من تجليات الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر:
المثقف المصري وأوان المواجهة الشاملة مع العائلة الحاكمة في مصر
أن يطمع الملك في احتساء دماء رعيته، فهذا شيء ليس بالغريب على تاريخ الأمم والممالك، وأن تطمع الحاشية في القفز إلى سفينة الملك العامرة، فهو أيضا شيء حدث مرارا في التاريخ الإنساني المسجل في ذاكرة تلك الأمم، لكن أن تضع بعض الشعوب رأسها على المذبح بلا مقاومة، فهذا ليس حدثا عاما في تاريخ كل الشعوب، فهناك من أطلق صرخة الرفض التي أذهلت الملوك وحاشيتهم وبلاطهم، فتبدلت الأدوار وذهبت رأس الطاغية ومعاونيه إلى المقصلة، التي أعدها ليصفي بها دماء شعب لم يتوقع منه أبدا أن يثور، فكان ثمن مثل هكذا خطأ في الحساب، هو الوصول إليها بدلا منهم.
هكذا إذن لم يكن غريبا على مصر أن يقيم ملكها مؤتمرا لتنصيب وتتويج ولي عهده أميرا على الجمهورية! ولم يكن غريبا أن تلتف حوله في مؤتمر النفاق هذا، تلك الحاشية الجهنمية البغيضة، القابضة على مصر من رأسها إلى أخمص قدميها حتى الاختناق، ولكن الغريب حقا والذي يستحق جيشا من الباحثين والعلماء لوضعه تحت المنظار هو: كيف هكذا مرت الواقعة دون أن يكون رد فعل المصريين حدثا يحكى في العالم؟! الغريب حقا كيف هكذا تهون علينا نفوسنا فنسلم رؤوسنا بذلك الخنوع المريب؟! الغريب حقا كيف لم تنطلق صرخة الرفض في مصر من سبعين مليونا من البشر وهم على شفا حفرة من المقصلة؟! بدءً بذلك البائع المتجول المنهك وحتى ذاك المفكر الكبير، الذي ربطنا الأحزمة على بطوننا في مطلع الشباب كي نشتري كتبه عن الثورة والتغيير؟!.
كي تبحث إذن عن إجابة لهذه الأسئلة المذهولة الحائرة، فإنك ينبغي أن تبحث أولا:(لماذا)تفعل العائلة المالكة الحاكمة في مصر ما تفعل، بتلك الجرأة دون خوفٍ من رادع ما؟! وثانيا:(لماذا)لا يغضب المصريون أبدا؟ رغم أن ما يتعرضون له من ظلم قد يفوق ما تعرض له شعب آخر في العالم، فهو ظلم متواصل أبدي، بدأ مع التاريخ المسجل وأصبح ميراثا كريها يرثه المصري رغم أنفه عبر العصور، وثالثا:(من) عليه أن يطلق الشرارة أو طلقة الغضب الأولى؟ ثم رابعا:(متى)و(كيف) يبدأ الغضب؟ وكيف ينتهي وإلام ينتهي؟ ذلك الغضب الذي أصبحت مصر في حاجة إليه ربما بأكثر من حاجتها إلى الخبز، إن لم يبدأ الآن حيث الحاضر مسروق، والمستقبل مرهون بيد عائلة، وضعها قدر مصر أحمق الخطا على رأس السلطة منذ قرابة ربع قرن من الزمان، فمتى يبدأ إذن؟!
