مجموعة تناقضات عجيبة, تسيطر على العقلية العربية ومجتمعاتها, نجد النقاشات تحتدم وتتجه نحو منحى الحدية في طرح الاراء ومحاولة فرضها على الكل وفي كل المجالات وخاصة منها السياسية والاجتماعية والثقافية. كلما فاجئنا العلم والدول المتقدمة المخترعة والمنتجة للثورة التكنولوجية والمعلوماتية حدثا علميا هاما يخدم الانسانية, نجد قطاع عريض من العرب -تحديدا- يتحفظ ويشكك بالمخترع الجديد فالكمبيوتر لايزال لم يقنع بعض الدول العربية ان تتيح لمواطنيها حرية انتشاره مالم تضع "البروكسي" للحيلولة والدخول لبعض المواقع الممنوعة والموانع كثيرة في الثقافة العربية والاسلامية وقد صرفت تلك الدول لايجاد "البروكسي" الملايين من الدولارات ويتم اختراقها على شكل برامج وبشكل يومي مما تمكنت من كسرهذه "البروكسيات" وذهبت الملايين هدر. وعلى وزارة المواصلات ان لا تشرع بالتضييق على الناس وتقتحم الخصوصية الشخصية وتسطر خط رفيع يسير عليه كل من تعامل مع الانترنت او فتح مقهى انترنتي. ان الارتجالية الابوية في اتخاذ القرارات خربت بيوت كان المقهى مصدر دخلها, وضيقت على الناس وخيم وجه الرقيب القبيح في عالم متعولم فرض نفسه وصار مع ذرات الهواء التي يتنفسها الانسان عبر رحيق الحرية.
ان الانترنت خلق واقع افتراضي, يجب التعامل معه على هذا الاساس ولابد من التعويل على الفرد, بديلا عن "الفتوى والسيطرة والفلترة", فتربية الفرد السليمة على الحرية والاستقلالية وتحمل المسؤلية والتعويد عليها منذ الصغر لاطفالنا تشكل اساس صلب لمواجهة الملازمات السلبية للحرية, ومثلما لكل حرية ملازماتها السلبية, للكبت والقمع ايضا ملازماته السيئة. نجد في هذا السياق وعلى سبيل المثال جماعات الضغط الرافضة للحداثة اصبحت اقرب الى منع استخدام الانترنت بسبب مايسمى "الشاتينج" لانه يندرج تحت "الخلوة" بين الجنسين والقول المشذب بالحب.. بينما في هذا السياق, يرسل ارهابي رسالة الكترونية الى ارهابي أخر في اقاصي الارض لينفذ مخطط او يقوم بعمل تفجيري يترتب عليه قتل بشر واخلالات امنية, لاتعيره جماعات الضغط السياسي والديني هذه اية اهمية او نظر او حتى "فتوى"!! وكما هو الحال في المفارقات العجيبة, مسالة الحريات التي تهم المرأة "الانسان" نجد الجماعات الضاغطة تتفانى وتتفنن في وضع الضوابط ومقيدات الحركة وما اكثر اٍعاقاتها على طريق المرأة للخروج وللتعليم والعمل والسفر, بعد ان اصبحت حركة المرأة في عصرنا امرا ملحا ومن حقوق الانسان البديهية. وفي الجهة المعاكسة يوجه اللوم والانتقاد للتقاليد الجائرة بحق سكون المرأة التي حرمت من الحركة وقرت في منزلها والتي انطبقت عليها المقولة "المرأة لاتخرج الا مرتين, يوم تغادر بيت ابيها الى بيت زوجها ويوم تفارق بيت زوجها الى قبرها" وفي احسن احوالها خروجها وهي متشحة السواد الحزين كخيمة متنقلة سوداء تلغي شخصيتها وتشطب كيانها بالرغم من ان "اكرم مافي الانسان وجهه". لانجد المتفانين ومنظري الضوابط ان يقدموا شيئا في هذا المضمار لتحرير المرأة "الانسان" من هذا الجور الظلامي, المستعار من الارث العثماني الثقيل!!. لا ابداع بدون متسع من الحرية.. ومن الاخطاء يعرف الصواب, وانما تقدم البشرية تم عندما كسر الانسان الرتابة وخرق العادات, والمنعطفات التاريخية تشهد على ذلك فعلى سبيل المثال الرسالات السماوية بقدوم الرسل والانبياء "غيرت مجرى التاريخ", الثورة الفرنسية "اعطت مفهوما جديدا للحرية وحقوق الانسان", الحروب العالمية الاولى والثانية "شكلت اوروبا المعاصرة", اكتشاف الديناميت والبارود "منفعة مالم يسخر في الخراب والقتل", الذرة "للاغراض السلمية" القنبلة النووية "شكلت مفهوم الردع تجاه النزعة العدوانية بين الامم", الفنون عامة "رقت الشعوب ورفعت من مستوى حس البشرالمرهف" وابرزت معالم الانسانية فيها..