمني الاقتصادي سيصبح نمطا واضحا  وبارزا وقوي المعالم في الأحداث الدولية التالية. الآن في أفغانستان أو في الباكستان لا ينفصل العمل العسكري عن العمل الأمني، ولا عن نظام المساعدات الاقتصادية للفقراء الأفغان… مما يعني أن هناك نظام سيطرة أكثر تعقيدا مما كنا نشهد في الفترات السابقة. ففي نفس الوقت الذي تشن  فيه الولايات المتحدة غاراتها على الأفغان تمد اللاجئين الأفغان ببعض وسائل الحياة الضرورية التي تبقيهم أحياء. هذا نظام سيطرة معقد، نظام قوة معقد، يحتاج إلى تحليل أكثر تفصيلاً.
*******************
- سننتقل الآن لمحور آخر تحدثنا عن الأبعاد الدولية والعالمية والأمريكية  الآن سنتحدث عما يخصنا كعرب .
* لجأنا نحن العرب تلقائياً إلى التفكير في 11 أيلول باستخدام مفاهيم العولمة، نظام القطب الواحد، النظام العالمي الجديد وصراع الحضارات. هل يعكس هذا الميل خصوصية أو حساسية عربية معينة أم هذا هو الإطار المفاهيمي الأنسب للتفكير بهذا الحدث؟
د. صادق ـ لست متأكداً أن السؤال دقيق، هل بالفعل الخطاب العربي المسيطر حول موضوع 11 أيلول تسوده هذه الأشياء التي ذكرتها؟ باستثناء ربما مسألة صراع الحضارات التي أخذت حيزا، أما الباقي فلا أعتقد أنه أخذ حيزا في الخطاب العربي. أرى أن الذي أخذ الحيز الأكبر هو الشك والتشكيك بأن العرب والمسلمين هم الذين فعلوها، وهناك نقاشات حول مدى جدوى ما حدث وآثاره وعلاقته بالعولمة، ولكن ليس التفكير بالحدث على ضوء مقولة العولمة، وإنما التفكير بالعولمة على ضوء الحدث نفسه. كان هناك حديث عن عولمة الإرهاب: أي أن القاعدة عولمت الإرهاب الخ . إلى الآن لم ينشأ رأي عام عربي موزون وراجح حول هذه المسألة، وهذا يحتاج إلى وقت أطول ودراسات وجدال وحوار وإعادة نظر…  خاصة من قبل التيارات الإسلامية قبل أن نرسو على رأي له مصداقية حول ما حدث.
وحتى اليوم الناس تكابر وترفض أن للعرب أو الإسلام قدرة على فعل حدث كهذا ونظريات المؤامرة شائعة جدا ومنتشرة جداً..
 اسمح لي د. صادق أن اختلف معك في هذه النقطة. فمعظم المتابعات التي نطلع عليها في الصحف والمجلات تستخدم  نظام القطب الواحد والنظام العالمي الجديد… إن لم يكن كمفاهيم فعلى الأقل كأوصاف وهجاء… 
د. صادق ـ منذ حرب الخليج الثانية على الأقل تم طرح النظام العالمي الجديد ومسألة صراع الحضارات. قراءتي لأطروحة هنتغتون الأساسية في صراع الحضارات تقول: الآن وقد انتهى التحدي العمالي والشيوعي الذي كان يعتقد أنه  يبني نمط إنتاج اقتصادي وتوزيعي جديد، للنمط الرأسمالي فإن مصدر الخطر ومصدر التوتر ومصدر الصراع سيكون بين أنظمة المعتقدات والقيم.أما أنظمة المعتقدات والقيم فيعود ليردها في النهاية إلى الدين. برأيي هنتنغتون تعلم درسه من الإسلاميين. فمن كان يتحدث منذ البداية عن أن الصراع العالمي صراع أديان  وصراعات أنظمة اعتقاد الخ وأزاح الجانب الاقتصادي والجانب الإنتاجي وقضية نمط الإنتاج… هم الإسلاميون قبل هنتنغتون وقبل كتابه.
* د. برهان لماذا نحن العرب فكرنا ضمن هذه الإحداثيات بما جرى في 11 أيلول؟
د. برهان ـ شعوري بأن همّ العرب الرئيسي ـ ويجب علينا تمييز العرب كحكومات وخطاب رسمي عن الخطاب شعبي أو الخطاب إسلامي…ـ هو التبرؤ من العمل وتأكيد أنه ليس لنا علاقة بما حدث. وهو خطاب متناقض: فلسان حاله يقول نحن فرحين لأننا كسرنا رأس أمريكا… لكننا نريد منها مع ذلك أن تعترف بخطاياها في فلسطين وتعطينا دولة فلسطينية، ليس لنا علاقة بهذا العمل وفي نفس الوقت يجب على الأمريكان أن يفهموا الدرس ويدفعوا الثمن لعمل لا نعترف أنه من صنعنا بل ربما نسبناه إلى الموساد… وقد راج الكثير من هذا الكلام. اعتقد بأن هذا المنطق مفكك. أما المسؤولين والحكومات دون استثناء فيؤكدون بأن ليس لهم علاقة بهذه المنظمات وإنهم هم ضحايا الإرهاب. الدول ردت أننا نحن ضحايا إرهاب وما زلنا ضحايا إرهاب… نحن ليس لنا أية مسؤولية عن الحدث. جوهر خطاب العرب الرسمي والشعبي هو الهرب من المسؤولية والهرب من مواجهة الواقع، وليس  فهم الواقع وأخذ زمام المبادرة بفعل شيء ما سواء ضد الإرهاب أو مع الولايات المتحدة أو ضد الولايات المتحدة. كأننا نقول: اتركونا بحالنا لكن لا تنسوا أن هذا العمل يفرض عليكم أن تفعلوا شيء في فلسطين. أي أننا نريد قطف ثمار ما لم نقم به. والنتيجة أن أول ما دفع ثمنه ـ وليس قطفت ثمرته ـ في فلسطين هو دم فلسطين اليومي.
* ما هو التأثير الأرجح للحرب الأمريكية ضد الإرهاب على الحركات الإسلامية الجهادية والسياسية، وعلى الدول الإسلامية مثل إيران والسودان…؟
 د.برهان ـ اعتقد أن ضربة القاعدة في الولايات المتحدة تعبر أساساً عن الأزمة التي وصلتها الحركات الإسلامية التي تسمى بالإسلام السياسي. ولم تبدأ هذه الأزمة في 11 أيلول، فقد أصبح هناك إدراك أكثر فأكثر من قبل الحركات الإسلامية في كل البلدان لحقيقة أنها وصلت إلى طريق مسدود ولم تستطع أن تنجز المشروع الرئيسي الذي تفكر به منذ عشرين سنة والذي عبأت من أجله جيوشا وقوى حقيقية.  و قبل 11 أيلول انقسمت إلى تيار يحاول بصعوبة التحول نحو مفاهيم شبة تعددية وشبه ديمقراطية مع درجة من التعاون مع القوى الأخرى، وطرف ضائع لا يعرف هل يستطيع المتابعة أم لا، وطرف هرب إلى الأمام وهو الذي تمثله "القاعدة" والناس الذي التحقوا بها من بلدان عربية مختلفة. فهذا التيار الذي لم يستطع فعل شيء في البلدان العربية، وهي الهدف الرئيسي لعمله السياسي، حاول فعل شيء ضد الولايات المتحدة التي اعتبرها وصية على هذه الأنظمة.
الضربة إذن تعبير عن أزمة وفي نفس الوقت بلوغ القمة وتلقي ضربة قاضية. لم تعد هناك مساومة من جهة الأمريكيين وانتهتا اللعبة المزدوجة التي استمر الأمريكيون بلعبها مع الحركات الإسلامية حتى 1995. هناك تفاهم دولي حقيقي ضد الإسلاميين اليوم. ومن ناحية أخرى من الصعب أن تعود هذه الحركات إلى ما كان لها من شعبية. هذا لا يمنع بقاء منظمات منها قد تضرب وتدمر …لكن المشروع الإسلامي كمشروع سياسي قطع عليه الطريق.
