|
- غصن مطعّم بشجرة غريبة - مختبر للمقارنة بين ثقافتين وبيئتين
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2088 - 2007 / 11 / 3 - 07:46
المحور:
الادب والفن
قد لا أغالي إذا قلت إن " غصن مطعّم بشجرة غريبة " للدكتور صلاح نيازي هي أول سيرة ذاتية عراقية تنطبق عليها مجمل معطيات السيرة التي تستجيب لشروط العقد الإفتراضي الذي يبرمه الكاتب مع قارئه. ولعل أبرز إشتراطات السيرة الذاتية هي الصراحة والصدق التامّين. وأظن أن نيازي كان أميناً، وصادقاً، وصريحاً في آنٍ معاً على رغمٍ من أن هذه السيرة قد قالت التسعة أعشار، وحجبت العُشر العاشر الذي ينضوي تحت باب " المسكوت عنه، أو اللا مُفكر فيه، أو الذي لا يمكن أن يُقال لأسباب أخلاقية وإجتماعية وتربوية". فهذا السيرة تكشف أن صلاح نيازي يتشغل في المنطقة الفكرية، والفنية، والفلسفية، والنقدية، والتربوية، أكثر من إشتغاله على السيرة الذاتية التي تحمل بعض ملامح السيرة الذاتية- الذهنية، أو السيرة الذاتية- الروائية على رغمٍ من تمكنه من هاتين الأخيرتين، بل أنني أدعوه بمحبة التلميذ المثابر، والناقد المعجب أن يكرّس جزءاً غير قليل من وقته الثمين للكتابة السردية قصة ورواية وسيرة، خصوصاً وأنه يتوفر على أسلوب شيِّق، خفيف الظل، وروح مرحة، فكِهة حتى في المواقف التراجيدية الصعبة. يُهيمن الموت، أو الخوف منه في الأقل، على مدار النص السيري بدءاً من موت الوالد، مروراً بقتل الأخ الأكبر، وقتل " الزعيم الأوحد "، وإنتهاءً بنجاة الراوي، أو الشخصية السيرية من كابوس الموت الذي كان يلاحقه في حلّه وترحاله بعد أن تحوّل الى هدف متحرّك قد يقع في مصيدة المتربصين به في أية لحظة. دعنا نعترف أولاً أننا أمة خذلت نفسها تربوياً، وتشبعت بأخلاق الصحراء وقيّمها، فلا غرابة أن تكون الشخصية العراقية في الأقل مزدوجة، ومتناقضة، وحائرة، وغير مستقرة، ولا تعرف ماذا تريد أحياناً! ويمكن تلّمس هذا التناقض الصارخ، والإزدواجية الواضحة حتى في آراء " الكائن السيري " الذي يشكّك في أسباب هروبه، وتحوله الى ضحية يطاردها الجلاد " عليَّ أن أعترف أن ما وقع لي بالعراق كان من مسؤوليتي، لأنني كنتُ ساذجاً لم أقرأ الغد." ص114. تواشج الذاكرتين الفردية والجماعية تتأسس الذاكرة، الفردية أو الجماعية، إعتماداً على معطيات ثقافية وإجتماعية وإقتصادية وفكرية. وما إختزنهُ الكائن السيري في ذاكرته الفردية من وقائع وأحداث تكشف حجم معضلة العراقيين جميعاً. وبحسب تسلسل الأحداث التي وردت في متن السيرة الذاتية يمكن رسم خريطة الخراب الذهني الذي نعاني منه في أي صقع من أصقاع العراق. ولو تفادينا حادثة وفاة والده على إعتبار أننا جميعاً سوف نلاقي مصيرنا المحتوم ذات يوم، فإن مشهد " الفرهود " في الناصرية المُحاصرة سوف يؤسس لذاكرة سلبية خربة تنطوي على مفهومات النهب والسلب والضراوة، وغياب القانون. " مدينة الناصرية حين وعيتها محاصرة أولاً بالفرهود " هجوم الريفيين أيام القحط والجفاف على المدينة ونهب بيوتها بضرواة وتوحش. " ص10. إنطلق الكائن السيري من الهّم الموضوعي النابع من العقلية البدوية التي تتعامل على وفق