في أوائل السبعينيات من القرن الماضي ، قام (السادات) بمواجهة اليسار باليمين الديني ، لأنه كان يشعر أن اليسار لا يتفق مع سياساته ، ويعارض مواقفه ، خاصة بعد تصريحه الشهير ، بأن عام 1971 ، سيكون هو عام الحسم - أي الذي سيتم فيه تحرير الأرض التي أغتصبها العدو الإسرائيلي في 67 - ومرت الأعوام - بعد هذا التصريح ولم يتحقق ما صرح به !! فقامت مظاهرات الطلبة المناهضة ، التي قادها اليسار، ففكر - علي الفور- في إفساح المجال أمام التيارات الدينية لمواجهة المد اليساري داخل الجامعات .
ومن المفارقات العجيبة أن تشكيل الجماعة الإسلامية من الطلاب الإسلاميين ، تم بمساندة من النظام ، فعندما تولي ( محمد عثمان إسماعيل ) أمين عام الاتحاد الاشتراكي - في ذلك الوقت - منصب محافظ أسيوط في عام 1972 ، اشرف بنفسه ، وبأوامر من السادات علي فض الاعتصام الشهير بجامعة أسيوط ، والذي قاده طلاب اليسار ، وكان للرجل نظرية مفادها : أنه إذا حصل الإسلاميون علي التمويل اللازم لأنشطتهم ، فانهم سيحلون محل الطلاب اليساريين المعارضين للسادات ، ولذلك انشأ مكتبا بالمحافظة كانت وظيفته إعداد الكوادر للتصدي للطلاب اليساريين ، وإجهاض قوتهم داخل الجامعة ، وكانت تلك هي البداية ، التي ساعدت علي ظهور عدد من التنظيمات المتطرفة ، المتسترة بالدين ، من أجل العمل علي تحقيق أهدافها الخاصة : تنظيم الفنية العسكرية – تنظيم التكفير والهجرة – الجماعة الإسلامية - الجهاد - وغيرها من التنظيمات الأخرى .
والخطأ الذي وقع فيه السادات هو أنه حاول استخدام التيار الديني لخدمة أغراضه ، ولم يكن يعلم أنها سرعان ما تنتقل إلى العمل لحسابها الخاص ، وتمزيق الإطار الذي يراد منها أن تعمل في داخله ، لأنه (من الاستحالة حصر هذه الجماعات في إطار محدد سلفا )(1)
والدليل علي ذلك أن الإرهاب بدأ وافدا من الخارج ، حين وجد أصحابه المناخ مهيأ - في مصر – لممارسة النشاط المتطرف ، حيث ظهرت مجموعة العقيد ( صالح سرية ) الفلسطيني المولد ، الأردني الإقامة ، وأتهم هناك بالتآمر علي الملك حسين ، وحكم عليه بالإعدام ، ففر إلى العراق ، ومنها إلى بعض الدول العربية الأخرى التي طُرد منها ، ليجد مستقره الأخير في مصر ، فقام بممارسة مغامراته ، حين قام باحتلال الكلية الفنية العسكرية ، وقتل سبعة عشر شخصا ، معتقدا انه قد يحدث انقلابا في مصر في عام 1974 ، لكن مغامرته باءت بالفشل ، وتم إعدامه … وتسلل إلى مصر – أيضا إرهابي آخر يدعي ( محمد سالم الرحال ) الذي قام بجمع فلول تنظيم ( صالح سرية) الذي كان يطلق عليه ( حزب التحرير الإسلامي ) لينشيء تنظيما جديدا هو تنظيم( الجهاد الإسلامي ) الذي حرم أكل ذبائح المصريين لأنهم كفار ، والصلاة في المساجد الحكومية لأن الحكومة – في نظرهم – حكومة كافرة ، وحرضوا أتباعهم ضد التجنيد ، وزعموا أن قتال المصريين أولي من قتال العدو الإسرائيلي !! وقاموا بسرقة أسلحة من الجيش ، وانكشفت مؤامرتهم ، وتم القبض عليهم ، وكان من بين المقبوض عليهم أربعين من الصبيان الصغار الذين حُفظ التحقيق بالنسبة لهم علي أساس انه غرر بهم ، وانتهت مجموعة الجهاد الأولي لتقوم علي أنقاضها مجموعة الجهاد الثانية ، التي قامت بالصغار الذين تركتهم الحكومة رأفة بهم لصغر سنهم و ارتكب بعض أفرادها حادثة المنصة وقتل ( أنور السادات ) (2)
