أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر 8















المزيد.....

الرحيل إلى المجهول تدمر 8


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 2127 - 2007 / 12 / 12 - 11:30
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


تضرجت ملامح /م/ باللون الاحمر، رد بعصبية واضحة:
ـ سنين طويلة نقيس برخاوة، نقيس بنفس المقاييس, مقاييس الخضوع وتنكيس الرأس والجدع, مثل هذا المكان الكانوني الجاثي على رقابنا. نبتعد قليلاً, نهرب أكثر. لكن تحت تسميات ومسميات مختلفة وتبريرات تافهة. نهرب من مكاننا لنحط في نفس الموضع القديم, نرضخ, نقبل بالأمرالواقع, كأنه قدرلا فكاك منه. أزمان طويلة, ندفن رؤوسنا كالنعام في الرمال المتحركة, إلى أن تأخذنا الأمورإلى أوسع مداها. بعدها, نحس باللاشيئ, يسري في كل أنحاء حياتنا. لكن إلى متى، لا أحد يعرف. المهم أن نؤجل الزمن المطلوب, إلى الزمن الأخر. عل الزمن يحل الأحجيات والألغاز المركبة لوحده. لكن إلى متى, ومن الذي سيبادرإلى حلها, من الذي سيحسن ظروفنا ومستقبلنا إن لم نساهم نحن في حلها. تدخل/ب/ الجالس بجانب إحدى زوايا المهجع ورد بحماس منقطع النظير. أضاف:
ـ إلى متى نتوارى خلف العاصفة الهوجاء, كالطيور الهاربة إلى مواطن الغربة. رد/ص/ قائلاً بهدوء:
ـ لا تنسوا أن أجسادنا مثقلة بهموم الزمن. لقد نحت الجلاد في صدرونا خرائط واسعة, عمق الوجع في تضاريسنا, لم يعد لدينا القدرة على فعل شيئ. تنفس قليلاً ثم تابع:
ـ أي فعل, يجب أن يقاس بجملة ظروف, دقيقة وصحيحة. إضرابنا عن الطعام أوالاعتراض لن يفيدنا. سنضع احتمال أخر:
ـ إذا فشلنا في فرض ما نريده من السلطة, سيقوي هذا الأمرمن سيف السلطة على رقابنا. المسألة تحتاج إلى قرارات هادئة وغيرانفعالية. لا تنسوا أننا في عمق البادية, معزولون عن المحيط الخارجي. لن يسمع صوتنا, كائن من يكون, في هذه الآفاق البعيدة. دمنا سيكون بيدهم لقمة سائغة. تمهلوا يا أخوة, لا تتسرعوا في اختياركم للتوقيت الخطأ. اختيارالوقت المناسب هوالسفينة الرافعة لوضعا, لتحملنا إلى الطرف الأخر. أطلق/ع/ تنهيدة عميقة ومضى يقول:
ـ علينا أن نخفف انفعالاتنا السريعة، الصبيانية حتى لا نزداد تشوها على تشوه.
كانت اللفافة مسترخية في يد /م/ بجمرتها الخائرة إلى رماد، حركها بانفعال:
ـ أنظر إلى وجهك يا /ص/.. ثم ألتفت إلى الجميع أشارمن أصبعه بطريقة انفعالية. وتابع:
ـ لكن كيف سترى وجهك يا صديقي! لا توجد مرآة عاكسة في هذه الأماكن البعيدة من العالم, لكنت عريتك أمام نفسك, وأمام وجهك, التي ذبل مثل الضباب الصيفي التائه. خلال فترة قصيرة تغيرت ملامحك رأساً على عقب. لم تعد أنت الذي كنت أنت عليه فيما مضى من الوقت. ستستمر.. ونستمربالخراب اليومي من كثرة النحت المر في وجوهنا وأعصابنا وشراييننا. إذا لن تعترض اليوم, سيموت في داخلك, أشياء جميلة وكثيرة. الرفض ضروري. الإضراب عن الطعام, وقوفنا في وجههم, سيزيد مساحة الإنسان في داخلنا, الإنسان الحروالجميل والنقي والسوي. سنكون, وتكون أكثرتألقاً, وثقة بأنفسنا وطاقاتنا وتكبر أروحنا الرافضة لكل سوداوية. أنظروا إلى وجوهنا المهترئة، عزلتنا عن العالم, بقائنا ضمن هذه السوداوية المجانية. إلى متى نبقى تحت رماد أحذيتهم الوسخة
ـ وإذا كسروا أضرابنا وفشلنا في تحقيق النتائج المرجوة.
