|
أَلاعِيبٌ صَغِيرَةْ!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 2095 - 2007 / 11 / 10 - 11:30
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
رزنامة الأسبوع 30 أكتوبر – 5 نوفمبر 2007 الثلاثاء: أن تنشط شبكة إجراميَّة أجنبيَّة في اختطاف أطفال دارفور، أو في أيَّة جرائم قذرة أخرى عابرة للقارات، لهو مِمَّا يستدعي أعمق مشاعر الغضب، ويستوجب أعلى درجات الجديَّة في استكمال التحقيقات، وتقديم مَن يطاله الاتهام للمحاكمة بالسرعة المطلوبة. لكن، ومع أن هذه الظواهر تشكل بعض آثار الحريق المشتعل في الاقليم لأكثر من أربع سنوات، ولا يمكن تفاديها بغير إطفائه نهائيَّاً، إلا أنها لا تصلح، على أيَّة حال، لـ (الاستثمار) في تشويه صورة العمل الانساني الدولي الجاري في الاقليم بالجملة، كما (يُشتم) من الأداء السياسي والاعلامي الرسمي الجاري حاليَّاً، تمهيداً، في ما يبدو، للتضييق عليه مستقبلاً! إن هذا ليشبه، تماماً، المطالبة بإبادة قبيلة بأسرها لمجرَّد أن (بعض) أفرادها لصوص أو حتى قتلة! الأربعاء: شاسعٌ هو الفارق بين (اللفظ) الذي يخدم (معنى لغويَّاً) مباشراً، وبين (المصطلح) الذي يُؤدي (دلالة مجازيَّة) منضبطة. وكلُّ (مصطلح) هو، بشكل ما، (تاريخه). لكن، بقدر ما يصحُّ هذا في شأن (المصطلح) الذي استقرَّت خصوصيَّة الوقائعيَّة المفاهيميَّة لاستخدامه مكاناً وزماناً، بقدر ما قد تتدخل شروط فكريَّة تاريخيَّة معيَّنة لتفرض إعادة النظر في جدوى هذا الاستخدام، وما إن كان لا يزال يفي بـ (الدلالة) المحدَّدة، أم أن ثمَّة احتياجاً لصكِّ مصطلح بديل يتسق مع مستجدات الواقع الموضوعي المتغيِّر. خذ عندك، مثلاً، مصطلح (المثقفون) أو (الانتلجينسيا) المستمد مِن اللاتينيَّة intelligens في معنى (عالم) أو (مفكر)، وهي الفئة الاجتماعيَّة التي مهَّد لظهورها (تقسيم العمل) وانفصال الذهني منه عن الجسدي. لقد سلخ غرامشي، في مقالته الشهيرة (تنشئة وإعداد المثقفين وصقلهم)، جُلَّ سنوات السجن يتقصَّي حدود المصطلح القصوى، وما إن كان، أو لم يكن، ممكناً إيجاد (معيار) موحَّد تتميَّز به فئة (الانتلجينسيا). ولئن كان قد صكَّ، من خلال مبحثه القيِّم هذا، مصطلح (المثقف العضوي)، الذي ما يزال يُستخدم بصورة رثة، للأسف، في الكثير من الكتابات، فإن إحدى أهمِّ ملاحظاته، في السياق، تلك التي أشار فيها إلى أن أكثر الاخطاء المنهجيَّة شيوعاً، على هذا الصعيد، هو البحث عن هذا (المعيار) في (نشاط) المثقفين، فحسب، بمنأى عن مجمل (العلاقات الاجتماعيَّة) المعقدة التي تنعكس، بالضرورة، داخل هذا (النشاط) نفسه، وبالتالي (الكتلة الاجتماعيَّة) التي تجسِّده على نحو مخصوص. فالرأسمالي، مثلاً، يكتسب، خلال (نشاطه) الاجتماعي، قدراً من الكفاءة الثقافيَّة، ومع ذلك فليست هي التي تقرِّر وضعه الطبقي، بل تقرِّره (العلاقات الاجتماعيَّة) التي يتحدَّد من خلالها مركزه في الصناعة، والأمر صحيح أيضاً بالنسبة للعامل والمزارع .. الخ. النشاط الذهني، إذن، بوجه عام، و(الثقافة)، خصوصاً، هي حقل النشاط الأكثر تمييزاً لعمل (المثقفين)، رغم أن هذا التميُّز لا يجعل منهم طبقة اجتماعيَّة، بل فئة تتوزع انتماءاتها في خضم (العلاقات الاجتماعيَّة) بين مختلف الطبقات، بحسب خياراتها وتحيُّزاتها على صعيد الفكر الاجتماعي. مع ذلك ليس من النادر ملاحظة بعض أوجه (التقارب) الفكري في المواقف والمنطلقات، بإزاء كثير من الاحداث واللحظات، بين شرائح من (المثقفين) يفترض التعارض في انحيازاتهم. ولئن ظلَّ مشهد هذه الفئة يتسم، على هذا الأساس، بحراك متسارع، أغلب الاحيان، ما بين حدَّي التباين والتماهي، فإنه لم يعُد من العسير، مؤخراً، ملاحظة الشقة الآخذة في الاتساع، نتيجة لحدَّة الاستقطاب، بين كتلتين رئيستين ضمن الفئة الاجتماعيَّة ذاتها: (المثقفون) و(الخبراء)، حتى ليصحُّ الحكم بأنها لم تعد منقسمة إلى شرائح