أخلاقية الصحراء التي تعتبر " السرقة " فعلاً لا يخلو من أشكال الفحولة والبطولة. كما أن بعض الأطاريح الإسلامية لا تجد ضيراً في النهب والسلب أيام " المسغبة ". لقد تحامل الكاتب على الريفيين مذ تلك اللحظة، ووضعهم في " خانة الوحوش الضارية " التي لا تعير وزناً للقانون. لم يقتصر العنف على القضايا الموضوعية الكبيرة، ولكنه تسلل الى الذات العراقية المفجوعة بأسباب العنف الداخلي الذي لا تعرف مصدره. وإلا فلماذا يتبرع أحد أبناء المحلة مدفوعاً بهواجسه الشخصية المزيفة عن الرجولة ليقتل الكلبة السوداء الودود بعمود حديدي ثقيل " نطّت ولم تصدق ما حدث. المفاجأة أكبر من الألم . . ضربها ثانية فإندلق الدم من فمها، ووقعت على الأرض. . . يومها ثلمت الحياة. بقيت مكسورة لحد الآن." ص 18. هذا الإنكسار المريع سيكبر يوماً بعد يوم في روحية نيازي، ويستوطن في تلافيف ذهنه الذي ستشوشه الأحداث الجسام الذاتية والموضوعية مثل مقتل شقيقه الأكبر بسكين من الخلف. وسوف يظل نيازي يخشى من أي كائن يتعقبه أو يمشي وراءه من دون قصد. وسوف تتثبت هذه الخشية كمرض عضال لا شفاء منه. كما أن مقتل الزعيم عبد الكريم سيضاعف من شعوره بوحشية بعض الكائنات العراقية التي يجب أن تُعالج من ضراوتها وعنفها المزمن وإلا كيف نفسِّر نبش قبر الزعيم قاسم، حتى وإن كان من قبل " إمّعات " الحكومة، وإلقاء جثته في نهر دجلة؟ أن الجندي الذي يهّز رأس الزعيم، وهو ميت، أمام شاشة التلفزيون يجب أن يكون عيّنة مختبرية للمنحرفين، والمجرمين، ومصاصي الدماء البشرية. " قُتل عبد الكريم قاسم، دفن فعُيِد. ثم نبشته الحكومة وألقت جثته في النهر " ص 37. ترسخت وحشية ميليشيات الأحزاب العراقية ومرتزقتها مع دخول القطار الأمريكي للعراق، وتنوعت أساليب التعذيب مثل " قصّ الألسن، والإغتصاب وتغطيس الموقوفين الى حد الفم ببرك البول والخراء. " ص 38. إنتعش قاموس بعض الأدباء والمفكرين العراقيين بمفردات وإصطلاحات جديدة من بينها " الهروب بالجلد، النجاة، الإبتعاد عن الكابوس" والتي تلاقت مع نزعة الخلاص الفردي، وتلاقحت مع الأحلام الذاتية التي يحملها أغلب الأدباء العراقيين بين طيات أنفسهم التي تتوق الى العلم والمعرفة والحياة الحرة الكريمة التي لا يؤرقها العسس، ولا تتربص بها أجهزة الشرطة السرّية. إن اللعنة التي يصبها الكائن السيري على مسقط رأسه في الناصرية سنجدها في وقت لاحق وقد تحولت الى طقس صوفي حينما يجلب نيازي حفنة من تراب الوطن، بعد عشرين عاماً من الغربة، وينثرها في حديقة منزله في لندن لكي تعبق روحه برائحة التراب الذي كان لعيناً ذات صباح دموي مفجع. بنية النص السيري بنى نيازي نصه السيري على فكرة تراجيدية. فبعد أن أخبره الشاعر حسين مردان بأن وزير الإعلام العراقي آنذاك قد قال له: " لا نمنع شاعراً من السفر، ولا نقتل شاعراً. دم لوركا عبرة لنا. " ص 38. قرر في دخيلته أن يهرب من العراق تاركاً كل شيء وراءه العائلة، والذكريات القديمة، وحضن العراق الذي يسمّى وطناً. ولا ضير في أن يموت شرط أن يكون هذا الموت موتاً كريماً. لنتابع درجة الإحتقان التي وصل اليها نيازي حينما يصف حالته