ـ وقتها لن نكون قد خسرنا إلا قيدنا.
ـ لا.. لا يا صديقي. لا تتسرع سنخسر كثيراً. يجب أن نحسب كل شيء بدقة وتانٍ. سيمسكوا كل واحد منا, ويعذبوه إلى أن يكسرجدارالصمت فيه, وقتها سنندم على فعلنا.
ـ لكنهم سيعذبوننا يومياً. أقصد سلطة قطاع الطرق لن تتهاون معنا يا أخوة. هل نتركهم يعذبوننا ونحن مستسلمون أم يعذبوننا ونحن في حالة رفض كامل.
ـ لنتعلم الحكمة يا /م/. رد /ع/ بكلمات متعلثمة، ضعيفة. جالساً بجانب/م/ ولا يجرؤ على النظرفي عينيه. ولكن/م/ قال:
ـ نعم. إن ما تقوله صحيحاً. لكن يجب أن تعلم أن عالم الحكمة, هو مدخل إلى عالم النذالة والتفاهة والاستنقاع. كلما كنا أكثرحكمة, كلما كنا أكثر تفاهة ونذالة ونتانة. أن تكون حكيماً, يعني أن تسكت, وتنتهزالفرص والوقت والظروف. مللنا أن نكون حكماء. إننا في مصيدة عميقة. وادي سحيق يعصر الجماجم والأجساد ويحولها إلى رماد. تدخل /ح/مرة ثانية وقال:
ـ إن البقاء على قيد الحياة مسألة ليست سهلة يا أخي.. مسألة ضرورية ومهمة. لا أريد أن أموت!
ـ لن يقتلوا جسدك يا/ح/, أنا أضمن لك هذا مئة بالمئة. لكنهم سيصلوا إلى روحك, سينسفوها من جذورها. ستعيش يا أخي بلاروح ولا طاقة حيوية متجددة. سيموت الإنسان الجميل داخلك. وقتها سيذبل جسدك على أكتافك ويتفتت أمام عينيك. ماذا ستفعل بجسد لا روح فيه ولا أمل ولا ثقة بشيئ في الحياة. تدخل أخرمن زاوية أخرى وهو ينقب رجله من الرمال العالقة بين الجروح ويمسك باقات الدم النازفة على محيط قدمه:
ـ لا أحب شرحك يا /م/ وليس لدي القدرة أن أواصل الطريق معك. لن أدخل في الإضراب عن الطعام. لن نعلن الإضراب عن الطعام بمجموعة أكثر من نصفها يعاني من أمراض مزمنة وألام عميقة. تذكروأنت سيد العارفين:
ـ وحدنا في هذه العزلة من العالم. لن يسمع الناس بموتنا. لن يسمع أي إنسان عن وضعنا على هذه البقعة من الأرض. لنا عبرة لمن أعتبرفي مدينة حماة. لقد قتل في هذه المدينة المنكوبة عشرات الآلاف من الناس الأبرياء تحت سمع ونظرالعالم. مع هذا, لم نسمع كلمة إدانة من أية جهة, لم يعلق احداً على تلك المجزرة. أنت وغيرك, يعلم أن النظام مسنود من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإنه ينفذ سياساتهم بكل أمانة. تلك الدول لن يلتفتوا إليك وأنت تنحر بأيديهم, أقصد بيد الجلاد حافظ الأسد. لهذا أقول لك تمهل ولا تتهور.