أولا: العائلة الحاكمة في مصر
فقط جمال عبد الناصر وأنور السادات هما من حكما مصر ولم يرث ابن أيٍ منهما أو أحد من عائلتيهما الحكم، كان ذلك طبيعيا لأنهما كانا رئيسين لجمهورية وليسا ملكين يجلسان على عرش المملكة المصرية! أما قبلهما فكانت مصر تتخاطفها أيدي عائلات من هنا وهناك، من كل أطراف المعمورة وعلى مر العصور، بعد الاختطاف الأول من أيدي الفراعنة الذين أنشئوا وأسسوا تلك الدولة المغرقة في القدم، من الفرعون إذن إلى الرئيس مرت مصر بعائلات تحكمها وتتوارث حكمها، مرورا بالولاة والسلاطين والملوك والخلفاء، وراعي مصر وخديوي مصر.. إلخ، حتى جاء يوليو من عام 52 فإذا بمجموعة من الشباب تندفع لتنهي الملكية وتبدأ الجمهورية الأولى في تاريخ مصر، رغم كل ما شابها وما قيل ويقال عنها تاريخيا، لكنها كانت جمهورية ! ولم تثر أبدا في عهد عبد الناصر المؤسس الأول للجمهورية المصرية مسألة توريث الحكم، إذ لم يكن ذلك مطروحا لا عالميا ولا محليا، وأقصى ما أثير في عهده هو ذلك الجدل المستمر حتى الآن بشأن مساحة الديموقراطية المختلف عليها، ولم تثر تلك المشكلة في عهد السادات، وأكثر ما أثير حينها هو استغلال أفراد أسرته لنفوذه وموقعه للاستفادة في التجارة، بدءً بتجارة الأخشاب وحتى تجارة الحشيش! أو مسألة سطوة زوجته ونفوذها المتغلغل في الدولة، لكن أحدا لم يثر أبدا مسألة توريث الحكم الجمهوري في عهده، لأنه لم يكن مطروحا أصلا، كان عبد الناصر مشغولا طوال فترة حكمه بتحدي الاستعمار الشرس ومعركة التنمية والتعليم التي يحتاجها شعب أمي منهك فقير يحاول رفع رأسه بعد مضي عهد الاستعمار، وكان السادات مشغولا بمحاولاته الحثيثة للتخلص من شبح عبد الناصر الذي أرقه، وظل مشغولا حتى قتل على المنصة بعد إحدى عشرة عاما قضاها في حكم مصر، وفي محاولة إزالة كل ما أنجز في عهد غريمه السابق، كانت تلك إذن معاركهما التي استغرقت سنين حكمهما لمصر، فلما جاء محمد حسني مبارك إلى حكم الجمهورية المصرية لم تثر كذلك في بادئ الأمر مشكلة توريث الحكم لابنه، فماذا حدث حتى تصبح تلك المشكلة الآن هي لب ولبيب كل حديثٍ عن مصر داخليا وخارجيا؟ وإحقاقا للحق لم يكن مبارك وحده من سال لعابه لتطبيق سنن الممالك على الجمهوريات في السنوات الأخيرة، فدوليا ها هو حيدر علييف في أقصى شرق آسيا يستميت لتحضير ابنه إلهامي علييف لرئاسة الجمهورية (تركمانستان أو كازاخستان أو واحدة من تلك الجمهوريات!)، وفي أفريقيا ورث جوزيف كابيلا مركز أبيه لوران كابيلا في قيادة حركة تمرد ثورية في الكونجو الديموقراطية، وفي العالم العربي ورث الشبل الأصغر بشار الأسد رئاسة الجمهورية بعد أن قتل الشبل الأكبر في حادث مروري والذي كان إعداده للإرث يجري على قدم وساق قبل مقتله، وعدل زبانية الحاكم العجوز دستور البلاد في جلسة سريعة بعد وفاته، كي يتلاءم مع عمر الشبل الصغير فكان أن ورث الفتى سوريا عن بكرة أبيها! وكان صدام حسين يعد ابنه قصي لوراثة الجمهورية المشوهة التي كانت قائمة على أرض الرافدين، لولا أن القدر وأميركا تعاونا كلاهما فقضي على حلمه وولديه معا! والآن يتصاعد اسم ابن على عبد الله صالح في اليمن واسم ابن القذافي بل واسم ابنته أيضا! وبنفس تلك الوتيرة التي تصاعد بها اسم جمال مبارك في مصر حتى طغى! دوليا إذن حدث أن تحركت غريزة السطو والاقتناص داخل نفوس الرؤساء الذين يرأسون جمهوريات مشوهة، (فلم تثر مثل هكذا قضية في بريطانيا مثلا أو فرنسا، والتي