|
حقيقة النقطة والحرف في تجربة أديب كمال الدين الشعرية
صالح محمود
الحوار المتمدن-العدد: 2104 - 2007 / 11 / 19 - 10:04
المحور:
الادب والفن
تتفق الوضعية وتقرّ سواءً القديمة منها أو الجديدة بتعين الأشياء موضوعياً كما هي موجودة في الطبيعة حتى وإن مرّت من الأحاسيس التي لا تضللنا أو تخدعنا بل تصل بنا في النهاية إلى الحقائق الثابتة. وفي هذا الإطار يقول "هابرماس" في (المعرفة والمصلحة)" فمعنى العلم قد حكم عليه مسبقاً لنموذج تصوير الواقع أي بلا تدخل الذات". ويضيف هابرماس في هذا السياق (نفس الأثر السابق) "يجب على المفهوم للحقيقة كما يراه الفكر الوضعي أن يحفظ العناصر بشكل الوضوح الحسي ضمن سحب الذوات المدركة" وما الاستخلاص عبر التجربة والاستقراء والاستبعاد إلا إدراك بشري للحقائق الموجودة مسبقاً عبر التحكم التقني. حتى إذا ما "يتجاوز العلم ما هو صحيح ليصل الى الحقيقة بمعنى أن يصل إلى الكشف الجوهري عن الوجود بصفته هذه فهو عندئذ فلسفة " هيدغير" (أصل العمل الفني). فإذا كان العلم يقف عند حدوده كتعين الواقعي، فإنّ الإنسان يتجاوز هذا الواقع لا لأن "الواقع الثابت لا يفي بالحاجة في نهاية المطاف رغم ما فيه من كثافة، ثم إننا لا نرضى بأي معطى حتى وإن كان واقعاً رفيعاً "بول كلي" (نظرية الفن الحديث)" فحسب بل وهذا لحسن حظ الإنسان الاستثنائي وحده أو ربما المقحم في موقف استثنائي يرى نفسه مع الافتقار الى قاعدة قابلة للتطبيق، مضطراً الى أن يستخلص مشاريعه من المبادئ الأولى. والإنسان لحسن الحظ ليس في وضع سعيد ومسلح ببطارية كاملة من الغرائز لكي يكون في وضعه الصحيح في كل موقف، وهو بذلك يجد نفسه مقسوراً على مسالة الاستخلاص التي تكتنفها المغامرة (المعرفة والمصلحة)، "برماس". وهنا فضلا على اعتبار الثقافة تعويضاً عن نواقص التجهيز العضوي، فإن الإنسان قد عثر على فجوة عريضة للخروج عن هذه الأطر كواقع راهن، يمكن تجاوزه، أي بتدخل الذات المدركة من خلال التعابير الثقافية، فالفن لاشيء سوى الخروج عن الواقع. يقول "فرويد" في (حياتي والتحليل النفسي) : "ينسحب الفنان العصابي من واقع لا يرضى الى دنيا الخيال هذه ولكنه على خلاف العصابي يعرف كيف يقفل منه راجعاً ليجد مقاماً راسخاً في الواقع" إن قدرة الفنان على اختراق الواقع دليل وعيه به، فالفنان "يخترق الأشياء وينفذ إلى ما وراء الواقع والى ما وراء الخيال كذلك". "بول كلي" (نظرية الفن الحديث). بل إن العلم وهذا بديهي يقف عاجزاً باعتباره يرتبط بالواقع المتعين كأشياء موضوعية كالتحليل النفسي أمام غموض العملية الفنية، إذ يقول فرويد "فالتحليل لا يملك أن يكشف عن طبيعة الموهبة الفنية ولا هو يستطيع أن يبين الوسائل التي يستخدمها الفنان". وكأننا بفرويد يتساءل في حيرة كيف يمكن للفنان أن ينحسب من الواقع وينجز عمله الفني خارج الإطار الواقعي، أي في عالم الخيال كما يسميه أو العالم الفني كما نسميه نحن بما انه ليس في متناول أي كان حسب "برقسون" (الضحك) "ما بيننا وبين وعينا يقوم حجاب، هو لدى عامة الناس حجاب سميك وهو لدى الفنان أو الشاعر حجاب رقيق يكاد يكون شفافاً". فإذا كان الفن هو الخروج عن الواقع للعودة إليه باعتراف فرويد، يتم اثناء ذلك إنشاء عمل فني من عالم لا يمت للواقع بأية صلة، فما هي مشروعيته كعمل فني، وقبل ذلك من أين يستقى؟ يقول "بول كلي" في (نظرية الفن الحديث): "قد يتصرف الفن في الحقائق النهائية دون علم بذلك، انه يؤثر فيها فعلاً، فكما يحاكينا الطفل أثناء لعبه، نحاكي كذلك نحن في لعبة الفن القوى التي كانت أنشأت العالم وتنشئه" فبعملية الفن يدخل الفنان مملكة المقدس، مملكة الآلهة، عالم الإنشاء، الخلق، إذ "وكأنه تخلص من حركته فانصهر في الرؤية الإلهية، إذ ما يتسرب إلى هذا الجسم بإملاء الصوت الإلهي صورة للنفس وهي تنزل من سماء الله وفن الخط التقط بطريقته صورة النفس هذه ،فعرض على البصر مسلك الوحي". "عبد الكريم الخطيبي ومحمد السجلماسي" (فن الخط العربي) . حقاً الفنان موهوب في السمع وهذا سرّه كفنان. هاهو هيدغير يقول في (مبدأ العلة) : "ولكن ماهو جوهر موزار، ماهو قلبه؟ إن أنجيلوس سيليوس يجيبنا في أشعاره القديمة: قلب ساكن في أعماقه، أمام الله بما يرتضيه الله. إن الله يمس هذا القلب لأنه قيثارته. عنوان هذه الأبيات هو قيثارة الله ، انه موزار.. وبهذا المعنى يصبح الفن وحيا يتلقاه الفنان لموهبته السمعية التي يختص بها. يجسد هذا الوحي في أعماله الفنية وهو ما يعني تضمنه للحقيقة إذا كان يرتبط بعالم الخلق، بالقوى التي أنشأت العالم وتنشئه. ولكن أية حقيقة تحدث في العمل الفني؟ وهل يمكن على الإطلاق أن تحدث الحقيقة وتكون تاريخية إلى هذا الحد؟ ولكن الحقيقة مع ذلك وهكذا يقول المرء غير زمنية وفوق زمنية .. "هيدغير" (أصل العمل الفني) إذ أن .. هدف الفن وحاجته الأصلية في أن يظهر للعيان ما يتولد عن الروح من التمثلات والتصورات.."هيقل" (دروس في جمالية الفن المعماري) وهذا ما يؤكده هيدغير إذ يقول:" الأمر إذا لا يتعلق في العمل الفني بإعادة التعبير عن الموجود المفرد الحاضر في كل مرة، إنما يتعلق الأمر على العكس من ذلك بالتعبير عن الجوهر العام للأشياء..(أصل العمل الفني) لأن ..الفن على صورة الخلق، وهو رمز تماما مثل العالم الأرضي الذي يرمز للكون.." بول كلي" (نظرية الفن الحديث). ويبقى السؤال ماثلا: ما هو أصل الفن؟ يجيبنا هيدغير في "أصل العمل الفني" :..جوهر الفن هو الشعر..لأنه وحسب رأيه..القول المصمم هو الشعر، قول العالم والأرض، قول مجال صراعهما وكذلك صراع الآلهة على القرب والبعد.. يتجسد الشعر ككيان قائم بذاته في اللغة، بالرغم من أن اللغة ليست سوى كلمات وليست الكلمات سوى رموز للعلاقات التي تقيمها الأشياء فيما بينها، وتلك التي تقيمها معنا، وهي لا تتوصل أبداً للحقيقة المطلقة.. "نيتشه"(الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي)
الفنان يقوم بإنشاء العالم..إقامة عالم.." هيدغير" (أصل العمل الفني) عبر الذات المدركة بمعزل عن الواقع لأنه مرفوض من أساسه كواقع راهن .والفنان يعي ثغراته وهو ما يمكنه من اختراقه، لا يهم الفنان الإجماع، بل الفن ضرب لعملية الإتفاق..فالخلاق يهدم باستمرار.. "نيتشه" (زرادشت). والحقيقة أن الفنان لا يهدم لمجرد الهدم، لغاية الهدم، بل لإقامة عالم متماسك صلب، طالما بدا الواقع هشاً، سهل الاختراق- عبر الوحي الإلهي، الفنان لا يهتم لأمر الواقع طالما يستمد رفضه وتمرده عليه من وعيه به، فإذا كان المتلقي، وبما أن المضمون لا يتعين واقعياً في شكله كعمل فني، وإذا كان يمثل الحقيقة في تمثلاتها وتجلياتها يتحسسه عبر تأثيره..بما يشبه الإيحاء في العضلات والحواس النشيطة في الأصل لدى الإنسان الذي يأتي الفن بالسذاجة.." نيتشه" (إرادة القوة). حين يرتبط بالواقع الموهوم، فإذا كان الفن إحداثاً للحقيقة تتم عبر الفنان بلا مؤثرات خارجية أي أن عملية الخلق تتم عبر الذات، فهل يمكن للغة أن تجسد الحقيقة في العمل الفني لدى الفنان وفي القصيدة لدى الشاعر، إذا كان الشعر حسب "هابرماس" في (المعرفة والمصلحة) ليس سوى خلق المعنى، أي حدث الإبداع الذي يتموضع فيه الروح ذاته أي بعبارة أدق تجلي الروح في المعنى عبر اللغة كشكل؟ يذهب هيقل في اعتبار العلاقة بين المحتوى والشكل النهائي الذي ينقل الفكرة من تمثل الفنان إلى تمثل المشاهد هي محض علاقة رمزية.. (دروس في جمالية الفن المعماري) فاللغة ها هنا شكل الأفكار ولباسها تتعين من خلالها فإذا كانت اللغة كرموز دلالية استحدثها الإنسان للتواصل بما أنها علامة اعتباطية تقع خارج حدود الفكرة. "هيقل" (دروس في جمالية الفن المعماري) هل يمكن أن تكون أمينة في نقل الفكرة الكامنة خارج حدود الواقع كتمثل وتجلي الروح؟ إلى أي مدى يمكن لها أن تعبر بصدق عن رسالة الفنان، قيثارة الله؟ حقا يبدو السؤال ملحاً، إذا كان الفنان متحرراً من الواقع برفضه واختراقه، أفلا تكون أفكاره حين ترتبط باللغة لتتعين كتمثلات وتمظهرات تخضع لأطر اللغة وحدودها كرموز دلالية؟ ترتدي الأفكار اللغة في الفن، والمتلقي غير مطالب بإتقان اللغة التقنية البحتة التي يستخدمها المختص أثناء البحث في التجربة الفنية على مستوى حرفي وتقني ذلك أن الفن إحساس يخاطب فينا العمق الداخلي عبر الإيحاء من خلال اللغة، فإذا كانت الحقيقة فوق زمنية وغير زمنية، المتلقي ليس مطالباً بأن يتقن الرموز الموسيقية ،لكن يحس الموسيقي فيرقص أو يبكي. إن كان الفن يؤثر في الإنسان عبر الإيحاء، فإنه كعمل فني خلق عالم مناقض للراهن. أو كما يقول "هيدغير" "في فعالية العمل الفني .. كشف الموجود وهذا يعني الوجود . أصل العمل الفني كشف الحقيقة من خلال المعنى كتجلي للروح. فهل هذا الكشف متاح عبر اللغة؟ جوهر الفن الشعر هذا ما قاله هيدغير، فالشعر.. ليس مجرد تفكير اعتباطي شارد، ولا هو مجرد حومان التصور والتخيل حول ما هو غير واقعي.." هيدغير" (أصل العمل الفني) إذ الشعر هو ..القول المصمم..قول العالم والأرض وقول مجال صراعهما وكذلك صراع الآلهة على القرب والبعد.." هيدغير" (أصل العمل الفني). واللغة بماهي أداة تواصل فإنها ترتبط بالواقع ككلمات وليست الكلمات سوى رموز للعلاقات التي تقيمها الأشياء فيما بينها، والتي تقيمها معنا وهي لا تتوصل أبداً إلى الحقيقة المطلقة.. كيف يرتبط بها الشعر جوهر الفن، وهذا ما يزعمه هيدغير (أصل العمل الفني) "..