متعدِّدة، كما في السابق، بل إلى هاتين الشريحتين فحسب، مما يقتضي فضَّ الاشتباك المفاهيمي حتى لا تختلط عناصر المشهد، في الذهنيَّة الشعبيَّة على أقل تقدير! أفضل (كوَّة) ، في تقديرنا، للنفاذ إلى هذه الاشكاليَّة، هي ما يمكن أن نطلق عليه (نموذج الاستشراق). لكننا نحتاج، قبل ذلك، إلى تدقيق رؤيتنا المعرفيَّة للعلاقة بين (الثقافة) وبين (العلم) و(التقانة). ولعلنا نجد ضالتنا في اجتهادات بعض المفكرين العرب، فهؤلاء أهل (وجعة)، وأقدامهم (العالمثالثيَّة) على الجمر! محمد عابد الجابري، مثلاً، عُني في كتابه (المسألة الثقافيَّة، ط 1، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 1994م)، وتحديداً في مبحثه حول موضوعة (الاختراق الثقافي، ص 177 ـ 182)، برفع التباسين معرفيَّين: أولهما يتعلق بمنزلة (العلم والتقانة)، من جهة، كعنصر في (الثقافة) التي تنتسب، بطبيعتها، إلى مجموعة بشريَّة مميَّزة، ذات جغرافيا محدَّدة، وتاريخ مختلف؛ وكظاهرة كوسموبوليتانيَّة لا وطن لها، من الجهة الأخرى، فلا يعيب (استيرادها)، مبدئيَّاً، استقلاليَّة (الثقافة) التي هي في مسيس الحاجة إليها لأغراض الاخصاب والتطوير، اللهمَّ إلا عندما يجري (تصديرها)، مِن جانب مَن يملكها، (كوسيط) لإحداث (الاختراق) لـ (ثقافة) الآخر والهيمنة عليها وعليه. الالتباس الثاني يتعلق بالفرق بين نوعين من هذا (الاختراق)، أحدهما تعرَّضت له شعوب العالم الثالث بالأمس، والآخر تتعرَّض له اليوم. النوع الأحدث هو المحمول على (وسائط) المنجز (العلمي والتقني)، أما النوع الأقدم فهو الذي كان جزءاً من الظاهرة الكولونياليَّة بصورتها الكلاسيكيَّة خلال القرون (18، 19، 20)، عندما توسَّلت الدول الاوربيَّة بالبعثات التبشيريَّة، والرحلات الاستكشافيَّة، والارساليَّات التعليميَّة، فضلاً عن (الاستشراق) الذي احتلَّ موقعاً فريداً بين تلك الوسائل ، لشق الطريق أمام العمليَّة الاستعماريَّة أولاً، ثمَّ لترسيخها من بعد. من جانبه أفرد إدوارد سعيد حيِّزاً مقدَّراً من جهده الفكري لفحص ظاهرة (الاستشراق)، في كتابه بذات العنوان، ولفضح طبيعة (الخدمة المباشرة) التي قدَّمها (المستشرقون) لتلك الامبراطوريَّات، سواء من مواقعهم (كخُدَّام) لأجهزة دول المتروبول، أم في الادارات التي أنشئت في المستعمرات نفسها، وذلك من حيث (تخصُّصهم) في دراسة جغرافياها، وتاريخ شعوبها، وسبر أغوار أنثروبولوجياها، لجهة اللغات، والديانات، والعادات، والموروثات، والتقاليد، والأمزجة، وكلِّ تيارات التأثير على ثقافاتها الماديَّة والروحيَّة كافة، حتى صاروا (خبراء) في هذا المجال! هكذا تقاصر دور (المستشرق) القديم، على خطورته، عن قامة (المثقف) الحُرَّة الفارهة المفترضة، لينحبس في سمت (الخبير) الذي يبيع (خبرته) هذه لحكومة بلده، أو لأيَّة حكومة أخرى .. سيَّان! ثمَّ جاءت مرحلة ما بعد الحرب الثانية لتشهد تصفية النظام الاستعماري القديم، حيث بدا كما لو ان دور (المستشرق الامبراطوري) قد أخذ في التراجع تحت رايات التحرُّر الوطني والسلام والديموقراطيَّة وحقوق الانسان، لينزوي، نهائياً، في متحف العاديات! وبالمقابل راحت حراكات (المثقفين) الحُرَّة تتفجَّر في شتى الميادين، وفي كلِّ بلدان العالم، خلال الفترة من أربعينات إلى سبعينات وربَّما ثمانينات القرن المنصرم. على أن ذلك المسار سرعان ما أخذ ينقلب على عقبيه لعدة عوامل، أهمها اثنان. أولهما أن دور الدولة الوطنيَّة في بلداننا بدأ يتراجع بعد الاستقلال السياسي، أكثر فأكثر، من التحرير إلى القمع، من احلام الديموقراطيَّة إلى كوابيس الشموليَّة، من حقائق التنمية الشعبيَّة إلى أوهام المستبدِّ العادل! في هذا السياق لم تجد الدولة الوليدة أمامها سوى النموذج الكولونيالي الذي لم تكن آثار أقدامه قد امَّحت تماماً، فراحت تستنسخه، وإن بكيفيات أخرى! أما ثانيهما فهو أن هذا التراجع نفسه فتح