|
هاجس
يوسف المحسن
كاتب، روائي
(Yousif Almouhsin)
الحوار المتمدن-العدد: 2109 - 2007 / 11 / 24 - 08:24
المحور:
الادب والفن
في القرية التي يحتلها نباح الكلاب صباحا مثلما تلسعها نشوة برد تشرين ، كان محتما عليه وهو من طلبتها القلائل الذين يدرسون في المدينة الكبيرة أن يخرج باكرا ليقطع الأميال الثلاثة سيرا في طريق ترابي ليصل إلى الشارع الكبير الذي تمر به السيارات بين الفينة والفينة ، انه يعرف هذا الطريق منذ أعوام طويلة حين كان والده رحمه الله يصطحبه ليشتري البضائع والأقمشة (البازة) قبل كل عيد ، كان يتذكر كلمات أبيه لتاجر الأقمشة الملتحي بالبياض : واحدة لابني الأطول من هذا بشبرين وواحدة للآخر الأطول منه بشبر وأخرى أطول منه بأربعة أصابع وأخرى للأصغر منه بشبرين وواحدة كثيرة الألوان للأقصر منه بثلاثة أشبار، في زحمة هذه القياسات كان الوالد ينسى شراء دشداشة له فيقضي اغلب الأعياد بدشداشته القديمة والوحيدة . كان يحب أن ينظر إليه أبوه على انه وحدة قياس لكل ملامح هذا الكون ، فذراع المسحاة بطوله مرتين والمنجل بطول ذراعه ، وحتى حين يقسم أبوه كان يقسم برأسه ، لكن شعورا باللذة والنشوة لم يفارقه حتى بعد أن كبر وأصبح طالبا في الجامعة ، حيث تخترق سمعه أصوات أباء القرية وهم يصرخون بأبنائهم : لماذا لا تصبح مثل ابن فلان رحمه الله ، فيسير بخيلاء منتشيا يملئه سيل فرح دافق لأنه مازال مثالا ومقياسا حتى الآن . حين وضع آخر اللمسات على تصفيفة شعره نظر من النافذة الخشبية ليعرف إن الصباح قد بدأ وان نباح الكلاب الرابضة أمام البيوتات قد ازداد ، عندها حمل حافظة كتبه وخرج مودعا بنظرات الأم التي أيقظته من نومه ، دلف إلى الممشى المتعرج بين البيوت المتناثرة وهو يشم رائحة التراب المبتل بالندى ، أدركت أذناه بأن عصافير القرية تقود تظاهرة سلمية للفوز به ، فهي تدرك انه القادر أن يؤشر على العذب من زقزقتها لينصب كل صباح ملكا للزقزقة ، وارتفعت الكلاب بنباحها طمعا في أن تحدد أذناه ملك النباح ، فهو مقياس هذه القرية بفضل مهارته وقدراته الخارقة . ... مر ببيت الحائك ففتحت بابه لتخرج منها ابنته الذاهبة إلى الجامعة ، لم يعر ذالك اهتماما لأنه مقياس الوقت ، حين يفعل شيئا فهناك من يحذو حذوه ، سارت ابنة الحائك خلفه وعلى مقربة منه ، انتبه، أبطأ الخطوات ، أبطأت معه ، سارع في خطوه ، أسرعت في خطواتها ، كانت تحتفظ بالمسافة ذاتها معه ، لماذا تصر على مداعبتي هكذا ، كل فتيات وصبايا القرية يحلمن بالسير معي ، سعودة بنت المكاري التي تفرغ البئر ثلاثة مرات في اليوم كي تمر أمام بيتنا وتحظى بالنظر إلي ، هجوره المحترقة التي سقط من يدها محراث التنور حين رأتني ولم تشعر بالنار في يدها ، كلهن يحلمن بالسير معي ..! غيوم متناثرة في السماء بدأت الشمس بإزاحتها بينما حلق سرب من الحمام بفضول فوق الممشى ،التفت إليها ، محمرة الوجنتين حذرة غارقة في خدر كامل وبقايا نعاس لذيذ على عينيها وقوامها الممشوق الذي طالما تحدثت عنه السنة شباب القرية وذهل أبصارهم ، ابنة الحائك ، هيام ابنة الحائك تلحق بي يا رب السماء ، إنها تلحق بي . حين وصلا إلى الشارع الكبير المؤدي إلى المدينة ابتعدت بخطواتها عنه والتحقت مع الفتيات اللواتي في انتظار قدوم الباص . في المساء كان عليه أن يحصي الأسباب التي جعلت ابنة الحائك معجبة به، واكتشف إن العد يصبح أسهل حين يحصي الأسباب التي تجعلها لا تحبه ، إنها مغرمة بي ، أنا على ثقة من حبها ، هي تذكر كيف كان يغازلها عندما كانا صغيرين ... يمد يده ليقرصها كلما سنحت الفرصة ، يداعبها ويكتب الحرف الأول من اسمها في كل مساحة فارغة من حائط المدرسة الطيني ، تذكر كيف تجرأ يوما وكتب اسمها الحبيب على حائط الحمام من الداخل وكيف اكتشف المعلم فعلته ليعلق