كان الحواريعمل تحت نزق الوجع المحمى المشتعل بين الجوانح والظلال.
كنتُ جالساً على الأرض, ماسكاُ قدمي بيدي, وأنظرإلى بقع الدم المكومة على مساحاته, أشاهد الأماكن المفتتة منه. أسمع بأنصات إلى حوار رفاقي. حوارقاس ومهم وضروي. أقول:
ـ كلا الطرفين على حق. لكن صمتنا لن يغير كثيراً.. لن يغير شيئاً.. بل سيزيد أمراضنا وخراب نفوسنا. صمتنا من صمت الناس في بلادنا التي أدارت ظهرها لمصائرها الحيوية والمهمة جداً.
صمت البشر ليس وليد اليوم أوالبارحة. أنه صمت ممنهج, مغرق في القدم. لقد ساهمت مؤسسات كبيرة في كسر صوت الناس.. في كسر نفوسهم واخضاعها لشروط هذه المؤسسات. حتى نغير, علينا أن أن نبني ذاكرة أخرى.. ذاكرة مختلفة تماماً عما عليه الأن. ذاكرة جديدة. ذاكرة وجدانية.. إنسانية تعمل على تواصل البشرمع بعضهم البعض بصدق ووضوح. قبل هذا وذاك, يجب أن يتم تنظيف الذاكرة القديمة من الأوساخ العالقة بها حتى يمكن أن ننهض بذاكرة ناهضة ومعافاة. يجب أن لا يكون موتنا مجانياً ولا قيمة له. لذلك رحت أميل إلى أن أضم صوتي إلى الأصوات المعتدلة التي تطلب التريث وقبول الأمرالواقع, حتى لا يأخذنا طوفان السلطة إلى أقرب مقبرة.
أعرف أن في داخلي ألف شيطان رافض. في داخلي جني كبير, سعدان نشيط وحيوي, يرقص ويقول لا.. لا. لكن حقيقة واقعنا المرأصعب وأقسى من رفضي لشروطنا القاسية. تلك الشروط, جعلتني أشرب مرارة العلقم بالرغم مني.
قوة السجين السياسي, صموده في السجن, يأتي من محيطه ومجتمعه, هي التي تمده بشروط البقاء على قدميه سليماً معافىً.
على المصطبة الشاحبة لمضافة الوجع, تتكئ الوجوه على الضوء الدائري المندلق من سياج الأفق البعيد, القادم بتأن وقلق, زرعاً نوره الخائف, بخوفت باهت, على ملامحنا المحملة بالتوجس والخيال, راسماً لمسات ممهورة لنبضنا المتيقظ والمرتعش.
كل رجل متكور على ذاته. يغرق في نبش مراميه من أجل الإنصات للصمت. أحد عشررجلاً يحاولون الغوص في الحديث بحذروقلق.
الأيدي المتحررة من القيد والزرد المؤقت تتحرك في الهواء بمرونة. البعض استند على فراش العتبة أو المصطبة, فارداً قدميه إلى الأمام, والبعض الأخرجلس على مؤخرته, والبعض جثا على ركبته أوحبا على ركبتيه ويديه.
دخل بعضنا إلى الحمام.
راحوا يعرجوا ويمدوا أقدامهم ببطء شديد.. على الأطراف والزوايا التي لم يصلها الكبل أوالرمال أو الجروح.
فتحوا الحنفية, فتدفق الماء ذي اللون البصلي المأكسد. تركوه مفتوحاً إلى أن تحول إلى اللون العادي المثقل بالكلس. وضعنا أقدامنا تحت الماء البارد المتدفق من الحنفية من أجل أن يكوي الجروح ويوقف سيلان الدم.
الماء ملوث وغير معقم. الكثير منا أصابه الأسهال الشديد من جراء هذا التلوث فيه.