وحين قامت ( جماعة التكفير والهجرة)(3) بقيادة ( شكري مصطفي)(4) باختطاف وزير الأوقاف الشيخ ( حسن الذهبي) في عام 1977 - واغتياله برصاصة في عينه اليسرى ، لأنه أفتي بأنهم مارقون – كانت هذه هي الإشارة الأولي ، التي تكشف تعاظم نشاط هذه الجماعات ، وتكشف خطورتها ، خاصة أن تلك الجماعة لم تكن تعمل بشكل سري ، بل قاموا بطرح أفكارهم علانية ، وتلك الأفكار انتهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية ، هؤلاء الذين قتلوا ( عثمان ابن عفان) سنة 40 هجرية ، بسبب أنه كان يري الخلافة ( قميصا ألبسه الله إياه ) ، وهاجرت الجماعة من المجتمع ، الذي تراه مجتمعا كافرا ، ليعش أفرادها في الصحراء في منطقة تقع بين المنيا والوادي الجديد ، تمارس أعمالها ، وتدريباتها ووضع خططها وبرامجها .. وحين قبض علي أميرها ( شكري مصطفي) تحدي المحققين ، وادعي أن أحدا لن يستطيع إعدامه ، لأنه المهدي المنتظر !! ولكنه أُعدم في 30 مارس صبيحة زيارة السادات للقدس !!
وربما كان للثورة الإسلامية التي قامت في إيران عام 1979 ، تأثيرا علي أفراد تلك الجماعات ، ونموذجا يحتذي به للوصول إلى السلطة ، بدليل نجاحهم في اغتيال السادات ، واستمرار نشاطهم بعد ذلك ، وزيادة العنف ، ومحاولات الاغتيال الفاشلة التي انتهت في عام 1995 ، بمحاولة اغتيال ( حسني مبارك ) في أديس أبابا ، ومذبحة الأقصر في عام 1997 ، التي كانت بمثابة النفس الأخير لهذه الجماعات ، ونهاية لأيديولوجية العنف الديني في مصر . (5)
إن السرد التاريخي لنشأة تلك الجماعات ، والأحداث المرتبط بها ، أمر لا يعنينا إلا بالقدر الذي يساعدنا علي الوصول إلى إجابة السؤال التالي :
تلك الأحداث تعد متغيرا كبيرا من المتغيرات التي حدثت في مصر السبعينيات ، فهل استطاع الكتاب - خاصة كتاب المسرح - التعبير عن هذا المتغير بشكل فني ؟! وكيف كانت وجهة نظرهم ورؤيتهم وموقفهم الفكري تجاه هذا المتغير الخطير ؟!
في واقع الأمر أن كتاب المسرح لم ينتبهوا لخطورة هذا المتغير، ولذلك لم نري أعمالا مسرحية في هذا الإطار، إلا بقدر ضئيل جدا لا يتناسب وقوة المتغير ذاته ، منها أعمال كتبها صاحب هذه المسرحية الكاتب ( محمد أبو العلا السلاموني) وهي : (المليم بأربعة - أمير الحشاشين - ديوان البقر )(6) وعمل آخر كتبه محمد سلماوي تحت عنوان (الجنزير) وعملين لمحمد الشربيني هما ( مدد يا شيخ علي – محاكمة عبد الرحمن الكواكبي)(7) فضلا عن بعض العروض المسرحية التي قدمت علي مسارح الدولة ، وأشارت إلى هذا المتغير بشكل غير أساسي وكتبها ( حسام حازم- ولينين الرملي ) (8) ، وكما نري فان الأعمال التي تناولت هذا المتغير تعد قليلة بالقياس إلى ما تركه من آثار علي المجتمع ككل ، بمؤسساته المختلفة ..