الخ. العقلية العربية بطبعها لاتحبذ التغيير كونها "تخشى" من المجهول ولنستعرض مسوءة من مساوئ الاحتلال العثماني فقد حرم المطبعة بحجة "الخشية" من طبع نسخ من القرأن الكريم محرفة واستثني من تحريم التعامل مع الطباعة والمطبعة الاقليات المتواجدة مثل اليهود, فقد استفادت من الاستثناء هذه القلة التي تتفوق علينا اليوم بشتى المجالات علما ومعرفة!! وبذلك تم حرمان الانسان المسلم الواقع تحت نيرالاستعمارالعثماني الظلامي من طباعة اعداد هائلة تتاح للجميع الكتب والتعلم والقراءة. ويندرج المذياع حاله حال المطبعة في الحالة العربية كمخترع جديد ولكنه اعتبر شيطانيا في وقته وحرم التعامل معه ولم يهضم بسهولة انذاك, بسبب "الخشية" ايضا, من الافكار الهدامة القادمة بلا حدود. وكذلك حرم السفر الى بلاد الغرب حتى لو كان من اجل التعليم وانتشرت مقولة ازهرية حينها "من ذهب الى فرنسا فهو كافر او على الاقل زنديق" والصعود الى القمر كان يعد مروقا وتجرؤ على الذات الالهية, بل ان هناك من لايزال يعتقد ان الصور الفضائية ونزول الانسان على القمر مجرد خدعة من قبل "ناسا" الامريكية. وحُرم الدستور المدني ومنهج الديموقراطية, والاحزاب السياسية الى عهد قريب, بل هناك من لايزال يعتبرها قيم غير ضرورية تخالف ماجُبل عليه العربي المسلم, مُصرا ومُجحفا بحق قيم حقوق الانسان من حرية تعبير وتعددية فكرية وسياسية. وتلى حكم المذياع السينما والتلفزيون والفيديو والاطباق اللاقطة الفضائية وطفل الانابيب والعمليات الجراحية لتغييرالجنس وحاليا الاستنساخ. حتى حقوق الانسان كونها مفهوم غربي, لم تقبل ويحاك حولها اللغط بالرغم من توقيع اغلب الدول العربية على مواثيقها في الامم المتحدة!! وهكذا كلما جاءنا العلم بمستجدات واختراعات او انفتاح اجتماعي وثقافي اممي تقف جماعات الضغط السياسي والديني المناهضة للحداثة على اهبة الاستعداد والترصد في كل زمان وفي نفس المكان, لترفع شعار"الخشية" ولتبدي رأي متصلب يتخذ منحى تطرفي متشنج يعوق عجلة التطور سببه "الفوبيا" من كل ماهو حديث وخارجي وغربي ويطعم بصب جام الغضب والكراهية ضد الاخر.
حتى تنفرج هذه الحالة الدوارة لاتتم الا بعد ان تفرض على مستوى البعد الانساني عالميا, ويتم ترسيخها على ارض الواقع وضرورياته الملحة, ويصبح التعامل مع الاحداث امر مفروغ لابد منه بفضل العولمة الاممية الكاسرة للحدود والحواجز النفسية. ان افضل الامم تقدما نجحت بفضل التعددية الثقافية والعرقية والدينية والسياسية على مائدة المواطنة فأصبحت موزاييك حضاري رائع, اثرى المجتمع والامة, فالولايات المتحدة الامريكية في مئتين عام من عمرها الوجودي اصبحت اعظم واكبر امبراطورية لم يشهد التاريخ لها مثيل. ويقال انها حالة فريدة لن تتكرر, ولكن للاسف لم يحدث ذلك في بلد جميل مشابة للحالة الامريكية في بلد مثل لبنان العروبي. عند رؤيتنا لتقسيمات العصور والى اي عصر حضاري ينتمي العرب نجد ان وجودهم الحضاري لم يتجاوز بعد العصر الزراعي ولم يدلفوا العصر الصناعي, ومشاركتهم الانسانية في صناعة التاريخ ومنعطفاته الهامة تكاد تكون ضئيلة, بينما الغرب اصبح في عصر المعلوماتية الذي تخطى الصناعي واصبح على ابواب عصر مابعد الحداثة.