النفسية التي بلغت ذروة تأزمها: " إختنقت، إختنقت، أمنيتي الوحيدة لا الوصول الى لندن، لا العيش فيها، ولكن الموت في مكان آخر. الموت بإرادتي أقصى حلم." ثم يعزز هذا الموت بموت السهروردي الذي إختاره هو بنفسه، وبإرادته. ثم يكمل رسم الصورة التراجيدية حينما يستدرك قائلاً: " أشقُّ شيء عليَّ أن يشفي قاتلي غليله. أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مُهاناً مذلاً. أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده. " ص38 . لقد شعر الكائن السيري أن حياته قد إنتهت حقاً في العراق، ولا بد من الهروب مهما كان الثمن غالياً. تتصاعد وتيرة النص المأساوية حينما ندرك لاحقاً أن الكائن السيري سوف يقع في فخ الجوع بعد أن نجا من مصيدة الموت التي كانت منصوبة له في كل زمان ومكان من جغرافية العراق الذي تحوّل الى سجن كبير. لكنه قاوم الجوع بكسرة خبز مهملة، وتفاحة أهدت نفسها الى معدة خاوية. كما أن تجربة تحمّل الجوع في الناصرية، أيام شظف العيش، قد أعانته على تحمّل الجوع الجديد في لندن! وحينما ضاقت به السُبل بدأ يتضرع الى الله أن يغدق عليه رحمة المرض لكي يدخل المستشفى، ويسد غائلة الجوع التي كانت تفتك به يومياً " رحماك يا رب: أعطني رحمة المرض، لم تبقَ لي من رحمة سواها. " ص 56. لا يمكن رسم صورة دقيقة للمأساة الحقيقة التي عاناها الكائن السيري طوال أشهر في لندن، فهي أعسر من أن توصف أو تُختصر، لأنها ببساطة أوصلته الى منزلة الكائن الذي يثير الشفقة، ويستحق الصدقة بحسب توصيفه لطبيعة مشاعره الداخلية التي كانت تنتابه آنذاك. ومع هذه القسوة الشديدة كان نيازي يقترب من نفسه كثيراً، ويحاورها، مستكشفاً ممالكه المطمورة، ومستجلياً طيات روحه اللائبة التي تبحث عن شيء ضائع لا يعرف كنهه. يستطيع القراء أن يتمعنوا في اللقاءات المتعددة التي جمعت بين سيد البيت وسيدته من جهة ونيازي من جهة أخرى، ليلمسوا حجم الحرج الذي كان يعانيه الكائن السيري بسبب الإفلاس، والفقر المدقع، والتطوّس الموروث حتى يصف نفسه في نهاية المطاف بأنه " ريشة في مهب الريح ". ساعدت هذه البنية المأساوية بما تنطوي عليه من تناقضات على تعميق النص، وتثوير جانبه التعبيري الذي يلامس شغاف القلوب، ويحرّض القرّاء على التعاطف الكلي معه. فابن الضابط الكبير الذي كان ميسوراً، وصاحب جاه يجد نفسه في مواجهة صناديق النفايات ليلاً كي يسكت غائلة الجوع. والقارئ يعرف سلفاً بأن هذا الكائن السيري قادم من العراق على وجه التحديد، وليس من الصومال، تمثيلاً لا حصراً. وعلى رغم المحنة الطويلة التي عاناها نيازي، إلا أن الضوء بدأ يلوح في نهاية نفق الجوع، والحرمان، والتهرّب الممض من دفع إيجار الغرفة الباردة. فدهشة المكافأة الأولى كانت تشبه تماماً دهشة الناس المتضورين جوعاً حينما تمطرهم السماء منّاً وسلوى من دون سابق إنذار. أنقذته المكافأة من الكذب والإحراج والجوع، كما أعادت له ثقته المفقودة بنفسه، ووضعت خطواته المرتبكة من جديد على سكّة الأمل والأحلام السعيدة. تدرّج نيازي من مكافآت الصحف والمجلات والدروس الخصوصية الى الوظيفة الدائمة في الإذاعة منتشلاً