 هذا لن يؤثر على إيران فهي سائرة قبل 11 أيلول نحو الخروج من الازدواجية ومن النفق الذي أدخلتها فيه بعض الخيارات الدينية باتجاه التحديث الذي يمثله خاتمي. الصراع مستمر ولن يتأثر بـ 11 أيلول، لكن الأكيد أن إيران متجهة وإن بصعوبة إلى الخروج من الوصاية الدينية نحو نظام أكثر ليبرالية ومتعاون مع الدول الغربية.
د.يوسف ـ لا يمكن لحدث مثل 11 أيلول إلا أن يترك آثارا مديدة أو باقية على كل الأطراف المشتبكة في العملية السياسية الكونية التي تعبر في نهاية المطاف عن توزيع القوى وصراعها في هذا العالم. لم تقرر الولايات المتحدة أن من نفذ الضربات طرف إسلامي فقط بل انتقلت سريعا إلى اعتبار جميع القوى والمنظمات الإسلامية بما فيها الخيرية والاجتماعية شريكا للطرف المسؤول في نظرها. ويؤكد عدم التمييز بين المسؤولين وبين من لا ناقة لهم ولا جمل فيما حدث وجود استراتيجية محددة كانت الولايات المتحدة ستنتهجها في العالم ضد العنصر الإسلامي عامة وضد ما تسميه الإرهاب الإسلامي بالتخصيص. وكان 11 أيلول فرصة لإكساب هذه الاستراتيجية تبريرات سياسية وإيديولوجية وأخلاقية مقبولة على أوسع نطاق. إذا صح ذلك، أي وجود استراتيجية أمريكية مبيتة، فستكون الآثار المحتملة لـ11 أيلول واسعة في الزمان والمكان ، وقد ينبغي أن يمر وقت طويل قبل أن نتمكن من جردها جميعا.
الواضح أن الدول الإسلامية وخصوصا المعنية مباشرة كباكستان سارعت تحت ضغط الأحداث إلى أن تكون عنصرا فاعلا في العملية التي شنت في أفغانستان أولا ثم ضحية للعملية نفسها؛ وهو ما تكشف عنه ضروب التكيف المتعددة التي أصبحت تبديها تمشيا مع المتطلبات القاسية لما يسمى بمكافحة الإرهاب. وجاء خطاب الجنرال مشرف حافلا بكل أوجه التكيف اللازمة مع مقتضيات المرحلة الجديدة عندما أدان كل من يقتضي المقياس الأمريكي، بل والهندي، إدانته. والواضح أن هناك ضرورة سياسية طاغية أملت عليه موقفه.
أما إيران وهي الدولة الإسلامية بامتياز فرغم وقوع الحرب ضد الإرهاب على حدودها فإنها تبدو كما لو كانت غير معنية بالأمر أو متجاهلة له وذلك لأنها تدرك خطورة الأحداث ولا تستطيع أن تؤيد علنا أو ترفض سرا. ورغم عودة العلاقات الأمريكية الإيرانية إلى التوتر من جديد على ما تشهد به خطبة رفسنجاني في 11/1 إلا أنه من غير المتوقع أن تتجه الأمور بينهما إلى مواجهة مفتوحة. الأرجح أن تحاول الجمهورية الإسلامية التكيف السلبي مع الاستراتيجية الأمريكية بالبقاء خارجها إن أمكن أو على تخومها تحاشيا لضربة مباشرة، و في الآن ذاته رفضا للخضوع لمنطلقات هذه الاستراتيجية.
د. صادق - منذ أن سمعت باستعدادات الرئيس بوش الابن للحرب على الإرهاب قلت لزملائي اليابانيين في جامعة طوكيو بأن الغرب سيسحق الحركة الإسلامية دون رحمة. أبدى هؤلاء الزملاء اشمئزازاً كبيرة مما ظهر لهم على أنها حرب دينية قروسطية فظيعة يشن فيها الجهاد الإسلامي هجمات إرهابية من العنف المشهدي التي لا سابقة لها من جهة، ويقوم العالم المسيحي بتعبئة نفسه في حملة "صليبية" شرسة مضادة على الإسلام من جهة ثانية. همست إحدى الزميلات اليابانيات في أذني "ما هي هذه الأديان المتوحشة في طرفكم من العالم؟ الأفضل أن يكون الإنسان بوذياً في هذه الأيام".
كما ذكرت سابقاً ،أعتقد أن حال الإسلاميين باتجاهاتهم كافة ستكون مثل حال الناصريين بعد هزيمة عام 1967 أو حال الشيوعيين بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. سيكون هناك كثرة من الإسلاميين ولكن بدون فاعلية حقيقية أو رهبة أو هيبة. لقد نحروا أنفسهم بهذه العملية العبثية المجانية الحمقاء . طبعاً، سيراجعون أنفسهم وتكتلاتهم واستراتيجياتهم وما إليه لكن الزخم لن يعود. هذه مرحلة انقضت تماماً، بعجرها وبجرها، كالمرحلة الناصرية محلياً والمرحلة السوفيتية دولياً. بالنسبة للدول التي تصف نفسها بأنها إسلامية فإن التعديلات في سلوكها لصالح الولايات المتحدة ولصالح التعاون شبه الكامل مع الحملة الغربية على الإرهاب العالمي الخ، واضحة وصريحة ولا تحتاج إلى إثبات، بما في ذلك إيران. أضيف إلى ذلك المقارنة التالية مع الإرهاب اليساري الذي شهدته أوروبا في سبعينيات القرن الماضي. أقصد تنظيم بادر- ماينهوف في ألمانيا والألوية الحمراء في إيطاليا والعمل المباشر في فرنسا؛ هذه الحركات قامت بأعمال من العنف المشهدي الهائل بمقاييس زمانها هزت الدنيا والدول وكهربت العالم وهيجت الشعوب وما إليه. مثلا: اختطاف مجموعة بادر- ما ينهوف الصناعي الألماني الكبير هانز مارتين شلاير كرهينة داخل ألمانيا نفسها وقتله. وكذلك اختطاف الألوية الحمراء كبير الساسة الإيطاليين وعميدهم ألدو مورو وقتله أيضاً.
من موقعي الآن يبدو لي أن هذا النوع من الإرهاب اليساري كان ردة فعل على إحساس عميق بأن الحركة اليسارية عموماً والشيوعية تحديداً قد وصلت إلى انسداد تاريخي لآفاق تطورها وأنها استنفذت طاقاتها كلياً، وفي مثل هذه الحالات كثيراً ما تقوم قوى بمحاولة كسر هذا الانسداد بالعمل العنفي المباشر، على أمل أن التفجير الهائل الناتج عن اختطاف الدو مورو، مثلاً، وقتله سيدفع بإرادات البشر المعنيين لإخراج الحركة من مأزقها أو من أزمتها. لكن نعرف من مواقعنا اليوم أن الإرهاب اليساري لتلك الأيام أثبت أنه المدخل إلى انهيار الشيوعية بدلاً من فتح أفق جديد لها. أعتقد أن شيئاً شبيهاً يكمن أن يقال عن  الحركة الإسلامية التي يبدو لي، بالمقارنة، أنها هي أيضاً وصلت إلى انسداد تاريخي وكان رد فعل تنظيم القاعدة ومن هم معه هو اللجوء إلى العنف المشهدي الهائل وعلى مستوى لا سابقة له لكسر هذه الانسداد والخروج من المأزق. لكني اعتقد أن هذا النوع من العمل الإرهابي هو أيضاً المدخل إلى انتهاء الحركة الإسلامية كما عرفناها حتى تفجيرات نيويورك وواشنطن .
