الدين هو عبارة عن نصوص تتعلق بالمقدس و ما وراء الطبيعي و تصيغ مجموعة من السلوكيات الأخلاقية و التشريعات,و لكن علاقة الفرد لا تتم مباشرة مع النص الديني إنما عن طريق المؤسسة الدينية التي تنبثق عن الدين و تعمل على تفسير النصوص و إيصالها للفرد و هي القيِّمة على الواقع الديني , و على هذا فالمؤسسة الدينية لا تحمل صفة المقدس كالدين و لا يحمل أفراد هذه المؤسسة صفة تجعلهم فوق المجتمع.
و بالتالي هي مؤسسة ككل مؤسسة مدنية أخرى تخضع لمعايير الأداء , أما ميدان الحكم على مستوى أدائها فهو أخلاق المجتمع الإسلامي و سلوكياته و مفاهيمه , فهو المجال الذي تمارس فيه هذه المؤسسة نشاطها فمفاهيم المجتمع الإسلامي و قواعد السلوك فيه تقرر انطلاقا من الحرام و الحلال ,أي انطلاقا من موقف ديني .
و أطرف مثل شعبي أسوقه للدلالة على المفاهيم الأخلاقية السارية ,تلك التي تروى عن بائع الزيت الذي كان يمارس الغش على زبائنه و يساعده في ذلك قسمه برقبته و بأولاده الذي يكرره دوما (برقبتي بولادي) , و في ذات الوقت لا يعتبر نفسه آثما أمام الله بقسمه الكاذب لأنه يربط بحبل معلق إلى رقبته قطعة بولادي ( قطعه صغيرة من الفولاذ ) .
و سواء كانت هذه القصة صحيحة أم لا , فان هذه القصص الشعبية التي يصيغها المجتمع بحرية و دون رقيب ذات أهمية بالغة لأنها تدل بعمق على الأخلاقيات السائدة و لذلك لا نستغرب من مدى انتشار آفة الكذب في المجتمعات الإسلامية و يمارسه المتدينون و غير المتدينين و كذلك الأقسام و الأيمان الغليظة الكاذبة و يمارسها كل أفراد المجتمع الذي لا يستطيع ان يتخذ رأيا في أية مسالة مستجدة إلا بالعودة للموقف الديني و الاطمئنان على حلالها أو حرامها.
و كل فرد يستطيع ممارسة الغش و الكذب و الخداع دون الشعور بالذنب أو الشعور بارتكاب مخالفة دينية أمام الخالق ,عن طريق التبرير , كأن يقول في نفسه و أمام الله انه مضطر للكذب او الاستغفار مباشرة أو بعد الصلاة ,و إحدى التبريرات مثلا تلك التي تتعلق بعمليات النصب و الاحتيال و تبريرها من قبل من يقوم بها ان أموال الكفار مباحة , أما الكفار فهم كل من يرغب بسرقتهم و الاحتيال عليهم و كل ذلك يجري ببساطة و دون ان يتناقض أبدا مع ممارسة الشعائر الدينية او الوقوف أمام الله في الصلاة.
إنَّ التأمل في المفاهيم الاجتماعية العامة يبين مدى تقدير العامة (للفلهوة) و الشطارة في الخداع و النفاق و الكذب و مدى الاحتقار الذي يكنه المجتمع لكل سلوك نظيف كرفض الرشوة او الصدق في المعاملة الذي يوصف بالحمق و لا تستطيع هذه المؤسسة الادعاء بعدم مسؤوليتها عن هذه الأخلاقيات الفاسدة لأن نشر الأخلاق الحميدة من صلب مهامها ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وخصوصا ان الانحطاط الأخلاقي يجري بالتزامن مع زيادة سلطة هذه المؤسسات التي تتيح لها صياغة المفاهيم و الأخلاق العامة , و الازدحام على خطب يوم الجمعة خير دليل على اتساع سلطتها و نفوذها وان هذه المؤسسات هي المسؤولة عن هذا التردي الأخلاقي و هي مشاركة به لأنها تتعامل مع التشريع تعامل حرفي دون إدراك روح التشريع و هي المسؤولة عن صياغة العلاقة التعبدية النفعية التي يمارسها المسلم مع الخالق و تغييب البعد الروحي لها , بسبب فتاواها التبريرية النفعية التي تعلم المسلم الالتفاف على النص و ارتكاب الخطأ بدون المساس بحرفية النص بطرقة خبيثة , فأموال الفائدة حرام و لكن حين تسمى استثمار تصبح حلال بتغيير الاسم فقط , و الأطرف أن أموال الفائدة حرام و لكن ان تم شراء المازوت بها تصبح حلال و تفسير ذلك أن هذه الأموال ستُحرق , و ان قراءة آية كذا بعض صلاة العصر يمسح ذنب كذا و كذا و قراءة الآية الأخرى في فترة أخرى يمسح نوع آخر من الذنوب , و ان الحج يعيد المؤمن طاهرا كما ولدته أمه و بالتالي يعود ليبدأ بارتكاب الذنوب على صفحة بيضاء و المثل الشعبي (إذا جارك حج اوم هج ) ذو دلالة بالغة على أخلاق من يسمّون بالحجاج ,و الأكثر طرافة تلك العدادات الآلية التي شاع استعمالها من اجل إحصاء عدد مرات ذكر الله او ترديد الشهادتين و هي أشبه بمن يحسب على الله التقدمات ليوازن بين ما سيغفر له و ما هو متاح له لارتكاب الذنوب ,أو انه يثبِّت لنفسه ممسكا على الله في الأرقام الدقيقة التي تعطيها العدادات الآلية تماما كما يفعل بمعاملاته التجارية , حتى باتت علاقة المسلم مع الخالق أشبه بالعلاقة التجارية مع شخص آخر و ليس مع الخالق عز و جل , لخلوها من الإحساس الروحي الديني , بل تقوم على تأدية شعائر معينة و ذكر الله مقابل تحقيق منافع معينة .
