يتساءل هذا المقال عن معنى شعارات "السياسة المبدئية" و"الثوابت الوطنية أو القومية" وما شاكلها مما ترفعه دول عربية عديدة. لكن غرضه ليس سجاليا مع ذلك. فليس الهدف رفض هذه الشعارات وإثبات زيفها، بل الاستفادة منها كموقع للنظر في بعض جوانب العملية السياسية في مجتمعاتنا المعاصرة.
(1)
ما الذي يقصده مسؤولو الدول حين يقولون إن سياستهم مبدئية وثابتة، أو إن معيارها هو "أهداف الوطن" أو "ثوابت الأمة"؟ السياسة المبدئية هي السياسة التي تلتزم بـ"قيم" و"أهداف" مستمدة من ثقافة المجتمع المعني، لا إشكال في هذه النقطة. لكن سهولة التعريف تخفي صعوبة التحديد: من يحدد المبادئ، وكيف؟ وما هي آلية ضبط السياسية بالمبادئ؟ وهل يتحدد تعريف المبادئ ذاته بآلية تعاقدية أم أنها متروكة لـ"الدولة" تحددها "على كيفها"؟ وهل "المبادئ" موجودة قبل "العقد الاجتماعي" أم أنها تالية له، أو ربما ليس هناك مبدأ غير العقد ذاته ( يعبر عنه الدستور كما سنرى)؟
وهكذا فإن السؤال عن المبادئ ومعنى السياسة المبدئية لا يلبث أن يقودنا إلى آلية تحديد المبادئ وعلاقتها بآلية التفويض السياسي: تعاقدية ودستورية أم مرسلة وتحكمية؟ وهذا الانتقال من سؤال عن مضمون المبادئ وتعريف السياسة المبدئية إلى سؤال عن آليات السياسة ذاتها مبني على افتراض ضمني يفيد بأنه لا يُعَوَّل ( ولا يجب أن يعول) في حكم الدول ووضع السياسات على فضيلة الأفراد أو إرادتهم الذاتية أو تاريخهم الشخصي أو نسبهم أو "مبادئهم" من جهة، ولا على إيديولوجيات الأحزاب أو تاريخها أو قياداتها من جهة أخرى. أي أن السلطة لا تستمد شرعيتها من الذوات أشخاصا أو عقائد أو أحزابا، وهذا لأنها (السلطة) بطبيعتها، وبصرف النظر عن "مبادئها" المعلنة، ميالة إلى التوسع ما لم تحدها سلطة أخرى (وعلى هذه القاعدة اقترح مونتسكيو فصل السلطات تجنبا للاستبداد)؛ ثم لأن السلطة المطلقة، أي غير المحدودة بسلطات أخرى، تفسد إفسادا مطلقا وغير محدود (اللورد أكتون) بصرف النظر عن إخلاص القائمين عليها وعن مضمون إيديولوجيتهم وسند مبادئهم، دينيا كان أم دنيوي. وهو ما يعني أن فرص مكافحة الفساد أكبر حين تكون السلطة نسبية ومحدودة. وكل التاريخ السياسي الحديث يثبت النجوع العملي والتحليلي لمبدئي مونتسكيو وأكتون الذين باتا بالفعل من مسلمات الحداثة السياسية.
ليس المهم، بالتالي، التصور الذاتي للسلطة عن نفسها بل القواعد التعاقدية أو المتفق عليها لضبط ممارستها. هذه القواعد اسمها الدستور. والتجربة العربية تثبت بما لا جدال فيه أن السلطة غير المنضبطة بدستور محتاجة إلى مبادئ "سامية" لتغطية سياسات غير مبدئية (بمعنى غير منسجمة أو غير خاضعة لقاعدة مطردة) وغير قابلة لأن تكون مبدئية. بل إن "السياسة المبدئية" تغدو رديف الاعتباط والبديل عن "دسترة" الحياة السياسية ومأسستها. فحين لا تكون السلطة مبنية على أرضية تعاقدية فإن المبادئ تنقلب أداة من أدواة السياسة عوضا عن أن تكون السياسة ملتزمة بالمبادئ.
(بالطبع لا تنضبط السلطة بالدستور لمجرد وجوده، ولا يتوافق وجود الدستور مع الانضباط به إلا إذا نتجت السلطة والدستور، التفويض والتقييد، عن عملية تأسيسية واحدة. ومن هنا أهمية فكرة الجمعية التأسيسية أو المؤتمر الوطني الدستوري في أي بلد يواجه أزمة كيانية. فالجمعية التأسيسية لا تضع للسلطة دستورا إلا لأنها تمنح للدستور سلطة حقيقة).