* هاجمت وسائل الإعلام الأمريكية حلفاء أمريكا والعرب كمصر والسعودية …هل سنشهد تحولا نوعيا في العلاقات بين أمريكا والعرب على اختلاف درجات  انحيازهم إليها أو عنها؟
د. يوسف ـ سيكون التغيير المحتمل في علاقات أمريكا مع حلفائها العرب شأنا أمريكيا بالنظر إلى الطابع الهجومي للاستراتيجية الأمريكية حتى تجاه أقرب الحلفاء. على كلٍ السعودية ومصر خطان أحمران في نظر المخططين الستراتيجيين الأمريكيين، ومن غير المسموح لأي طرف وحتى لأصحاب البلاد أنفسهم أن يقرروا شيئا يمس المصالح الأمريكية فيهما. ففي تصريح شهير لكيسنجر تحدث عن 3 قوى لا يحق لها التدخل في شؤون المنطقة: الثالثة من هذه القوى هي العرب ( أوربا واليابان 1و2). وأظن أن أمريكا ستزيد ضغوطها على هذين البلدين وعلى غيرهما من الدول العربية جميعا. وستنصب الضغوط على الجوانب التربوية والتعليمية المتعلقة بإعداد النشأ العربي. فالأمريكيون يريدون أن يبلغوا الدول العربية جميعا أن المناهج الدراسية وخاصة في مجالي التربية القومية والدينية تشكل بيئة روحية ينبت عليها الإرهاب في المستقبل.
السؤال الضروري هنا: إلى أي مدى ستتحمل البيئة الاجتماعية في السعودية ومصر النتائج المترتبة على هذه التغيرات التي يريدها الأمريكيون؟ فالمعاهد الدينية السعودية أنشأت بيئة محافظة ضمنت استقرار النظام في المرحلة السابقة، لكن الدولة السعودية أكثر تقدما من هذه البنية التي خلقتها. وهكذا دخلت في تناقض مع بنيتها الداخلية ومع الحليف الخارجي الذي تستند إليه. والسؤال بالنسبة لمصر: هل ستكون جهة القرار قادرة على إدخال تغييرات في التربية والتعليم تضعها في تناقض مع الهوية التي ارتضتها أكثرية المصريين؟ ثم إن في مصر مجتمع مدني فاعل ووازن لا يمكن تجاهله. فهل ستجد السلطة نفسها في صدام مع كل التيارات المحافظة  فضلا عن الليبراليين؟ ولن يخفف من هذه الصورة وجود قوى علمانية مناهضة للتيار الديني، إذ ستشعر هذه القوى أنها مستهدفة في إطار استراتيجية الأمريكية الجديدة لأنها وطنية التوجه سياسيا وتربويا وإيديولوجيا. وهذا يعرض البنية المصرية لهزة ينبغي حسابها بدقة.
د. صادقـ لا أكتمك بأني سررت ورحبت بهذا الهجوم الإعلامي الأمريكي والغربي عموماً على الأنظمة العربية الحليفة. كانت مثل هذه الأنظمة تتمتع بحصانة خاصة في وسائل الإعلام المذكورة على الرغم من استبدادها. على سبيل المثال كانت التدخلات الأمريكية العنيفة في بلدان مثل نيكاراغوا وبنما وغرانادا والفيلبين تتم تغطيتها إعلامياً وتبريرها باسم الديمقراطية وقيمها، والاستثناء كان دوماً التدخلات في منطقتنا التي كان يغيب عنها تماماً وكلياً كل ما يمت لخطاب الديمقراطية بصلة، حرصاً على حماية الأنظمة العربية الحليفة. بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت صرح الرئيس بوش الأب بأن الولايات المتحدة لم تخض هذه الحرب من أجل الديمقراطية. وأجهزة الإعلام المذكورة يمكن أن تُندد بهضم حقوق المرأة في بلدان تمتد من إيران إلى الصين لكنه ليس معروفاً عنها قول الكثير عن حقوق المرأة المهضومة في العربية السعودية أو الكويت، مثلاً. لذا فإن شيئاً من رفع الحصانة الإعلامية عن الأنظمة الحليفة وممارستها ومجتمعاتها يفيد وعامل مساعد في الوقت الحاضر.
على مستوى أعمق قليلاً هناك مشكلة حقيقية أخذ يتلمسها الإعلام الغربي ويبحث فيها ويفتح ملفها خاصة بالنسبة للعربية السعودية. أعني ظاهرة أسامة بن لادن نفسه وهذا العدد الطاغي من الشباب السعودي بين الانتحاريين الـ 19 الذين هاجموا مركز التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن. في نظري أسامة بن لادن هو جهيمان عتيبي آخر على مستوى دولي وعالمي. ولا ننسى أن جهيمان العتيبي هو ابن بار للنظام السعودي ومن إنتاج مؤسساته قد احتل الكعبة سنة 1979 هو وأتباعه داعياً لتطبيق الإسلام حقاً على الدولة السعودية والمجتمع السعودي. إسلاميا، احتلال الكعبة لا يقل خطورة في هز العالم الإسلامي وكهربته عن الأعمال التي قام بها بن لادن وتنظيمه، يعني أكتر من هيك شو ممكن يصير بعد الهجوم على الكعبة واحتلالها؟ شيئ من هذا النوع لم يحدث ربما منذ أن  اختطف القرامطة الحجر الأسود. لذا أقول من يريد جواباً على السؤال: لماذا بن لادن؟ عليه أن يبحث أولاً عن جواب لسؤال آخر: لماذا جهيمان العتيبي أصلاً؟ صَدَّق جهيمان الأيديولوجيا الدينية الوهابية المتشددة التي يستمد النظام شرعيته منها ويتظاهر بالتمسك الشديد بها، حملها جهيمان على محمل الجد كلياً فقام بحركته الدراماتيكية الكبرى بفرض أسلمة المجتمع السعودي والدولة السعودية وفقاً لما تدعيه الأيديولوجيا المذكورة نفسها وتتظاهر به. أراد تغيير الواقع القائم ومجراه بحيث ينسجم حقاً ويخضع كلياً للأيديولوجيا الإسلامية الرسمية المتشددة وأحكامها .
طبعاً كلنا يعرف بوجود تناقض رأسي حاد في بلد مثل السعودية بين الأيديولوجيا الدينية الإسلامية هذه وبين المحتوى الحقيقي لحياة المجتمع وحركته اليومية ومعاملاته العادية وسلوك قادته وأعيانه ووجهائه. حتى أرباب النظام أخذوا يتعلمون الآن عن تحديث التعليم الديني في المملكة وإعادة النظر بمناهجه وأساليبه ومحتواه الخ. وليس هذا بهم أمريكي فقط .