فهذه الفتاوى الضيقة الأفق التي تصدرها هذه المؤسسات و تفسير أسبابها ,لها اثر خطير جدا لأنها تعيد صياغة مفاهيم الفرد و أخلاقه و طريقة تعاطيه مع الخالق فتصبح هذه الطريقة التبريرية أسلوبه الأساسي في التعامل مع الغير .
هذا عن مستوى أداء هذه المؤسسة أما عن مستوى تأهيل أفرادها فهنا تكمن المفارقة الكبرى , فالمجتمعات الإسلامية رغم تمسكها الشديد بالدين الإسلامي و تغلغله في مفاهيمها الاجتماعية فإنها تنتقي من أبناءها الذين حققوا أعلى معدلات في امتحان شهادة الثانوية العامة أي ما يعني منطقيا أنهم يتمتعون بأعلى معدلات للذكاء لدخول المجالات العلمية و التقنية و الطبية و الهندسية ليكونوا الأمناء على الصحة الجسدية و العمران و التقنيات ,بينما توجه من أبناءها أولئك الذين حققوا ادني المعدلات في تلك الامتحانات و الذين معدل ذكائهم دون الوسط ليكونوا الفقهاء و الأمناء على أمور الدين ليلعبوا الأثر الأكبر في الأخلاق و السلوك و الفهم العام , و هناك جزء من أبناء تلك المؤسسة ممن لم يمروا بمرحلة الثانوية العامة لان معدلاتهم في امتحانات الإعدادية لم تؤهلهم لدخول الثانويات العلمية أو الأدبية أو التجارية أو الصناعية أو الفنية ليدخلوا ثانويات الشريعة .
و هناك جزء ثالث ممن يمارسون الإرشاد الديني و هم يعينون أنفسهم بأنفسهم لهذه المهمة و هؤلاء حظهم من المعارف العلمية أو الدينية صفرا.
و بالتالي فان طلبة كليات الشريعة بمعظمهم مروا مرور الكرام (بسبب انخفاض معدلاتهم ) على مواد الرياضيات و الفيزياء و علم الطبيعة و الكيمياء ,و لا يخفى على احد أهمية مواد الرياضيات كالجبر و الهندسة الفراغية و علوم المثلثات على تطوير قدرة الدماغ على التحليل و التركيب و الاستنتاج و التصور و العلوم الأخرى على تكوين منهج علمي قادر على تعليل ظواهر الحياة الطبيعية و الاجتماعية تعليلا علمياً موضوعيا ,ً و هؤلاء على حرمانهم من هذه العلوم جميعا لا يتمتعون بقدرة على الاستقراء و الاستنتاج المنطقي كما حرموا من الإطلاع على الآداب العالمية بكل ما تقدمه للإنسان من توسيع لمداركه و معارفه إضافة للمتعة الفكرية الأدبية الراقية, و حرموا أيضا من العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع و التربية و هذا ما يجعل مفاهيمهم حول الأخلاق بدائية جدا تنهل من ارث عمره آلاف السنين و لا ينطلق من فهم داخلي عميق لطبيعة الإنسان و لا تأخذ باعتبارها التطور المذهل الذي أصابته علوم النفس و التربية و هو ما يفسر السبب في تعاطي أبناء هذه المؤسسات مع النص الديني تعاطي حرفي دون إدراك البعد الروحي للدين الإسلامي لان هذا الإدراك يحتاج لمعدل ذكاء مرتفع و قدرة على التحليل و التركيب و الاستنتاج و الاستقراء .
و هذه المؤسسات و رغم تدني مستوى أدائها و مستوى التأهيل لدى أفرادها هي الأمينة على أهم ما يجب ان تحققه الدول المتخلفة للخروج من دائرة التخلف و هو تطوير المفاهيم الاجتماعية حيث لا يمكن لأي تطور تقني او تكنولوجي مما تنفق عليه الدول المتخلفة ان يحقق غايته بمثل هذه الحال من التدهور الاجتماعي و الأخلاقي فلا حضارة حديثة بدون المجتمع الحر الخلاق المتوازن , لأن الحضارة هي عمل الإنسان .