بذلت شعوبهما أنهارا من الدماء حتى تمكنت في نهاية المطاف أن تمسك العصا للحاكم وليس العكس!) شعوب تلك الجمهوريات المشوهة لم تتشبع سياسيا واجتماعيا وثقافيا بروح الديموقراطية الحقيقية، فهي لم تتعب حتى تحصل عليها ولم تضح من أجل نيلها، لذلك يسهل على الرئيس القناص أن يستكثرها عليهم ويسهل عليه أن يستسلم لغريزته فيحاول اختطافها لابنه، وقد يتصادف أن تساعده مصالح دولية تلتقي مع رغبته المحمومة في الاحتفاظ(بالأمر)لعائلته، فيلقى المساعدة وغض الطرف الدولي عن فعلته مقابل تسهيلات يقدمها لتلك الأطراف الدولية حتى لو كانت– بداهة– على حساب شعبه! أو العكس كما حدث مع صدام حسين عندما لم تلتق رغبته في حفظ الأمر لابنه مع مصالح الأطراف الدولية، ساعد على نمو تلك الرغبة الخبيثة عند هؤلاء الرؤساء دوليا أن ظروف جمهوريات نهاية القرن العشرين اختلفت عن تلك التي أحاطت بجمهوريات الخمسينات والستينات من ذلك القرن الذي ولى، فقد كان عصر الجمهوريات في أواسط القرن الماضي عصرا ثوريا تحرريا، وبالتالي كان مشينا حقا أن يسطو رئيس على الولاية لصالح عائلته، كما أنه كان عصرا ليس به كل تلك الرفاهية المتاحة للرؤساء الآن، حتى ولو كانوا رؤساء لأفقر الدول مما يسيل لعابهم حتى ولو كان كفيلا بإغراق شعب بأكمله! في ذلك المناخ الدولي كبر نجلا الريس حسني في مصر! وبّيت الرجل النية بعد إدراكه المبكر للظاهرة الدولية في غفلة من المصريين فلم يعين نائبا له ولن يفعلها الآن بالطبع! وعندما أصبح الأمر مسألة عائلية كانت الأم الرؤوم تعد ابنها للحدث الجلل على مر تلك السنين! دون أن يدري المصريون، وعندما حان الوقت لبدء الإعلان التدريجي ظلت بالونات الاختبار تنطلق الواحدة بعد الأخرى عاما وراء عام، حتى خرج المصريون من حالة الذهول الأولية التي تحدث عادة تحت تأثير طبيعة الخبر ذاته كاذبا أو صادقا، فبدأ الأمر يظهر علنا بالتدريج حتى أقيم حفل التتويج منذ أيام، بعد أن وصل كل أطراف العائلة إلى أقصى حالات استباحة مصر وثرواتها وأراضيها وخزائنها، بل وكرامتها وقيمتها التاريخية والدولية وأحلامها وحاضرها ومستقبلها، فالأحاديث عن ثروة ومشروعات وأموال وأعمال علاء مبارك تسبب الألم لكل باكٍ على هذا البلد المنهوب، والأحاديث عن مستوى الرفاهية التي يعيش بها الولدان يثير الغضب، حتى أن قصورا تبنى لهما هنا وهناك في أرجاء مصر شمالا وجنوبا(وتتحدث النكات بمرارة عن رغبة الابن في فتح قصريه في أسوان وشرم الشيخ على بعضهما! في إشارة لامتلاكهما لكل مصر!) وسطوة ونفوذ الأم العجوز يثيران لغطا كبيرا، سواء في مجالس المسؤولين أو المثقفين أو قهاوي الحسين! وتنازلات الريس الكهل للأطراف الدولية وتقاعسه أمام إهانات إسرائيل لمصر أصبحت تثير شعورا بالاشمئزاز، بل والخجل من ذلك الرجل الذي جاء بالإهانة لمصر من دول لم تكن موجودة أصلا على الخريطة أيام كانت مصر تتحدى بكبرياء، بل وتشارك في قيادة تحدي العالم الثالث لجشع وشراسة الغرب ورأسماله! وتدهش عندما ترى تلك العائلة مستمرة حتى الآن رغم كل تلك الكوارث التفصيلية والاستراتيجية التي جرتها على البلاد، حتى أفقد العوز المصريين كرامتهم! لكن الدهشة قد تزول عندما تعرف أن جيشا داخليا من قوات الشرطة يتصدى للمصريين ويذلهم في الشوارع والطرقات وأقسام البوليس، حتى لا يتمرد أي منهم أو تسول له نفسه بالتحدي، جهاز الشرطة الذي أصبح كوحش رباه مبارك عبر اثنين وعشرين عاما، يفترس المصريين كل