في ظل التحديات التي تواجهها امتنا في اعقاب انفلات مشروع السيطرة الامريكي الصهيوني الجديد على كل مقدراتها والذي بدأ باحتلال العراق ، وفي ظل الحاجة الملحة لإعادة صياغة مقومات المواجهة القومية الشاملة لصد هذا العدوان النوعي الجديد والدفاع عن ثوابت الامة بصيانة هويتها وثقافتها ووحدة أراضيها واستقلالها وسيادتها وثرواتها ، وفي ظل ارتفاع وتيرة الحرب الصهيونية العنصرية على شعبنا بعد ان صعد شارون كرأس للهرم السياسي في دولة الكيان الصهيوني مضاعفا قوته وممتلكا خيارات مفتوحة لإدارة معركته ضد شعبنا ، هذه الفرص التي تكاملت مع الظروف النوعية الجديدة باحتلال امريكا للعراق وهيئته لرفع سقف برنامج هجومه لتحقيق انتصارات نوعية استراتيجية ، بتثبيت ثوابت الحل السياسي الصهيوني للقضية الفلسطينية المرتكز على شطب حق العودة وتكريس الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وتعزيز إنجازات احتلال حزيران 1967 ، هذه الثوابت شكلت شعارت اشتراطية لاستعداد حكومته لتحريك المسار السياسي التفاوضي على أساس خارطة الطريق ، في هذا المناخ الذي تتداخل فيه عناصر الارتباك مع مقومات القوة الكامنة بمظاهرها الملموسة تصاعد المقاومة في العراق كما ونوعا واستمرار المقاومة والصمود الفلسطيني، خرج علينا أصحاب وثيقة جنيف بمسودة اتفاق سياسي تناول القضايا الجوهرية في الصراع العربي الفلسطيني الصهيوني اطلقوا عليه ( مسودة اتفاقية للوضع الدائم ) .
وفي قراءتنا لهذه الوثيقة يمكننا القول ان ابسط ما يمكن ان يوصف به هذا المشروع بانه عبث غير مسؤول وغير مسموح به ويتعدى حدود الاجتهاد المشروع الذي يحتمل ان يقبل الخطأ او الصواب او الإلغاء او التعديل . فهي اول وثيقة فلسطينية خول فيها موقعيها ومن وقف ورائهم أنفسهم بحق التنازل عن ثوابت الشرعية الدولية والقومية والوطنية في الصراع التاريخي مع المشروع الصهيوني ، اذا فهو ليس شكل للحركة السياسية الميدانية لإحراز تقدم تكتيكي على المسار التفاوضي بل سعي لوضع النقاط على حروف مبادئ جوهرية في هذا الصراع وتحديد الاسس التي يجب ان تقوم عليها المصالحة التاريخية بين شعبنا وامتنا والمستوطنين في فلسطين ، لقد تناول الاتفاق مسألتين يشكلان جوهر القضية الوطنية والصراع ، حق العودة ، وماهية دولة إسرائيل ، مضافا اليها الاستقلال والسيادة، فتعاملوا مع حق العودة والقرار الدولي 194 الذي كفل لشعبنا هذا الحق بخفة سياسية هبطت عن سقف التفسير القانوني الدولي لنصوص القرار، هذا التفسير الذي يعطي شعبنا حقا جماعيا وفرديا بالعودة الى دياره واصبحت الخيارات المطروحة على شعبنا والتي تترجم هذا الحق تقبل كل شيء الا العودة الى الوطن التي جاءت الصياغة بشأنها لتخرجها من إطار حق الاختيار وتضعها في إطار المبادرات الإنسانية التي يمكن للعدو ان يسمح بها وينزعه من مضمونه الحقوقي القانوني ، ومن الطبيعي ان التبرع بهذا التنازل الجوهري قد ثبت موضوعيا السعي الصهيوني لتكريس الاعتراف الدولي بإسرائيل كدولة لليهود الأمر الذي لا يغلق الطريق امام حق العودة وحسب بل ويرسم ألف سؤال حول مستقبل اكثر من مليون وربع من جماهير شعبنا ظلوا صامدين ومرابطين في فلسطين المحتلة عام 1948 ودفعوا لتثبيت هويتهم القومية والوطنية وحقوقهم تضحيات ودماء زكية ولا زالوا متخندقين في مواجهة كل الاشكال النوعية المتصاعدة للهجوم العنصري الصهيوني على هويتهم ووجودهم .