في الفترة التي أشرت فيها إلى أن السادات أحكم قبضته علي اليسار، بإعطاء الفرصة كاملة للتيار الديني لكي يعمل بتشجيع منه ، طالب الأدباء – خاصة هؤلاء الذين يعيشون خارج العاصمة - وكان ( محمد أبو العلا السلاموني ) واحدا من هؤلاء، بإقامة اتحاد مستقل للكتاب ، يستطيعون من خلاله ممارسة حريتهم في التعبير ، ويستطيع هذا الاتحاد توحيد صفوفهم في مواجهة السلطة التي حملت علي عاتقها مهمة تهميش دورهم تماما ، باتهامهم بالشيوعية تارة ، وبالكفر والإلحاد تارة أخري ، واشتد الخناق عليهم لدرجة أنهم لم يستطيعوا نشر أعمالهم ، أو ممارسة أنشطتهم الفكرية والأدبية والفنية ، وكان قانون الرقابة علي المطبوعات ، يفرض أيضا سطوته ، ويكشر عن أنيابه لكل من يريد أن يخرج عن الخط المحدد ، والنهج المتفق عليه !! وهذا هو السبب الذي أدي إلى صدور الأعمال بطريقة الماستر ، وهي طريقة للطباعة رديئة ، وغير عمليه ، ساعدت ماكينات تصوير الأوراق وكانت في تلك الآونة اختراعا جديدا ، ساعدت هذه الماكينات علي إصدار بعض الأعمال ، وان لم تنجو من مقصلة الرقيب!!
انطلق الأدباء الذين كانوا يعيشون في دمياط بفكرة إقامة الاتحاد المستقل ، ومعهم مجموعة أخري من القاهرة ، أطلقوا علي أنفسهم أسم ( جمعية أدباء الغد ) لنشرها بين الأدباء الآخرين في محافظات مصر المختلفة ، خاصة وأن الاتحاد الاشتراكي كان يريد احتواء هذه الاتحاد ، حين قام ( يوسف السباعي ) - وكان وزيرا للثقافة - برحلة سريعة إلى دمياط أ للالتقاء بأدبائها ، لمناقشة مشروعهم ، وفي هذا اللقاء اختلفوا معه واحتد النقاش بينهم وبينه ، فانصرف عائدا إلى القاهرة ، دون أن يحقق الهدف الذي من أجله كانت الزيارة ، فاستكملها هو وبعض أعوانه ، حين قرروا إقامة هذا الاتحاد في القاهرة ليكون تابعا للدولة تبعية كاملة ، وحتى يضعوا المتاريس أمام فكرة الاتحاد المستقل ..
وسط هذه الظروف القلقة ، كانت مدينة بور سعيد تستعد للاحتفال بعيد النصر في ليلة الثالث والعشرين من ديسمبر 1974 ، كان من ضمن برنامج الاحتفال عرض مسرحية السلاموني ( رواية النديم عن هوجة الزعيم )(9) من إخراج ( عباس أحمد )، وهناك ُطرحت فكرة الاتحاد المستقل مرة أخري ، وتم الاتفاق علي إقامة مؤتمر قبل افتتاح المسرحية ، يضم بعض الأدباء من الأقاليم المجاورة لبور سعيد : دمياط والمنصورة ، وإصدار بيان يعبر عن رأيهم في هذه القضية ، ويعلق البيان أمام باب المسرح من أجل التوقيع عليه ، وكنت- آنذاك - واحدا من الذين حضروا هذا الاحتفال ، وشاهدت وقائعه ولم يذهب من ذاكرتي ، علي الرغم من صغر سني في ذلك الوقت .. وبالفعل تم تعليق البيان ، ودار حوار حول تلك القضية بين الجمهور والأدباء في صالة العرض ، وتحول هذا الحوار إلى مظاهرة سياسية ، ثقافية ، تم علي أثرها استدعاء قوات الأمن التي حاصرت قصر الثقافة ، وتم إلقاء القبض علي معظم الذين شاركوا في هذا المؤتمر ، من داخل المسرح وتم إلقاء القبض علي بعضهم ليلا أثناء نومهم ، وكان ( محمد أبو العلا السلاموني ) من هؤلاء الذين تم القبض عليهم ليلا أثناء نومه في منزل صديقه المخرج ( عباس أحمد ) .. وتم ترحيلهم إلى السجن، وقضي مؤلف هذا النص ما يقرب من ثلاثة شهور طبقا لقانون الطوارئ ، متهما بتلك التهمة الجاهزة : وهي إحراز منشورات معادية ، والعمل علي قلب نظام الحكم !! فضلا عن تلك التهمة المعدة سلفا لكل الذين يعادون نظام السادات :: تهمة اعتناق الشيوعية !! تلك التهمة التي جعلت الساحة جاهزة لاستقبال التيارات الدينية لكي تمارس نشاطها لمواجهة الشيوعية الكافرة !!