خبط الشرطي على الشراقة بقوة. وقفنا جميعنا بصعوبة وكأننا دخلنا في حالة خدر بعد وجبة التعذيب الممنهجة التي تلقيناها في الأونة الأخيرة. وقفنا بصمت مثقلي الأنفاس. قال:
ـ من منكم رئيساً للمهجع.
لم نجب, لم نكن ندري ونعرف ماذا يعني كلامه. بقينا صامتين, لم نتكلم. ردد الشرطي كلامه مرة ثانية بصوت مضخم وقوي:
ـ قلت لكم, من منكم رئيساً للمهجع. قال صفوان:
ـ لم يعينوا لنا رئيساً للمهجع. لم يعلق الشرطي لكنه قال كلمة واحدة:
ـ أسم مهجعكم.. المستوصف. ثم أردف مرة ثانية: المستوصف! هل حفظتم الأسم يا أولاد القذرة. ثم أضاف:
ـ هل لديكم ماكينة حلاقة. هل أعطوكم ماكينة حلاقة. قلت:
ـ لا.. لا ليس لدينا ماكينة حلاقة. لم نحصل عليها بعد.
مضى الشرطي. غاب مدة قصيرة. ما أن جلسنا على المصطبة مدة قصيرة حتى عاد وخبط مرة أخرى على السطح. قال:
ـ هاتوا البطانية بسرعة يا أولاد الشرمو.. تحركوا بسرعة يا أولاد الوسخة. هل أنتم في مضافة أمهاتكم, اركضوا بسرعة قبل أن أنزل عليكم وأعمل بكم ما لم تسمعوا به. بعد أن جلبنا البطانية. قال بصوته الجهوري:
ـ أفتحوها. رما الماكينة اليدوية عليها ثم مضى قائلاً:
ـ يجب أن تحلقوا الشعر والشوارب والدقن على الصفر. هل فهمتم يا أولاد القحب.. يجب أن تحلقوا كل شيئ اليوم.. قبل أن يودع النهار مواويله. يجب أن أراكم مثل الحقول الجرداء. ضعوا مؤشرالماكينة على الصفر, ليحلق كل واحد منكم الأخر. كنا وقوف بأستعداد تام, رؤوسنا منكسة وجدوعنا منحنية. ثم قال:
ـ أعذر من أنذر.
مضى الشرطي إلى سبيله وتوزعنا على محيط المصطبة للمهجع.
صوت خطوات أقدام الشرطي تطقطق السطح والجدران. تتوزع صوت حركة حذائه سقف المهجع والمهاجع الآخرى. خطوات ذي رنين قوي, فيها خلاخيل السلطة المجلجلة, تطرق الأذن بموسيقاها الصاخبة والكريهة. كل خطوة لها رنينها, مع هذا الرنين قرقعة, تتوزع فراغ المهجع. كنا بدون أرادة منا, نلاحق تنقلاته بأذاننا المفتوحة على وسع.
مشى إلى الزاويا الجنوبية. راح يلقم بارودته أربعة مرات أو خمسة مرات. قال الشرطي متفاخراً وموجهاً كلامه للشرطي الواقف على سطح المهجع الثاني والثلاثين, ثم ألتفت بصوته العالي نحو الشرطي الأخرالواقف على سطح المهجع الثالث والثلاثين:
ـ في جعبتي مئتان وستون طلقة جاهزة للقتل. كان يلقم البارودة ويتكلم. تابع:
كل من تسول له نفسه بالحركة, سأطلق هذه الرصاصات كلها في رأسه. رد الأخر عليه قائلاً:
ـ وأنا أيضاً عندي نفس العدد, بالإضافة إلى الحربة والسكين التي في خاصرتي. لن يفلتوا منا أبداً. يجب أن نكون حذرين منهم.
