|
دمعة على أعتاب جسد: الجزء الأول
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 2081 - 2007 / 10 / 27 - 03:24
المحور:
الادب والفن
مقدمة القصة: كثيرا ما تعالج قضايا الإنسان بنظرة الاختزال والأحادية في التصور، ونادرا ما يستجلب القارئ صورة الواقع متكاملة بتعقيداتها وتفريعاتها، سواء اتفق مع ما يحكم هذا الواقع من بنيات مؤسِّسة أو لم يتفق. وكان ولا زال المختبر الديني والسياسي، هو الذي يضع بصماته على مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية في تركيبة الإنسان. إذ لم تستطع الكثير من المقاربات أن تتجاوز في أبعادها تعاملا تبسيطيا، في حجم ما سنحاول إلقاء الضوء عليه من خلال النموذج المطروح للنقاش. تأتي قصة " دمعة على أعتاب جسد..." في هذا السياق المتشعب من الأزمة الحضارية والثقافية، لتتحدث بلسان الصدق عن صورة تكشف فيها عن ملابسات الواقع الإنساني في امتداداته بقضية الجنس وما يتفرع عنه. ولعل السؤال المحوري الذي تثيره قصة في حجم ما نحن بصدده، هو سؤال التكتم وصمت الواقع عن ملابسات ما يحدث خلف ستار المجتمع في كل حين وكل آن. لقد تم احتواء قضية الجنس، كما تم احتواء الكثير من القضايا المرتبطة بالتركيبة الإنسانية في العنصر الديني، وتم المتاجرة بها سياسيا وإعلاميا، وغابت المقاربة الإنسانية الشاملة من تصوراتنا، ليصنع كل واحد منا من نفسه حكما على الناس بسيف من الرهبة، دون الإطلالة من نافذة الواقع المعقد والمتشابك تشابك تخلفه وانحطاطه على مختلف المستويات. إن قضية الجنس أخي القارئ، هي قضية كل واحد منا في امتداداتها وأبعادها اللامتناهية. ولسنا منفصلين أبدا عن الأحداث أو الأمكنة التي سترد في مختلف محطات القصة، لترسم جزءً مما يعرفه كل واحد منا. لهذا كان الهدف الوحيد من قصة الدمعة هو البكاء على هذا الواقع المتأزم، لعل الدمعة تنبت زهرة على جنبات الطريق إلى المستقبل. فقد مضى حين من الدهر ونحن ملائكة في أحكامنا ننطق بمنطق:" ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك "، ونسينا بأن من يرتفع إلى هذا الجزء من السؤال الملائكي لا يعلم في واقع الحال شيئا، إذ جوابه الفعلي سيكون بلسان الواقع كما كان بلسان القرآن:" إني أعلم ما لا تعلمون ". الجزء الأول: تنأى القرى في الكثير من الأحيان أن تبوح بسر غروب شمسها. فشمس الإنسانية قد خلعت عنها حجاب الوقار، ولم تعد تريد أن ترسل أشعة الأمل إلى مواطن البؤس والحرمان بكل أشكالها. ذنب كل هذه القرى بأهلها وحجرها وشجرها أنها ابتعدت عن أضواء المدنية بصخبها، وابتعدت عن ضمائر الموت فلا يسمع صوتها الصاخب مَن يهمهم أمرها، أو يمتلكون مفاتيح تغيير قدرٍ تنوء به العصبة أولي القوة. كان ولا زال ضمير الإنسانية غائبا على قرية من بينها تدعى:" سوق الراحة "، ففيه يرتاح عابر السبيل والمسافر، وفيه ترتاح النساء من عبث ظلام المنازل إلى عبث الجسد ومتعة الاختلاط الجنسي، وفيه ترتاح ضمائر الموت لأنها شغلت مكابيت العقد النفسية بالشُّعَب الأربعة، دون وخز من ضمير أو بكاء على المصير. تلك القرية المدعاة سوق الراحة، لا تستطيع أن ترى نور ضوء أو صخب سيارة أو أطلال مدارس ومستشفيات، إلا من خلال سوق أسبوعي يقع على منحدرات تنحدر انحدار سقفه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي. تضاريسه وعرة تجعل من بنيته التحتية غير مؤهلة للكثير من الاستثمار البشري في مجالات متعددة. أهملته كل البرامج الحكومية لأن قاعدتها تعتمد على المدينة وفضاءاتها. لم يكن له نواب ولا ممثلين في مؤسسات الدولة الشرعية لإبلاغ أصوات الأهالي وصرخات النساء، وضياع فتيات في مقتبل العمر في أوكار الفساد المميت تحت أنين الفروج. كل المؤشرات المحيطة بمجتمع الرهبة، تجمَّعت لتُشَكِّل لَوْن الاستغلال الاجتماعي والسياسي لسوق الراحة. فلا موارد تسد الرمق من جوع البطون، ولا برامج توضح في الأفق بوادر الانفراج والأمل لمن ضاقت بهم الدنيا فبحثوا عن البديل. بديلٌ لم تصنعه السياسة في مؤسسات التشريع والديمقراطية، ولم يرفع به نواب الأمة حناجرهم مدوية في الغرف المغلقة. ولكن صنعته الجثت الهامدة حين تحولت لأوكار فساد اجتماعي قد يتفق معه البعض وقد يختلف. لم تجد الأهالي من تعويض العجز التجاري والاقتصادي، إلا بتعويضه بفقدان الشرف والكرامة ولو بدراهم معدودات. فالجسد في سوق الراحة زهيد زهادة ما