(2)
غير أن الإشكالية التي يصدر عنها مفهوم "السياسة المبدئية" لا تساعد على فهم العلاقة بين السلطة السياسية و"المبادئ" أو القيم الاجتماعية. فهي (الإشكالية) ترى أن هناك مبادئ سابقة ومتعالية على السلطة و"العقد الاجتماعي" من جهة، وسلطة هي أداة محايدة وسلبية لتحقيق مبادئ تحتكر وحدها الإيجابية. ماذا يختفي في "علم السياسة" هذا؟ المجتمع كإرادة عامة ممكنة وكفاعل سياسي. أو هو يحضر في الخلفية كركيزة لا غنى عنها لوجود دولة وسلطة وسياسة، لكنه مجرد من الفاعلية و"المبادئ" والرأي. بعبارة أخرى، لا يَمثُل المجتمع كمبدأ وكمنتج للتمثيل بل ككتلة سلبية خاملة ومبعدة عن إبداء رأيها في المبادئ الناظمة لسياستها؛ رغم أن هذه لا يمكن أن تكون غير "قيمها" و"مصالحها".
والغرض من ذلك أن الدولة غير الديمقراطية، أي غير التعاقدية أو الدستورية، لا تستطيع أن تكون إطارا لممارسة "سياسات مبدئية". وبالعكس لا يمكن أن يكون هناك مبادئ و"سياسات مبدئية" إلا في الدولة الديمقراطية. وأهم من ذلك أن الدستور، ولا شيئ غيره، هو "المبادئ الثابتة" الضابطة للسياسة. ولذلك يمكن القول إن الدستور يلغي "السياسات المبدئية" أو "ينسخها"، وأن الإصرار على هذه يعني بالضرورة رفض العملية الدستورية حتى لو وجد الدستور كوثيقة. فحين أخذت إدارة بوش الحالية، مثلا، تفرض "سياسات مبدئية وثابتة"، محافظة و"امبراطورية"، في الداخل الأميركي والعالم، أخذت تتواتر الشكاوى من التضييق على حريات الأميركيين وانتهاك قواعد الدستور الأميركي بالذات. بل يبدو أن اللبوس الديني والقومي لهذه المبادئ السياسية هو وسيلة لتحييد واحتواء، بل إخراس، الاعتراضات ذات الطابع التعاقدي والقانوني.
(3)
يمكن رفض هذا التحليل بالطبع، لكن فقط على أرضية مفهوم مختلف للسياسة والدولة. أما على أرضية المفهوم الحديث المؤسس بدوره على مفاهيم الشعب والأمة والدستور والتعاقد والحزب السياسي والمجتمع المدني والمواطن فلا يمكن إلا التسليم بأنه لا "سياسة مبدئية" في ظل الدولة غير الديمقراطية. هذا يعني أن مسعى الدولة العربية للحديث عن سياسة مبدئية لا يستقيم ضمن البنى الحالية للدولة والسلطة فيها، وهي بنى حديثة في مجملها، وأن سياساتها "المبدئية الثابتة" لا تعدو كونها إيديولوجية تتستر على مصالح غير تعاقدية، وبالتالي فئوية. (وإنه لمما يثير التأمل أن المصالح الفئوية لا تنسب نفسها إلا إلى مبادئ عامة ومطلقة، ثوابت، فيما تتضايف المصالح العامة التعاقدية على الدوام مع مبادئ نسبية وتوافقية). وبالتأكيد لا تصلح "الخصوصية" العربية الشهيرة، سواء كان سندها ثقافيا (تراثنا وقيمنا ...إلخ) أم جيوسياسيا (المرحلة حرجة والعدو على الأبواب ... إلخ) أم اقتصاديا (مستوى تطورنا الاقتصادي ...إلخ)، أساسا عقليا متماسكا لتقديم مفهوم مختلف للسياسة والدولة، وبالتالي لاستنقاذ شرعية مفهوم السياسة المبدئية.