ـ يقال أن أغلب العناصرالجديدة.. السجناء, في مهجع المستوصف, من الطلاب الجامعيين. متعلمون.. مثقفون. ماذا يعني هذا الكلام. ماذا يعنون بكلمة مثقف. ثم هل هذا صحيح. رد أخر:
ـ من أين سمعت هذا الكلام.
ـ هكذا سمعت الكلام من الأدارة.
ـ ربما كلمة المثقف تعني إنه يعرف أكثرمن غيره.. كلام فارغ! ثم قال:
ـ كانوا يتحدثوا عنهم في مفرزة السجن. يقولوا إنهم درسوا وتعلموا في الجامعة. آه لو يسمحوا لي أن أمرغ قضيبي فيهم. لدي قضيب ربيته على الحمير. منذ أن كنت يافعاً, وأنا أعيش مع الغنم والماعزوسلطان طريقي هو الحمار إلى المراعي. مرات كثيرة أشتهي الحمار, فانكحه في البرية إلى أن طال واستطال وصار أكبر من اللازم. رد الأخر:
ـ لكن قضيبي أكبر من قضيبك. لو تتركهم لي, سأفعل بهم العجائب مثلما فعلته ببغلتنا. لقد ربيت قضيبي على البغال. لهذا لو قسنا الطول, فسيكون طول قضيبي أطول من قضيبك بمرتين أو أكثر.
ثم راحوا يخبطوا على المهاجع بقوة. يرقصون أو يدبكون. يمسك أحدهم صخرة نائمة على السطح, يرفعها إلى الأعلى, ثم يرميها على الطرف الأخرمن السطح, فيرتج المهجع ويزلزل. يقوم بهذه الحركة بطريقة متواترة وسريعة, ثم يسحبها ويحركها, بعدها يقوم بجرها من مكان إلى أخروهي ترتطم بالسطح, فتصرالصخرة صرياً في احتكاكها بالبيتون. الصوت الخشن يكوي الأعصاب ويتلف الخلايا.
نبقى في حدود مكاننا, ننتظربفارغ الصبر, أن ينتهي صاحب المهمة من الأمر, ويصل إلى أطفاء هذه الوهجة الظالمة.
بعد أن ذهب الشرطي إلى محرسه, جلست مرة ثانية على أرض المهجع, أفكر وأتذكر وأقول:
ـ على تخوم النار.. في لحظات الشبق العليا, كنت أرى فرائس الجلاد كيف تغفو بطريقة مسرحية أمام العدسات, الكاميرات المتدفقة. الأضواء المتوهجة, كيف ترصد حركات الجلاد في حله وترحاله. وقفاته الشامخة, كظل أجرد, أوكقرد أملس الوجه والصورة, متأنقاً, ثيابه أكبر من مقاسه. واقفاً بكامل هندامه, يبتسم أمام الأضواء البائرة. واقفاً أومنحنياً بطريقة تمثيلية. يخفي حقده والشررالمتطايرمن عينيه الممتلئة برائحة الدم المكومة على جبينه. يقدم نفسه بتزلف, كأنسان خلوق ومسكين وطيب القلب, خافياً رائحة الفحم المتطاير من حدقتيه. يتصنع البساطة, ويتكلم بحنجرة ماهرة ومراوغة رخيصة عندما يقبل طفلاً.. وجه طفل بريء أوخديه. يعزف على نغماته. يعرف الجلاد كيف يأكل براءة الأطفال, لحم الأطفال, براءة لغتهم العذبة التي تتناسل مع خرير الماء. يضع المساحيق المتنوعة على وجهه الكريه, عندما يكلمهم. لا يتورع هذا الدنيء من استغلال نداء أرواحهم المتدفقة مع نداء الحياة الحنونة.
كنت أرى هذا الحذاء القاسي, هذا الجلاد الشرس, كيف يحرث أنفاسه الوسخة في نسيج وفضاء الطفولة, عندما يطبع بسطاره, جزمته القاسية, يزنرها بقبلة سوداء, يطبوعها على وجوه أطفالنا الملساء الطرية.