واذا كان حق العودة كجوهر للقضية الفلسطينية لا يقبل التأويل او السقوط بالتقادم ومؤسسا على خيار العودة كثابت رئيسي وهو كذلك في نص القرار الدولي 194، فهو بهذا المعنى وفي اطار الثوابت الوطنية والقومية الجسر الوحيد للمصالحة التاريخية بين المستوطنين في فلسطين وجماهير شعبنا وامتنا ، والتنازل عن هذا الحق يعني نسف هذا الجسر والقبول بمصالحة على اساس كل حقائق وثوابت المشروع الصهيوني ، واغلاق الباب امام أي فرصة لحل ديمقراطي شامل مبني على حقائق الصراع التاريخي العربي الصهيوني ولا يقفز عنها ويمكن ان يسمى دائما لأنه ينهي أسباب الصراع، كما حصل في جنوب أفريقيا او زمبابوي كنماذج متشابة ومتقاطعة مع المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين . ومن الطبيعي أيضا ان يقود هذا التنازل النوعي الى سحب نفسة على كل قضايا الصراع الجوهرية فعلى صعيد السيادة جاءت نصوص الاتفاق لتقزم مضمون القانون الدولي الذي يجيز لشعبنا كل الحقوق المرتبطة بسيادتة الدولية المستقلة بدءً من حقها في تحديد علاقتها الخارجية السياسية والثقافية والدبلوماسية مرورا بحق التسليح للدفاع عن النفس او رفض أي وجود اجنبي لاي دولة كانت على أراضيها او معابرها الحدودية فجاء تهافت اصحاب وثيقة جنيف بالموافقة على كل الشروط الصهيونية ليحول الدولة الفلسطينية التي نص عليها الاتفاق الى مجرد محمية اسرائيلية منقوصة السيادة لا تملك سوى رموز الاستقلال وتفتقد لاي مضمون سيادي حقيقي ، وبالعودة للنصوص وتدقيقها يمكن التأكد من ذلك ، وبهذا التنازل الجوهري الثاني نكون قد شرعنا كل ادعاءات الكيان الصهيوني لحربه على شعبنا تحت مسميات الدفاع عن النفس أمام (الارهاب الفلسطيني والعربي ) على مدار سنوات وجودة وحتى اللحظة فكل القيود التي تضمنها المشروع وقبلها فريق الوثيقة لا تفرض الا على طرف معتدي هزم ووقع وثيقة استسلام .
الحقيقة الثالية : تناولت الوثيقة موضوع الحدود وسطحته في حدود النسب الرقمية بدون حسابات فلسطينية للمصالح الجوهرية لشعبنا فالتبادل الذي فرضته اسرائيل للاراضي حقق لها الاهداف التي اريد للمستوطنات ان تحققها كثمرة لاحتلالها باقي الاراضي الفلسطينية عام 1967 وبهذا تكون اسرائيل قد انسحبت اذا تم ذلك الى الحدود التي تريدها بعد الرابع من حزيزان وليس الى تلك التي يجب ان تنسحب اليها، بكل ما تعني هذه الحقيقة التي اسقطت ايضا ان موضوع انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي التي احتلتها في حزيران 67 يؤسس في المشروع الوطني الفلسطيني اساسا لتسوية وليس لاتفاق نهائي ومصالحة تاريخية مع الكيان الصهيوني اذا لم يرتبط ذلك بتنفيذ حق العودة لشعبنا ، لكن ما دام الجوهر قد تم نسفة والتنازل عنه فالتنازل عن جوانب في الفروع سيكون تحصيل حاصل ، وهنا أتساءل اذا كان فريق اتفاق جنيف جهد للتوصل لاتفاق نهائي ومصالحه تاريخية دائمة وليس تسوية مؤقتة لفض اشتباك لماذا لا يبنيها على اساس حقائق الصراع الموضوعية وليس على الحقائق التي ارادت اسرائيل تكريسها بالقوة على الأرض، الم يكن هناك نماذج دولية يمكن ان يحتذى بها لإيجاد اطار مفاهيمي للحل ديمقراطي جذري غير التنازل عن الحقوق .