نفسه من الخانق الضيق الذي أطبق عليه لمدة طويلة، كما أزاح عنّا، نحن القرّاء، همَّ الإحساس بالظلم والإنكسار وتأنيب الضمير على المصير المفجع الذي آل إليه الكائن السيري، وكأننا نحن المسؤولين عن فجيعته، وليس الحكومة العراقية التي دفعت أبناءها الى الذل والمهانة والتشرّد وركوب المخاطر. في مواجهة المرآة تصلح هذه السيرة أن تكون أنموذجاً للدرس النفسي، والتربوي، والإجتماعي، والسياسي، والأخلاقي. وبطبيعة الحال لا يمكن التوقف عند هذه الدروس مجتمعةً، وآمل أن يتأملها القارئ، ويطيل النظر إليها حينما تسعفه سانحة الحظ بالعثور على هذه السيرة الذاتية الصادقة، المُعرِّية للذات، والكاشفة لأغلب أقانيمها. تتألف السيرة من ستة فصول وهي " الناصرية، بغداد، حلب، تركيا، ميلان، ولندن " غير أن الفصل الأخير الذي إستحوذ على ثلاثة أرباع السيرة تقريباً يضع الكائن السيري في مواجهة مرآة الذات الصافية التي ترى كل شيء مجسّداً، وبحجمه الطبيعي من دون مبالغات سمجة تخرج عن حدود المألوف والمتعارف عليه. وفي هذا الفصل تحديداً نكتشف روحية الكائن السيري المجبولة على المبارزة الفارغة، والتحدي الأهوج وللمناسبة يمكن تطبيق هذا الأنموذج على الجزء الأكبر من العراقيين المعروفين بسقوطهم في فخ الغرور، والمتايسة، والتفرّد، والمنابزة، والإعتداد بالنفس، وإستفزاز السامع، وتعيّيره. وسأكتفي بذكر بعض الشواهد المستلة متن السيرة. تجاذب الكائن السيري أطراف الحديث مع سيد البيت قائلاً له: " لي القابلية لأن أحفظ بسهولة مائة كلمة إنكليزية كل يوم. " ص 66. ردَّ صاحب البيت مستغرباً " كل يوم؟ بسهولة؟ طاعناً إياه في الصميم. إن منْ يتمعن في الجملة المذكورة سلفاً سيجد أنها فعلاً جملة " مزهوّة بنفسها، متغطرسة، ومغرورة، وغير دقيقة " إضافة الى ما تتوفر عليه من إهانة للسامع الذي لا يرقى الى هذه القابلية في الحفظ. كما أنها تتضمن تشكيكاً في قدراته العقلية على التعلّم والإستزادة المعرفية. وأكثر من ذلك فأن عبارة " كل يوم " اليقينية التي جاءت بمثابة " دعك الملح في الجرح " بحسب توصيف الكاتب تنطوي على إستفزاز كبير للسامع، فضلاً عن نأيها عن الإحتمالات غير المتوقعة. فالكائن السيري يثبت بالدليل القاطع أن الجملة الإنكليزية هي جملة إحتمالية، وليست يقينية، كما أنها متواضعة، ومنطقية، وقانونية، ولا تقلل من شأن السامع، ولا تنوي إستفزازه أو إستثارته، على العكس من جملنا المتغطرسة التي تشي بالعجرفة، والإعتداد بالنفس، والإستعلاء، والنأي عن الحقائق الدامغة، والرجم بالغيب. قد يتساءل بعض من القرّاء عن مرّد هذا الغرور، والتعالي الأهوج؟ أهي البيئة، أم التراث الثقافي، أم النفس المفطورة على الخيلاء؟ يمكن للقارئ أن يجد الجواب في متن هذه السيرة وتضاعيفها حيث نقرأ ما يقوله الكائن السيري بثقة كبيرة أن " الأم العراقية تُرضع طفلها الغرور مع الحليب: أجمل طفل، أفضل طفل في المدرسة، درجاته أعلى الدرجات بين أقرانه، المعلمون يستغربون من ذكائه، جاء بالمرتبة الأولى. بجُمل كهذه تنمَّي الأم في طفلها روحاً ديكية، قوية في المظهر، هشَّة في الداخل، والديك مهما كان تطوّسه أجبنُ من عليها. " ص68. هكذا يتشرّب الطفل العراقي بالطموح المرَضَي، ونزعة الإستعلاء، وحب الذات التي تصل إلى " أفعل التفضيل " في كل شيء، ولا يجد هذا الطفل فكاكاً من أمراضه ومعضلاته النفسية ما لم يدخل الى عيادة الطبيب النفسي كي يبرأ من هذه الأمراض الفتّاكة المعدية. كيف لنا أن نصدّق هذا البيت الشعري الذي يقول فيه الشاعر: " إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاماً / تخر له الجبابرُ صاغرينا " ص 172؟. وكيف سيكون شأن الطفل الرضيع نفسياً وهو يسمع بأن الجبابر تخر له صاغرة مذعنة؟ يقترح نيازي أن نُدخِل معظم شعرنا الى عيادة الطبيب النفسي لنحلل شهوة الدم الكامنة فيه، وندرك الدوافع الكامنة وراء نزعة العنف المبثوثة في تضاعيفه كما قال ودّاك بن ثميل المازني " إذا إستنجدوا لم يسألوا من دعاهم / لأية حرب أم بأي مكان ". ثم يتساءل الكاتب في نفسه " هل أنا حقاً من أولئك الذين يهبون لأية حرب، وبأي مكان؟ ص72. أو قول الشاعرة " خذوني معكم للوغى خذوني / مضمدة لجراحكم حنوناً " ص173. لا بد من كشف التناقض الكبير الذي تنطوي عليه الشخصية العراقية قبل أن نزّجها في مصح النقاهة النفسية، والترويض الذهني، وننقذها من هول الأوهام الخطيرة العالقة في عقلها الباطن. وإلا كيف نفسّر هذه الأهزوجة التي أنشدها أسرى عراقيون في طهران حيث تقول: " يا خميني سير سير / إحنا أبطال التحرير " ص 170. يا ترى، أ يصح أن يكونوا أسرى وأبطال في آنٍ معاً؟ إن ما يعزز أهمية هذه السيرة الذاتية هو أن كاتبها وخالقها المبدع قرر أن يستأصل بالكي غروره، وغطرسته، وأن ينزل من أبراج الذات العاجية، وأن يتخلى عن الكتابات والأشعار التي تمجد الحرب، والسطو في رابعة النهار حتى وإن جاءت هذه السرقة بصيغة أدبية كما في قصيدة له يقول فيها " تعاليْ ننهب اللذات / من غفلات دنيانا " ص77 حيث يمارس الشاعر عدداً من المخالفات القانونية في بيت شعري مستوحى من مخيلة كاذبة لا ترتكن الى لغة الواقع، ولا تعتمد على منطق الصدق الفني.
النزعة الثقافية وإثارة السؤال الفلسفي لا يجد الكائن السيري حرجاً في الإعتراف بضآلة خزينه الثقافي، وضعف معرفته الأدبية حينما بدأ يدرّس تلميذاً بريطانياً " وموظفاً كبيراً في شركة " شِل في الوقت ذاته " أو يراجع معه، على الأصح، قصائد من الشعر العربي القديم. حيث يصور لنا نيازي قصوره وحرجه أمام هذا التلميذ الذي لا يكف عن إثارة أسئلة كثيرة متواترة دفعت الأستاذ لأن يقول بلا تردد: " أرجو إرسال ما تريد أن نقرأه في الأسبوع المقبل لأتوّسع فيه " ص95. لم يتوسع السارد في ذكر الأسباب التي جعلت منه هدفاً متحركاً للسلطة الحاكمة في العراق، لكنه اشار بوضوح الى أنه كان شيوعياً. وعلى رغمٍ من خطورة هذه التهمة في العراق، إلا أن النص السيري يكشف عن سبب أعمق من الإنتماء السياسي وهو الكتابة، أو على الأصح، نشر ما يَكتب في الصحف والمجلات رغم صغر سنه حيث نسمعه يقول: " ليتني لم أنشر شيئاً. هل أسلّم نفسي الى الشرطة ولو كان فيه تمزيقي فأرتاح؟ ص114. حسناً فعل نيازي حينما لم يسلّم نفسه الى الشرطة، لأن هاجسه الأول والأخير ليس سياسياً، وهذا شأن كل المبدعين تقريباً، فالهم الثقافي لديهم أعمق وأكبر من الهم السياسي، ولا غرابة في أن ينتصروا في نهاية المطاف لمصلحة الأدب، ويتركوا السياسة للمحتالين أو الكذابين على وفق المفهوم البريطاني للكلمة. إن هروب الكائن السيري الى منفاه الإختياري لندن ليس مرّده الى السياسة وهمومها وطموحاتها اللامشروعة في كثير من الأحيان، بل الى توالي الأسئلة الفلسفية المؤرقة التي تنبثق في داخله بين أوان وآخر. ما جدوى الكتابة؟ وما جدوى الحياة؟ ولماذا نسعى الى الخلود بمختلف أشكاله؟ ومن المؤكد أن القارئ الحصيف سيجد الجواب الشافي حينما يلتقط ولع نيازي في تعلّم اللغة الإنكليزية التي تحتاج الى صبر وجلّد ومثابرة، وحبه للإستزادة من مختلف حقول المعرفة، وأبعد من ذلك ولعه بترويض نفسه على السلوك الحضاري الذي يعكس توقه الى القيم المدينية والمدنية التي تليق بالإنسان المتعلم والمتحضر الذي يبجل دور التلميذ على دور الأستاذ على رغم من أهمية الأخير وحاجتنا له في كل زمان ومكان. يصلح هذا الكتاب أن يكون سيرة ثقافية تكشف عن الجهد الإبداعي والمعرفي لكاتب النص، وبالذات تجربتة الشعرية بدءاً من " كابوس في فضة الشمس، ومروراً بـ " الهجرة الى الداخل" و " نحن " و " المفكر " و " الصهيل المعلّب " و " وهم الأسماء " وإنتهاءً بـ " ابن زريق وما شابه " والإحالات المفيدة الى الظروف والمناسبات التي حرّضت الشاعر على كتابة هذه المجموعات الشعرية المدبجة أغلبها بأسلوب قصيدة النثر الحقيقية. يقدّم نيازي بكرمٍ كبير كشفاً بالمؤثرات التي دمغت قصيدته، ووسمتها بميسمٍ خاص. فمصدر الجانب الفجائعي في أغلب نصوصه هو الآلام الجسدية الحسينية. لنتأمل ما قاله في هذا الصدد:" إن شعري إصطبغ بصورة عفوية بالآلام الجسدسة الشيعية التي لم أعِ مصدرها إلا قبل سنوات. "ص 20-21. وحمداً لله أن شاعرنا لم يصدّق دعاوى رجال الدين المزيفة بصدد " قصور الجنة " التي يمنحها الله مكافأة " عن كل بيت شعري يكتبه الشاعر في مدح آل البيت " مما جنّبه الوقوع في فخ الخزعبلات والقوى الغيبية التي لا تعتمد على الأدلة والبراهين العلمية الدامغة. كما أشار نيازي الى هيمنة ثيمتي " اللقاء والوداع " في مجمل تجربته الشعرية حيث يصبح الحزن طابعاً متجذراً فيها، بينما يغدو الفرح طارئاً، وغريباً، وآنياً بسبب طغيان الفقد والخسارات المتلاحقة. لم يسعَ نيازي للشهرة أو لأن يكون أفضل من غيره، لكنه يعترف بالفم الملآن بأنه يطمح لأن يكتب شعراً " مقبولاً وصادقاً " مع خشيته الأكيدة من كلمة " طموح " التي قد تفضي الى الإستبداد. تكشف سيرته الثقافية على تعلقه الشديد بأحمد شوقي، والياس أبي شبكة، وإيليا أبي ماضي، لكنه يعتبر السياب والبياتي ونازك الملائكة شعراء يثيرون الإعجاب، لكنهم لا يمسون جوهر العاطفة الإنسانية في الصميم. يصف نيازي تجربة الكتابة الشعرية بـ " الطلَق " والإنتهاء من كتابة القصيدة يشبه تماماً " تخليض الجنين من رحم الأم " حيث يفضي الألم الشديد الى سعادة لا يعرفها إلا الأم التي تحتضن مولودها أول مرة. كما تتوفر السيرة على إحالة مهمة الى أطروحة الدكتوراة التي كتبها عن الشاعر