شهيَّة الامبرياليَّة العالميَّة، التي لم تكن قد انسدَّت أصلاً، لتستسهل استعادة وضعيَّة هيمنتها السابقة على مقدرات العالم وشعوبه، وإن بكيفيات أخرى أيضاً! وبانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، أواخر الثمانينات وأواخر التسعينات، استكملت هذه الشهيَّة أقصى انفتاحها (خَلا لكِ الجَّوُّ فبيضِي وافرخِي)! ثمَّ وقعت كارثة الحادي عشر من سبتمبر لتحصُل هذه (الشهيَّة المفتوحة) على مبرِّراتها (الشرعيَّة)، وربَّما (الاخلاقيَّة)! إقتفاء الدولة الوطنيَّة القامعة في بلداننا أثر النموذج الكولونيالي أفرز نوعيَّة جديدة من (المثقفين) الذين ما ينفكون يتزايدون ، منحدرين أكثر فأكثر من مواقع الفكر المستقلة إلى مواقع (الخُدَّام) الذين يُخضعون تخصُّصاتهم (الرفيعة) لتقديم (الخدمات) المباشرة للحاكم ، نخبة كان أم فرداً، فأدرجت الامبرياليَّة، وعلى رأسها أمريكا، هذا الواقع الجديد ضمن خططها لاستعادة وضعيَّة الهيمنة القديمة المتجدِّدة! هكذا بدأ (الاستشراق الجديد) يزدهر، مستعيداً دور (الاستشراق القديم) بأقنعة (الخبراء) الجدد الذين أضحت تقذف بهم، بالآلاف، إن لم يكن بأكثر، الجامعات والمؤسَّسات الاكاديميَّة ومراكز البحوث الغربيَّة. وقد لاحظ إدوارد سعيد، في آخر مؤلفاته (الإنسانيات والنقد الديموقراطي)، الصادر من جامعة كولومبيا بعد وفاته، تأثير صدمة الحادي عشر من سبتمبر على راهن النقد والعلوم الانسانيَّة، حيث، وكالعادة ، صار (الخبراء) المحليُّون يقتفون آثار (الخبراء الغربيِّين/المستشرقين الجدد). هل تعيننا هذه (الكوَّة) في النفاذ إلى فضاء الاشكاليَّة؟ ربَّما! على أنه أصبح يلزمنا، في كلِّ الاحوال، التفريق بين مصطلح (الخبير) المثير للريبة، والذي يشيع استخدامه الآن أكثر فأكثر، وبين مصطلح (المثقف). فالخبرة (سلطة)، لكن الثقافة (حريَّة)، ولا بد أن نحسن تدقيق المصطلحات!
الخميس: مدهش حقاً، بل محيِّر تماماً، أن يقيم اتحاد الصحفيين السودانيين الدنيا ولا يقعدها، متوعِّداً بالويل والثبور وعظائم الأمور صحفيين لبُّوا، جهاراً نهاراً، دعوة من إدارة التواصل outreach بالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بلاهاي، لزيارة مقرِّها، والتعرُّف على أجهزتها، وتراتبيَّتها الهرميَّة، ومناهج وأساليب وآليات عملها، وعلاقاتها مع بعضها البعض من جهة، ومع الدول الاعضاء من جهة أخرى، ومع الامم المتحدة من جهة ثالثة، فضلاً عن تمكينهم من إجراء حوارات مع بعض رموزها، وعلى رأسهم المدَّعي العام الدولي، وما إلى ذلك. وهي، حسب علمي، زيارات علنيَّة روتينيَّة درجت هذه الادارة على تنظيمها لقانونيين وكتاب وصحفيين وفنانين وغيرهم من مختلف القطاعات ذات الصِّلة، ومن مختلف بلدان العالم، مثلما درجت على تنظيم دورات تدريبيَّة، بالانفراد أو بالاشتراك مع بعض مراكز الدراسات والبحوث المرموقة في المنطقة، يحاضر فيها متخصِّصون في القانون الدولي من كوادرها ومن غيرهم، حول القانون الانساني الدولي، وتطوُّر مبادئ القانون الجنائي الدولي، وتاريخ فكرة المحكمة، والمسار الذي أفضى لنشأتها، و(نظام روما) الذي تعمل بموجبه .. الخ. أوَّل أسباب دهشتي وحيرتي (السَّلاسة) التي حاد بها الاتحاد عن جادَّة وظيفته، لينصِّب من نفسه سلطة إداريَّة فوق الصحفيين، ورقيباً مسئولاً عن ضمائرهم وتحرُّكاتهم، وحارساً لبوَّابة دخولهم وخروجهم من وإلى أي مكان، بحيث ينبغي عليهم أن يلغوا عقولهم، وأن يشطبوا حساسيَّتهم الناقدة، وأن يخضعوا لتوجيهاته وحدها في (الندب والكراهيَّة)، وأن يسعوا للحصول على إذنه كلما اعتزموا حلاً أو ترحالاً، بينما المفروض أن الصحفي (الصحفي!) ، كناشط مدني يتصدَّى لمسئولياته تجاه قضايا وطنه وشعبه، هو، في المبتدأ والمنتهى، مثقف يتمتع بكامل حريَّته، وتمام استقلاله، في كلِّ ما يتعلق بتقرير خياراته حول مَن يحاور، وإلى أين يذهب، وبمن يلتقي، وماذا يكتب، وكيف يحصل على معلوماته، ومن أي المصادر يستقيها، لا يخضع في ذلك سوى إلى سلطة القانون العام إن هو، مثلاً، سلم دولة أجنبيَّة خرائط أو وثائق أو أيَّة معلومات حربيَّة مِمَّا قد يصل إلى علمه، أو أشان سمعة أيِّ شخص بدون مسوِّغ قانوني، أو نشر أخباراً كاذبة، أو مواد لا أخلاقيَّة. ولو كانت طبيعة عمل الصحفي ألا يذهب إلا مذهب الحكومة، ولا يرى إلا ما تريه، ولا يهتدي إلا إلى ما تهديه من سبل (رشادها!)