لقد استعمل الشعر هنا بمعنى واسع وتم النظر إليه في الوقت نفسه في وحدته الجوهرية مع اللغة والكلمة.. فعلا لا مجال للشك في الارتباط العضوي والجوهري بين الشعر واللغة ككلمة، فالقصيدة ككيان منحوت عبر اللغة، ونحن لا نعرف الشعر خارج إطار اللغة إذ لا يطفو من عالم الخلق ويتعين كشعر في الواقع إلا عبر تصميم اللغة له وتشكيلها . كيف للشعر أن يكون جوهر الفن وهو يتوسل باللغة بماهي كذلك؟ ولكن ما هي علاقة اللغة بالشعر؟ يجيبنا هيدغير.. اللغة في معناها الجوهري شعر.. (أصل العمل الفني)، لماذا ؟.. اللغة تعتبر في التصور السائد نوعاً من التبليغ تستعمل في المحادثات والمواعيد وفي التفاهم عموماً، اللغة ليست هذا فقط، وليست أولاً تعبيراً صوتياً ولغوياً عما ينبغي تبليغه.." هيدغير) "أصل العمل الفني) فاللغة التي نتحدث عنها هي لغة الراهن السائد كمفاهيم، إذ يضيف هيدغير: يحدث أن تسد علينا مفاهيم الشيء السائدة الطريق الى شيئية الشيء وأداتية الأداة وخصوصاً عملية العمل الفني على السواء، فحين نتحدث عن الشعر نتحدث عن جوهر الفن كحقيقة متعينة، كإقامة لعالم، فإذا كانت اللغة عاجزة عن إحداث الحقيقة كتمثلات الروح وتصوراته، إذا كيف يمكن للشاعر وهو الذي اخترق الواقع وتجاوزه ليلتحم بعالم الآلهة، عالم الخلق والإنشاء، أن يقيم عالم من خلال الشعر، يتعين في الواقع عبر القصيدة؟ لا ريب أن هيدغير اكتشف شعرية اللغة من خلال الشعر، غير أن الشعر يحيلنا على الشاعر قيثارة الله، نستمع لوحيه عبر الشاعر في الشعر في القصيدة، حقا، لقد تمكن الشاعر من كشف قوة اللغة وعظمتها بما بلغه من وحي الله عبرها. وهذه حقيقة حتى من خلال الأديان. ويتجلّى لدى الشعراء على غرار أديب كمال الدين الشاعر العراقي المهاجر "أستراليا" ولأن الشاعر موهوب وملهم، فإنه أكثر الناس سبراً وتفكيكاً، وتحليلاً للغة ..قال عنها دلتاي ذات يوم بأن فيها ..وحدها يجد الداخل الإنساني تعبيره الكامل، الخلاق والقابل للفهم موضوعياً.. "هابرماس" (المعرفة والمصلحة). انفرد أديب كمال الدين بتجربته الشعرية وهذا بإجماع كل من كتب حولها لأنه في الحقيقة آمن إيمانا عميقا باللغة وعشقها، وهذا يبدو واضحاً وكما يقول حسن النواب (غواية الحرف: مقال) "..انشغل بالحرف العربي حد الهوس".. ليس الشعر جوهر الفن سوى خلق خارج الواقع وبمعزل عنه، يتطلب موهبة الشاعر كمقدرة لا في الخلق والإنشاء فحسب بل التحكم في الوسيلة التي يتجسد بها العمل الفني كخلق، ألا نقدر حجم الرسام في تحكمه في الفرشاة والألوان، والموسيقي في ريشته من خلال العزف، والنحاة في أداة النحت من خلال النحت، كذلك الشاعر تكمن مهارته في الخلاص من الواقع الراهن إلى الحقيقة عالم اللازمني وفوق زمني في تطويعه للغة، فتحكم أديب باللغة لا باعتبارها المادة الحية التي تحيل الشاعر الى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى والصورة.. كما قال علي الفواز.. بل لأنها تجسّد المعنى، الحقيقة بتمثلاتها وتصوراتها المارّة عبر الشاعر وتشكلها وتؤطرها، فتكون عملية متعينة عبر اللغة أمام المتلقي، نحن لا نشك في تواجد الفنان خارج الواقع في عالم الخلق قبل تشكيل المعنى، لأن الأفكار كوحي، كإلهام تغزوه بلا سابق إنذار وفي شكل فوضوي، وهو ما يؤكده "هيدغير" في (مبدأ العلة) :" ..لقد كتب موزار في إحدى رسائله: تأتيني الأفكار تتدفق بغزارة في السفر، في العربة مثلا، بعد غداء جيد، خلال النزهة أو في الليل من الأرق، وما يعجبني منها أحفظه في رأسي..هنا نتبين بوضوح دور اللغة الذي هو. وكما يقول هابرماس على لسان دلتاي..وحدها يجد الداخل الإنساني تعبيره الكامل الخلاق والقابل للفهم موضوعياً.. بهذا المعنى نفهم اللغة في الفن الذي يحدد دورها في تبليغ رسالة الفنان كوحي كالهام، هذه اللغة هي التي تمكن الفنان من تجسيد المعنى المتحرر والفوضوي لأنه في الأصل في حركة لا تهدأ ومتناقضة، على عكس الراهن الساكن، والإنسان الفنان بالتحديد عاجز عن تتبع هذه الحركة، ولذلك يجعلها منطقية ترتبط بالإنسان ككائن يحكمه الواقع، يرتبط به ارتباطاً وثيقاً، وإلا صار معتوهاً مرفوضاً من المجتمع. يقول علي الفواز: إن البناء النثري للكيمياء الشعرية عند أديب كمال الدين تجد مستوياته البنائية أمام كثافة التصوير والعناية الفائقة في صنعة هذه الصورة دون إشكالية أجناسية محددة بما يجعل الكتابة مفتوحة على احتمال دائم في القراءة والتأويل والتوهم. أين تكمن عظمة اللغة وقوتها إذا كانت مشكٌلة للمعنى في الصورة، ليصير موضوعياً قابلاً للفهم، وليست في نفس الآن ..الأداة التي تستعمل في المحادثات والمواعيد، وفي التفاهم عموما...وليست أولاً تعبيراً صوتياً ولغوياً عما ينبغي تبليغه.. كما يقول هيدغير؟ أين تكمن قدرة اللغة التي تمنحها للفنان الشاعر بالتحديد ليجسد بها الإلهام كحقيقة؟ يقول "هابرماس" في (المعرفة والمصلحة) : "باستطاعتنا الآن أن نميٌز وظيفتين للغة، وظيفة دلالية ووظيفة أشارية.. وفي نفس الأثر.. يمكن أن تتجلى العلامة كرمز يعرض شيئاً ما، كدليل يشير إلى شيء ما كأيقونة تصور شيئاً ما... حقا يبدو الأمر للوهلة الأولى عادياً، غير انه في الواقع أعمق من ذلك بكثير، وهنا نكتشف عظمة اللغة حقاً، تلك اللغة التي حررت الإنسان من الواقع الراهن بما هو كائن غير مبرمج من الطبيعة بجميع ردود الأفعال الصحيحة في الأوقات الحاسمة، جعلته ينطلق، ينتشر، يتحرر من كل القيود حتى من اللغة نفسها، طالما أنها إشارية، إنما اللغة تشير إلى اللغة الأخرى المتضمنة في عمقها وهي ليست لغة الواقع، بل لغة الفن كإشارة كإيحاء، وبذلك تصبح تكريساً لجوهر الإنسان في تحقيق وتجسيم الحرية الجزئية عن الطبيعة، وبهذا فإن الشاعر لا تتمثل قوته في حسن استخدام اللغة التواصلية العادية، بل لوعيه باللغة الإشارية الكامنة في باطن اللغة التي تتيح له تجسيد شعراً قابلاً لكل القراءات، وهذا ما يبرر قصيدة النثر حين تكتب باللغة الإشارية الكامنة في عمق اللغة المتداولة لغة الفن يتمثلها المتلقي لا عبر التفسير بل عبر الأحاسيس. أديب كمال الدين نموذج الشاعر الذي حررته اللغة من القالب. وكما قال الدكتور مصطفى الكيلاني في مقاله "كتابة النص الشعري المختلف" : "يلوذ الشاعر بأصل اللغة المنفتح على البدء الأول وبنقيض العقل.. مما يمكنه من الخلق والإبداع ويجعله يقترب من أسئلة الوجود الإنساني الغائص في عمق الذات والمحسوسات".. كما يقول وديع شامخ في مقاله " أديب كمال الدين... يبحر بحروفه بحثا عن الحرية والحياة" :"لم يتعامل الشاعر مع أصل اللغة ككلمة بل تخطاها إلى الحرف والنقطة". وكما قال هادي علي الزيادي: "دأب كمال الدين على إشباع قصائده رموزاً وإشارات يطغى عليها الطابع الممتلئ بمحاولات لفهم وإدراك أسرار الحروف وهذا انعكاس لقراءاته الواعية للموروث الأصيل ووعي لكتابات الصوفيين كإبن عربي أو سواه".. وأيضا .. للحرف عند الصوفيين منزلة علية ومكانة جلية الفهم يعتدونه مملكة مغلقة لا يدخلها سوى العارفين والنقطة طلسماً لا يفكه سوى الواصلين.. مثلما قال أ.د. عبدالاله الصائغ. وقد مارس الشاعر عبر الحرف والنقطة لعبة الهذيان الحروفي.. كما يقول علي الفواز، الهذيان هنا نقيض العقل، غير انه وكما ذكر وديع شامخ في مقال "أديب كمال الدين يبحر بحروفه بحثا عن الحرية والحياة: "شاعر أوهم الكثيرين بأنه درويش ولكنه من أشد الناس تعلقاً بالحياة، ومن أشد الناس شبقاً بالحرية وبالمحسوس المادي.. هو إذاً .. يتعامل بحساسية فائقة مع دلالات الحرف شفرته اللغوية باعتبارها المادة الحيّة التي تحيل الشاعر الى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى والصورة... والشاعر هنا إذا ما اعتبرناه غير درويش، يدخل العالم الخارجي كصوفي عبر تخميرته من باب اللغة، إنما اللغة هنا هي القناة التواصلية مع الواقع عبر الميتالغوية كما يسميها "هابرماس" "في(المعرفة والمصلحة) ..لأن الداخل لا يستطيع أن يظهر في الخارج بصورة مباشرة.. إذا كان هذا الداخل ..الوجدان الإنساني هو نور يخرج من الأعماق ليتوٌج ويضيء تطور الكون بأكمله.." فري بيتو" (إبداع الفنان). لم يكن هذيان كمال الدين الحروفي هذيان جنون، تعمية. بدليل انه تمكن من التواصل مع الواقع عبر الميتالغوية التي تعينت بها الحقيقة في صورها وتمثلاتها وهذا ما يؤكد ما قاله حسن النوٌاب في (غواية الحرف" : (أجمل ما في هذا الشاعر وضوح الكلمات لديه ودلالة المعنى" . إذا كان الشاعر في قصيدته لا يحيل إلى الغموض والإبهام مما يخلق هوة بينه والمتلقي، فهو لا ريب بهذا الوضوح كان حين دخوله العالم الخارجي كصوفي عبر تخميرته وشطحاته واعياً، على عكس ما نراه لدى الصوفيين الذين يفقدون اتصالهم بالواقع في إطار التحامهم وذوبانهم في ذات المعشوق فيصير الشاعر بذلك شيخاً من شيوخ الصوفية ،عاشقاً دون أن يكون منفعلاً. يقول في قصيدته "غروب النقطة":
أنا النقطة
أنا الشمس المكتملة
وأنتَ البحر اللانهائي
أيها الحرف.
نفهم منذ البداية وفي مستوى أول رمزية النقطة وقبل أن تحيلنا إلى الروح الحقيقة المضيئة الساطعة، شمس تبعث فينا الدفء والحياة هذه الشمس التي لولاها لانعدمت الحياة كحركة، كنمو، كتصاعد التي لولاها لأصاب الكون الخرس ولفه الظلام. فهذه الشمس المكتملة الكاملة هي المصدر المرئي الوحيد الذي يتعين به الوجود بما هو كذلك في هذا الفضاء اللانهائي: أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً
حتى أختفي تماماً
لتصبح أحمر بدمي بمحبتي.