يوم ويهينهم على نواصي كل طرق مصر ويقتل بعضهم تعذيبا في أقسام البوليس، حوّل جلالته البلاد إلى دولة بوليسية لا تطاق ولا تحتمل.. البطش الذي تمارسه الشرطة يوميا يعطي هذه الأسرة شعورا زائفا بالأمان.. تتمادى في غيها وجشعها وفسادها بقوة البوليس، هذا هو ما أطال عمرها حتى الآن، لكنه بالطبع لم يطل عمر أسرٍ مرت قبلها في التاريخ، فلم تصمد الأسرة الطاغية ولا آلاف القوات التي تحميها أمام غضب الجائعين، بل وانضمت تلك القوات أحيانا إلى جموع الجائعين لتسحل أفراد تلك الأسر فردا فردا، وفي الثورة الفرنسية وهي واحدة من أروع الدروس في التاريخ الإنساني، كانت الجماهير تهتف للويس السادس عشر:"عاش الملك"، وتصاب بالذعر من قواته وتهتف بحب الملكة، لكنها- نفس الجماهير- هي التي ساقت الملكة نحو المقصلة، بتشفٍ ساوى سنين العذاب تحت وطأة نفوذها في الدولة، ونصرتها لطبقة النبلاء والإقطاعيين، فقط عندما وجدت تلك الجماهير من يتقدمون الصفوف- وكان أحدهم جان بول مارا أحد الثوار حينئذٍ- الذي خطب فيهم قائلا:" لا حق لوريث العرش في الغذاء طالما أنكم لا تجدون الخبز.. نظموا صفوفكم المسلحة.. هيا احملوا رؤوس الوزراء التافهين.. انه الوقت المناسب"!
ثانيا: لماذا لا يغضب المصريون؟
كان آرثر يونج- الذي عاصر الثورة الفرنسية وكتب عنها- يقوم برحلة في مقاطعات فرنسا في العام الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية عام 1789، وقابل الرجل فلاحة فرنسية كانت تشكو من الضرائب والمستحقات الإقطاعية التي تجعلها على حافة الإملاق، وذكرت أن باقي الفلاحين مثلها، لكنها أضافت قائلة:" أعلم أنه لابد أن يقوم عدد كبير من الناس بعمل شيء.. أي شيء.. من أجل هؤلاء البؤساء، فالضرائب والرسوم تسحقنا". هكذا إذن يتعذب الفلاحون المصريون وطبقات الشعب المصري الدنيا والوسطى بشرائحها المختلفة، تحت وطأة جشع ملك مصر وعائلته وحاشيته، لكن البائعين المتجولين في شوارع المدن المصرية والعمال المنهكين والفلاحين المعذبين والفقراء المطحونين، والموظفين البائسين وصغار التجار المطالبين بدفع المستحقات في كل الاتجاهات والعاطلين عن العمل، والنساء المطحونة طحنا مزدوجا تحت وطأة كلٍ من الثقافة الذكورية البغيضة المهيمنة على المجتمع المصري من ناحية، وعملية السحق المتواصل من ناحية أخرى والتي تمارسها طبقة الحاكم وحاشيته، ممن يسمون برجال الأعمال والسماسرة والمنتفعين والوزراء المرتشين وغيرهم من الفاسدين المتألقين في تربة تعهدها ملك مصر بالرعاية منذ سنين، هؤلاء المنهكون المقهورون كلهم، كيف ننتظر منهم أن يقودوا غضبا منظما؟، هؤلاء لا يبقى منهم في نهاية كل نهار إلا حطام إنسان!، نسمع كل يوم في الجرائد عن منتحرين من بينهم بسبب الفقر والعوز وضياع الكرامة الإنسانية تحت وطأة الفاقة، هؤلاء هم من يدفعون ثمن ما يحدث في مصر بدون إذنهم، يدفعون ثمن إيثار المثقفين للسلامة والابتعاد عن المواجهة، ويدفعون ثمن صراع الكهول الهاربين من مخلفات الحرب العالمية الثانية في الأحزاب الكسيحة في مصر، ويدفعون ثمن جشع هذا الطفح على سطح مصر المسمى كذبا رجال الأعمال، ويدفعون ثمن هذه العلاقة غير الشريفة بين المسؤولين والوزراء وعائلة الرئيس والسماسرة، هؤلاء مثلهم مثل الفلاحة الفرنسية التي وصلت إلى حد الإملاق من سحق النبلاء والإقطاعيين لأمثالها، لكنها كانت تعرف- كما يعرف المصريون المسحوقون الآن – أن:"عددا من الناس ينبغي أن يفعل شيئا"!