، لأضحى الصحفيُّون أجمعهم نسخاً أميريَّة باهتة من طبعة واحدة مكرَّرة، تعلك اليوم، بالرتابة ذاتها، ما يعلم الناس أنها قد علكت بالأمس، وما سوف تعلك في الغد! فأيَّة مهنيَّة هذه؟! وأيُّ ميثاق هذا الذي يمكن أن يغري بالتواثق عليها؟! بل وأيُّ قراء هؤلاء الذين لا يجدون ما يصلح للتثاؤب واستدعاء النعاس غير هذا النمط من (الخدمة) الصحفيَّة؟! السبب الآخر للدهشة والحيرة هو إما أن الاتحاد نفسه، وهو يسوط عصيده اللبيك هذا، لا يعلم، وتلك مصيبة، أو أنه يعلم ويغضُّ الطرف، وتلك مصيبة أعظم، بأن الحكومة ذاتها التي يظنُّ، وبعض الظنِّ إثمٌ، أنه يخدمها ببيانه ذاك، (متورِّطة)، إن جاز وصف الأمر بـ (الورطة)، في نفس (الفعل!) الذي يؤاخذ عليه، الآن، صحفيين يشهد لهم الناس بالشرف والنزاهة، وليست مهمَّة، بعد ذلك، شهادته هو، حيث يبقى، في كلا الحالين، (متورِّطاً)، حتى أسنانه، في جريرة الكيل بمكيالين، واضعاً نفسه أمام قضيَّة منطقيَّة لا مفرَّ له من مجابهتها، ليس سياسيَّاً فحسب، بل وأخلاقيَّاً أيضاً! ذلك أن الحكومة، وأمام أعين الجميع، بما فيهم اتحاد الصحفيين نفسه الذي لم يجرؤ على قولة (بغِمْ) واحدة في مؤاخذتها: (1) أسهمت بهمَّة، وتمثيل رفيع، في أعمال المؤتمر الدبلوماسي الدولي الذي انعقد بروما عام 1998م، وأصدر (نظام روما) الذي تأسَّست بموجبه (المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة). (2) وقعت على هذا (النظام) في 8/9/2000م، قبل أن تنقلب، دون أن تسحب توقيعها، لتصف ذات المحكمة بأنها مؤسَّسة (استكباريَّة)، وأداة (للتسلط) و(الهيمنة الدوليَّة)! وهنا يلوح، بإلحاف، سؤال منطقي: لماذا وقعت إذن؟! ورغم أن الاجابة مسئوليَّة الحكومة واتحاد الصحفيين وحدهما، إلا أن ثمَّة احتمالين، عقلاً، بلا ثالث: فإما أنها لم تكن تعلم بطبيعة (الهيمنة الاستكباريَّة) الكامنة في صلب هذه المحكمة ، أو أنها كانت تعلم لكنها وقعت تضعضعاً! وأيُّهما كان (خيار) الحكومة والاتحاد، فإنه، بدون شك، أشدُّ مرارة من الآخر! (3) أبدت قدراً كبيراً من (التعاون) مع المحكمة، رغم مواقفها المتشدِّدة تجاهها في العلن! والغالب أنها كانت ترغب في أن تبقى هذه المسألة طيَّ (الكتمان!) لولا أن المدعي العام الدولي كشف عن تفاصيلها فى تقريره الدورى أمام جلسة مفتوحة لمجلس الأمن صباح 13/12/05، وما كان له ألا يفعل، كونه جهة عدليَّة وليست سياسيَّة، على العكس مِمَّا تردِّد الحكومة صباح مساء، حيث أعلن، مثلاً، عن موافقتها على استقبال وفد من مكتبه فى فبراير 2006م ، ليتفقد ".. سير المحاكم الوطنيَّة ومدى مطابقتها للمعايير الدوليَّة ونظام روما!"، واصفاً ذلك (التعاون) بـ (الايجابي) و(الجيِّد)، ومتطلعاً "إلى المزيد منه!" (الصحافة، 14/12/05). عندها اضطرَّت الحكومة للاقرار بالأمر على لسان وزير العدل النائب العام الذي أعلن عن "ترحيبه!" بمقدم الوفد، وتأكيده على "استعداد الحكومة للتعاون والتجاوب معه!"