ومن بين تراكمات هذا المجتمع تطل ايضاً شرائح المجتمع الفلسطيني , الباقي في وطنه رغم انفهم ..! فتمثل شقاً منه بسائق الحافلة (الباص) , وهو صاحب المنصب الاداري المتهادن والعميل والخائن والمتآمر والسمسار, ذلك الذي اداه بصدق رائع الفنان محمود عكاشة من طمرة .. لقد لعب الفنان عكاشة دوره بجرأة وانعكاس رائع, يبعث على الاطمئنان والامل في اندفاع الحركة المسرحية الفلسطينية المحلية, الى افاق مستقبلية اسوة باحسن الحركات المسرحية العربية .. ان لم تكن احسنها..! كما جاء شقه الآخر بدور امل قيس الرائعة , والتي اثبتت نظرية الاخراج الحقيقي .. بان ليس هناك ممثل سيء انما هناك مخرج قادر على ان يعطي الممثل امكانية ان يكون جيداً بما يثبت قدرته على العطاء ..!! فحملت على كاهلها الغض نموذج الفلسطينيين القابعين فوق ترابهم الوطني, بحكم تمسكهم بالعيش بكرامة وعزة وطنية وانسانية في وجه كل التحديات .. رغم قلتهم في هذا الزمان .!! اثبتت امل قيس ذلك من خلال تجرعها لشخصية الانثى التي تبحث عن اجمل ما في الحياة .. وهو ان تعيش الحياة!! وان واقع هذه الارض التي نمكلها, يمكنها ان تكون لنا وللآخرين! وسماء تكون للآخرين ولنا ايضاً ..! شرط العمل على تصحيح الظلم الذي لحق بكافة قطاعات الشعب الفلسطني على امتداد مائة عام.
بداية المشهد .. هي بداية المأساة ! فشعبنا الفلسطيني المعثر , والرازح تحت نير الابادة والقتل من ناحية , والتآمر الدولي والعربي من ناحية اخرى .. يمارس لغة التحدي الفطري والعفوي للانسان .!! وذلك بالتزاوج والانجاب والعمل .. كوسيلة للمحافظة على البقاء, كي تستمر الحياة ..! وهي الوسيلة المنبثقة من الارض لتعود اليها .. في انصهار عجيب بين الانسان والمكان .!! بين الجبن والبطولة .!
خامساً :
تناقلت لوحات العمل المسرحي .. بالوانها الواضحة والجريئة حيناً .. والمستلقية تحت ظلال العتمة بعض حين !! كحالة من التعامل مع مرور الزمن .. والزمن يراوح لا يبرح المكان !! فتلك الكلمات الصارخة ببذائتها والتي يمكنها لبعض لحظة ان تخدش الحياء .. ومشهدية التعري القصري بالحديد والنار, تلك التي تعرض لها ابا مختار (مروان عوكل) على يد جند الاحتلال , لتظهر امامنا بعريها على يدي ولده مختار (جواد عبد الغني) .. كأنها تريد ان تذكرنا اننا نشارك في صنع ماستنا .. الا ان مشهدية هذه اللحظة التي يتعرض لها الانسان الفلسطيني , في رحاب زمن ما بعد الحداثة والعولمة المتبجحة بكذبتها الامبرايالية عن حرية وكرامة الانسان .. ما هي الا الصوت الصارخ تحدياً لكل مهانة ومذلة وخنوع واستجداء .. ما هي الا الصوت الصارخ في وجه الموت اذاناً بالحياة .. وهي بذات السياق تعيد اليّ صراخ شاعر الغضب العربي مظفر النواب حين قال : " القدس عروس عروبتكم .. اهلاً اهلاً !! فلماذا ادخلتم كل زناة الليل الى حجرتها ؟!! ووقفتم خلف الابواب لتسترقون السمع .. الى صرخات بكارتها .. وسحبهم كل خناجركم .. وتنافختم شرفاً .. وصرختم فيها ان تسكت صوناً للعرض .. فما اشرفكم اولاد القحبة .. هل تسكت مغتصبة .؟؟!! "
في هذا يا مروان عوكل يا ابن بلدي .. الذي لم اكتشف منذ عمر فيك اي شيء !! فإذ انت هنا ممثلاً قادراً وقدير في دور ابا مختار, الذي يبدوا تماثلك الروحي والجسدي فيه اكثر بكثير من دورك في ممارسة مهنة شرطي .. تلك التي يتحول المرء فيها الى اداة او ربما الى حثالة بشر, تنفذ مشروع الاغتصاب العلني للكرامة والشرف والانسان , كقديد من تراب له صفات التماسيح في هيئة البشر .!! واعتقد بعد هذا يا مروان انه يتوجب عليك ان تعمل كممثل على خشبة المسرح الذي هو عالمك وفضائك الجميل .. فبعد ان حاولت اداء دور الكومبارس في انتخابات بلدية شفاعمرو وسقطت مدرجاً بالفشل .. عليك ان تتنبه بعد هذه التجربة ان التاريخ لا يرحم !!!