د.برهان ـ ليست هذه المرة الأولى التي تهاجم فيها وسائل الإعلام الأمريكية بعض الدول العربية ولم يكن هذا من الأمور غير المتوقعة. فالواقع أن ما قامت به واشنطن في الأشهر الخمس التي تلت هجوم القاعدة على برج التجارة الدولية قد أظهر أن الولايات المتحدة قد سلكت أسوأ السبل التي كان يمكن أن تسلكها، أعني استخدام التعاطف الدولي الذي أحدثه ذلك الهجوم في سبيل تحقيق جميع الأهداف السياسية والاستراتيجية التي كانت تجد صعوبة في تحقيقها. وفي المنطقة العربية بشكل خاص، أفصحت الولايات المتحدة كدولة وكإدارة يمينية عن كل ما كانت الدبلوماسية العادية تخفيه من تبن كامل للأطروحات الإسرائيلية واستهتار لا يقل كمالا بالشعوب والمصالح والدول العربية واستعداد للذهاب إلى أبعد ما يمكن الذهاب إليه لإهانة الحكومات وإذلالها. فالولايات المتحدة لا تعطي لنفسها الحق اليوم في تنفيذ كل جدول الأعمال الذي رسمته لنفسها في العالم وفي الشرق الأوسط معا بصرف النظر عن مصالح الشعوب الأخرى، ولكنها تجبر جميع الدول الحليفة وغير الحليفة على تنفيذ جدول الأعمال هذا معها ولصالحها. إنها تستخدم جميع الدول وسائل لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
• يشكل الفلسطينيون الحلقة الأضعف التي نالها الأذى الأكبر من 11 أيلول وما بعده. ما هي المشاهد الأرجح لتطور الشأن الفلسطيني؟ وكيف تتصورون قيمة ومصير الحديث عن دولة فلسطينية بعد التطورات الأخيرة؟
• د. صادق ـ  قبل أحداث 11 أيلول وتفاعلاتها عموماً وآثارها على كفاح الشعب الفلسطيني كنت على قناعة بأن حل "الترانسفير" للمشكلة الفلسطينية من جانب اليمين الإسرائيلي – أي حل التطهير العرقي أو الأثني، حل الطرد الشامل والتهجير القسري ـ لم يعد وارداً دولياً وعالمياً خاصة بعد السمعة المرذولة التي اكتسبتها عمليات التطهير الأثني في أمكن أخرى من العالم والادانات الحازمة التي لحقت بها. أما بعد أحداث 11 أيلول والأجواء الشرسة جداً التي أخذت تسود على أثرها فقد أصبحت أتخوف من عودة حل "الترانسفير" الجذري إلى الأجندة الإسرائيلية، خاصة مع التراخي الحاصل في الرأي العام الغربي عموماً والرأي العام السياسي تحديداً في التحفظ على العنف الإسرائيلي المدجج بالسلاح على الشعب الفلسطيني. هذا التساهل المتزايد مع العنف المذكور يخيفني. لذا أرى أن الأهم  في هذه المرحلة ليس الدولة الفلسطينية العتيدة أو إنقاذ ماء وجه السلطة الوطنية أو العودة إلى طاولة المفاوضات الخ، بل تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ومواقعه مهما حدث وحتى لو عاد الاحتلال الإسرائيلي جهاراً نهارا إلى مناطق السلطة الوطنية .
د.برهان ـ الوعود الأمريكية بدولة فلسطينية ليست جديدة أبدا. ومفاوضات كمب ديفيد في السنة الأخيرة من إدارة كلينتون بين باراك وعرفات كانت تتضمن الاعتراف بهذه الدولة. إنما يبقى أن الولايات المتحدة ظلت صامتة حول موضوعين رئيسيين بخصوص هذه الدولة: موضوع طبيعة هذه الدولة وحجمها والمبادئ التي ستقوم عليها، هل هي الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة حسب قرارات الأمم المتحدة أم هي الانسحاب من بعض الأراضي بما يتماشى مع ميزان القوة العسكرية الإسرائيلية الفلسطينية. والموضوع الثاني هو تاريخ تحقيق هذه الدولة وشروط ولادتها. هل هو وعد لا حدود زمنية لتنفيذه أم هو جزء من سياسة أمريكية حاضرة وللحاضر في الشرق الأوسط، وهل يعني اعترافها بضرورة قيام دولة فلسطينية التزاما بالعمل لتحقيق هذا الهدف أم أنه يعني فقط أن واشنطن لا تعارض نشوء دولة فلسطينية لكنها تترك للفلسطينيين والإسرائيليين بحسب قدراتهم التفاوضية والعسكرية مهمة التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، وفي هذه الحالة لا نكون قد تقدمنا أي خطوة إلى الأمام. بل إن هذا التذكير بالاعتراف بالدولة الفلسطينية يكون تعبيرا عن تراجع كبير في الموقف الأمريكي الذي كان منخرطا بالبحث عن حل وملتزما به قبل حصول الرئيس الجديد على منصبه في البيت الأبيض.
بالنسبة للاحتمالات الأرجح في فلسطين، لا يزال المبدأ الذي قاد لفشل المفاوضات السياسية في السنوات العشر السابقة هو الذي يقود اليوم وفي المستقبل إلى انعدام الأمل بنجاح مفاوضات تسوية جدية. وهذا المبدأ هو تسليم العرب جميعا أمر أيجاد حل سياسي للنزاع العربي الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة وأوربة وتخليهم الجماعي عن مسؤولياتهم بذريعة تبني خيار السلام كاستراتيجية. كما لو أن السلام يحصل من تلقاء نفسه ولمجرد القبول به. فقد اعتقد العرب أن لإسرائيل والولايات المتحدة مصلحة في السلام ولذلك فسوف تعملان على تحقيقه، ولم يبق لديهم هم ما يعملونه في هذا المجال، وصار بإمكانهم التفرغ لمشاغلهم العادية. والحال أنه يمكن أن يكون لإسرائيل وواشنطن مصلحة في السلام بالفعل إذا كان هناك تهديد بالحرب أو خطر انفجار حرب إقليمية، لكن منذ اللحظة التي تنعدم فيها احتمالات الحرب والصدام لن يعود لإسرائيل مصلحة في السلام لأنه يعني تسليم الأراضي المحتلة من دون مقابل، أي مع عدم وجود أي أخطار؛ ولا لواشنطن أيضا لأنها سوف تخفف بالسلام عبئا كبيرا عن العرب وتجعلهم أقدر على مقاومة نفوذها وهيمنتها عليهم فيما بعد. إن المصلحة الأولى في السلام هي للعرب، لأنه يعني استعادتهم للأرض وإقامة دولة فلسطينية وتنقية الأجواء الإقليمية بما يسهل خلق شروط تنمية اقتصادية واجتماعية. ولا يمكن لأحد، وبالأحرى لعدو، أن يقدم للعرب مثل هذه الخدمة ويعمل على تعزيز مصالحهم الكبرى طالما لم يكن مضطرا لذلك. ومن هنا، أكثر من أي حقبة سابقة، يبدو السلام اليوم مرتبطا بالقدرة الفعلية على شن الحرب أو مصداقية التهديد بالحرب. إن إخفاق العرب في خوض معركة السلام بصورة ناجعة سوف يقودهم لا محالة وهو يقودهم اليوم، كما توقعت ذلك في كتاب: العرب ومعركة السلام إلى إجبارهم على خوض الحرب. والحرب قائمة اليوم في فلسطين وجميع الدول العربية معنية بها. وإذا كانت تهرب منها وترفض خوضها فإن الحرب تلاحقها ذلك لأنها لا تستطيع أن تحتمي طويلا من تبعاتها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. وجميع الحكومات العربية تدفع اليوم ثمن الانسحاب والتخلي عن فلسطين في صورة هزيمة حقيقية. ولو عدنا سنتين فقط إلى الوراء لرأينا أن جميع الدول العربية كانت تعتبر نجاح آرييل شارون في انتخابات رئاسة الوزراء يعني الحرب. وقد امتلأت تصريحات المسؤولين ووسائل إعلامهم بذكر هذه المعادلة. وهذا ما حصل فعلا، لكن ما لم يحصل هو إعداد أولئك الذين كانوا يعرفون أن خيار شارون يعني خيار الحرب وتطوير استعداداتهم لمواجهة خطر الحرب أو الحد من احتمال نشوبها. ولذلك ربح شارون. ليس ضد الفلسطينيين الذين سيستمرون في القتال حتى آخر قطرة من دمهم وسوف يفوزون في النهاية لا محالة، ولكن ضد الحكومات العربية التي ظهرت ـ نتيجة حربه هذه ـ عارية تماما لا حول ولا قوة. وسوف تدفع ثمن ذلك غاليا في الداخل وتجاه الدول الكبرى على حد سواء. وهي قد بدأت تدفعه منذ الآن عبر الضغوط الأمريكية التي تسعى إلى تحويلها إلى أدوات تستخدمها لتحقيق سياستها الإقليمية الخاصة والدفاع عن مصالحها الحيوية لا غير.