، مشدِّداً على ما أسماه "بإمكانيَّة (التكامل!) بين المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة والمحاكم الوطنيَّة" (الصحافة، 15/12/05). وصرَّح مندوب السودان إلى الأمم المتحدة بأن "هناك (تعاوناً)، بالفعل، من جانب الحكومة" (الصحافة، 14/12/05). كما سارع وزير العدل النائب العام للاقرار، أيضاً، بزيارة سابقة للبلاد قام بها، فى 17/11/05، وفد من مكتب المدَّعي العام، وبموافقة الحكومة دون الإعلان عنها "حتى لا يساء فهمها!" (المصدر). (4) أقدمت، رغم إعلانها رفض الاعتراف بالمحكمة، على إبرام اتفاق مع حكومة يوغندا، حسبما أوردت صحيفة (النيشن) الكينيَّة في نوفمبر 2005م، للتعاون على (تنفيذ!) مذكرة توقيف صادرة عن نفس هذه المحكمة بحق زعيم (جيش الرب) جوزيف كونى وثلاثة من مساعديه! (5) درجت على المشاركة بنشاط في دورات انعقاد الجمعيَّة العامََّة للدول (الاعضاء!) بالمحكمة ، والتي تناقش سبل تطويرها، وتذليل العقبات التي تواجه عملها، وكانت آخر هذه المشاركات في دورة الانعقاد الخامسة بلاهاي، أواخر نوفمبر 2006م، بوفد عالي الكفاءة برئاسة السفير سراج الدين حامد. (6) سلمت مكتب أوكامبو، رغم مجاهرتها بالعداء له، نسخة من تقرير (لجنة التحقيق الوطنية حول الوضع فى دارفور برئاسة دفع الله الحاج يوسف)، والتي كانت قد كوَّنتها عام 2004م بموجب قانون لجان التحقيق لسنة 1954م، وهو التقرير الذي لم يختلف جوهريَّاً، بالمناسبة، عن تقرير (لجنة كاسيسي) الدوليَّة لجهة إثبات وقوع الانتهاكات الرئيسة في الاقليم. كما مكنته أيضاً من أخذ إفادات بعض المسئولين، وعلى رأسهم وزير الدفاع! ولم يتكشف ذلك إلا من خلال مؤتمرين صحفيين عقدهما أوكامبو نفسه: أولهما أواخر نوفمبر 2006م، على هامش الدورة الخامسة المار ذكرها لجمعيَّة الدول الأعضاء، والآخر في 27/2/07، وقد أعلن فيه وضع ملف قضيَّة دارفور الأولى أمام محكمة ما قبل المحاكمة. (7) تكشفت، إلى ذلك، وفي أكثر من مناسبة، عن تشقق بائن في موقفها من المحكمة، حيث يؤازر ثقل معتبر منها مساعى بعض الدوائر في وزارة الخارجيَّة "لتجنيب البلاد مواجهة مع المجتمع الدولي"، ولو من خلف وزارة العدل (تحليل محمد لطيف؛ السوداني، 1/5/07)، دَعْ مواقف شركاء في الحكومة ما انفكوا يدعون، علناً، إلى عدم الاصطدام بالمحكمة ومجلس الأمن، وعلى رأسهم الحركة الشعبيَّة لتحرير السودان، وفصيل حركة تحرير السودان الموقع على (اتفاق أبوجا)! والآن، وفي ضوء هذا الغيض من فيض موقف الحكومة الملتوي بشأن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، أين، تراه، يدسُّ اتحاد الصحفيين وجهه؟! وبم عساه يفسِّر، تحت ضغط كلِّ هذه الحقائق، غضبته المُضريَّة على صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم ذهبوا في اتجاه مستقل، يتزوَّدون بمعلومات مختلفة، من مصادر مغايرة لمصادر الحكومة التي لم تنجح في غسل أدمغتهم، كما نجحت مع آخرين رغم ارتباكها الواضح، بل تناقضها المفضوح، بين إسهامها الباكر في تأسيس المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، ثمَّ تعاونها في وضع فكرتها موضع التنفيذ، وبين انقلابها لمعاداتها بمجرد أن اقتربت عدالتها لتطال جرائم دارفور، كما فشلت تماماً في أن تسوِّق لهم حيلتها السايكوإعلاميَّة البئيسة للمطابقة، في أذهان العامَّة، بين وقع لفظة (لاهاي)، مركز العدالة الجنائيَّة الدوليَّة التي ناضل من أجلها ملايين الناس في العالم لعقود طوال، وبين وقع لفظة (الموساد) مثلاً؟! هذا هو، في حقيقته، مغزى بيان اتحاد الصحفيين، ولتذهب إلى الجحيم، بعد ذلك، أسس المهنيَّة والموضوعيَّة! لكن، لئن كان محض الانتماء الفكري والسياسي إلى النخبة الحاكمة هو دافع السادة القابضين، الآن، على زمام الاتحاد ، فإنني أهدي إليهم قولة الحق التي لم يحُل انتساب رئيس تحرير (الصحافة) السابق إلى الحزب الحاكم دون الجهر بها، معلقاً على (حِيَل) الحكومة لتفادى استحقاقات العدالة، بقوله: إن المجتمع الدولي ".. لم يعُد يثق بلجان الحكومة واقتراحاتها ووعودها. وليس هذا من فراغ، فالحكومة ثبت أن هوايتها المراوغة .. وما تمثيليات القبض على قطاع الطرق باعتبارهم جنجويد ومحاكمتهم بتلك الطريقة المضحكة إلا نموذجاً لنوعيَّة تلك الألاعيب الصغيرة التى لم تجدِ وأفقدت النظام مصداقيَّته" (عادل الباز؛ الصحافة، 15/12/05).