- وكواحد من الذين عاصروا تلك الفترة ، وشاهدوا تلك الأحداث عن قرب - حيث لم يتم القبض علي ، لأنني استطعت الفرار والعودة إلى دمياط سريعا - أستطيع أن أقول إنني حينما قرأت الصفحات الأولي في صحف الصباح ، ومعظم مانشتاتها تقول : القبض علي خلايا شيوعية أفرادها من دمياط وبور سعيد والمنصورة، شعرت - لحظتها - بأسف شديد جدا لأن الذي قرأته جاء منافيا لما حدث جذريا ، وجاء منافيا للحقيقة تماما ، والأدهى من ذلك- وهو ما جعلني أعيد التفكير في أشياء كثيرة - أن معلما في الثانوية العسكرية في مدينتي دمياط وكان زميلا للسلاموني في نفس المدرسة(10) وكان هذا المعلم معلمي في المرحلة الإعدادية ، وكان منتميا إلى التيار الديني في سنوات تكوينه الأولي ، أخبرني والفرحة تتراقص في عينيه ، مهللا : أرأيت .. لم تصدقني حين قلت لك ابتعد عنهم ، أنهم شيوعيين !! .. هؤلاء كفرة ، كيف تواصل السير معهم؟؟ وتنضم إليهم لتمارس نشاطا في قصر الثقافة ؟؟ وكان معلمي هذا قد استطاع أن يجذبني - بعض الوقت - إلى عالمه ، ودرت معه في المساجد للتعرف علي الأخوة ، لكنه حين لفظ بتلك الألفاظ - وكنت أعلم أنها كاذبة - واجهته وقلت له : هذا الكلام ليس حقيقيا ، لاتصدقه ، لقد كنت هناك ، ورأيت أمامي ما حدث بالتفصيل ، أنها أكاذيب السلطة .. لكنه أصر ، وأخذ يزعق بهستيرية ، فتركته ومشيت ، ولا أعرف شيئا عنه من يومها حتى كتابة هذه السطور !!
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : لماذا أسرد كل هذه الأحداث ؟
أذكرها أولا : لأن هذا المعلم وغيره كانوا يمارسون نشاطهم داخل المدارس بمباركة السلطة، وبرضاها الكامل لمواجهة الشيوعيين طلابا ومعلمين .
وأذكرها ثانيا : لأن تلك الفترة ، بما عكسته من ظروف أتاحت الفرصة للتيارات الدينية لكي تمارس نشاطها داخل المدارس والجامعات والمؤسسات الأخرى ، تشابهت مع ظروف في مناطق أخري من العالم ، أشار إليها وعبر عنها الكاتب الأمريكي ( أرثر ميللر) في مسرحيته الشهيرة ( ساحرات سالم ) والتي استوحاها من أحداث هوس ديني في قرية أمريكية في القرن السابع عشر ، وذلك عقب أحداث مشابهة جرت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي في أمريكا عرفت باسم (المكارثية )، والتي - من خلالها - كان ينكل بالكتاب والفنانين عبر لجنة أسمها لجنة النشاط المعادي لأمريكا.. .. ولقد رأي السلاموني تشابها كاملا بين الأحداث التي استقي منها ميللر مسرحيته، والأحداث التي عبر عنها في ساحرات سالم ، وبين ما لمسه ورآه بنفسه بعد القبض عليه ، لمجرد الاشتباه في انتمائه لتيار الشيوعية، ودعما للتيار الديني الذي كان يعمل - في واقع الأمر- مع السلطة وليس خارجا عليها ، ولذلك واتته فكرة معالجة الموضوع مستوحيا ما سبق وعالجه ميللر في مسرحيته المذكورة.
عالجها معالجة مصرية خالصة ، ليقول - من خلالها- : إن الأفكار المتشددة والإرهاب الفكري هما اللذان يهددان حرية وأمن الوطن ..