(4)
وبقدر ما يتكشف مفهوم "السياسة المبدئية" غامضا وإشكاليا وخادعا على أرضية المفهوم التعاقدي للسلطة، فإن ثنائية المبدئية والبراغماتية تتكشف، بالمقابل، مصطنعة وزائفة. فبما هي السياسة كفن وممارسة و"سياسة" واستصلاح، فإن البراغماتية تفترض سلفا الدستور، أي وجود ضوابط صلبة و"ثابتة" للسياسة. وهذا المعنى الشائع للبراغماتية ليس بعيدا عن مفهومها العالِم كاعتراض على وجود مبادئ مطلقة سابقة للاجتماع البشري أو متعالية عليه (وعلى العدمية). فاجتماعية المبادئ تعني أن الخِيرة فيما اختاره الناس، وأن التسوية والحلول الوسط والمساومات التي تضمن أن لا يخرج أحد خاسرا (حتى لو لم يكن الكسب متعادلا) هي المبادئ المقبولة لأية سياسة. وبهذا المعنى السياسة غير البراغماتية ليست سياسة. لكن الدستور، وهو حل للتعارض بين الحاجة إلى "مبادئ مطلقة" وبين اجتماعية المبادئ، هو الذي يحدد القواعد العامة التي تجعل السياسة البراغماتية، أي السياسة فحسب، ممكنة.
لا يستطيع الفاعل السياسي، حزبا أو سلطة دولة، أن يكون براغماتيا إلا في إطار ديمقراطي، أي ضمن الإطار ذاته الذي يشرط إمكانية وضع "سياسة مبدئية" بالمعنى الدستوري للتعبير. والحال إن ميزة الديمقراطيات الناضجة عن غيرها هي مأسسة القيم الاجتماعية، أي تحقيقها في الواقع وتحويلها إلى روتين وعادة (انتخابات حرة وسلطة تشريعية مستقلة، قضاء مستقل، صحافة حرة، آلية تداول سلطة...إلخ). وهذا ما يحرر المنافسات السياسية من المزايدات القيمية و"السياسات المبدئية" بالمعنى الإيديولوجي للعبارة، ويتيح لها أن تتركز على البرامج والاستراتيجيات والخطط. فالقيم المحققة واقعيا تكف عن الطفو على السطح الاجتماعي، وتغدو أكثر ممانعة للتسييس والأدلجة. وبالعكس فإن طفو القيم في الدول غير الديمقراطية أو سيولتها يسهل التلاعب بها وتحويلها إلى أدوات في الصراع السياسي. من هنا لا نكف عن سماع تهم بالخيانة واللاوطنية في النقاش السياسي العربي، ولا تمتنع السلطات عن التشكيك في وطنية نقادها أو معارضيها. فالخيانة هي الوجه الآخر لـ"المبادئ الثابتة"، وكلاهما انعكاس لسيولة القيم وتسييسها. وكما نرى فإننا ننتقل بسهولة من إخضاع السياسة المفترض للقيم والمبادئ (وهو معنى "سياسة مبدئية وثابتة") إلى التسييس الفعلي للقيم والمبادئ واللعب بها، أي أن إشكالية سياسة/مبادئ (تغييب المجتمع) تنقلب على ذاتها من تلقاء ذاتها. ولعل هذا ما يفسر أن تديين السياسة، سواء بإسناد "المبادئ الثابتة" إلى الدين أو برفع مبادئ من أصل غير ديني إلى مرتبة عقيدة مطلقة، يقود بصورة محتومة إلى تسييس الدين والتلاعب به.
(5)
إن مأسسة القيم، دستوريا ومؤسسيا، في الديمقراطيات هي شرط إمكان التناول الوضعاني للمجتمع والثقافة والدين والسياسة. أي أنه في إطار تعاقدي ديمقراطي تتحرر سياسة المعرفة وليس سياسة الناس وحدها. وبالعكس تنتعش المقاربات الإيديولوجية والتأملية الفضفاضة في المجتمعات التي لم تحسم قيمها الأساسية وتُدوِّنها في مؤسساتها العامة. والدرس الهام هو أن تثبيت، أو- إن صح القول - تقييد القيم في الدستور والمؤسسات منهج أجدى وأكثر أمنا من تركها طليقة في الشوارع، يُسْرِجها أهل السلطة أو أهل الدين للوصول إلى مآربهم؛ وهو أيضا منهج أنجع من أجل المعرفة الموضوعية وشرط لا غنى عنه لاستقلال المعرفة. فالقيم "الحرة" بهذا المعنى أي المتعالية على الدستور، مضادة لقيم الحرية، ولا تعاش الحرية إلا إذا رست القيم على ثوابت دستورية ومؤسسية. ففي النهاية ليست الحرب والحرب الأهلية إلا تبادلا لإطلاق القيم المطلقة و"الطليقة" وإنكارا لأي مشترك قيمي أو معرفي.