د.يوسف ـ اتخذت أحداث 11 أيلول الإرهابية من القضية الفلسطينية غطاء أيديولوجيا، وهو ما استغلته الحكومة اليمينية الإسرائيلية وبدعم أمريكي واضح من أجل إعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يناسبها. كذلك أجبر الأوربيون على وصف العمل الفلسطيني المقاوم على انه إرهاب ينبغي قمعه علما أن التحفظ  الأوربي الخجول كان آخر سند سياسي يعتمد عليه الفلسطينيون في تخفيف الضغوط الممارسة عليهم من إسرائيل والولايات المتحدة. وهكذا تشكلت جبهة ضاغطة ضد الفلسطينيين : أمريكا وأوربا وضغط إسرائيل العسكري والاقتصادي والسياسي والضغط العربي، صمتا وتفرجا على الأقل. هذا المشهد مليء اليوم بالتناقضات الداخلية والتفجيرات المحتملة في أية لحظة. فالمطلوب دوليا من السلطة أن تحطم المنظمات التي تقوم بالمقاومة المسلحة، لا فرق إسلامية أو علمانية. وهكذا وقعت السلطة في تناقض وجودي عميق: فهي إن أرادت أن تبقى فعليها أن لا تكون وطنية، وإن اختارت أن تكون وطنية فستجازف برأسها وبوجودها ذاته. والأطراف الفلسطينية الأخرى تتعرض للتناقض ذاته. فكي تستمر في المقاومة المسلحة عليها أن تجازف بالصراع مع السلطة الفلسطينية وبالتالي باحتمال الانزلاق إلى حرب أهلية. وإن كفت عن المقاومة خضعت للمطلب الإسرائيلي الأمريكي. وهكذا أصبحت البنية الفلسطينية مهددة في وجودها ذاته. ولعل الخسارة الأكبر التي لحقت بالجانب الفلسطيني هي المحاولات الدولية والإسرائيلية الرامية إلى حذف البعد السياسي منها وتحويلها إلى مجرد قضية أمنية تتعلق في آخر الأمر بتنظيم وقف طويل المدى لإطلاق النار بين طرفين غير متكافئين.   
* ماذا عن سورية بعد 11 أيلول؟ قرأنا عن تحقيق ضابط من أف. بي. آي مع مواطنين التقوا محمد عطا في حلب، وعن تقديم معلومات استخبارية عن إسلاميين سوريين وعرب… أي تأثيرات محتملة للحدث وتداعياته على سورية في مجالات التحديث الاقتصادي، الحريات العامة، عملية السلام، العلاقات مع حزب الله وتنظيمات فلسطينية؟
د. برهان ـ يردد المسؤولون السوريون باستمرار أن أحدا لا يستطيع أن يؤثر على سورية. وبالفعل لقد فرضت الدبلوماسية السورية على نفسها أن تعيش إلى جانب الأحداث وبعيدا عن تأثير أي حدث، أي في عالمها الخاص ولغتها ومفاهيمها وتصوراتها الخاصة التي لا يشارك فيها سوى نفسها. ونحن هنا أمام مفهوم الخصوصية الشهيرة التي تتحدث عنها الأجهزة الإعلامية: نحن بلد ليس كباقي البلدان ولا تحكمنا أي من القوانين الموضوعية التي تحكم البلدان الأخرى ولا نخضع لأي قانون يتحكم بالحياة والعلاقات الدولية. يمكن أن نقدم بعض التنازلات اتقاء للضغوط أو الضربات فقط لكن لسنا معنيين في العمق بإحداث أي تغيير جدي في سياساتنا ولا في أساليب حياتنا لأن كل ما نعرفه قد اختبرناه وأظهر نجاعته، سواء في مواجهة إسرائيل أو في تحقيق الاستقرار والأمن الداخلي أو في دفع عجلة التقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية أو في تحرير الإنسان الذي لا يعرف في بلادنا أي شكل من أشكال الخوف، لا من المستقبل ولا من الخارج ولا حتى من أجهزة الأمن المحلية. هذا يعني أن السلطات السورية لا تشعر بأن لديها ما يمكن أن تعيد النظر فيه أو يدفعها إلى إعادة النظر فيه : لا في سياساتها الخارجية ولا الداخلية، لا في ميدان التعامل مع العدو والصديق  ولا في ميدان التحديث الاقتصادي والحريات العامة ولا في عملية السلام أو العلاقات مع حزب الله والتنظيمات الفلسطينية. فهي بقدر ما تعتقد أن الحركة أي حركة نحو الأمام أو الخلف أو اليمين أو اليسار حبلى بكل المخاطر، تعتقد بشكل أكبر بأن استمرارها على ما هي عليه من تنظيمات وتجميدها هما مصدر قوتها والثبات أساس شرعيتها والصمود والاستمرار على المنوال ذاته، أي عدم التغيير شعارها ومبدؤها. فكل تغيير يبدو لها خيانة لذاتها ونزعا للشرعية عن نظام حكمها وإدانة لتاريخها.
على الأغلب إذن أن أحداث 11 أيلول لن تؤثر في السياسات السورية لا من قريب ولا من بعيد، كما لم يؤثر فيها من قبل سقوط الكتلة السوفييتية بأكملها. فهي تعتقد أنها فوق مفهوم التغير نفسه وأكبر من أن يصيبها التغيير. فالتغير من سنة الحياة الفانية، والتغيير من صفات الإرادات الضعيفة والزائلة. وهي تريد أن تكون ثابتة ومستمرة من الأبد إلى الأزل وأن لا يطرأ عليها أي تحويل أو تعديل يقلل من قدسيتها وقداستها. إنها بالتعريف سياسات لا تاريخية وغير مستعدة أن تأخذ بالاعتبار العوامل الظرفية. إنها لا قبل ولا بعد عندها. هي هي ولا شيء مثلها. والمستقبل بيد الله وحده.
د. يوسف ـ سأتحدث حديثا صوريا لا ينطبق على سورية وحدها بل، بطريقة أو بأخرى، على كل الدول ذات الظروف المشابهة. التحديث الاقتصادي والحريات العامة أمران لا ينفصلان ووجهان لعملة واحدة. فبقدر ما إن التحديث تحرر وتحرير من الماضي، فإن حرية الفرد وحرية المجتمع شرطان له. وما لم تتم إعادة الاعتبار للحرية الشخصية في ميداني السياسة والاقتصاد، إضافة إلى الحريات النقابية والأكاديمية… فإن عملية التحديث ستبقى متعثرة. والعجيب أن العرب يطرحون قضاياهم باعتبارها مشروطة بأحداث خارجية دوما. ألا يجب أن نطرح هذه المسائل بصرف النظر عن وجود إسرائيل ذاته؟
كما أن العلاقة مع حزب الله وبعض المنظمات الفلسطينية علاقة حرجة وثمنها يمكن أن يكون باهظا. ولا يدري أحد على وجه الدقة أشكال التكيف المحتملة التي سيمارسها هذا البلد أو ذاك مع بعض المتطلبات الأمريكية المفرطة في قسوتها. على أن مسائل التربية والتعليم في نظري تشغل الأولوية الحاسمة في التفكير الستراتيجي الأمريكي كما أشرت قبل قليل. وأرى انه سيطلب من الدول العربية إعادة النظر في التكوين الثقافي والروحي لنظم التربية والتعليم مما قد يفتح الباب واسعا في المستقبل عل جعل القضايا التي ننظر إليها اليوم كقضايا حرجة أقل حرجا.
د.صادق ـ  إحساسي هو أن سوريا موضوعة في الوقت الحاضر تحت المجهر المكبِّر من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية المعنية- موضوعة تحت المجهر نظاماً وسياسات وقرارات وتحولات وإصلاحات وما إليه. في قناعتي تتطلب المصلحة السورية العامة في مثل هذا الوضع، أول ما تتطلب، التوسيع المطرد لفسحة النقاش الداخلي الحر والعلني حول المسائل المذكورة في السؤال مثل تأثير أحداث 11 أيلول على بلدنا، على مجالات التحديث، الحريات العامة، عملية السلام، حزب الله، الإصلاح الخ، حتى يتبلور رأي عام حقيقي من تحت – أقول رأي عام قوي وراجح ولا أقول إجماع بطبيعة الحال- وليس رأي عام من فوق حول المسائل الحيوية المطروحة المذكورة في سؤالك وغير المذكورة. إن تشكل رأي عام جدي من هذا النوع سيحصن بالتأكيد الموقف السياسي السوري عموماً ويعطيه عمقاً وطنياً جديداً ويقدم للسلطات المسؤولة سلاحاً إضافياً هاماً في الدفاع عن الموقف السوري كما سيعطيها مصداقية شعبية متزايدة في علاقات بلدنا مع الخارج كما بالنسبة لأية مفاوضات ستجري مع الدول العظمى والكبرى بشأن قضايانا الحيوية العالقة بما فيها عملية السلام نفسها .