والمسرحية تشير إلى أن السلطة هي التي سمحت لهذه التيارات بممارسة نشاطها ضد خصومها ، وتركت لها الساحة لمباشرة مهامها لإرهاب المثقفين ، واتهامهم بالردة والخروج علي الدين .. وكما خرج ( جوزيف مكارثي ) بلجنته الفاشية من الكونجرس الأمريكي ، خرج علينا في مصر رجل يدعي ( يوسف مكادي) وكان ضمن جماعة تسمى ( لجنه النظام ) من مهامها الهجوم علي المثقفين من الكتاب والمفكرين ، وأساتذة الجامعات ، بحجة النشاط المعادي للنظام ، وهذا التشابه هو الدافع إلى كتابة هذا النص المسرحي - كما يصرح في الكلمة التي صّدر بها نصه- وعلي الرغم من أن المسرحية كُتبت منذ سنوات طويلة ، إلا أنها تُعد بمثابة رؤية مستقبلية للأحداث التي أتت في مصر الثمانينات- من القرن الماضي - ودفع السادات حياته ثمنا لها ، حين تم اغتياله بأيدي هؤلاء الذين قام بحمايتهم ، وأعطاهم فرصة الظهور علي الساحة !! في مسرحيات أبو العلا السلاموني التي أشرت إليها ، وعالج فيها موضوعات تتعلق بظاهرة الإرهاب الديني والسياسي، نلاحظ أنه لجأ إلى التراث باحثا فيه عن وقائع يستطيع من خلالها معالجة ما يحدث الآن ، وذلك في مسرحيتي ( أمير الحشاشين - وديوان البقر ) ويناقش موضوعا حيا وواقعيا مباشرة بدون اللجوء إلى التراث في مسرحيته ( المليم بأربعة ) ..
في مسرحية أمير الحشاشين يستند السلاموني إلي مقولة ابن خلدون التي جاءت في مقدمته ، من أن العرب اصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، ومن اجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو رياسة أو اثر من دين على الجملة، والمسرحية محاولة تنويرية لطرح هذا المفهوم الذي ذكره ابن خلدون من خلال عرضها لقصة حب رومانسية بين الشاعر تميم الفاطمي ، وبرديس المصرية ؛ وكيف كان من نتيجة هذا الحب إقصاء تميم عن ولاية العهد وإسنادها إلي أخيه الأصغر العزيز بن المعز لدين الله الفاطمي ، والذي قام بنفي أخيه تميم إلى خارج البلاد، فاستغلتها بعض الفرق السياسية ومنها فرقة الحشاشين التي تسعى إلى السلطة زاعمة أن تميما هو الإمام الحق ولعبت لعبتها الإرهابية التي تعتمد على الاغتيال السياسي تحت شعار الدين ..
وفي مسرحية ديوان البقر يعتمد على واقعة أوردها الأصفهاني في كتاب الأغاني مؤداها أن "العتابي " نهره صاحبه عثمان الوراق عندما أكل الخبز في الطريق وأنّبه "ويحك أما تستحي أرأيت لو كنا في دار فيه بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك ، فقال له : لا.. عندئذ قام العتابي ووعظ وقص حتى كثر الزحام عليه فقال لهم : روي لنا عن غير واحد انه من بلغ لسانه أرنبة انفه لم يدخل النار فما بقي أحد إلا واخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة انفه ويقدر حتى يبلغها أم لا ، فلما تفرقوا قال العتابي ألم أخبرك بأنهم بقر.
- ومن هذه الحكاية التراثية كتب محمد أبو العلا السلاموني نصه الذي يقدم الصراعات والتحالفات من اجل المصالح على حساب الشعب الذي أصابه داء "البقرنة" فجماعات التطرف والتخلف والجهالة ، تحاول الآن أن تلغي عقولنا ، وتغسل رؤوسنا وتجعل منا قطعانا من أبقار تتدلى ألسنتها لتلعق أنوفها اتقاء لنار جهنم وعذاب القبر.