اما الممثل جواد عبد الغني (مختار) فقد كان صورة عن التشتت والضياع الذهني والاجتماعي الذي يتعرض له الانسان الفلسطيني , وهو الحالة التي تؤدي الى درب بلا مصير بلا مستقبل بلا حياة .. حتى تتحالف كل الظروف والمعطيات لولادة منتحر آخر .. الا ان مشهد اللعب الذي كان عبارة عن لعب الورق (شدة) .. تحول لدى فؤاد عوض الى تلقائية اللعب بادوات الاطفال التي يحولها الاحتلال الى ادوات موت, لتصبح بمجملها عنصراً اساسياً في انتاج واستعداد افواج اخرى لاجل تنفيذ اعمال انتحارية كهذه .. نفس النتيجة وبنفس السياق , الا ان الطرح والادوات بين ما كتبه ايمن اغبارية وما اخرجه فؤاد عوض كان مختلفاً ..! وفي هذه النقطة بالذات اعتقد ان هذه الصورة العبثية ساهمت في انبعاث الصورة الحقيقية التي يبثها واقع الاحتلال .!! الا انه لو صبغت الوان الماء المتراشق من اسلحة العاب الاطفال فيما بينهما , باللون الاحمر .. لكان للمشهد اكثر من بُعد واكثر من تراكم حسي في نفس المتلقي والمشاهد .
سادساً :
يعيدنا مشهد الانتظار والبحث عن (مختار) .. الى ذلك القلق الجارح والخوف من ضياع العمر وحلم الوالدين بزهور اعمارهم.. والى التماثل والتواصل مع ابناء شعبنا الفلسطيني الرزح تحت الاحتلال, والذي يضطر الى التفاخر بالشهادة كعنصر من عناصر اليقظة والحفاظ على الروح المعنوية العالية, في ظل حرب معنوية عاتية تحرق اعصاب البشر .. ولاسنتباط الكثير من قوة التحدي والتصدي لعدو مجرم لا يعرف اي معنى للرحمة او للحياة .. ولكن الخوف من الخبر سمر والدي هذا الباحث عن هرب من هزيمته, اكثر من كونه منتحر يبحث عن الشهادة .!! وعن الحوريات العاريات السافرات الساحرات المنتظرات له في رحاب
الجنة .!! هذا الخوف على مصير الصبي منع اي من والديه الاقتراب من مفتاح المذياع لسماع اي خبر عنه .. عن ابنهم (مختار) ..!
وموسيقى الراب والكلمات اذاناً بمشهد آخر .. وهنا تتعرى كل الحقاق .. وتبدوا قمة عطاء الطاقم بكل من فيه دون استثناء .. تحس بوتيرة ارتفاع التقدم نحوا النهاية الحتمية .. لصراع ليس لك عليه سلطة بقدرما يحمل من سلطة عليك ..!! تتدافع تناقضات اللون والخطوط والحركة لتنقلك الى مختبر يعري كافة خيوط الجريمة .. وتنهار امامك لحظة بعد لحظة المسلمات والاخلاقيات الكاذبة والمبادئ التي يتباهى بها جيوش الطرفين .. تسقط كلها مدرجة بدمائها امام الحقيقة المطلقة .. لصراع لم ينتهي بعد .!!
سابعاً :
في خضم هذا التقاطع للاحداث والاسماء والمشاهد .. لم ينسى فؤاد عوض ان تمر سحابة ذاكرة .. لن تمحى من الذاكرة !! فاذا بثلاثة عشرة شمعة مضيئة تخترق مسامات العتمة, لتدخل الى رحاب المكان بصمت اصدق من البكاء ..!