الإحسائي البحريني علي بن المقرّب العيوني. وعلى رغم شحة المعلومات عن طبيعة هذه الأطروحة إلا أنها لا تهمل التحقيق في جانب من شعره، وكتابة دراسة نقدية معمقة بالإنكليزية عنه، مع هضم للمعلومات التاريخية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية للحقبة التي عاشها الشاعر. تتوقف السيرة عند الترجمة كفن ساعده في هضم اللغة الإنكليزية، وكجزء من تواضعه المعروف " بعد أن تخلص من آفة الغرور والتباهي بالغطرسة المعرفية " فإن لا يدعي بأنه مترجم محترف على رغمٍ من ترجمته لـ " هاملت " و " ماكبث " لشكسبير، و " يوليسيس " لجيمس جويس و " ابن المستر ونزلو " لترانس راتيكان، و " العاصمة القديمة " لكواباتا، ولكنه يشير من طرف غير خفي الى أن الترجمة محك لفهم اللغتين في آنٍ معاً، اللغة المترجم منها، والمترجم إليها. لا بد أن نشير في خاتمة هذه الدراسة النقدية المتواضعة الى أن الكائن السيري قد عقد مقارنه ذكية، تستحق بحثاً منفرداً، عن أهمية التكرار اللفظي في الشعر السومري الذي يهدف الى شد إنتباه السامع، وتشويقه، وزيادة تأمله في بعض المقاطع مستفيداً من لحظات التأزم التي يواجهها المتلقي بواسطة البناء المعكوس للصورة الشعرية التي تستنفر الحواس كلها، وتجبر السامع على الإصغاء الكلي الذي يشبه توّحد الصوفي مع متن النص المسموع. تكشف السيرة في نهايتها عن حيرة الكاتب التي إعتبَرها " ميراثه الأول والأخير "، هذه الحيرة التي أخذت تستفحل وتتفاقم كل يوم من دون أن يُدرك جوهرها، وسرّها الأزلي.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آن إنرايت . . . ثالث روائية آيرلندية تختطف جائزة البوكر للرو
...
-
بيكاسو الرسام الأكثر عرضة للسرقة في العالم
-
في معرض كاووش الأخير: نساء فاتنات، وكائنات مُجنَّحة، وأُغنيا
...
-
ظلال الليل لناصر بختي: جنيف تُقصي المهاجرين، وتنفي أبناءَها
...
-
في مسرحية - ديمقراطية ونص - لأحلام عرب: الرئيس آخر مَنْ يعلم
...
-
بعيداً عن بغداد كتاب جديد للفوتوغراف العراقي قتيبة الجنابي
-
الفنان جمال بغدادي: أشبِّه الأصوات الجميلة بالورود، ولكل ورد
...
-
الفنان جمال بغدادي: أشبِّه الأصوات الجميلة بالورود
-
الروائي برهان الخطيب ل - الحوار المتمدن -: لم أخرج بعيدا عن
...
-
الدورة السابعة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام
-
في - عرس الذيب - لجيلاني السعدني: تنجو الذئاب القوية، فيما ت
...
-
المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد ليالي هبوط الغجر
-
بيت من لحم فيلم جريء لرامي عبد الجبار ينتهك المحرّم والمحجوب
...
-
فيلم - 300 - للمخرج الأمريكي زاك سنايدر
-
الروائي الأمريكي كورت فَنَغوت يستعين بالسخرية والكوميديا الس
...
-
فاضل العزاوي على غلاف مجلة -بلومسبوري ريفيو-: دعوات ودواوين
...
-
كوبنهاغن، مثلث الموت - نص توثيقي، وسيرة مدينة بامتياز
-
متابعات صحفية
-
معجبة تعثر على رواية مخطوطة لجينيت ونترسن وتعيدها لدار نشر ب
...
-
بريطانيا تودِّع أبرز كتاب الرواية البوليسية وأدب الجريمة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|