ثالثا:من وكيف ومتى يغضب المصريون؟
في نشرة بعنوان:"ما هي طبقة العوام؟" صدرت في يناير من عام 1798(أي قبل اندلاع الغضب الفرنسي بأقل من سبعة أشهر)طرح المثقف الفرنسي جوزيف سييز ثلاثة أسئلة وأجاب عنها:"ما هي طبقة العوام ؟ إنها كل شيء.. ما حالها حتى الآن؟ لا شيء.. ماذا تريد هذه الطبقة أن تكون؟ تريد أن تكون شيئا ما.."، ورغم أن الثورة الفرنسية كانت ثورة الطبقة الوسطى التي ضاقت ذرعا باحتقار النبلاء لها، فإنها عندما اندلعت تحولت إلى ثورة إنسانية استفاد من مكاسبها كل الشعب الفرنسي، بل وكان لها الأثر العالمي الرهيب حول حقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وغير ذلك، فالكادحون المنهكون من استغلال باقي الطبقات لهم ورغم انهم الطبقة الأكثر تعرضا للظلم فإنهم تاريخيا لا يقدرون على الغضب المنظم الفاعل، فقط المثقفون هم من يطلق الشرارة الأولى، وفقط هم من يمكنهم تحويل الغضب المكبوت في كل الطبقات إلى فعل منظم، هم لا يخلقون الغضب ولكنهم فقط ينظمونه، فقد كانت خطب ميرابو وروبيسبير وجان بول مارا وهم جميعا مثقفون وصحفيون من الشريحة العليا في الطبقة الوسطى الفرنسية تلهب مشاعر الشعب الفرنسي، وتحركه وتوجهه وتنظم غضبه الموجود أصلا، وتحول الفوضى العارمة التي صحبت بدايات الثورة إلى فعل إيجابي يضع أحلام الثوار موضع تنفيذ، فاستطاعت هذه الجماهير أن تسقط الباستيل المرعب- والذي تفوقه بشاعة أقسام البوليس المصرية الآن-، بل واستطاعت تلك الجماهير أن تفعل المستحيل حينما انتظمت تحت المطر والبرد وبدون اجر، لتسوي مساحة من الأرض تبلغ ثلاثمائة مليون قدم مربع وتبني فيها الشرفات والمنصات في خمسة عشر يوما فقط، من اجل الاحتفال فيها بدستور جديد يعلن لأول مرة في التاريخ المساواة بين المواطنين أمام القانون، الشعوب إذن لا تخرج صباح ذات يوم من تلقاء نفسها، لتصرخ رافضة الظلم، هناك من يهيئ المناخ للغضب، وهم المفكرون والمبدعون الذين يشقون طريق الغضب في صدور المقهورين، الجماهير الفرنسية التي أسقطت الباستيل وساقت الملكة المتغطرسة إلى المذبح كانت قد جهزت تماما بفعل سحر إبداع وجرأة وتحريض المفكرين والمبدعين الفرنسيين على اختلاف طروحاتهم، مثل روسو و مونتيسيكيو وغيرهم كثيرون، سواء كان طرحهم قد مثل صدمة علمانية ضد تخلف وغطرسة وظلم الكنيسة ورجالها، أو صدمة فنية في مسرحيات تصرخ بطلب العدل، فقد دعيت مانون رولاند لزيارة سيدة من طبقة النبلاء قبيل الثورة الفرنسية ، وهي سيدة رقيقة كيسة مثقفة كما تصفها كتب التاريخ، وعندما طلب منها أن تأكل مع الخدم وألا تجلس إلى المائدة مع الضيوف النبلاء صرخت صرخة مروعة احتجاجا ورفضا، فانعكست صرختها على الشعب الفرنسي بأكمله، وعلى إبداعاته المسرحية التي مهدت لتعميم تلك الصرخة، وفي مصر