وفي موضوع القدس وحل قضايا الخلاف ما يثبت أركان الهزيمة التي قبلها الموقعون وخرجوا لتعميم نتائجها كانجازات وتحقيقا للثوابت الوطنية الفلسطينية . والى جانب هذه التنازلات الاستراتيجية الجوهرية هناك تنازلا لا يقل عنها اهمية وهو المكاسب التي قدمها الاتفاق لإسرائيل بوصفها الشريك الأساسي العملي في مشروع الشرق الاوسط الجديد للهيمنه على العالم العربي عبر احتلال هذا التحالف للعراق وسعيه لإجهاض المقاومة الفلسطينية عبر خارطة الطريق ونكون بذلك قد اسقطنا موضوعيا الوظيفة الامبريالية للدولة الصهيوينة وعززنا دورها بصك للمصالحة التاريخية وبهذا تكون حسابات هذا الفريق ادنى من قطرية بل انانية شخصية ضيقة اسقطت حقيقة موقع دور شعبنا وتأثيره في معادلات المجابهة القومية الشاملة التي تراكم لتأسيس مشروع نهضوي شامل يشكل زاوية الدفاع عن مصالح الامة وكيانها وهويتها .
وعلى الصعيد التكتيكي جاءت الوثيقة لتعيد انتاج نفس المنهج المهزوم الذي اثبت عقمه طيله فترة مفوضات مدريد اوسلو والذي تركز على توظيف اسهم قضيتنا في بورصة التناقضات الداخلية الصهيونية وعبر صندوق حزب العمل كفاعل ومقرر في مجموعة العمل الصهيونية ، هذا التكتيك الذي اقتضى تجميد تنفيذ اتفاق الخليل عام 1996 لدعم حملة بيرس الانتخابية فخلفة نتنياهو ليعدل هذا الاتفاق للاسوء ، وكذلك تمديد المرحلة الانتقالية في 4ايار 1999 عشية انتهائها زمنيا دعما لحملة بارك الانتخابية ضد نتنياهو كفارس سلام منتظر ، وجاءت النتيجة ان استطاع الاخير تعديل اتفاق الواي ريفر وتقييد أيدي الفريق الفلسطيني بالربط بين اتفاق الاطار الدائم وتنفيذ قرارات الواي ريفر لاعادة الانتشار للنبضة الثالثة ، وادار معركة تفاوضية استطاع من خلالها ان يخرج اسرائيل من عزلنتها الدولية التي وضعتها فيها سياسية نتنياهو خلال حقبة ولايته ، وفتح الحرب على شعبنا وتأهيل شارون لقيادة الحكومة الصهيوينة كمنقذ ومهدي منتظر لتحقيق الأمن للاحتلال ومشروعة الاستيطاني . وهذه المره أيضا نقدم اوراق مجانية دون أي ضمانات لإمكانية تطبيقها ليس فقط من باب فرص الشريك في الاتفاق على الصعود للهرم السياسي في إسرائيل بل ومدى قدرته ورغبته بتنفيذ ما وقع عليه تبعا للوحة القوى التي ستشكلها نتائج الانتخابات ، وبهذا يكون هذا الفريق قد قدم لشارون مجانا ما يحاول فرضة على شعبنا التنازل عن حق العودة والاعتراف باسرائيل دولة يهودية وعلى خشب صليب كنيسة الحي الارمني في القدس القديمة .
اما الخطورة الاكثر اهمية ولها انعكاساتها المباشرة على الوضع الداخلي المأزوم الذي يحتاج الى إعادة ترميم وبناء على اساس رؤية منهجية سياسية متوافق عليها، ومؤسسات ديمقراطية تكرس العقل الجماعي يتمخض عنها مرجعية سياسية عليا وموحدة لشعبنا تقود نضاله وتدير معركته بعيدا عن العفوية والارتجال، فجاء نشاط اصحاب الوثيقة كشكل لممارسة الفوضى السياسية في ظل وضع مضطرب يضرب بعرض الحائط ليس فقط كل الدعوات للتأسيس للخروج من هذه الحالة ، بل وكل دعوات اصحاب السلطة بمن فيهم موقعوا الاتفاق لصيانة واحترام المرجعيات الشرعية لشعبنا وقراراتها وقوانينها التي طالما تشدق بها انفار من هذا الفريق، وهذا يلزم قيادة اللجنة التنفيذية والمؤسسات التي ينتمي اليها هذا الفريق لوضعهم امام المسائلة والمحاسبة ، وفي المقدمة منها اللجنة التنفيذية فالرئيس عرفات بوصفة رئيسا لها يجب ان يطرح هذه المسائلة لياسر عبد ربه في اطارها، ويجب ان يتحمل مسؤولياته كما يجب وان تصدر هذه المؤسسة القيادية موقفا واضحا برفض هذا الاتفاق . حتى نستطيع ان نؤسس بالافعال لابالاقوال لمنهج اداري قيادي فلسطيني مبني على نظام المؤسسة الديمقراطية الجماعية والنجاح في وقف إشكال الفوضى والارتجال والعفوية .