الجمعة: أثارت (فتوى) فضيلة شيخ الأزهر، محمد سيِّد طنطاوي، بتوقيع (حدِّ القذف)، ثمانين جلدة، على الصحفيين الذين يسيئون إلى سمعة الحكومة، موجة عارمة من الاحتجاجات الغاضبة، لدرجة ارتفاع المطالبة بعزله عن منصبه! جلست أستمع إليه يتحدَّث إلى قناة العربيَّة، مساء 19/10/07، محاولاً شرح (فتواه)، والتخفيف من غلواء ما أثارت من غضب، بقوله إنه لم يقصد صحفيَّاً بعينه، بقدر ما رمى إلى تبيان (حكم الله)! لكن فضيلته بدا موغلاً في الخلط بين مفهومي (القذف) في الشريعة الاسلاميَّة و(إشانة السمعة) في القانون الوضعي، فطاش سهمه، للأسف، وخابت رميته، وجلَّ من لا يخطئ. خبرة المشرِّع السوداني، مثلاً، منذ العام 1983م، انتبهت، على علاتها الكثيرة، إلى ضرورة التفريق بين المفهومين. فحتى ذلك الوقت لم تكن النصوص المتواترة في هذا الحقل، وآخرها نصوص (قانون العقوبات لسنة 1974م)، تعرِّف وتجرِّم سوى فعل (إشانة السمعة ـ Defamation)، تأسِّياً بالقانون الانجلوسكسوني Common Law، وبالأخص في تطبيقاته الهنديَّة، غير أنها كانت تصطلح عليه، في الترجمة العربيَّة، بمصطلح (القذف)، علاوة على تعريف وتجريم تلك التشريعات لـ (الكذب الضار). وعلى هذا سلكت، أيضاً، الممارسة القضائيَّة والفقه، منذ بواكير القرن العشرين وحتى صدور (قانون العقوبات لسنة 1983م)، ضمن ما يُعرف بـ (قوانين سبتمبر)، ثمَّ (القانون الجنائي لسنة 1991م)، بنيَّة تقنين (الشريعة الاسلاميَّة)، فكان لا بُدَّ من مجابهة إشكاليَّة المفاهيم والمصطلحات المتداولة في حقلي التشريع الاسلامي والوضعي. مفهوم (حدِّ القذف) في الشريعة الاسلاميَّة، بدلالة العقاب على رمي المُحْصََنات بالزِّنا دون الإتيان بأربعة شهداء، مستمدٌ من قوله تعالى: "والذين يرمون المُحْصَنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا" (4 ـ 5؛ النور). أما مفهوم (إشانة السمعة) فمستمد من خبرة القانون الوضعي في حماية (السمعة الشخصيَّة) من أن تسند إليها، قصداً، أيَّة واقعةٍ يكون من شأنها (خدشها)، بدون مسوِّغ من الاستثناءات التي حدَّدها المشرِّع. إذن، وعلى حين تعرِّف الشريعة الاسلاميَّة (القذف) بإسناد (الزنا)، فقط، إلى المُحْصَنات، ظلت القوانين الجنائيَّة السودانيَّة المتواترة إلى ما قبل (قانون العقوبات لسنة 1983م) تعرِّفه بإسناد (أيَّة واقعة) لأيِّ شخص يكون من شأنها (خدش سمعته)، كما تعرِّف (الكذب الضار) كجريمة منفصلة تقوم على نشر (الأخبار الكاذبة) بقصد (خدش سمعة) أيِّ شخص أو طبقة من الناس أو الدولة أو أيٍّ من مؤسَّساتها الدستوريَّة أو هيئاتها الاداريَّة أو أجهزتها السياسيَّة. وعلى حين تستثني الشريعة الاسلاميَّة من (حدِّ القذف) الاتيان بأربعة شهود، إستثني (قانون العقوبات لسنة 1974م) من تجريم (القذف)، في معنى (إشانة السمعة)، حالات عشر، كما استثني من تجريم (الكذب الضار) حالة واحدة هي النشر بحسن نيَّة. جاء (قانون العقوبات لسنة 1983م) ليميِّز بين (القذف)، كجريمة حدِّيَّة (م/433)، جاعلاً عقوبتها ثمانين جلدة إذا كان المقذوف في حقه مسلماً، والجلد والغرامة أو السجن في الحالات الاخرى (م/434)، دون أن يحفل بما إذا كان إسناد الزِّنا كذباً أم بحق، وبين (إشانة السمعة والكذب الضار) بعد إدماجهما في مادة واحدة، كجريمة وضعيَّة عقوبتها الجلد والغرامة أو السجن تعزيراً (م/435). ثمَّ جاء (القانون الجنائي لسنة 1991م) ليُبقي على جريمة (القذف) كحدٍّ، بعد أن توسَّع في تعريفها لتشمل "كلَّ من يرمي كذباً شخصاً عفيفاً، ولو كان ميتاً، بالزنا أو اللواط أو نفي النسب"، وعرَّف الشخص العفيف بأنه مَن "لم تسبق إدانته بجريمة الزنا أو اللواط أو الاغتصاب أو مواقعة المحارم أو ممارسة الدعارة"، وجعل عقوبتها الحديَّة ثمانين جلدة دون تفريق بين مسلم وغير مسلم (م/157)، كما أضاف مسقطات لهذا (الحدِّ) حصرها في أربع حالات (م/158). أما من الناحية الاخرى فقد أعاد المشرِّع تعريف جريمة (إشانة السمعة) بإسناد وقائع إلى شخص معيَّن، أو تقويم سلوكه، بقصد الاضرار بسمعته، بعد استبعاد (الكذب الضار) نصَّاً، واعتبار وروده حكماً، جاعلاً لهذه الجريمة ستة استثناءات (م/159). وهكذا، فلا المصادر الأساسيَّة في الشريعة الاسلاميَّة، نظريَّاً، ولا خبرة تطبيقها في السودان، كخبرة بشريَّة تستلزم النظر، عمليَّاً، يمكن أن تسعف فضيلة شيخ الأزهر في (فتواه) بتوقيع (حدِّ الجلد) على الصحفيين الذين يسيئون إلى سمعة حكومتهم!