هذه الشمس التي تمثل الحقيقة المتعينة في هذا الفضاء بل هي أصل الوجود وقلبه النابض كعطاء ،كسخاء كمحبة ،متأصلة وحقا فالقلب الذي لا يفتأ ينبض إلى الأبد مرسلاً دمائه إلى كامل الجسد عبر شبكة معقدة من الشرايين تنطلق منه وترتد إليه، فالنقطة التي هي الشمس ترسل نورها الأحمر، لون الحياة لون الحب، لون العشق، لون الخصب. النقطة شمس أصل الخلق والوجود، والعلم نفسه يعتقد في نشوء الكون من نقطة لا متناهية في الصغر. إذا كان .. "كل جزء من الكون يحتوي في أصغر أجزائه المجموعة بكاملها "..كما يقول "فري بيتو" (إبداع الفنان نظرة شمولية للكون) " فإذا كان الأمر على هذا النحو وإذا كان ..أكثر ما في داخل الذرة هو الفراغ .. و .. الفراغ هو الذي يسيطر في المادة .." كما يضيف بيتو في نفس الأثر، فإذاً يفترض أن يكون الكون قد نشأ من مادة الكون المتقلصة الى ما لانهاية بفعل الفراغ –عبر البينغ بانغ "الانفجار العظيم" فتختفي هذه النقطة والتي هي شمس في الفضاء ،ككون بما فيها من خلق عبر الانتشار بشكل بركاني دائم متواصل لا نهائي:
هكذا أختفي فيكَ وبكَ ومعك
لأكون لا نهائية فيكَ وبكَ ومعك
وأنتَ تمتصّني لتبتهج بأسراري
أو لتضيع في أو بي أو معي.
لأنها وكما تقول القصيدة:
أنا النقطة
أنا اللغز الخرافي الذي لا يفكه سوى الواصلين كما قال أ. د. عبد الإله الصائغ،.. إن كانت النقطة الشمس التي تختفي تماما في الحرف، البحر اللانهائي، فأين الحرف، أين يكمن، أين نجده وهو رغم ذلك يملأ الفضاء؟ ولكن السؤال كيف تخلق النقطة الكون في الحرف؟ كيف يتم الخلق في الحرف عبر النقطة التي هي أصل الخلق؟
تهبط النقطة في الحرف البحر اللانهائي وتختفي فيه منتشرة، تغمره بالحب والسلام والشوق، فيستحيل خلقاً ملوناً بلون أحمر، دم النقطة، جوهر النقطة الحرف صدى النقطة الخالقة ودليل قدرتها ينتفي في غيابها ليصبح لاشيء بلا معنى عدم، صمت، فراغ: الحرف ينبض عبر النقطة - حياة - كحقيقة كحركة. كيف تخلق النقطة الحرف، فينطلق وقد كان منعدماً، عبر الحركة؟ عبر التصاعد، الانتشار عبر التفجر كسيل عارم متدفق، تسري النقطة في الحرف سريان الروح في الجسد، سريان الدم في الشرايين، سريان النسغ في الجذوع، متخفية كسرّ، كلغز خرافي أزلي، أبدي ، بعيد الغور، يستعصى على السبر تندفع النقطة في اللانهائي، رحلة المجهول، قادرة، مقتدرة، صافية، شفافة متصاعدة منتشرة في الحرف، فتحيل عدم الحرف وجودا، صمته حركة ،كآبته سعادة، عتمته إشراقاً عبر العطاء، السخاء من روحها كدماء حمراء لأنها جوهر الخلق والبناء ،فيبتهج الحرف بانبعاثه من طيات العدم، كخلق متعين متجسد،عبر الضياع والتيه في مملكة الشمس الآمنة، في رحلة المجهول لأنه لا يعلم عنها شيئاً وليس له أي دور في تحديد مسارها.كل ما يفعله أن يستسلم للنقطة فتتحلل فيه وترحل به ومعه في رحلة المجهول، فيفضح سرها ويفك لغزها عبر الخلق المستمر واللانهائي فيه، يتجلى كعملية خلق لانهائي، كقصيدة تتعين من خلالها الحقيقة وتتجسد كتمثلات، في حركتها اللانهائية، فيبدو الحرف كصورة النفس وهي تهبط من ملكوت الله، فتعرض على البصر مسلك الوحي كما قال الخطيبي والسجلماسي،وهذه القصيدة ليست تلك القصيدة المعتادة المؤطرة بالأبيات والكلمات، بل يقرؤها الحرف ويتيه في القراءة على طول مسار الرحلة، رحلة المجهول اللانهائية. وإذا كان العمل الفني هو رسم صورة الحقيقة في حركتها، فإنها حركة النقطة في الحرف لانهائية، في بحر لانهائي وفي رحلة لانهائية عبر السلام، الحب، الشوق، عبر الشمس كنور، كدفء، كتفتح. يبدو الحرف إذاً حركة النقطة كحقيقة تتصاعد وتنتشر في بحر لانهائي فينتشر الحرف بها، فإلى أين يتجه؟ أين تتجلّى رحلة الحرف المجهولة؟ يمكن للحرف أن يتجه نحو نفسه، يبحر باتَجاه الصحارى عابراً خيام البدو ونارهم وكلابهم، يبحر باتجاه السحرة عابراً طقوسهم وطلاسمهم ، يبحر باتجاه السماء عابراً طقوس المتصوَفة ودموعهم وصيحاتهم وشطحاتهم، يبحر باتجاه المحيط عابراً شمس الله وسفنه وكواكبه، يبحر باتجاه اللَغة عابراً كتب العشق والموت والشعوذة، يبحر باتجاه الخرافة عابراً قصص العجائز التي تنام وقت الغروب يبحر باتجاه الأساطير عابراً كلكامش وأنكيدو والأفعى التي سرقت السر عابراً الثيران المجنحة أهرام الفراعنة، يبحر باتجاه النار عابراً طيور الرغبة وبيض اللَذَة، يبحر باتجاه اللعنة عابراً بيوت النساء بأشكالها المليئة بالعري والمرايا والظلام، يبحر باتجاه الشيطان عابراً وشمه وشينه وشطآنه، يبحر باتجاه الماضي عابراً صيحاته وسكاكينه التي أكلها الصدأ، يبحر باتجاه العبث عابراً تاريخه الذي لا ينتهي عند حد، كلما أبحر الحرف باتجاه الذي أو التي أو الذين وجد بانتظاره نقطة غامضة . (من قصيدة إبحار). أينما اتجه الحرف وكل اتجاه هنا هو بحر لانهائي وعالم سحري خرافي عجيب، يجد النقطة بانتظاره والتي هي لغز أبدي غامض، وهذا بديهي لأنها تتحرك فيه به ومعه، هي التي تبعث به في كل اتجاه بعد تحديده له مسبقا، وإن كانت هذه الاتجاهات ليست لها حدود نهائية طالما أنها الحقيقة، ولا يمكن أن تضمها قصيدة، وهذا ما يجعل تجربة كمال الدين تستمد ثراءها من منابع دائمة التدفق، أو كما يسميها الشاعر شجرة الحروف. يقول في قصيدة "شجرة الحروف":
فمددتُ يدي في قلبي مرتبكاً
وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جداً
مليئة بالشمس
سميتها شجرة الحروف.