هناك بالفعل من ينبغي أن يفعل شيئا وهو تلك الشريحة من الطبقة الوسطى في مصر التي كان يتم على يدها التغيير في كل مرة تغير فيها وجه مصر، منذ أسس محمد علي باشا الدولة الحديثة، هذا الذي ينبغي أن يفعل شيئا هو هؤلاء المثقفون- القادرون- على تكوين جبهة تطلق الشرارة الأولى، وبعدها سوف يدعمهم هؤلاء البائسون الذين ينتظرون فقط أن يضيء أحدهم الطريق، انهم بحكم كثرتهم الغالبة وبحكم مرارة ما ذاقوه من ظلم وفاقة وإذلال مستعدون لأعظم التضحيات، وقد تجلت مقدرة المصري على التضحية كثيرا عبر التاريخ، ولكنها كانت تضحيات لا يحصدون نتائجها أبدا، هذا لا يعني أن الحل للمأساة المصرية هو انتظار(المسيح المخلص)، فالحقيقة أن ثورة عظيمة مثل الثورة الفرنسية لم يكن لها قائد بعينه! وإنما هيأ لها مناخ فكري جريء ساهم في تكوينه عشرات المفكرين الذين طرحوا أفكارا ترفض التخلف الديني والسياسي والاجتماعي، ثم قادها مجموعة من المثقفين الثائرين الرافضين للقهر الذين ألهبوا الجماهير الجاهزة للانفجار، بل وفي بداية الثورة عام 1789 تكونت(الجمعية الوطنية) التي قادت كل ما حكته كتب التاريخ من أحداث جليلة مهيبة مروعة في فرنسا، حتى انتهت الفوضى العارمة بعد سنوات لتخرج إلى العالم فرنسا التي نعرفها الآن، لم يكن فردا محددا..لم يكن مفكرا بعينه..لم يكن ثائرا بالذات.. المسؤول عن تلك الثورة! لم يكن يقودها(مسيح مخلص)، وإنما مجموعة من المثقفين كونت(الجمعية الوطنية)، والتي اعترض الملك لويس السادس عشر في أيام ضعفه الأخيرة على اعتبارها ممثلة للأمة الفرنسية، بحجة إن ذلك غير قانوني! ولكن(الأمر)كان قد بدأ، والمعايير التي كانت تحدد ما هو قانوني وما هو غير قانوني لم تعد ذات أثر أو قيمة في المرحلة الجديدة، هذه(الجمعية الوطنية)حلت نفسها بمجرد صدور أول دستور يقر ببدايات حقوق الإنسان التي تتحدث عنها الآن كل الأمم، يحتاج المصريون إذن إلى تكوين مثقفيهم الكبار لشيء أشبه بالجمعية الوطنية التي أنشأها المثقفون الفرنسيون قبل أكثر من 300 سنة، المصريون الجاهزون للغضب يعدون بالملايين، ممن سحقوا تحت أقدام عائلة حاكمة وطبقة تتبادل معها الدعم على حساب حقوق وكرامة ومستقبل ملايين المصريين، لكنهم بحاجة إلى(جمعية وطنية) تضع خطط الغضب وترسم طريقه وتوجه وتنظم وتوحد الجهود!، فقط بشيء من قبيل(النسخة المصرية)من الجمعية الوطنية الفرنسية مع مراعاة فارق ثلاثة قرون، يمكن للمصريين أن يتخلصوا من هؤلاء الجلادين، ويمكن لهم أن يصوغوا دستورا جديدا يتمكنون في ظله ولأول مرة في تاريخهم، أن يكفوا عن الهتاف البغيض"عاش الملك.. عاش الملك"، فقط بشكل من أشكال (الجبهة أو الجمعية الوطنية) يمكن لنا أن نقلب المائدة عليهم أو.. نسوقهم إلى مقصلة تنتظرهم منذ قرون!
هويدا طه
كاتبة من مصر