النتاج الأدبي هو عصارة التفكير لجملة من الآراء والأفكار عن موضوع ملتبس يشغل تفكير النخبة الأساسية ويعكس تطلعات المجتمع، ويجيب على تساؤلات اجتماعية أو حاجة لتحليل ظاهرة يتوجب تفكيك معطياتها بغية تحديد مسبباتها ونتائجها ومن ثم اقتراح الحل الأمثل لها. والتحليل الذي يمارسه الأديب لظاهرة ما، يعتمد على إلمامه بحجم وعوامل الظاهرة كي يتسنى له الكشف والإجابة عن مسببات حدوثها، ومن ثم النظر بعين فاحصة ودقيقة لاجتثاث مسبباتها السلبية التي تنعكس آثارها على الواقع الاجتماعي.
والحلول والنتائج المطروحة ليس بالضرورة (جميعها ) أن تكون صالحة للتطبيق على الصعيد الواقع، وهذا الأمر يتعلق بقدرة الأديب على الإحاطة بجميع مكونات الظاهرة الاجتماعية. وتلك النتائج والحلول معرضة للنقاش والانتقاد بغية تصويبها أو رفضها، وتتم هذه العملية وفقاً لآليات ومقايس يستخدمها الناقد لإعادة صياغة الحلول والنتائج أو تفنيدها. وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن آراء الناقد ليست (هي الأخرى) بالضرورة صحيحة ودقيقة.
الأديب والنتاج الأدبي:
هناك التباس شائك لم ينتهِ الناقش منه في الوسط الأدبي منذ عقود ولغاية الآن، متعلق بالأديب والنتاج الأدبي. فهنالك من يجد أن النتاج الأدبي هو انعكاس لمشاعر وأحاسيس الأديب الداخلية، لذا فالحكم على النتاج الأدبي لا يأتي بمعزل عن موقف الأديب. فالمعادلة لا تقبل التأويل، فالأدب الإنساني يعكس التزام الأديب بقيم ثنائية الخير أو الشر. ونجد أن هذه الإشكالية، يمكن النظر إليها من أربعة أوجه:
1-الأديب الذي ينحاز إلى قيم الشر، لا قيمة لنتاجه الأدبي، فالعوامل التي تدخل طرفي المعادلة الأدبية لثنائية الشر أو الخير يجب أن تكون متوازنة وتحمل نفس المقايس والدلالات كي تكون النتائج صحيحة. بمعنى آخر، إن موقف الأديب الإنساني يجب أن ينعكس على إنتاجه الأدبي، ويلقي بظلاله على نتاجه الذي بالضرورة أن يكون ذات منحاً إنساني. والأديب الذي ينحاز لقيم الشر، بالضرورة أن ينهل من ذات القيم لنتاجه الأدبي.
2-ويجد البعض أنه ليس هنالك علاقة بين موقف الأديب ونتاجه الأدبي، فقد يكون الأديب انتهازياً ولكن نتاجه الأدبي يلتقي بالنتيجة مع الأدب الإنساني.
3-وهناك رأي ثالث، يجد أن التقييم لموقف الأديب ونتاجه يجب أن لا يكون انتقائياً. كأن يأخذ نتاجاً أدبياً من نتاجات الأديب ويتم الحكم على موقف الأديب من كونه مع قيم الشر أو الخير، فالتقييم الصحيح يتطلب مناقشة كامل النتاجات الأدبية للأديب ومن ثم إصدار الحكم المطلق على موقف الأديب.
وبهذا الصدد، نجد هناك العديد من الشعراء العرب لديهم من القصائد الإنسانية والمعبرة عن حاجات المجتمع، لكنهم بذات الوقت لديهم قصائد مديح للسلاطين. ونجد منهم الشاعر ((نزار القباني)) الذي ينضح شعره بالمشاعر الإنسانية، لكن إحدى قصائده (للأسف) جاءت في مدح طاغية العراق الهارب من وجه العدالة. وتطرح تلك القصيدة تساؤل كبير عن صدق مشاعر الشاعر الإنسانية، وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر ((عبد الوهاب البياتي)) الذي هادن النظام المباد ومن ثم كفر عن مواقفه السابقة قبل رحيله إلى مثواه الأخير. ويلخص ((المتنبي)) الموقف الإنساني للأديب بقوله: عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود.