وفي مسرحية ( المليم بأربعة) يعالج موضوعا معاصرا سبّب أرقا لعدد كبير من الناس ، ُعرف باسم قضية توظيف الأموال ، خاصة وأن أصحاب هذه القضية مازالوا قابعين داخل السجون لأنهم يرفضون رد أموال المودعين ، والكاتب يطرح موضوعه ببساطه شديدة ، (علي بمبه) لاعب الثلاث ورقات ، يعود إلى المولد من جديد؛ بعد عودته من الخارج ومعه بعض الأموال التي يريد استثمارها ، فيقوم بتكوين شركة لتوظيف أموال المودعين ، مقابل فائدة أكبر من الفائدة التي تعطيها البنوك الحكومية ، ويضم إلى شركته كل زملائه من العاملين في المولد ، بأنماطهم المختلفة ، ويستطيع - بمساعدتهم - إقناع الناس بمشروعه الذي سيحقق لهم أرباحا كبيرة حلالا ، فالمليم يساوي أربعة مليمات ، والجنيه أربعة جنيهات وهكذا .. وهي مسالة حسابية تجافي المنطق ، وتتعارض مع الحكمة ، وتدعو إلى التأمل ، ولكن لا أحد يتأمل أو يتساءل ، ومن ثم يستطيع جمع ملايين الجنيهات التي يستولي عليها لحسابه ، فيضيع حق المودعين ، ولا يستطيعون الحصول علي أموالهم ، نتيجة لتقاعسه عن السداد ، وحين تتدخل الحكومة نكتشف أنه قد استطاع شراء ذمم بعض المسئولين الكبار ، فيما اسماه بكشوف البركة ، وهي كشوف تُعطي الحق في صرف فوائد شهرية لرصيد وهمي يحدده صاحب الشركة ، مقابل تسهيلات يحصل عليها منهم لتيسير أعماله ، وهذه اللعبة تشبه إلى حد كبير اللعبة المعروفة في الموالد باسم ( المليم بأربعة ) ، وهي أقرب إلى القمار منها إلى أي شيء آخر ، والنص يقول أن الكل شاركوا في ممارسة اللعبة : الحكومة - المودعون ..ولكن ما الذي جعل الجميع يصدقون أن اللعبة ليست لعبة ؟ لأن أصحاب هذه الشركات اتخذوا من الدين ستارا لممارسة لعبتهم اللعينة ، ومن ثم فان البسطاء من الناس ، وغير البسطاء صدقوا أن هؤلاء لايمكن لهم ممارسه عمليه النصب ، فكيف لرجل الدين أن يمارس تلك العملية !؟ التمسح بالدين ؛ وليس الدين ذاته هو الذي أعطي لهؤلاء شرعية ممارسة لعبتهم ، ودفع الناس إلى تصديقهم .
ويعالج الكاتب ( محمد أبو العلا السلاموني ) في هذا النص المسرحي الجديد ، نفس الموضوع ، ولكن من زاوية جديدة ، مؤكدا - من خلاله - علي أن السلطة تمارس سطوتها علي المعارضين لها باسم الدين ، متحالفة مع بعض المتهوسين والمتطرفين ، الذين يلوحون بالتكفير تارة ، وبالردة تارة أخري , ولن نقوم بتحليل هذا النص ، لأنه بين يديك ، وربما تفسره تبعا لما تملكه من رؤية وموقف تجاه ما يحدث ، لكننا نود أن نشير إلى بعض ما ورد في المسرحية من أحداث تعري علاقة الغزل بين السلطة الجائرة والمتشددين ، والمتمسحين بالدين .
إن مرض ابنة الشيخ برهان ، وابنة الحاج جعفر ، الذي قيل وأشيع أنه جاء نتيجة لسحر مارسته بعض النساء عليهما ، كان هو المفجر الرئيسي لأحداث المسرحية ، فالحدث يتطور بشكل تلقائي كلما تواترت عمليه البحث عن النساء الساحرات ، أو المتهمات بممارسة السحر ، وأثناء رحلة البحث يختلط الحابل بالنابل ، وتوجه الاتهامات بشكل عشوائي ، وبدون روية أو دليل قوي ، ويتم إعدام الكثيرات منهن ، وحين يتصدي واحد من الرجال المستنيرين لهذا السلوك ، يلقي من الإهانة والتعذيب ، ما يجعله في النهاية يفكر في الاعتراف بانتمائه إلى جماعة الشيطان ، برغم أنه لاينتمي إلى جماعة كهذه ، وذلك حتى يستطيع إنقاذ زوجته المتهمة بممارسة السحر ، وتنتظر الحكم بالإعدام كغيرها من النساء ، وحتى يكون اعترافه بمثابة حافز لكل من تسول له نفسه الخروج علي التعاليم . انظر إلى تلك العبارات التي يقولها الشيخ برهان ، الذي يدعي أن ابنته أصابها السحر من هؤلاء المتعاونين مع الشيطان ، يقول :
- أنا بيتي هو بيت البلد ، مفتوح للناس كلهم ، ومع ذلك لازم تعرفوا أني حامي حمي الدين في البلد ، واللي يمسني يمس الدين ، واللي حا يمس الدين مصيره جهنم وبئس المصير.