يبدو أن هذه الشجرة خصبة على الدوام، فكلما قطف منها الشاعر الثمار إلا وازدادت إزهاراً وثماراً، ازدادت نضارة، ينوعاً، إشراقاً لأنها ليست سوى الشمس، خالقة الحروف، تجسد الحياة عبر الحروف حركة الحقيقة وانكشاف سرها ولغزها الخرافي، حين تشق الفضاء اللانهائي، فتسحرنا بما تؤتيه من إعجاز، كألوان، كصفاء، كعطاء، كسلام، كحب، كشوق، كحياة. هذه الشجرة ليست شجرة الذهب أو شجرة اللذة أو شجرة الدم أو شجرة النسيان أو شجرة النار بل شجرة الحروف، والحروف هنا لا تنفصل عن الشجرة بل ترتبط بها ارتباط الفرع بالأصل، فلا يمكن الحديث عن الحروف كثمار دون تمثل صورة شجرة الحروف، فإذا كانت الحروف إبحاراً في اللانهائي، وإذا كان كل اتجاه هو عالم قائم بذاته لانهائي وإذا كان الحرف يستمد صورته من الشجرة كشكل، كلون، كطعم، كرائحة، وإذا كانت شجرة الحروف تبعث بحروفها في كل اتجاه كشجرة، وإذا كان الحرف في نهاية المطاف يجد ذاته ككيان متعين ملتصقا بشجرة الحروف وأصله، وإذا كان الحرف يجد في نهاية رحلة المجهول النقطة تنتظره باعتبارها كامنة فيه، ودمه الذي يسرى في شرايينه، تصبح هذه الشجرة ليست سوى النقطة. فإذا كانت هذه الشجرة لا تنتمي للمحسوسات "ذهب، لذة، دم، نسيان، كحول، نار" ترتبط بالإنسان الذي بدوره سجين هذه المحسوسات التي تمثل واقعه، فماهي هذه الشجرة التي تكمن في قلب الشاعر صغيرة الحجم وهي مع ذلك تنتشر في كل الاتجاهات في العالم الأرضي و العالم الإلهي، كامنة في جميع الأزمان، الماضي، الحاضر والمستقبل طالما أنها النقطة التي تحرك وتوجه الحرف بمعزل عن الأطر. هذه الشجرة ليست شجرة عادية لا لأنها شجرة الحروف المغروسة في قلب الشاعر مليئة بالشمس، بل لأنها يتعذر امتلاكها على أي كان، فبقية الخلق لهم أشجارهم التي تحيل على المحسوس الملموس الواقعي سجنهم، رغبة منهم في امتلاك القوة الحياة، الخلود، الجمال عبر الذهب، اللذة، الدم، النسيان، الكحول، النار يحملون أشجارهم التي لا تمت لهم بصلة إلا كرغبة، منبهرين بالمحسوسات المضخمة في الواقع. وحده الشاعر امتلك شجرة الحروف المغروسة في قلبه المتجذرة فيه، المليئة بالشمس. لا يستمد الشاعر رغبته في التفرد ككيان مستقل من الواقع كما يفعل بقية الخاق العاديين عبر الرغبة في التملك بالوسائل المتعارف عليها كالصراع، التناحر والمنافسة الشرسة بارتدائهم الأزياء لا تنبع حقيقة من ذواتهم. تضاعف في غربتهم، بل يستمد رغبته من أعماقه الداخلية بحكم شفافية الحاجز الذي يفصله عن وعيه، على عكس العامة التي ترتد للحيوانية في سلوكاتها تملكاً واستحواذاً. إذ في الوقت الذي يتمسك الخلق بما يملك، يخرج الشاعر شجرته المليئة بالشمس من قلبه لينير العالم ليضاء الوجود ، في الوقت الذي يسعى فيه بقية الخلق لتدمير العالم بتدمير ذواتهم، يسعى الشاعر إلى إقامة عالم مضيء عبر شجرة الحروف المليئة بالشمس بما فيها من ضوء، دفء ،حب، خصب، أمن، سلام، رغبة في الحياة وتمسكاً بها، في الوقت الذي تتجلى الأنانية كذاتية، سلب، نهب، قتل، حرق لدى الخلق، يتجلى الكرم، السخاء، العطاء، الإيثار لدى الشاعر، وهذا بديهي إذا كان الناس سجناء الواقع كراهن، في الوقت الذي يكون فيه الشاعر في علاقة مباشرة مع الحقيقة التي هي تحرر من الواقع المؤطر وانفصال عنه. تمثل شجرة الحروف بما أنها أصل الحروف والنقطة، إذا كانت هذه الحروف هي صدى لها كحركة في كل اتجاه، فكيف تتجسد الحركة عبر النقطة في الحرف، ثمار شجرة الحروف، الكامنة في قلب الشاعر غير أنها متحللة قي الحرف البحر اللانهائي، تخلق من خلاله عوالم سحرية متناقضة عبر السخاء، العطاء، الحب، الشوق؟