جاءت كصوت فيروز يرسل تراتيله المقدسة لاناس سقطوا دفاعاً عن بقائنا, وبقاء حياتنا هنا في هذا الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه .!! حُمِلت بين الكفين ككتاب صلوات او كأنها عصفور جريح نخاف عليه من ثقل يدينا .. ووللحظات فقط!! الا انها كانت كافية حقاً للتذكير بشهداء تشرين 2000 .. دون نواح ودون كلمات وقصائد .. ودون اي بلاغ سياسي يعلن عن موسم للذكرى كل عام .!!
هذا هو الصمت الاعمق من الصراخ .. والاصدق ايضاً .!! الا ان نهاية التعامل مع تلك الشموع جاءت بنوع من الهروب منها .. او انها نوع من طقس مقدس انقطع قبل اتمام تراتيله ! كنت اتمنى لو ان هذه الشموع اصطفت في مقدمة خشبة المسرح لتبقى حتى تنطفئ لوحدها .. او علها لا تنطفئ حتى نهاية المسرحية او نهاية المشهد الذي جاء بها .!! الا ان مكان العرض هنا لا يسمح لاي من هذه الاحتمالات , فماتت الشموع كقصيدة مذبوحة على مقصلة الزمن .
ثامناً
هناك مشهد في مرحلة بداية الرحلة من تل ابيب الى الناصرة .. ورقصةالممثلين جميعاً وتقاطع المسارات التي شكلت بناء الحافلة (الباص) !! فكرة رائعة وبلورة ذات افاق غير مسبوقة في عمل مسرحي .. مسرح يبني ذاته بيديه !! انها رقصة القوى العاملة باندفاعها نحو الحياة , لتشكل انتاج صناعي يخدم الشركات والطبقات المستبدة .. كالحاجة الى اختراع متطلبات تطور الحياة وتقدمها .!!
ومشهد اخير صور عملية اقتحام حرمة فتاة خرجت للتو من عملية جراحة القلب .. لتبحث عن الحياة ! فاذ بها ترتضم باسوء ما تخبئه الايام .. سحق خصوصيات الانسان وكرامته تحت طائل الحفاظ على الامن .. هذه البقرة المقدسة التي اذلت الشعوب وقهرتها .. ولا زالت هنا في اسرائيل تلبس كل دروعها الواقية لتنفيذ شرعيتها كما تريد .!!
سقط كل شيء .. وغسل الدم كل الوجوه والاجساد .. لتنتهي حفلة هذه الحافلة برقصة الدماء .. وحمام شلالاتها المنسابة في كل الاتجاهات , والتي سيتعرض اليها الجميع !! مسرح وممثلون وطاقم عمل وجمهور .. كلنا تحت طائل هذه الحرب المدمرة سواء , واحداً لن يعرف متى يكون القاتل او القتيل .
اخيراً
اخيراً كم تمنيت لو انني اتذكر كل شاردة وواردة في هذا العمل المسرحي , الا انني لم التقيه سوى مرة واحدة , على الرغم من اطلاعي على الكثير منه جدلاً !! فربما غابت عني اشياء مهمة جداً , وربما كان من المفروض ان اضع اصبعي على موقع ضعف هنا وآخر هناك .. الا انني اكتب بما تمليه عليّ مشاعري , اسوة بقول لمظفر النواب " اعتمدوا القلب , فالقلب يعرف مهما الرياح الدنيئة سيئة جارفة" .
شارك في هذا العمل من الممثلات كل من امل قيس ووداد سرحان , كما شارك من الممثلين كل من اياد شيتي , هذا الذي كان رائعاً حد البكاء في صهوة الضحك الجميل !! وجواد عبد الغني , ومروان عوكل , وكمال شاهين , وخالد ابو علي , محمود عكاشة , وسامي شقور .. وشارك في الاداء والعزف الموسيقي كل من محمود شلبي , وفراس رابي , وليتو زلبرشطاين .!! وعملت في الانتاج اسراء دراوشة وفي الاضاءة عفيف ادريس .. اما تصميم الملابس فكان على يد غصوب سرحان وكان الانتاج المسرحي لمسرح "الجوال" السخنيني .
كلهم شاركوا في هذا العمل الرائع , كل بحسب مقدرته وامكانياته !! كان من الممكن ان يكون اكثر من طقم ثياب مثلاً , واكثر من لون في الاضائة وخاصة في نهاية المسرحية عند رقصة الدماء .!! الا ان هذه الاشياء جميعاً تصغر امام جرئة المسرحية اخراجاً وتمثيلاً واداء !! فهنيئاً لكم جميعاُ .. وهنيئاً لك يا فؤاد عوض.. وحسبك انك كذلك .!!
انتهى