السبت: اجتماع مؤسَّسة الرئاسة الذي انعقد ليل الجمعة 2/11/07 لمناقشة كيفيَّة تجاوز الأزمة الناشبة بين شريكي اتفاقيَّة السلام، تمخض، وفقاُ للوكا بيونق، وزير رئاسة حكومة جنوب السودان، عن تكوين لجنة فنيَّة مشتركة لحسم القضايا الخلافيَّة في موعد اقصاه الحادي والثلاثين من ديسمبر القادم، كما أمَّن على القرارات التي توصَّلت إليها المفوَّضيَّة السياسيَّة لوقف إطلاق النار وانتشار القوات في اجتماعها بتاريخ 1/11/07. ويُتوقع، حسب بيونق أيضاً، فراغ اللجنة من عملها، ومن ثمَّ إصدار قرارات مهمَّة خلال يومين أو ثلاثة (السوداني، 3/11/07). قضايا التعداد، والحدود، وأبيي، والمصالحة الوطنيَّة، ونزع السلاح بمواقع النفط، هي جملة القضايا التي شملها اتفاق مؤسَّسة الرئاسة، حسب بيونق. لكنه لم يشر إلى قضيَّة (التحوُّل الديموقراطي) تحديداً، رغم أنها تواترت، خلال الايام السابقة، في تصريحات رسميي الحركة، باعتبارها مطلباً أساسيَّاً من المطالب التي لن تنفرج الازمة بدون تلبيتها. مع ذلك دعونا نتفاءل بأن الحركة ربما اكتفت بورود (المصالحة الوطنيَّة) في قائمة مطالبها التي استجيب لها، كعنوان عام يندرج تحته، حكماً، مطلب (التحوُّل الديموقراطي)، لا سيَّما أن اتفاق مؤسَّسة الرئاسة على تكوين (لجنة للمصالحة الوطنيَّة) كان مِمَّا صرَّح به الوزير بيونق نصَّاً (الرأي العام، 3/11/07). ما يهمُّنا هو أن هذين المفهومين يقترنان، وجوباً، بمفهوم (العدالة الانتقاليَّة)، مِمَّا يقتضي توضيح هذه الرابطة بتتبُّعها عبر السياق التالي: (1) الهدف المعلن لـ (اتفاقيَّة نيفاشا) و(الدستور الانتقالي) هو تحقيق (السلام) و(التحوُّل الديموقراطي)، مع ابتدار عمليَّة (مصالحة شاملة)، خلال (فترة انتقاليَّة) محدَّدة بستِّ سنوات وستة أشهر. (2) لئن كان تصريف العدالة فى الظروف العاديَّة وظيفة أساسيَّة من وظائف الدولة، فإن هذه الوظيفة تتقدَّم، من باب أولى ، في الظروف غير العاديَّة التي تكون فيها الدولة في حالة (انتقال) من نظام حكم (لا ديموقراطى) إلى نظام حكم (ديموقراطى)، وسواء جرى هذا (الانتقال) راديكالياً أم إصلاحياً، لتمثل الأهميَّة الأكثر إلحاحاً بالمقارنة مع الوظائف الأخرى، وذلك بهدف تضميد الجراح الناجمة عن الظلامات السابقة، ولإزاحة كل العقبات التى يمكن أن تعرقل طريق هذا (الانتقال) المنشود. (3) (العدالة الانتقالية)، إذن، مفهوم استثنائي يشتغل فقط في البلدان التي تروم استدبار الاوضاع (القمعيَّة)، وإنجاز (التحوُّل الديموقراطي) و(المصالحة الوطنيَّة)، من فوق تاريخ مثقل بتركة انقسام اجتماعي عميق، ناجم عن حرب أهليَّة متطاولة، أو قمع وحشي عام، أو تعذيب منهجي للخصوم السياسيين، أو ما إلى ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانيَّة. وهكذا، إن كانت (لجنة المصالحة الوطنيَّة) التي اتفقت عليها مؤسَّسة الرئاسة، تفعيلاً، ولا بُدَّ، لنص المادة/21 من الدستور الانتقالي، هي هيئة لـ (الحقيقة والانصاف والمصالحة)، استهداءً بخبرات شعوب ما يربو على الأربعين بلداً أدناها إلينا جنوب افريقيا والمغرب، فإن لنا أن نستبشر بإمكانيَّة تصحيح المسار باتجاه (التحوُّل الديموقراطي). أما إن كان المراد محض تكرار لتجربة المصالحة المايويَّة الشائهة التي رتب لها نظام النميري عام 1977م مع بعض معارضيه، ولم تدم سوى بضع سنوات قبل أن تنهار كمثل كاتدرائيَّة تتقوَّض، فقل، منذ الآن، على (التحوُّل الديموقراطي) السلام!