**************
سؤالين إضافيين في آب 2002

س: في إطار الأجندة الأمريكية لما بعد 11 أيلول هناك تحول في تصور "أزمة الشرق الأوسط" من الصراع العربي الإسرائيلي إلى الحرب ضد الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، وعلى هذه الأرضية يضغط الأمريكيون ويعملون على تغيير الحكم في كل من العراق وفلسطين. كيف ترون إلى مستقبل المنطقة العربية على ضوء متغيرات ما بعد 11 أيلول؟ هل هناك تعميق للمصير "الشرق أوسطي"، أي المزيد من التفتت والاستتباع وربما الدول الجديدة؟ وما مصير النظام العربي الرسمي، أي الجامعة العربية ومؤسساتها ومؤتمر القمة العربية؟
د.برهان ـ لم يكن القول الشائع: (على كف عفريت) أكثر انطباقا على المنطقة العربية في أي حقبة مما هو عليه اليوم. فلم يعد يبدو أن لدى العالم العربي استراتيجيات ولا خطط ولا مشاريع وطنية أو إقليمية ولا مقترحات ولا حتى جدول أعمال فردي أو جماعي خاص به. أي لم يعد يبدو أن فيه سياسة ولا تنظيما للحياة العمومية خارج إطار التأطير القائم على الصهر المؤلم لجميع الأفراد والقوى والاتجاهات في أتون السلطة الأمنية البغيضة التي تراهن على تعقيم الأفراد والمجتمعات ومنعهم من التفكير والتنظيم والمبادرة والعمل ومن باب أولى من الإبداع. وما يستولي على المراقب السياسي للأوضاع العربية اليوم هو الشعور المؤلم بانعدام الرؤية والافتقار للإرادة ومن ثم بغياب القيادة والاستسلام إلى المصير القدري.
حتى الآن حافظت النظم العربية بالرغم من كل التجاوزات التي بدأت بتوقيع اتفاقات كمب ديفيد الانفرادية على حد أدنى من التواصل مع أطروحات وقيم وأفكار وآمال الحركة الوطنية العربية التي تمت وتصاعد نفوذها في الخمسينات من هذا القرن وتمحمورت حول قيم ثلاث رئيسية : الدفاع عن مفهوم قوي للاستقلال الوطني والسيادة, الحفاظ على التضامن العربي كموجه رئيسي في السياسات الوطنية والإقليمية, التمسك بمفهوم شعبي أو شعبوي للشرعية حتى في الحالات التي كان فيها الشعب سجين آلة القهر البيرقراطية.
هذه هي القيم التي يتوجب على النظم العربية التخلي عنها اليوم والتي هي في طريقها لقطع الصلة تماما بها. وهذا هو ثمن بقائها في الخدمة والشرط الضروري أيضا لاندماجها في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الدولية والإقليمية التي تسيطر اليوم على مقاليد الأمور في المنطقة الشرق أوسطية.
وأرى أن المستقبل القريب سيشهد تنامي خيارين رئيسيين وتزايد نفوذهما في عموم المنطقة العربية. الخيار الأول  تطوير سياسات الشل الكامل للمجتمع كوعي مستقل وإرادة حرة أو بالأحرى في العديد من الأقطار استكمالها, وبالتالي تحييد المجتمع وإبعاده عن أي قرار أو احتمال التأثير في قرار, ومن ثم قتله وتجميده. والخيار الثاني الالتحاق السريع والشامل لجميع النظم العربية بالسياسة الأمريكية والانخراط الحماسي في الحرب ضد الارهاب مع الميل إلى إثارة الفتن الداخلية لتحويل الساحات السياسية العربية الداخلية إلى مسارح مستقلة وإضافية للحرب ضد الارهاب ترضي غرور النخبة الأمريكية التي تعتقد أو أصبحت تعتقد أن العرب كمجتمعات, لا كنظم سياسية, هم مصدر التفريخ الرئيسي للارهاب العالمي بسبب ثقافتهم القرسطوية ودينهم التعصبي وأعرافهم البربرية. فالالتحاق بالاستراتيجيات الدولية الأمريكية, وفي سياق ذلك القبول بالتضحية بفلسطين والشعب الفلسطيني, هو الأمل الوحيد المتبقي عند النظم العربية التي تواجه أزمة داخلية طاحنة في علاقاتها الداخلية مع مجتمعاتها وفي علاقاتها الخارجية مع الدول الصناعية وفي مقدمها الولايات المتحدة, لإعطاء نفسها دورا وبالتالي مبرر وجود يسمح لها بالهرب بجلدها.
والسنوات القادمة ستكون مطبوعة ببناء سياسات الالتحاق العملية والنظرية بالسياسات الأمريكية، وبحث كل نظام لنفسه عن دور في هذه السياسات أو في تحقيق السيطرة الامبرطورية الأمريكية، وتحول الجامعة العربية ذاتها وجميع المنظمات العربية الفرعية إلى أدوات طيعة لخدمة الأهداف الأمريكية الإقليمية والعالمية, وفي مقدمها ضبط الشعوب العربية وتقييدها. وسيكون جوهر السياسات المحلية لنظم الحكم القائمة هو مقايضة التعاون الشامل مع واشنطن بالبقاء في الحكم وغض نظر الأخيرة عن ممارساتها الداخلية.
ولدينا منذ الآن مؤشر مهم على الأسلوب الذي سيتم من خلاله تطويع النظم وتحقيق استسلامها, وهو التحول الهائل في موقف الدول العربية من الإرهاب. فبعد أن كان مطلبها الرئيسي تحديد الارهاب وتعريفه والدعوة إلى مؤتمر دولي لتحقيق هذا الهدف كشرط للتعاون في أي سياسات ترمي إلى محاربة الارهاب اختفت فكرة المؤتمر الدولي لتعريف الارهاب تماما من جدول أعمال الدول العربية، وأصبحت هذه الدول تتنافس فيما بينها على انتزاع لقب الدولة العربية الأكثر تعاونا مع واشنطن في ضرب الارهاب، وصارت تتبارى فيما بينها لتقديم أقصى ما تستطيعه لمساعدة المخابرات الأمريكية على القبض على مواطنين عرب قد يكون لهم وقد لا يكون لهم ضلع في أي إرهاب. بل إن النظم العربية لن تتردد في المستقبل في تقديم قوائم كاذبة عن إرهابيين محتملين إلى المخابرات الأمريكية والأوروبية في سبيل إظهار أهمية مساهمتها في الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل هذه الدول الكبرى وعلى الصعيد العالمي. إننا نسير نحو حالة تتحول فيها النظم المحلية إلى ميليشيات تعمل لصالح الدول الكبرى وتستبيح لذلك, من دون خوف من العقاب, جميع الحقوق المدنية والسياسية لشعوبها.
لكن, بعكس ما يعتقد أصحاب هذه الاستراتيجية, لن تكون النتيجة بالضرورة تفتيت الشعوب والجماعة العربية وتكسير إرادتها وتركيعها, أي استمرار أو تعميق المصير الشرق أوسطي الذي أسست له اتفاقات سايكس بيكو ولكن, ربما بحظ أكبر, العودة إلى مناخات شبيهة بمناخات الخمسينات التي شهدت نمو الحركات الشعبية القوية وتعاونها على مستوى العالم العربي في مواجهة أنظمة ونخب حاكمة جمعت هي ايضا في ذلك الوقت بين انعدام الكفاءة القيادية وغياب الشعور بالمسؤولية الوطنية والخنوع المذل والمهين لإرادات ومخططات الدول الأجنبية.

