|
عندما يطير الفلاسفة
مصطفى لغتيري
الحوار المتمدن-العدد: 2098 - 2007 / 11 / 13 - 09:01
المحور:
الادب والفن
الإدهاش هو السمة المميزة للإبداع الحقيقي ، فكلما امتلك النص نصيبا من الطرافة و الجدة مشفوعين بصوغ أدبي بليغ، تتراص فيه الكلمات بحرفية و إتقان ، استطاع هذا النص شد الانتباه ، وانتزع – بالتالي- شهادة اعتراف من طرف المتلقي بأن صاحبه ، أي صاحب النص ، قد أبدع فأجاد. هذا ما جال بخاطري ، و أنا أتلقى نصوص المجموعة القصصية " عندما يطير الفلاسفة " باكورة القاص محمد أيت حنا الصادرة عن منشورات أجراس .. ومبعث ذلك في نظري النهج الذي ارتضاه القاص لنفسه في كتابة قصص المجموعة ، تلك التي أبدا لا يمكن أن تمر على القارئ مرورا عاديا عابرا و كريما .. بل فمنذ النصوص الأولى ، يجد المتلقي نفسه ضحية استفزاز لذائقته الأدبية ، فلا مناص حينئذ من الغوص عميقا في ذاكرته القرائية ، بحثا عن مرجعية مفترضة لهذه النصوص المائزة .. وهذا بالضبط ما أناخ بكلكله علي ، و أنا أتصفح قصص المجموعة ، التي جاءت في ثمانين صفحة من الحجم المتوسط ، ضامة في حضنها اثنتي عشرة قصة. ولعل أول ملاحظة تثير القارئ تتمثل في مرجعيات النصوص باعتبار أن لكل كاتب مرجعيته أو مرجعياته ، فلكل منا أسلافه من الكتاب الذين قد يتم الإعلان عنهم حينا ، لكنهم يظلون مستترين في ثنايا المكتوب و لا وعيه حينا آخر .. هذا علاوة على أن نصوص المجموعة تغري بذلك البحث و تحث عليه . ولما كانت كل كتابة هي – من حيث العمق - تربطها علاقة تناص مع كتابات أخرى سابقة لها ،فإن المتلقي لكتابة محمد أيت حنا ، سرعا ن ما ينبثق إليه من ملفوظ النصوص و مسكوتها ، الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ، بكل ما يمثله هذا الهرم في ذاكرة القصة العالمية. ومرد هذا الإقرر سمات معينة تميز كتابة أيت حنا ،منها ما يتعلق بالتيمات و أخرى تتعلق بالأسلوب ، وهذا ما يجعل شبح بورخيس يطارد القارئ من أول النصوص حتى آخرها. لقد تميز بورخيس بكتابته المميزة له دون غيره ، والتي تتخذ من المكتوب السابق لها مرجعا لها ، فهي كتابة مثقفة ، لا تني تنقب في التراث الإنساني عن الطريف و الغريب ،و العادي أحيانا ، لتتخذ منه تيمة لها ، فتعيد تشكيله بوعي حداثي عصري ، باحثة فيه عن عناصر لم يتم التطرق إليها من قبل ، لتسلط عليها الأضواء حينا أو تفسرها بشكل مختلف أحيانا أخرى .. هدفها خلق الدهشة لدى المتلقي ، كما حدث حينما استثمر بورخيس قضية خطأ ابن رشد في ترجمة التراجيديا و الكوميديا بالهجاء و المدح. وقد سارت نصوص مجموعة "عندما يطير الفلاسفة "على نفس المنوال ، خاصة في قصص بعينها مثل قصة الآخرو قصة الفيلسوف الطائر وقصة ما تفعله بك الجيوكاندا و قصة ذات الوشاح الأحمر.. ففي هذه القصص و غيرها يستحضر الكاتب الحادث الأصلى أو النص الأصلي محاولا إعادة قراءته انطلاقا من مرجعيته الخاصة ونظرته للحياة و الكتابة ، فيستغل ذلك من أجل عرض تصوراته التي غالبا ما يطبعها التجريد في قصص المجموعة ، وهذا في رأيي يحد من توهج بعض النصوص رغم قيمتها العليا ، إذ لا سبيل للقص سوى الاشتغال في الملموس ، والتجسيد . ويتجلى تأثير بورخيس كما سلف التنويه إلى ذلك في الأساليب كذلك ،فمن عكف على قراءة بورخيس يسهل عليه تمييز أسلوبه من بين كم من الكتابات .. ويتميز أسلوبه بغلبة الطابع المنطقي التحليلي ، والتقشف في التعبير أو ما يطلق عليه بالإقتصاد ، هذا فضلا عن الابتعاد كليا عن المحسنات البلاغية التقليدية ، واعتماده على أسلوب يميل إلى الأسلوب الصحفي التقريري... وقصص "عندما يطير الفلاسفة " تضرب في نفس الأرض ، وتتوسل في تعاطيها مع السرد بذات الأسلوب ، الذي يميل نحو منطقية التحليل والتضمين و الاستدلال والاستنتاج .. لنكتشف في آخر المطاف – أقصد بعد قراءة المجموعة القصصية- كاتبا مثقفا و اسع الاطلاع ، يؤثث قصصه بإشراقات ذهنية مقتبسة أو وليدة التحليل المنطقي المتبع في نسج قصص المجموعة.. أخيرا و بعد هذ الوقفة العجلى عند مجموعة " عندما يطير الفلاسفة" التي تستحق كل الاهتمام ،و لكي يأخذ القارئ فكرة واضحة عن نمط الكتابة عند القاص محمد أيت حنا ، سأورد هذا المقطع من قصة الفيلسوف الطائر ص 40 يقول السارد" فجأة أشرقت في باله تلك الفكرة / الحل ، لقد اكتشف أنه هو نفسه العنصر الثالث ، البعد الثالث في العلاقة ، إنه هو خالق المفهوم ، وهو الذي يمنحه القدرة على الطيران ، بل إنه هو الذي يحمله و يحلق به قاطعا الأقاليم وطاويا المسافات : إن الفلاسفة طيور بالمعنى الحقيقي للكلمة ، وليس ذلك قطعا على سبيل المجاز".
عندما يطير الفلاسفة- محمد أيت حنا- منشورات أجراس الطبعة الأولى . الدارالبيضاء 2007
#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار
-
بيت لا تفتح نوافذه لهشام بن الشاوي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|