الأحد: في رزنامة 20/3/07 نبشت، بين مصدِّق ومكذب، خبراً استغربته في حينه، وانتظرت تصحيحه طويلاً بلا جدوى، وفحواه أن (مجلس وزراء الصحة العرب)، بقضِّه وقضيضه، قدَّم (دعماً!) لتحسين الوضع الصِّحيِّ في دارفور بما لا يزيد عن 50 ألف دولار (أخبار اليوم، 21/2/07)، ما يعني أن كلَّ وزارة من الوزارات الثمانية عشر (تبرَّعت!)، مشكورة، بأقلِّ مِن 5 ملايين جنيه سوداني، علماً بأن كلفة الوفد الوزاري الواحد إلى مقر الجامعة العربيَّة بالقاهرة لا بُدَّ قد بلغت ثلاثة أضعاف هذا المبلغ ، على أقل تقدير ، دَع المصروفات (الأخرى)! يومها نحيت الخبر جانباً ورحت أتساءل: هل هؤلاء (الأشقاء العرب!) جادُّون؟! واليوم، بعد أكثر من سبعة أشهر، (لطمتني) الاجابة الحاسمة، قاطعة قول كلِّ خطيب، حيث أعلنت الدول العربيَّة مجتمعة، من خلال (المؤتمر العربي لدعم ومعالجة الاوضاع الانسانيَّة في دارفور!)، عن جملة مساهماتها النقديَّة والعينيَّة والفنيَّة بما لا يتجاوز المئتين وخمسين مليون دولار، وهو رقم يتضاءل خجلاً أمام ميزانيَّة أيَّة منظمة طوعيَّة عالميَّة تعمل في السودان (الأيام، 3/11/07). لقد قدِّر لي أن أسهم في عدد من الفعاليات ، في عدَّة عواصم عربيَّة ، حول الدعم العربي لدارفور. لكنني ما ألفيت (الأشقاء!) يفلحون سوى في تشغيل (الحنجوري!)، بمصطلح السعدني، حول (مؤامرة صهيونيَّة!) تحاك ضد (العروبة والاسلام!) في الاقليم المنكوب ، على حين يتحشد (الفرنجة النصارى!)، من أقصى العالم إلى أقصاه ، في التعاطف النبيل مع هذه المأساة الانسانيَّة! و .. لا تعليق! وفي رزنامة 29/5/07 عبَّرت عن إشفاقي من أن يدفع اليأس، في ما لو استمرَّ الحال على ما هو عليه، قيادات مدنيَّة وعسكريَّة نافذة في دارفور إلى طرح مطالبة نوعيَّة جديدة وفارقة بمنح الاقليم حق .. (تقرير المصير)! وما كاد ينقضي شهران حتى وجدتني أدقُّ ناقوس الخطر، مجدَّداً، في رزنامة 7/8/07 ، بشأن ما ورد، ضمن أنباء اجتماعات أروشا لتوحيد المواقف التفاوضيَّة للفصائل الرافضة لاتفاق أبوجا، حول بروز حركة جديدة، بشقين سياسي وعسكري، تدعو، باسم (جبهة استقلال دارفور/جيش استقلال دارفور!)، للعمل بـ (كلِّ الوسائل الضروريَّة!) لتحقيق (حقِّ تقرير المصير!) للاقليم ، باعتباره (الحل الوحيد العملي!) للمشكلة، وتطالب باسترداد حقِّ (السيادة التاريخيَّة!) وإنهاء أشكال (الاستعمار!) كافة في الاقليم، حيث أن محاولات الحل السابقة كلها قد فشلت، وثبتت استحالة الوصول لاتفاق في ظلِّ (الخلل البنيوي!) لدولة السودان (الفاشلة!)، والتي يحقق (تفكيكها!) مصلحة الجميع، خصوصاً أن دارفور (منفصلة!)، أصلاً، عن السودان النيلي، سياسيَّاً واقتصاديَّاً ووجدانيَّاً، بسبب الظلم والتهميش والاستعلاء والاقصاء (السوداني ، 5/8/07). والآن، وبعد مضي ثلاثة أشهر أخرى، ها هو المؤتمر العام الثاني لحركة العدل والمساواة (القيادة الجماعية) يطرح عدة بدائل ضمَّنها بيانه الختامي، على رأسها (الانفصال!)، أو المطالبة بـ (حقِّ تقرير المصير!)، أو بـ (الكونفدراليَّة!) كنظام للحكم (السوداني، 24/10/07). ثمَّ ما لبثت الحركة أن حسمت خيارها الاستراتيجي الوحيد، في ما يبدو، فقرَّرت الانضمام إلى خطِّ المطالبة بـ (حقِّ تقرير المصير!) أسوة بالجنوب، معتبرة أن تهميش الاقليم لن يُحل إلا باتفاقيَّة مماثلة لنيفاشا، وبضمانات دوليَّة صارمة، توفر لأهل دارفور حكماً ذاتياً خلال فترة انتقاليَّة يُستفتون في نهايتها بين الحكم الذاتي أو الانفصال (الأيام، 29/10/07). كلُّ هذا، وما يزال دعم (الأشقاء العرب!) محصوراً في محض (ملاليم) شحيحة، فضلاً عن (حنجوري!) لا يرى في الأمر برمته غير (مؤامرة صهيونيَّة!) ضد (العروبة والاسلام)! و .. أيضاً لا تعليق!
الإثنين: قال أحد جلساء عبد الملك بن مروان له يوماً: ـ "أريد الخلوة بك". فأجابه عبد الملك: ـ "بشرط ثلاث خصال: لا تطر نفسي عندك فأنا أعلم بها منك، ولا تغتب عندي أحداً فلست أسمع منك، ولا تكذبني فلا رأي لمكذب"! فما كان من الجليس المبهوت إلا أن تمتم هامساً بارتباك: ـ "أتأذن لي في الانصراف يا سيدي"؟! فأجابه فوراً: ـ "إذا شئت"! ***
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النَيِّئَةُ .. لِلنَارْ!
-
أوريجينال!
-
يَا لَلرَّوْعَةِ .. أَيُّ نَاسٍ أَنْتُمْ؟!
-
وَمَا أَدْرَاكَ مَا .. حَدَبَايْ!
-
كَابُوسُ أَبيلْ!
-
غابْ نَجْمَ النَّطِحْ!
-
بُحَيْرَةُ مَنْ؟!
-
دِيْكَانِ عَلَى .. خَرَاب!
-
صُدَاعٌ نِصْفِي!
-
كَجْبَارْ: إِرْكُونِي جَنَّةْ لِنَا! - سيناريو وثائقي إلى رو
...
-
عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!
-
الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ
...
-
طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
-
كانْ حاجَةْ بُونْ!
-
إنتَهَت اللَّعْبَة!
-
سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
-
برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
-
العَقْرَبَةُ!
-
لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
-
شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|