د. يوسف ـ بعد أحداث 11 أيلول أصبح العالم كله مستهدفاً من قبل السياسة الأمريكية، وصارت الإرادة السياسية الأمريكية ترى أنه من الممكن صوغ العالم مجدداً بحيث يكون مجالاً تتحقق فيه الحيوية الأمريكية ممثلة في جملة مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. وهذه الطريقة الأمريكية السائدة اليوم في التفكير هي محصلة طبيعية ترتبت على الأوضاع الجديدة التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد في العالم. ولا يمكن للقوة التي تشعر بأنها القوة الأعظم والأكبر في العالم إلا أن تفكر على هذا النحو العدواني الذي يتطلع إلى إعادة صياغة العالم على النحو الذي يتطابق وأحادية القطب فيه. والمشكلة الأعوص هي أننا لا نجد احتمالات مشجعة تسمح لنا بأن نتوقع ولادة قطب جديد أو قوة جديدة تضطلع بموازنة الدور الأمريكي الطاغي والمهدد والمهين وبعقلنته وبجعله أكثر منطقية وعدلاً أو على الأقل أقل ظلماً في ممارساته التي يعيش العالم في ظلها اليوم. ولذلك فإنه في ظل الظروف الراهنة، وفي المدى المنظور على الأقل، ليس بوسعنا أن نقع على ما يشير إلى وجود عوائق جدية تحول دون تحقق الإرادة الأمريكية على النحو الذي تتصوره وتفهمه، أي الانفراد باتخاذ القرارات الأساسية التي تحدد مصالح الغير انطلاقاً من المصالح الأمريكية وحدها.
ولو أننا نظرنا إلى السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط لوجدنا أن تحقق هذه السياسة وانتصارها في هذه المنطقة يكاد يكون تحققاً تاماً وانتصاراً شبه مطلق، الأمر الذي يجعلنا نعتقد بأن الإدارة الأمريكية الجمهورية، إدارة بوش الإبن، تتمنى لو أنه كان في وسعها أن تحقق من الانتصارات والهيمنة في مناطق العالم المختلفة مثلما حققته وتحققه في منطقة الشرق الأوسط.
ومن المعروف أنه بعد غزو العراق للكويت رسمت المعالم الأساسية للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وما يجري اليوم إن هو إلا استكمال لما بدا يتكون في مطلع التسعينيات، ويبدو أن الأنظمة العربية بجملتها قد تكيفت مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ولم يعد بين هذه الأنظمة من فروق تتعدى طريقة التعبير عن نفسها في علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية. كما أن علاقة الأنظمة العربية بشعوبها تكاد تكون محكومة بنفس الأساليب الاستبدادية التي تنتهي إلى حرمان هذه الشعوب من حقوقها السياسية وطردها من ساحة العمل السياسي بصورة نهائية، مما يسهل على الملك ـ الرئيس أو الرئيس ـ الملك أن يتفرد باتخاذ كل القرارات التي تضمن استمرار بقائه في سدة المملكة ـ الرئاسة أو استمراره منفرداً بمقاليد الأمر في الرئاسة ـ المملكة. ولا فرق بعد ذلك في اللغة التي يستعملها ثورية كانت أم محافظة.
والدليل على هذا التكيف العميق الذي خضعت له الأنظمة العربية مع المتطلبات الأساسية للاستراتيجية الأمريكية في منطقتنا، وعلى أن الفرق بين هذه الأنظمة لم يعد سياسياً وإنما هو منحصر في أساليب الخطاب ووسائل استعمال اللغة ـ التي تسمح بالتعبير عن مضمون واحد بأساليب مختلفة ـ هو ما يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ سنتين تقريباً وحتى يومنا الراهن. فالشعب الفلسطيني يُضرب ومدنه تُدمر وأبناؤه يُعتقلون ويُقتلون وبنيته التحتية يجري تفكيكها سواء على مستوى البنية الأولية للدولة أو على المستوى المادي المتعلق بالشروط الضرورية للحياة. وعلى الرغم من الإعلان المتكرر بأن كل الأنظمة مع الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من الزعم بأن العرب عربان، عرب أمريكيون وعرب غير أمريكيين، فإن كل ما ينال الشعب الفلسطيني ـ في التحليل الأخير ـ لا يزيد عن لغتين مختلفتين، في حين أن إرادة شارون، التي تحظى بتغطية أمريكية كاملة لا تنفك تمارس وحشيتها المعروفة. ولا أحد يعلم إن كان العراق سيضرب أم لا لكن الجميع ضد ضربه، فإذا قررت إدارة بوش فعلاً تجاور أدوات الحرب النفسية التي تشنها على النظام العراقي إلى ممارسة درجة من درجات القوة فإن شيئاً لن يتغير وسيلاقي النظام العراقي مصيره على أيدي الأمريكيين، فما تقول الأنظمة العربية كلها أنْ لا لضرب العراق.
كل ذلك يكشف عن التكيف العميق الذي نجحت الولايات المتحدة في فرضه على النظم العربية، التكيف الذي يقوم شرطه الأول والأخير على النظم العربية إلى شعوبها على أنها مجموعات من العبيد حسبها العمل والطاعة، بينما الحقوق السياسية ـ وهي أرقى الحقوق التي لا بد من التمتع بها ـ مصادرة تماماً في يد الحكام. ومن ثم، فليس هناك ما يمنع الإدارة الأمريكية من تحقيق ما تشاء ما دامت لا تتعامل إلا مع 22 ملكاً ـ رئيساً ـ ملكاً. وعلى ذلك فما لم يتحقق وضع مختلف تتنامى فيه شروط الحياة الديمقراطية، فإن تبادل المصالح بين أمريكا وهؤلاء الحكام ستبقى مسألة قابلة للتسوية حتى وإن اضطرت الولايات المتحدة أحياناً لأن تستمع إلى لغة جارحة توجه إليها في بعض أجهزة الإعلام العربية. وسواء كان المقصود إيجاد شرق أوسط بالمعنى الإسرائيلي أو إنتاج شرق أوسط مختلف كثيراً أو قليلاً نتيجة لرغبة الأمريكية فإن كل الاحتمالات التي تريد أمريكا فرضها تظل قابلة للتحقق بدرجات عليا من الاحتمال. وبالتبعية فإن مصير النظام العربي وما يرتبط به من منظمات كالجامعة العربية وغيرها من مؤسسات وأجهزة ستبقى فاقدة لقيمتها مشلولة عن ممارسة أي تأثير جدي في الحياة العربية، وخاصة في الحياة السياسية، كما كان عليه الحال دوماً حتى عندما كان العرب في أحسن أحوالهم. غير أن الأخطر من كل ذلك هو تعرض المنطقة العربية إلى نوع من البلقنة ينتهي بها إلى تقسيم الدول القطرية القائمة إلى دويلات طائفية وعشائرية وإثنية، وهو ماقد تقتضيه المصلحة الأمريكية. فمن شأن ذلك بكل تأكيد أن يجعل الهيمنة الأمريكية على المنطقة تدوم لفترة أطول في ظل الحروب الأهلية التي قد تشهدها المنطقة العربية بين عناصرها المختلفة.
