أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - في محبة الوهم














المزيد.....

في محبة الوهم


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 2084 - 2007 / 10 / 30 - 09:03
المحور: الادب والفن
    



حكي لي والدي – ولم يكن يميز بين خيالاته وما يحدث – أنه وهو تلميذ في المنصورة وقع في غرام قلة ماء ، كان يلمحها خلف ستار شباك يوميا أثناء ذهابه إلي المدرسة وعودته منها . كانت القلة وهو سائر على الطريق مشبعا بأحلام العشق تبدو له مثل رأس فتاة تتابعه ببصرها وقلبها من بعيد . قال إنه تعلق بها، وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة إلي أن اكتشف أنها قلة فخارية ثابتة في صحن فوق إفريز الشباك. علقت الحكاية بذهني خاصة حين قرأت فيما بعد قصة ليوسف إدريس بالمعنى ذاته عن شخص في زنزانة ملاصقة لحائط سجن النساء تخيل أن خلف جدار زنزانته امرأة تطرق الجدار لكي تتواصل معه. ربما كانت حكاية القلة حقيقية ، أو أن والدي تخيلها فوجدها طريفة ، فصار يؤلفها وهو يحكيها كأنها حدثت له . ومؤخرا عدت للتفكير في قصة القلة حين قرأت للروائي الألماني توماس مان عبارة في روايته " الموت في فينسيا " - الصادرة عام 1913- مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. وإذن فإن فقد أججت المعرفة الناقصة أشواق والدي
إلي الحب حين عوض نقص المعرفة بخيالاته وأوهامه ، كما نفعل نحن جميعا حين نحسب القلة الفخارية غرام العمر كله ، وحين تبدو لنا نظريات التغيير السياسية طريقا إلي الجنة ، ونخال الأصدقاء أخوة لنا من لحمنا ودمائنا ؟ ثم يتضح أن كل ذلك وهم وراء ستار شفاف أضفينا عليه من أشواقنا كل جماله ؟ فهل تكبر الأحلام والأشواق من نقص المعرفة ؟ وهل أن أشواق الإنسان إلي العدل والحرية والحب والكرامة والسلام قائمة على أن معرفتنا بما نصبو إليه ناقصة ؟ فإذا اكتملت معرفتنا بأحلامنا – أو بتجلي تلك الأحلام في الواقع - ذوت أشواقنا إليها ؟! أذكر أنني حين سافرت للاتحاد السوفيتي كتبت في أولى رسائلي من هناك إلي أحد الأصدقاء : " أكتب إليك من زمن آخر .. من المستقبل ". وبمرور الوقت تكشفت الصورة هناك عن وضع مختلف تماما عن تلك اللوحة التي رسمها الشوق وحده مع المعرفة الناقصة . ومنذ نحو أربعين عاما كان والدي يهون على نفسه فيخاطبني بقوله : لم ير جيلنا شيئا من أحلامه تتحقق ، لكن جيلك أنت سيرى العدل والكرامة والمساواة بدون شك . لكن جيلي لم ير شيئا من ذلك . والآن لا أجد في نفسي شجاعة كافية لأقول لابنتي : لكنك أنت سترين كل هذا . وأسأل روحي : هل كانت الأشواق العظيمة ثمرة معرفة ناقصة ؟. وهل أن اكتمال المعرفة هو النقطة التي يبدأ عندها الشوق في النقصان؟. ألا يطرد تجسد الأحلام في هيئة معينة الأحلام ذاتها ؟ أم أن الأحلام تواصل وجودها نحو صورة أخرى ؟.
في حياة كل منا " قلة " ، قد تكون حزبا سياسيا ، وقد تكون امرأة ، وقد تكون ولدا يعقد عليه آماله ، وقد تكون صديقا ، وقد تكون وهم الكتابة ، أو دور بارز . ونحن نمنح تلك الأحلام أجمل قصائدنا ، وأوقاتنا ، وطاقتنا ، ونحيا على أن القلة هي النور الذي نقاتل من أجله. هناك شيء لا يتحقق في كل الأحلام ، لكن فيها أيضا شيئا آخر ، كالبذرة ، ينمو ، ويتمدد مثل الضوء ، ويتخطي الحواجز ، وكلما تجسد في هيئة محددة تجاوزها إلي هيئة أخرى أرقي . لأن الأشواق الإنسانية التي هي نتاج معرفة ناقصة هي أيضا أشواق لاستكمال المعرفة . فالقلب الذي خفق من أجل قلة وراء نافذة هو وحده القلب القادر على أن يخفق بعنف من أجل امرأة من لحم ودم . لقد طوى الإنسان قلبه آلاف السنوات على حلمه بأن يكون طائرا مرفرفا ، يفرد جناحيه على العالم ، وكم مرة اتضح له أن حلمه هذا وهم ، إلي أن تراكمت لديه المعرفة فتمكن من التحليق بأجنحة فولاذية إلي أبعد نقطة في الفضاء ؟ .
ليس المغزى الرئيسي من قصة القلة أننا كثيرا ما نعشق الأوهام ، لكن المغزى الرئيسي أننا نعشق . ليس المهم أن تتحطم نظريات التغيير السياسية ، المهم أننا مازلنا نريد التغيير ، فإذا تحطم الأصدقاء والأحبة ، وتكشفوا عن أوهام ، فإن الطريق الوحيد لاكتساب الأصدقاء والأحبة هو المزيد من الوهم ، والإيمان بأن العالم ممتلئ بالخير وبالأصدقاء والكتاب والسياسيين وبالكثيرين ممن لا يقرءون ولا يكتبون لكن بين جوانحهم نفوس النبلاء والشعراء . فالأفضل أن تعاقبنا الحياة بقولها : كنتم واهمين ، عن أن تعاقبنا بقولها : عشتم بنفوس جرداء قاحلة .

***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
[email protected]



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أطلق لرصاص على هند علام .. لكي أشكره ؟
- من أطلق الرصاص على هند علام ..لكي أشكره ؟
- من الأردن إلي شيكاغو
- سلاطين المماليك وخيال الظل
- روايات الكاتبة الروسية ناتاليا فيكو
- الدولة والإخوان في مصر
- احتباس حراري واجتماعي
- النقد والمجتمع
- ماتروشكا للاستبداد
- أحمد عبد المعطي حجازي وقضية الحرية
- فن الكذب
- التعذيب للجميع .. مشروع قومي
- معبر إلي وطن
- الباب المغلق
- معارك نقدية
- غسان كنفاني .. زهور في حدائق جرداء
- الطريق الشاق نحو الكتابة
- جون شتاينبك ومنطق بيلون
- تحرير متبادل بين حماس وفتح
- تعذيب العقل


المزيد.....




- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...
- تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر ...
- المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
- عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - في محبة الوهم