4-والرأي الرابع، يدعو إلى ضرورة الفصل بين موقف الأديب ونتاجه الأدبي، وبالتالي يتعين النظر لقيمة النتاج الأدبي ومواصفاته وتطابقه مع المقايس المعتمدة وبعيداً عن موقف الأديب من ثنائية الشر والخير.
اعتقد أن الربط الجدلي بين موقف الأديب ونتاجه الأدبي في ظل انعدام الديمقراطية في الوطن العربي فيه شي من (القسوة)، بالرغم من ميلي إلى جانب هذا الربط من الناحية السيكولوجية كونه يعكس حالة التذبذب وعدم التوافق مع الذات لدى الأديب حين يكون سلوكه مغاير لنتاجه الأدبي، والحالة السوية للإنسان الطبيعي تتطلب التوافق والتوازن في السلوك والطرح.
وأن اعتماد مبدأ الربط الجدلي بين موقف الأديب ونتاجه الأدبي في الأجواء الديمقراطية، مبدأً يجب اعتماده لكن في الأجواء العربية التي تعاني من انعدام الحرية يتوجب الأخذ بمبدأ الحكم على كامل النتاجات الأدبية لتقييم موقف الأديب وعدم اعتماد مبدأ انتقائية النتاج بغرض التعريض بالأديب، وهذه ليست دعوة لتبرير المواقف الانتهازية للأدباء العرب!!.
كما لا أجد أن مبدأ الفصل الكامل بين موقف الأديب ونتاجه الأدبي منصفاً للمواقف الإنسانية وللأدباء المناهضين لقيم الشر اللذين ضحوا بالكثير من أجل الدفاع عن القيم الإنسانية. فالشاعر ((عبد الرزاق عبد الواحد)) وغيره ممن نصبوا أنفسهم ملوكاً للشعر الذي يخدم الطغاة والفاشيين وطبل للنظام المباد لأخر يوم من سقوطه، يتوجب تقديمهم للمحاكمة بتهمة الخيانة والتنظير لقيم الشر وعلى حساب حياة زملائهم من الشعراء وأرواح ملايين من الناس. ويجد ((دانتي)) أن كثيرين ممن يحسبون أنفسهم في الدنيا ملوكاً عظاماً، سوف يغمرون في الجحيم كالخنازير في الوحل تاركين وراءهم الاحتقار الشنيع..وإن وديان وخنادق الشر مقراً لمرتكبي الخيانة، واحتوى كل وادٍ أو خندق على طائفة من الخونة لقى به كل منهم العذاب الملائم.
الناقد والنقد الأدبي:
يحتكم الناقد لجملة من المقايس (التقليدية) للتعامل مع النتاج الأدبي، فعند خروج الأديب عن تلك المقايس (بحجة) التحرر من القديم ومناهضة التقليدين يقع في شبكة صيد الناقد الذي يجد في هذا الخروج، تجاوزاً على المقايس والأعراف التقليدية للنتاج الأدبي.
فالأدب بنظر الناقد هو تفسير واستخراج المعاني وعناصر الأدب هي: العاطفة والمعنى والأسلوب والخيال. وأي معيار آخر يتخذه الأديب بحجة (التجديد والذوق) يعد خروجاً عن تلك المقايس لذا يستحق النقد!!.
ويجد الناقد الفرنسي ((نيزار)) بأن المهمة الحقة للنقد هي أن يحرر الأدب من النظرية الخاطئة القائلة: بأن الذوق يجب أن يناقش فيه.