س: هل ثمة ما يمكن فعله في مواجهة الموجة الجديدة من التفريغ والشرق أوسطية؟ ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الديمقراطية الوليدة في هذه المعترك؟ وهل ترون ثمة بوادر حركة اعتراض عالمية على الامبريالية الجديدة يمكن للحركات الديمقراطية العربية أن تعمل وتتحالف معها؟
د.برهان ـ سيقع على كاهل الحركة الديمقراطية في المرحلة القادمة وحدها أو بشكل رئيسي قيادة الحركة الشعبية والوطنية الجديدة نحو النصر وبلورة الخطط والاستراتيجيات العملية التي تساعد على تحقيق الاهداف الشعبية والوطنية تماما كما قادت الحركة القومية في الخمسينات حركات الاحتجاج الشعبية والوطنية لمقاومة النخب المنحلة والفاسدة ومواجهة المخططات والمشاريع الاستعمارية التي كانت ترمي إلى إخضاع المجتمعات العربية لمصالح الدول الكبرى وتثمير مواردها بما يخدم أهدافها. وتعني القيادة تحقيق مهام نظرية, أي بناء التصورات والرؤية الواضحة والانسانية لطبيعة النظم المجتمعية التي سوف تخلف النظم القهرية الراهنة الرامية إلى تامين مصالح النخب السائدة فحسب على حساب المجتمع بأكمله وضده. كما تعني تحقيق مهام عملية ترتبط بقدرة النخب الديمقراطية الجديدة على صوغ استراتيجيات واضحة واتباع سياسات عقلانية وجريئة لا ترتعد امام القوى الكبرى والأكبر ولا تهن أمامها ولا تهون من قدراتها أيضا, وعلى تبني أساليب عمل فعالة وناجعة, أي تأخذ بالاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والدولية ولا تستسلم لإغواء الخطابات والمواقف الغوغائية والانتصارات الكاذبة.
وهذا يعني أن المهمة الرئيسية التي ستواجه النخب الوطنية في السنوات القادمة هي بناء هذه الحركة الديمقراطية فكريا وعمليا. ولا يمكن بناؤها لتكون حركة شعبية ووطنية فاعلة ونشيطة إلا بالنجاح في تجاوز التناقضات العدائية التي خلفتها الحقبة السابقة بين التيارات الايديولوجية المختلفة اليسارية والليبرالية والاسلامية. كما لا يمكن بناؤها ما لم تنجح النخب والقيادات الجديدة من تجاوز الروح والنزعات الشعبوية وعدم تكرار أخطاء الخمسينات التي ضيعت الكثير من الفرص وهدرت طاقات هائلة من دون طائل لتحقيق الانتصارات الوهمية والرمزية وطورت قيما سلبية مضرة ومفقرة قائمة على الحماسية الشعاراتية الفارغة وغياب الحسابات العقلانية وإحلال الطليعة أو بالأحرى مفهوم الطليعة القائدة محل مفهوم الشعب لتجنب طرح مسألة بناء الوحدة الشعبية بناءا حقيقيا يأخذ بالاعتبار الشعب من حيث هو مجموعة من المصالح المتميزة والإرادات الفردية المستقلة والتناقضات التي يحتاج تجاوزها وإفراز إرادة موحدة وطنية إلى بناء أطر قانونية وبلورة وسائل سياسية للقيادة والسلطة ديمقراطية وحية وفعالة.
بالتأكيد لن تكون الحركة الديمقراطية العربية وحيدة في الميدان. فدمقرطة الحياة الدولية والوطنية سوف تشكل المحرك الرئيسي لجميع حركات الاحتجاج العالمية المتصاعدة في مواجهة الدمار المتزايد والفوضى الشاملة التي تنتجها سياسات واستراتيجيات السيطرة الأمريكية العالمية وأزمة الرأسمالية المعولمة التي تفتقد للأدوات القانونية والحدود السياسية التي تضبط جنوحها نحو التراكم البدائي والتوسع الوحشي واستخدام وسائل الغش والمضاربة والتلاعب بالأسعار والبيانات الكاذبة لتحقيق أقصى الأرباح أو الحد من تقلص معدل الربح كما أظهرت ذلك الفضائح الأخيرة للعديد من الشركات الأمريكية الكبرى.
وفيما يتعلق بإمكانية التحالف مع حركات ديمقراطية دولية, من الواضح أننا مازلنا في بداية الطريق. لكن منذ الآن لا نستطيع أن ننفي الفرص الكبيرة التي يفتحها التعاون مع منظمات حقوق الانسان والحركات الديمقراطية المناهضة للعولمة النيوليبرالية وحركات الاحتجاج الدولية على السياسات البيئية والاقتصادية والعسكرية للدول الكبرى. لكن من المؤكد أن النظم العربية, بالتعاون مع النظم الصناعية المتقدمة, سوف تعمل المستحيل أيضا في سبيل الحد من احتمال تطور مثل هذه التحالفات وقطع طريق التواصل بين القوى الديمقراطية العالمية. وهذا يعني أن على هذه القوى والحركات أن تفكر منذ الآن في بناء أطر التضامن العالمي الجديدة وتزويدها بالامكانيات والوسائل الكفيلة بتحويلها إلى أطر فاعلة وناجعة. وهو ما يشكل اليوم في نظري أكبر تحد تواجهه حركة التحويل الديمقراطي العالمية وعلى حله سيتوقف نجاحنا في التحقيق السريع للإصلاح العالمي.

د. يوسف ـ الأمر الأول الذي لا يحتاج إلى تأكيد أن كل الشعوب العربية ترفض المآل الذي تقوده إليه سياسة حكوماتها: مآل الشرق أوسطية بما قد يستدعي من تفكيك أو دمج أو تفريغ أو إلحاق أو إحياء الأسر الميتة لقوم بأدوار لا علاقة لها بالمصالح الحيوية للشعوب. غير أن الرفض شيء والقدرة على الارتقاء به إلى مستوى فرض وقائع سياسية شيء آخر.
يبدو أن الحكومات العربية قد نجحت في جعل حركة القوى الديمقراطية ضعيفة ومتأخرة إلى الحد الذي يجعلنا نشك في قدرة هذه القوى على فعل شيء قادر على التأثير في مصائرها وفي مصير الجيواستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط. ويبدو أن تغير هذه الصورة منوط بولادة قوى عالمية تستطيع الدخول في حوار جدي مع الإدارة الأمريكية الطاغية على العالم في وقتنا الحاضر. وبما أن هذه القوى المحتملة لا يمكن أن تكون خارج أوروبا الغربية على الأغلب، فإن الحوار العربي الأوروبي يكتسب أهمية استثنائية في هذا الوقت بالذات وينبغي ألا يفهم من الحوار السياسة فقط، فالحوار الرسمي يراوح مكانه من سنين، المقصود ها الانخراط في ضرب من الحوار الأعمق بين المثقفين والأحزاب والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وأنصار البيئة والذين يرون في الممارسات الأمريكية تجاوزاً للحد المعقول في كل مكان من العالم.
مطلوب من الديمقراطيين العرب أن يبحثوا عن حليف في أي مكان من العالم. وبما أن أوروبا هي أقرب جار إلينا وتجمعنا بها مصالح سياسية واقتصادية، فمن المحتمل أن يكون الحوار مع الأوربيين فرصة للعرب ليحصلوا على موطئ قدم في هذا العالم الجديد الذي لا مكان فيه للضعفاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشــرط الإرهــابي تمزق معنى العالم
- تغيير الأنظمة- و-إعادة رسم الخرائط
- المعارضة السورية والعلاقات السورية اللبنانية
- ديمقراطية بالوكالة
- الشــرط الإرهــابي تمزق معنى العالم
- التجمع الوطني الديمقراطي .. إلى أين؟
- رياض سيف والإصلاح السوري
- الفلسطيني الذي فجّر الهويات
- السلطة و... التوبة
- السياسة المبدئية والسلطة والدستور
- الاستبداد والطغيان تأملات سياسية
- المكاسب العالمية من المساواة
- سورية وعراق ما بعد صدام: التفاعلات الإيديولوجية لسقوط نظام ا ...
- سورية وعراق ما بعد صدام: الآثار الجيوسياسية للسيطرة الأمريكي ...
- انفصال الأكراد هو الحل
- ما وراء حرب البترول الثالثة
- الحرب الأمريكية والديمقراطية العراقية
- حوار مع خطـاب الرئيـس بشار الأسد
- الشارع ليس في الشارع
- أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـه ...


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - ياسين الحاج صالح - ندوة حول الارهاب وعالم ما بعد 11 ايلول - المشاركون: د. صادق جلال العظم، ,د. برهان غليون، , د. يوسف سلامة