الشعر جوهر الفن بنقله صور الحقيقة في حركتها عبر القصيدة، والقصيدة تستمد جذورها وتنحت كيانها عبر اللغة التي هي في جوهرها شعر عبر الميتالغوية، وإذا كانت اللغة التي تنحت القصيدة كشعر كصورة الحقيقة في حركتها الغير مرتبطة بالواقع كأطر تصبح اللغة كشعر تكريس الانسلاخ عن الواقع المعقلن، أي التحرر من الأسر المفروض عبر اللغة ذاتها كأداة تواصل، وهنا تكمن عظمة اللغة بما هي تجاوز الواقع المعقلن إلى الحقيقة كحركة، و بذلك فهي تمس جوهر الإنسان كقدرة على تجاوز الواقع المعقلن، وإذا كانت العقلنة تذليل التناقضات كما يرى "هابر ماس" ،فإن تجاوز الواقع يصبح هذيانا، وحقا لقد وصل أديب كمال الدين الى حالة الهذيان أو كما يسميها على الفواز..لعبة الهذيان الحروفي... ففي الحقيقة حتى العوالم التي اتجه إليها الحرف في رحلة المجهول هي عوالم متناقضة. اللغة شعر في جوهرها كإقامة الحقيقة في صورها عبر الشعر كقصيدة. والشعر يصبح بذلك جوهر الفن، يتجسد كقصائد من خلال الشاعر الذي يخلق العالم باختراقه الواقع، وهو مع ذلك راسخ القدم فيه،الشاعر على عكس العصابي، يتجاوز الواقع عن وعي، اللغة تستمد جوهرها الشعري كميتا لغوية من الشاعر الموجود خارج الواقع قبل تجسيد صورة الحقيقة في القصيدة، إنما الشاعر يستخدم الميتالوغية كأداة كما تستخدم اللغة العادية للتواصل. فعلاً نحن نندهش حين نرى هذه القدرة الرهيبة للغة في تحقيق هذا الهذيان الذي هو هذيان إبداعي، في تجسيد التناقضات التي يتمثلها المبدع أثناء عملية الإلهام، وهذه التناقضات ليست سوى حركة لا نهائية غير معقلنة، تعقلن من طرف الإنسان الذي يسجنه الواقع ويحاول تأطيرها . فماهو أصل اللغة ومن أين تنبع بالتحديد؟
تستمد اللغة حقيقتها من جوهر الإنسان ككائن غير مبرمج من الطبيعة برمجة كاملة بالغرائز و كما يقول "ادوارد سابير" في كتابه (اللغة مقدمة في دراسة الكلام،الجزء الأول"ترجمه عن النص الانغليزي وقدمه المنصف عاشور): اللغة منهج إنساني محض لا غريزي لتبليغ الأفكار والمشاعر والأغراض وبتوسط نظام من العلامات الموضوعية اختيارياً.. ويضيف .. الأصوات اللاإرادية الغريزية ليست في نظرنا من اللغة البتة.. ويقول أيضا في نفس الأثر.. لقد أشرت الى..أعضاء الكلام.. وقد يبدو لأول وهلة أن ذلك معناه القول بأن الكلام في حد نفسه عمل غريزي بيولوجي حددَ مسبقاً. ولا ينبغي أن يغرينا مجرد المصطلح إذ لا وجود في الحقيقة لأعضاء الكلام، ولا توجد أعضاء استخدمت عرضا لإنتاج الأصوات اللغوية. فالرئتان والحنجرة والحنك والأنف واللسان والأسنان والشفتان مستعملة لهذا الغرض إلا انه يجب ألا نرى فيها الأعضاء الأساسية للكلام أكثر من اعتبار الأصابع أعضاء أساسية للعزف على آلة البيانو أو الركبتين العضوين للقائم بالصلاة. فليس الكلام عملاً بسيطاً يحدثه عضو واحد أو أكثر مهيأ بيولوجيا لتحقيق ذلك الهدف بل الكلام نظام شديد التركيب وشبكة دائمة الحركة يتكون من التعديلات في المخ والجهاز العصبي وأعضاء النطق والسمع التي ترمي الى الغاية المنشودة وهي التبليغ. فالرئتان تؤديان في حقيقة الأمر وظيفة بيولوجية ضرورية هي التنفس والأنف حاسة الشم والأسنان أعضاء تستخدم لقطع الطعام قبل إعداده للهضم. وإذا كانت تلك الأعضاء وغيرها مستعملة دائما للكلام فالسبب في ذلك أن العضو بعد تحقق وجوده وطالما كان موضوع مراقبة إرادية يمكن للإنسان أن يستعمله لأغراض ثانوية.. اللغة من خلق الإنسان كأداة تواصل، إذا كان يفتقد لرموز وعلامات وإيحاءات، وأصوات غريزية تمكنه من هذا التواصل، فإذا كانت اللغة شعر في جوهرها باعتبارها تمكن الإنسان من التواصل عبر الميتالغوية بتجسيدها للحقيقة كصور في حركتها كشعر، فإننا نتوهم حقيقة اللغة التي لا تبدو كما نعتقد، إذا كان الإنسان هو الذي خلقها. اللغة تخاطب جوهر الإنسان في تفعيل قدرته على التحرر من سجن الواقع الراهن، هذا ما نعتقده لأنه ورغم أن اللغة تتجسد من خلالها صور الحقيقة في القصيدة كشعر،يقف الإنسان خلف اللغة كمادة يقوم بتطويعها. الشاعر ذلك الإنسان الذي مكنته الطبيعة من التحرك خارجها. تمكنه بواسطة اللغة التي هي من صنعه من تجسيد صور الحقيقة عبر الشعر، فإذا كان الشعر جوهر الفن كخروج عن الواقع المحسوس الملموس يتجسد هذا الخروج عبره، فالفضل لا يعود للغة، بل للإنسان الذي خلق هذه اللغة، يبدو في الظاهر أن اللغة تخاطب جوهر الإنسان وتدعوه للخروج عن الواقع غير أن العكس هو الصحيح بتحكم الإنسان في اللغة ، فهي لا تمثل سوى إطار تجاوز الواقع واختراقه من خلال القصيدة عبر الميتالغوية، وفي هذه الحالة نعلم عمق الشعر كجوهر الفن يشكل من خلالها كيانه وينحته، يتبادر لأذهاننا عمق الإنسان وثرائه لا في تجسيده للحقيقة كصور فحسب بل لقدرته العجيبة على تجسيد مثل هذه الصور المتناقضة والتي ليست سوى خروج عن الواقع بالإبحار في كل لاتجاهات وبطرق متناقضة.