وعلى وجه العموم، هنالك مهمتان للنقد هي: التفسير والحكم حيث يجد ((أحمد أمين)) بأن الناقد يميل إلى مهاجمة الابتكار الذي يدعو إليه الأديب المتحرر من القيود ما أمكن، يسير حسب ذوقه ما أمكن، والنقاد يتبعون غالباً قواعد متجمدة غير مرنة يردون أن يطبقوها ولا يخرجوا عنها. وعليه فالنقد الأدبي يخضع لعدة علوم أساسية أهمها: علم النفس والأخلاق والجمال والاجتماع ويخضع أيضاً لعدة غرائز منها حب الاستطلاع وحب الذات.
وهناك فرق كبير بين وظيفة العالم ووظيفة الأديب، فالعالم يسعى لتسليط الضوء على مسببات الظواهر وآليات حركتها وتعاطيها مع الظواهر الأخرى. في حين أن وظيفة الأديب تكمن في الكشف عن العلاقات الخفية للظاهرة وعلاقتها بالكائنات الاجتماعية خاصة منها مسار العاطفة ومعانيها وأسلوبها وجنح الخيال الذي يؤطرها.
وبهذا فأن النتائج العلمية قد تتغير مع الزمن، ولكن النتائج الأدبية تبقى ذاتها منذ القدم وإلى المستقبل. فالعاطفة والخيال والحب والأحاسيس الأخرى كلها ظواهر (لا تتأثر) بعامل الزمن من حيث إطارها العام، لكن ذاك التأثير (قد) يلاحظ (بشكل غير ملموس) على تأثيرها الاجتماعي نتيجة طغيان عوامل التجديد على مكونات المجتمع بفعل الزمن.
ويجد ((مارسيل بروست)) بأن الفلاسفة الذين لم يفلحوا في إيجاد ما هو واقعي ومستقل عن كل علم في الفن مضطرون أن يتصورا الفن والنقد مماثلان للعلوم، حيث يكون السابق بالضرورة أقل تقدماً من اللاحق، غير أنه في الفن لا يوجد (على الأقل بالمعنى العلمي) مبتدئ أو سابق أو لاحق..فعلى الكاتب العبقري أن يعمل اليوم كل شيء ولا يعتبر نفسه متقدماً على ((هوميروس)).
وهناك شروط عديدة يجب أن يتحلى بها الناقد عند تناوله للنتاج الأدبي كي تصنف مقالته ضمن مواصفات المقالة الأدبية النقدية، ومن أهم تلك المواصفات حسب رأي ((أحمد أمين)):
1-أن تكون محددة الموضوع، وأن قصرها لا يسمح لكاتبها بالتخبط والخروج عن الموضع والكلام المبهم عن الرجال وأعمالهم أو عرض المشاكل دون محاولة حلها. ولا يستطيع أحد أن يكتب في اختصار إلا إذا كانت أحكامه محدودة يستطيع أن يعبر عنها بوضوح.
2-ويجب أن يكون الناقد متعاطفاً مع من ينقده فيتجاهل أحقاده وحزازاته، وأن يسمح بأقصى ما يستطيع بالدافع الطيب والخلق السامي، وأن يسعى في أن يحب من يكتب عنه.
3-ويجب عليه أن يكتب طبقاً لمبادئ لا لمجرد الهوى، فالنقد الأدبي الذي يمليه الهوى الشخصي والكره الذاتي هو نوع وضيع من النقد. فعلى الناقد أن يكون عالماً بالمثل العليا في الفكرة والعاطفة والأسلوب قبل أن يتعرض بالنقد لأي فكرة أو عاطفة أو أسلوب.
4-وعلى الناقد أن يكون عادلاً تمام العدل، واسع الصدر أمام التجديد. والتجديد ليس ضرورياً أن يكون استكشافاً لمعنى جديد، بل هو أيضاً تعبير صادق عن ذاتية الكاتب وشخصيته. فعلى الناقد أن يعترف بهذه الشخصية الخاصة.