مرات كثيرة, رأيته على باب الزنزانة واقفاً, بيده سجلاً كبيراً, وبجانبه على الميمنى والميسرى, مجموعات كبيرة من الأطفال الصغار.
كنت أشاهد كيف يخرج من حزامه هداياه, يقدمها لهؤلاء الأطفال الأبرياء:
لعب وحكايات سوداء.
يضع في عب كل طفل صغير, كبلاً مصنوعاً من حرير, حذائاً عسكرياً خشناً, بارودة من رصاص, مفتاحاً للسلاسل من الذهب الخالص, في مؤخرة السلاسل, أقفال, مفاتيح من الزمرد اللامع, لأحكام الأقفال على أبواب الزنازين.
كان إلى جانبه طاقمه, أتباع وحاشية وخلان, لصوص, قوادين, قطاع الطرق أمام الكاميرات, يصفقون ويهللون, يحرثون الفضاء المفتوح بمواويلهم السوداء المشحون بالقطران. وراء هذه الأبتسامات الخادعة, مرصوفة دموع الأمهات وأحزانهم الحزينة.
لكم مللت من تلك الابتسامات الكريهة لأصحاب النياشين والأوسمة, في يد كل واحد منهم, أدوات متنوعة ومتعددة من أدوات الجلد والتعذيب, مخفية تحت صررهم.
لم يأت الجلاد من قدرعابر.
لقد صنعناه من أطواق أغصاننا المتحجرة. لم يأت إلا من متاهتنا وعماءنا السكوني. فتحنا له كوة في ضلوعنا, في كوة قلوبنا, في ريش رؤوسنا الجرداء.. في خريف الصمت الذي أشعلناه في أرواحنا وأعمارنا. انحنيانا له, ليكبر ويتسلل إلى صدورنا عبر بوابات الخدروالاسترخاء.
ليس للجلاد صديق إلا الدم ورائحة الفطائس العفنة, وتلال مبنية من الهياكل العظمية والجماجم.
بأيدينا فتحنا فمه, أدخلنا فيه القواطع والأنياب الحادة من العاج. رحنا نسلق عبثنا على بيادربقاءه بيننا. بعدها سمحنا لهذه الأنياب الحادة والقواطع الباترة أن تقطع اللحم الطازج المركونة على أجسادنا.
لقد صنعنا صنمنا منا وفينا, وقدسناه. ثم صار قدراً. صنعناه من حطب الدموع ووقفنا نسترق السمع لفض شرايين دمنا.
يتبع






#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول تدمر7
- الرحيل إلى المجهول تدمر 6
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الأخير
- ملكة دول الشمال مارغريتا الجزء الثاني
- ملكة دول الشمال مارغريتا
- الرحيل إلى المجهول تدمر5
- الرحيل إلى المجهول تدمر 4
- الرحيل إلى المجهول تدمر3
- الرحيل إلى المجهول تدمر2
- الرحيل إلى المجهول سجن تدمر1
- الملك السويدي كارل الثاني عشر
- الملكة السويدية كريستينا
- الرحيل إلى المجهول ما بعد النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول النطق بالحكم
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 3
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 2
- الرحيل إلى المجهول محكمة أمن الدولة العليا 1
- الرحيل إلى المجهول العفو
- الرحيل إلى المجهول/قبل العفو
- الرحيل إلى المجهول التحول


المزيد.....




- غرق خيام النازحين على شاطئ دير البلح وخان يونس (فيديو)
- الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة
- 11800 حالة اعتقال في الضفة والقدس منذ 7 أكتوبر الماضي
- كاميرا العالم توثّق معاناة النازحين بالبقاع مع قدوم فصل الشت ...
- خبير قانوني إسرائيلي: مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت ستوسع ال ...
- صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق ...
- أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
- كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ ...
- مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
- ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم ...


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول تدمر 8