والشيخ الشيرازي - في المسرحية - يقف في خندق المتشددين والمتنطعين ، وفي نفس الوقت يقف مع السلطة ممثلة في الوالي .اقرأ معي هذا الحوار الذي دار بين الشيرازي وحسين - الذي يمثل في المسرحية المثقف المستنير الذي يكون في خلاف دائم مع السلطة .
الشيرازي : حي .. وهي الأرواح خرافات يا سيد حسين؟ حسين : أنا ما بنكرش الأرواح ياسيدنا..أنا بانكر تحضير الأرواح.. ربنا بيقول ياسيدنا: ويسألونك عن الروح .. قل الروح من أمر ربي .
الشيرازي : بس ما تقدرش تنكر الأرواح اللي ظهرت مع جيوش مولانا الباب العالي وهو بيحارب الأعداء.
حسين : كلام فارغ.. دي دعاية بيعملها الترك عشان يحببوا الناس في حكمهم الظالم ، ويفضلوا يسلبوا بلادنا وينهبوا باسم الدين
الشيرازي : يعني لهم حق اللي بيقولوا أنك ضد الترك والباب العالي
حسين : أنا ضد الظلم والاستغلال يا سيدنا.
وإذا كان هذا هو موقف رجل الدين تجاه المثقف المختلف عنه ، فان موقف رجل الدولة - وهو هنا القاضي ومن البديهي أن يكون عادلا - هو نفسه موقف رجل الدين تجاه المثقف المختلف معه ، فحين تتم مواجهة المحكمة بدليل قاطع يشير إلى أن الحاج جعفر هو الذي ادعي أن ابنته أصابها المرض؛ بسبب ممارسة أحد الرجال للسحر ، وذلك لكي يسجنه ، ويستولي علي أرضه ، فان المحكمة تطلب من حسين أن يذكر اسم الرجل الذي قطع بهذا الدليل ، ويرفض حسين طلب القاضي ، فيواجهه القاضي قائلا:
شوف يا راجل أنت ، لو كان الراجل بتاعك ده بيقول الحق كان زمانه جه هنا وقاله للمحكمة ، لكن مادام خايف من المحكمة يبقي راجل كذاب ، ولازم يعاقب وإلا حانقبض عليك أنت
حسين : يا جناب القاضي اللي بتعملوه ده أسمه إرهاب ، الناس بالطريقة دي حاتخاف تقول حاجة في المحكمة ..
القاضي : المخطئ هو اللي دايما يخاف يا سيد حسين.
حسين : لكن القانون اللي بتحكموا بيه هنا ، هو قانون الخوف والتخويف..
القاضي : أنا مش مسئول عن الخوف .. وإذا كان موجود ، فيبقي عشان فيه مؤامرة علي الدين والدولة ، البريء يا سيد حسين ما يخافش من المحكمة أبدا ( لزيدان) أنت مقبوض عليك لغاية ما تعترف باسم الراجل..
الوالي : عفارم .. عفارم ..
من الاستشهادات السابقة يتبين لنا؛ أن السلطة قد وضعت يدها في أيدي المتشددين من المتأسلمين الطامعين في الوصول إلى السلطة ، بهدف قمع ومواجهة كل صاحب رأي معارض ؛ أو مخالف ، بصرف النظر عن قيمة الحقيقة التي يستند اليها؛ أي من التيارين ، تكريسا لثقافة العنف والإرهاب الديني والسياسي ، تلك الثقافة التي فرضت نفسها علي الساحة لسنوات طويلة سابقة ، وربما لسنوات أخري لاحقة .
أحمد عبد الرازق أبو العلا
هوامش:
1- يمكن مراجعة مقال د.فؤاد زكريا المنشور في صحيفة الأهرام تحت عنوان : ثورة يوليو والجماعات الإسلامية – أغسطس1985
2- معظم هذه المعلومات جاءت علي لسان المستشار ( ماهر الجندي ) وكيل نيابة أمن الدولة ، الذي قام بالتحقيق في بعض قضايا هذه التنظيمات ، ونشرت وقائعها في الصحف المصرية ، وقد عمل فيما بعد محافظا لمحافظة الجيزة ، حتى تمت أقالته بعد اتهامه في قضية ( محمد فوده) المتهم باستغلال النفوذ والحصول علي رشاوى لتسهيل مهام بعض المستثمرين لدي المحافظة .