المنهج الكلاسيكي والتجددي للنقد:
يدعو المنهج الكلاسيكي إلى مبادئ عديدة منها (ليس كل ما يعرف يقال؛ والفن للفن..وغيرها) وبالتالي فأن النقد يجب أن يصب على المادة الأدبية دون الأديب، والمادة الأدبية التي لا تخضع للقواعد والأصول لا تصنف من ضمن الأرشيف الأدبي. وعليه فأن النقد يتحلى بجملة من المقايس تسلط على المادة الأدبية، فأن توافقت معها يصح العمل النقدي معها وإلا فيتوجب إهمالها. وهذه المقايس، تعتبر (مقدسة) ولا يمكن المساس بها ولا تعترف بالتجديد الذي فرض مقايس جديدة على النقد ورفض العديد من المقايس الكلاسيكية.
في حين نجد أن المنهج التجديدي، لا يعترف بالقداسة لأي شيء سوءً للأديب أو مادته الأدبية أو الفكر أو ورجالات السياسية. والنقد يجب إن يطال الجميع، كونه يكشف عن الآراء السديدة ويعري السلوك الشائن وبالتالي فهو دعوة لرفض القداسة كونها تحد من الحرية. ويجد ((مايتو آرنولد)) إن مهمة النقد، أنما هي أن يستكشف الآراء التي يجب أن يتأسس عليها الأدب الإنساني، والنقد هو محاولة لمعرفة أحسن المعارف والأفكار في العالم.
ويرفض المنهج التجديدي الهياكل الجامدة ويطالب بهدمها، ويجد أن المقايس الجديدة يجب أن تخضع لأساس العمل والنظر إلى الأصل باعتباره مقياس العمل وليس العمل مقياساً للأصل.
ويعبر عن ذلك ((فكتور هيجو)) بقوله: لا تهتم قط بالمنهج الذي استخدم، بل أسال فقط كيف استخدم هذا المنهج، ليس هناك من موضوعات جيدة وموضوعات رديئة في الشعر ، بل هناك شاعر جيد وشاعر رديء. وكل شيء يصلح أن يكون موضوعاً، افحص (كيف) عمل الفنان، ولا (لماذا؟) عمل. الفن لا يعترف بالقيود والأغلال وسُدادات الفم والعلامات المرشدة إلى الطريق، بل أن يذهب كما يجب (وإن يعتقد كما يجب) وأن يفعل كما يجب فالنوع والقصة، والزمن، والمنهج كلها حسب ما يختاره الشخص.
والدعوة الأهم في النهج التجديدي، هو الإطاحة بالقداسة للأشخاص والأفكار والأحزاب وتبني مقايس القيم الإنسانية في التعامل مع الجميع ولا أحد خارج حدود النقد فمن يتجاوز على القيم الإنسانية (كائن ما يكون) معرض للنقد. فالأقنعة والهالات والألقاب التي يختفي وراءها البشر هي في الحقيقة حواجز تخفي مساوئهم الحقيقة التي لا يرغبون أن يطلع الناس عليها.
ويجد كل من ((برنارد شو)) و ((سومرت)) يجب إزالة القناع البراق الذي يخفون (البشر) به مساوئهم الحقيقة: إنه لا يوجد من يتحلى بالإنسانية الرفيعة المثالية، لذا يتوجب الكشف عن الدناءات النفسية للبشر أمام أولئك المخدوعين اللذين يؤمنون بالمُثل والأحلام. وإن رفض مبدأ استغلال الإنسان لإنسان آخر، هو الانحياز الكامل نحو الحرية والعدالة الاجتماعية.
وإن الكشف عن المساوئ الشخصية للأشخاص والأحزاب والأفكار، هو السعي نحو تشذيب هؤلاء من براثن الشر المتمثلة بالتعالي والاستغلال للبشر . وإن اللذين يعلنون رفض المساس بالشخصيات والأحزاب والأفكار باعتبارها موضوعات مقدسة، هم اللذين يعطلون مسارات التطور والتقدم للشعوب وهم عبدة الهالات المقدسة من وكلاء الشياطين وصانعي الخنوع والإذلال ولا يستحقون سوى الجحيم.
ويجد ((برنارد شو)) بأن ما يسخط الناس اليوم لأنه سابق لتفكيرهم، سيرضيهم غداً حين تنضج أفكارهم ويدركوا الأمور على وضعها الصحيح.
ستوكهولم بتاريخ 16/11/2003.