قدميه أمام التلاميذ ويوسعه ضربا ، بينما كانت تنظر إليه بوجه يخبأ ابتسامة رضا ، إنها تذكر كل ذلك ، وهي مغرمة بي . حين استيقظ صباحا وقبل أن توقظه الأم وهي تفعل ذلك منذ سنين ، بدأ يحث الخطى إلى الممشى ، منتظرا لها ، لكن نباح الكلاب كان يطغى على صوت أقدامه التي يضربها بقوة حتى تعلم هيام بخروجه ، عندما وصل أمام بيتها خرجت ، كانت خجلة ، عرجت إلى الممشى سارعت ضربات قلبه واصطفت قدماه بصراع مرتبك جعلت من مشيته اقرب إلى زحف أفعى مكسورة الظهر ، سارت إلى جانبه على بعد خطوات ، كان مستسلما لتيار من النشوة التي تجرفه دون إرادة للاقتراب منها ، استجمع قوة عراكين سابقين ليلتف لها ، صباح الخير ! صباح الخير ، لكن قواه خارت عند هذا الحد وجرته قدماه إلى مواصلة السير تلسع ظهره سياط الرغبة التي طالما رافقته، في الصباح التالي كان لابد أن يضع حدا لحرجه ولاستهانتها برجولته وفحولته التي شغلت فتيات القرية ، وكي يحافظ على صورته كوحدة قياس للقرية، ترافقا سيرا ، سار قربها لخطوات ثم التفت عائدا إلى بيته ! ...... وقفت هيام حائرة في وسط الممشى الترابي ، توقف نبض الصباح، انحسرت زقزقة العصافير واختنق نباح الكلاب ، إلا من جرو صغير خرج عن إيقاع العزف وبقي يقفز عند الساقية، التفت إليه ثم نظرت يمينا وشمالا وقفلت عائدة إلى البيت، انتظر خلف الباب قليلا ثم خرج سالكا الممشى من جديد ليعود نبض القرية بالدوران، خرجت هيام مرة أخرى واضعة منديلها على وجهها .. كأنها كانت تبكي ، عندها أدرك بـأنه قد لقنها درسا جعل عينيها الخضراوين دامعتين، إنها تحبني ، تحرك ، تكلم ، امسكها من يدها، اخبرها انك تحتفظ بحبها منذ الصغر ، اخبرها انك تعلمت حروف اسمها قبل كل الحروف ،الهاء هوة سحيقة ، الياء يورانيوم محترق ، الالف انتظار طويل ، الميم مرافىء بعيدة تلوح في سمائها النوارس ، اخبرها بأنك لاتهتم لفضول سرب الحمام الذي ينافسها عليه ، وبأن صبايا القرية لا يمكن أن يأخذن مكانها في قلبك ، لا ، لا، لا، لا تشتط .... ماذا تقول لشباب القرية وهم ينظرون إليك ، أولئك المتجمعون بانتظار الباص .... في المساء حين جلس عند حافة الساقية أدرك بأن همسة حب منها لابد أن يقابلها برواية حب ، لقد فعلت هي كل ما تستطيع ، عليه أن يفعل كل ما يقدر عليه ، عاد إلى أوراقه والى قصائده التي كان قد كتبها لها وشرع بكتابة قصيدة جديدة لم تكتمل إلا مع تجدد نباح الكلاب وزقزقة العصافير ... ارتدى ملابسه وخرج إلى الممشى ضاربا الأرض بقدميه بقوة أخرست النباح والزقزقة معا وأبعدت سرب الحمام عاليا في السماء ، حين عبر من أمام بيت الحائك تثاقلت خطواته ، التفت، لم تخرج ، لم يفتح الباب ، تسمر في مكانه ، سار لخطوات ثم عاد لبيته ، اقترب سرب الحمام من فوق رأسه وكأنه يسخر منه ، جلس بباب بيته مترقبا هيام ، لكنها لم تخرج ، بقي لأيام على هذا الحال ولم تذهب هيام إلى الجامعة ، لكن سرب الحمام بقي محلقا لأيام يسخر منه ومن نباح الكلاب وزقزقة العصافير الهرمة ، عند انتصاف إحدى النهارات التي شهدت انقطاعه وإضرابها عن الجامعة جاءت أمها وسلمت عليه في طريقها إلى الساقية، هم بسؤالها لكنه تلعثم ، عندما عادت عرجت عليه قائله : هيام مريضة قليلا ولن تذهب إلى الجامعة لاسبوع ، ونحن نشكرك يا ولدي فهيام تنتظرك كل يوم صباحا لتخرج معك لأنها يا ولدي وكما تعلم تخاف وتخشى اشد الخشية من الكلاب ......... في الصباح التالي والصباحات التي أعقبته كان يخرج صباحا عبر الممشى لكنه ينتفض ويسرع راكضا كلما سمع صوت باب يفتح.
#يوسف_المحسن (هاشتاغ)
Yousif_Almouhsin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كان حلما ليس الا
-
تثاؤب قصة قصيرة
-
الحوار والحوار الدرامي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|