3- التكفير عنصر أساسي في أفكار هذه الجماعة ، فهم يكفرون كل من أرتكب كبيرة ، وأصر عليها ولم يتب منها ، وكذلك يكفرون الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله بإطلاق ودون تفصيل ، ويكفرون المحكومين لأنهم رضوا بذلك وتابعوهم أيضا بإطلاق ودون تفصيل ، ويكفرون العلماء لأنهم لم يكفروا هؤلاء ، ولا أولئك ، كما يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم .!! 4- هو شكري أحمد مصطفي من مواليد قرية الحواتكة بمحافظة أسيوط ، أحد شباب جماعة الأخوان المسلمين الذين اعتقلوا عام 1965 لانتسابهم إليها ، وكان عمره وقتئذ ثلاثة وعشرون عاما ، تولي قيادة الجماعة داخل السجن ، وفي عام 1971 أفرج عنه بعد أن حصل علي بكالوريوس الزراعة وبدأ التحرك في مجال الهيكل التنظيمي لجماعته ، وتمت مبايعته أميرا للمؤمنين ، وفي سبتمبر 1973 أمر بخروج الجماعة إلى المناطق الجبلية بدائرة أبي قرقاص بمحافظة المنيا ، وفي عام 1973 اشتبه في أمرهم رجال الأمن فتم إلقاء القبض عليهم ، وتقديمهم للمحاكمة في القضية رقم 618 لسنة 73 أمن دولة ، وفي 21 أبريل 1973 ، عقب حرب أكتوبر
1973 صدر قرار جمهوري بالعفو عن شكري مصطفي وجماعته ، فعاود نشاطه من جديد وبصورة مكثفة .. وبعد إعدام شكري مصطفي ، بسبب اختطاف الشيخ الذهب وقتله ، اتخذت الجماعة طابع السرية ، الذي لم تكن تنتهجه من قبل ، إلا أن نشاطها كان محدودا ، بسبب الضربات الأمنية المتلاحقة لأفراد هذه الجماعة .
5- تناول كاتب هذه السطور القصة القصيرة التي تعرضت لمناقشة متغير الإرهاب باسم الدين في دراسة طويلة تحت عنوان ( ثقافة العنف والإرهاب الديني والسياسي – مشاهد من ساحة القصة القصيرة في مصر) ولم تنشر بعد حتى تاريخ نشر هذا الكتاب
6- المليم بأربعة عرضت علي مسرح الفن بالقاهرة عام 1990 من إخراج جلال الشرقاوي. وعرضت مسرحية ( ديوان البقر ) علي مسرح الهناجر في عام ( 1995 ) من إخراج : كرم مطاوع . وصدرت مسرحية
( أمير الحشاشين) في كتاب في عام ( 1995 ) سلسلة ( أصوات أدبية) - الهيئة العامة لقصور الثقافة – رقم - 128 ولم يتم عرضها بعد ، وتوقفت بروفاتها في المسرح الحديث من إخراج سعد أردش ، بسبب خشية المسئولين من هبه الجماعات عليهم .
7- مدد يا شيخ علي - صدرت في عام 1993 - كتاب الثقافة الجديدة- الهيئة العامة لقصور الثقافة ، ونشرت مسرحية ( محاكمة عبد الرحمن الكواكبي) في مجلة القاهرة - العدد رقم 155- سنة 1993.
8- مسرحية (يا احنا يا هما ) حسام حازم- مسرح الشباب-1996 - عايز نشوف مأساة بالطبع لأ- لينين الرملي- المسرح القومي 2002
9- صدرت هذه المسرحية عن هيئة الكتاب في عام 1984 ، وعرضت علي مسارح الثقافة الجماهيرية من إخراج : عباس أحمد (1974)- محمد سالم (1974) - عبد الغفار عوده (1980)..
10- عمل الكاتب بالتدريس منذ عام 1959 ثم انتقل للعمل بوزارة الثقافة عام 1983 بالهيئة العامة لقصور الثقافة – إدارة المسرح .