ليس من سوء حظ الإنسان أنه لم يبرمج برمجة كاملة بردود أفعال غريزية لأنه تمكن من التحرر جزئياً من الطبيعة. غير أن السؤال الذي يطرح لماذا يتمكن الإنسان من اختراق الواقع أي انه لا يكتفي بالتواصل فيه عبر اللغة التي هي من خلقه، بل يرفض هذا الواقع عبر أصل اللغة المنفتحة على البدء وبنقيض العقل كما يقول الدكتور مصطفى الكيلاني، كميتا لغوية، تخول للإنسان الإبحار في العوامل المتناقضة، لماذا هذا السعي إلى اللاعقل، الهذيان، الجنون. إذا كان الشاعر أديب كمال الدين فعلا يخاطبنا من عوالم غريبة ومتناقضة ولانهائية. يجيبنا الشاعر نفسه في قصيدته: )الحرف يتشظى... النقطة تتدروش)
في كينونتي أعني في ارتباكي الكبير
ثمة حرف
وثمة نقطة. لا يمكن تخيل الحرف والنقطة بمعزل عن الشاعر، فهما يرتبطان به ارتباطاً عضوياً ولا ينفصلان عنه، فلا كيان لهما بدونه، وهو ما يعني أن تجربة الشاعر لم تستقِ من الموضوع بل تنبع من الذات كثراء ،كخصب، كعطاء، عبر شجرة غضة يانعة، ناضجة ثمارها يجتثها من قلبه لينير بها العالم وكما قال "فري بيتو " "الوجدان الإنساني هو نور يخرج من الأعماق ليتوج ويضيء تطور الكون بأكمله"..) إبداع الفنان). عبر الوعي بحقيقته الواقع. يقول الشاعر:
أنا النقطة
عرفتُ الحقيقة وعجنتها بيدي
قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة
وقبل أن يصل إلى القمر
وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية
بل إنني عرفت الحقيقة عارية
فأعطيتها ملابسي المثقوبة
ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة
وإفريقيا المجاعة
وأمريكا الأعاجيب.
الشاعر وهو يجسّد الشعر كقصائد يحيلنا على النقطة التي تشكل الحرف كعوالم لا نهائية في بحر لانهائي، والحقيقة وبما أن الشاعر يقف وراء اللغة يحركها ليجسد صور الحقيقة التي يقبع فيها الشاعر خارج الواقع، وهو مع ذلك راسخ القدم فيه، يعيه كواقع تقاتل أنانية، هيمنة، تسلط، تشويه، نهب، سلب ،تجويع، تجهيل، قمع، فزع، رعب. فإذا كانت النقطة تخلق عبرالعطاء، السخاء، الحب، السلام، الشوق، وإذا كانت كامنة في قلب الشاعر كشجرة مليئة بالشمس والتي تمتد في البحر اللانهائي وفي رحلة المجهول عبر الحرف ينبعث بها ويمضي منها،فيها وبها، فإن الشاعر هو النقطة، هو شجرة الحروف، يقام العالم من خلاله، هذا العالم المناف للواقع، كعالم عجيب غريب بإلغاء الصمت والفراغ عبر الحركة، فشجرة الحروف ساكنة في قلب الشاعر مليئة بالشمس على صغر حجمها، أي أن الوجود يتعين بما هو كذلك من خلالها، فإذا كانت النقطة أصل الحرف كعالم غريب وعجيب يتجسد في بحر لانهائي باعتبارها شمس مكتملة، فإن شجرة الحروف ليست سوى النقطة الكامنة في عمق الشاعر كفطرة فطر عليها، أي قدرة على اختراق الواقع وتجاوزه لا للإقامة في عالم الحقيقة، بل لإقامة هذا العالم وإنشائه. هذه النقطة تترك صداها عبر الحرف المخلوق من خلال عملية الخلق كارتباك وكارتجاج بماهي عملية خلق عالم يلغي الواقع وينفيه . فإذا كانت النقطة فطرة الشاعر في الواقع وخلق عالم مغاير له، فأين الحرف؟ الشعر جوهر الفن لا يتجلى من خلاله وجود الشاعر في عالم الحقيقة فحسب بل ترسم صور الحقيقة اللانهائية من خلاله، يصبح كوناً يتفتح تدريجياً شأنه شأن الكون الكبير في عملية الخلق، والفرق الوحيد بينهما في مادة الخلق المستخدمة. يتمثلها المتلقي في القصائد باعتباره إنساناً قادراً أيضاً على التحرر من الواقع عبر التواصل مع الشاعر ليؤكد حركة الحقيقة اللانهائية عبر الميتالغوية في الشعر كقراءة خاصة له، وبذلك تصبح كل قراءة كقراءة تنفي الواقع وتلغيه أي بتأكيدها لعالم الحركة المتناقضة الغير معقلن صحيحة، باستخدام المادة التي تواصل بها مع الشاعر أي الميتا لغوية والتي ليست سوى سمفونية. إن انفتاح الشاعر كانسان على اللانهائي لا يعدو غير ضرب من الإصغاء فحسب ، فنحن في الواقع لا نحس من خلال الشعر غير صور الحقيقة عبر الميتالغوية. هذا الانفتاح هو الإلهام لدى الشاعر، الفنان قيثارة الله لأننا نقبع في واقع معقلن. فهل حقاً ينفرد الشعر جوهر الفن، بتجسيده قدرة الإنسان على الإصغاء لصوت الحقيقة المتناقضة في حركتها، إذا اعتبر دور العقل ووظيفته ليست سوى تأطير، تصميم، تحديد أي عقلنة صور الحقيقة، بإلغاء التناقض، أي ليست سوى عملية تشويهية وتزييفية تخضع للواقع؟
#صالح_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|