يلقيه رجل فوق الجسد المشلول، وكأن الجسد يكتوي بنيران الراحة المكبوتة في أوصال الطبقة المحرومة، أوالباحثين عن متنفسات جنسية هنا أو هناك. والجسد في سوق الراحة ميت موتة الضمير على أعتاب آلهة الكبت الجنسي. كانت أسرة " شريف " مكونة من زوجة وابن وبنتان تقطن قرية الواقع المريح كما هو سوقها. هو فلاح بسيط أعدمته ذات اليد على مشنقة التاريخ، فجعلت موارده محدودة محدودية زمانه ومكانه. وحتى القدر لم يشأ أن يبتسم في وجهه يوما فتضحك السماء بخيراتها وغيثها، وتجعله يتكئ على عكازتها من أجل لعب دوره الاجتماعي بالشكل المريح والمنشود. أنشأ تجارة أسبوعية بسوق الراحة لا تكاد تسد رمقه في واقع الضنك، مما اضطر ابنه" شاهد "، إلى عدم متابعة الدراسة في شبه المدارس التي لا يصل إليها إلا منهوك الجسم والقوة لبعدها، وعدم توفرها على حد أدنى من الشروط الكفيلة بجو من الاستقرار النفسي، تكون عبره العملية التعليمية قد حققت أهدافها ومآربها. لقد كان بالفعل شاهدا على الجريمة التي تقع له ولغيره على مرأى من أعين الغدر والفتك بالمآسي الإنسانية. لم يكن " شريف " قادرا على توفير الشروط الكافية لابنه الصغير والأوحد، حتى يوفرها لإخوتَيْه الكبيرتين في مجتمع إقصائي يحرم المرأة من التعليم، ويجعل مدرستها سريرا ترقد فوقه مرقدها الأخير لو قادها حظها الذهبي إلى ذلك سبيلا. ما كان أمامه إلا أن يرسل شاهد زمانه إلى المدينة عند عائلة تتكفل ببعض من حاجياته، مقابل العمل هناك وتلقينه حرفة من الحرف. لم يبق أمام شريف سوى بضاعة البنات. فالكبرى اسمها " عُلَيَّة " والصغرى اسمها " سامية ". لقد وصل الاستعصاء التاريخي ذروته لترغم أنفه على الواقع الذي يجري على غيره دون رضاهم. كلما ذهب إلى السوق لعله يجلب راحة لذويه، إلا عاد ودمع العين يسبقه من داء الحرمان. كان مرغما مدفوعا إلى أن يستبق الخيرات، ويرفع عن " علية " علياءها وعن " سامية " سموها ويذهب إلى سوق الراحة ليجرب هذه المرة بضاعة تضرب بارتفاع أسهمها بورصات الانحدار الثقافي، وتقلب موازين الشرف لتبيعها بسوق الذلال رخيصة وذليلة. كان السوق مملوءً كعادته بالزوار، فهذا غارق في تجارة البوار، وذاك متربص بين الصفوف عله يفترس صيدا ببيت أوهى من بيت العنكبوت، والآخر قد أعيته الحيلة فلم يجد إلا أمكنة قد خصصت واستئجرت من أجل من يخجلهم الصيد بين الصفوف، أو المعدومين حيلة الكلام المنمق. كانت تقف " علية " و" سامية " على أرصفة تلك الأمكنة لعل القدر يجود بمحروم، أو يبعث بعُبَّاد الجنس والجسد، وهم غالبا من المسافرين أو سائقي الحافلات التي تمر على المكان المقدس. لم تكن " علية " مستوعبة للدرس بعد وكانت دائما تقول:" الله يعفو علينا "، وتتذكر الشرف المنبعث من علو اسمها. هي فتاة جميلة جعلت منها محط أنظار الكثيرين من القناصة بشكلها ولون ابتسامتها وصوتها الدافئ والمتمرد على راحة السوق. أما " سامية " فقد باعت أمانتها، وانغمست بين الرواد لهوا وعبثا بلذة الفراغ المادي. وأصبحت قبلة لكل المتشردين وأبناء الدواوير المجاورة مقابل دريهمات معدودة لا تغني ولا تسمن من جوع. هكذا كان " شريف " يهوي ببنتيه إلى سوق الراحة، لتعويض قلة ذات اليد وجبر العوز المادي البغيض. وكانت تُسَكِّن آلامه مساندة الكثير من الأهالي مثله وسقوطهم في المستنقع نفسه فيقول" ما شي غير أنا بوحدي...". فظلت مسيرته تبعث الأمل من جديد في واقع الحال، عله يتغير يوما ما بقدرة قادر فيسترجع هيبته وشرفه الضائع بين أوكار الخفاء. كان هذا هو واقع الحال الذي يتقاسمه " شريف " مع مختلف أهل القرية شاء أم أبى. فتجارة الأجساد هي الرائجة في سوق الراحة، ولا يحتاج الناس أو المسافرين أو الزائرين للتبرك بالضريح المقدس، إلا لمسات على جسد معدوم الإحساس، وقُبُلات خجولة تتربص خوفا من مجيء بعض المسؤولين الأمنيين على حين غفلة منهم. كان لزاما أن تتعرف " علية " على رواد جسدها الذين كثروا بكثرة هذا المارد الأحمر. فابتسامتها لا تكاد تفارقها وهي تحاول الإيقاع بضحيتها. كان هذا كفيلا أن تتعرف على سائق حافلة ركاب اسمه " سمير ". لم تسعفه هو الآخر ظروفه المادية أن يتابع دراسته، فحصل على رخصة سياقة تؤهله لمساعدة الأهل والأحباب ولو تغرب في بلده بين البلدان والمدن. حياته المهنية لا تسمح له بجانب من الراحة والاستقرار تجعله يفكر في الزواج أو حياة أسرية مستقرة. كانت هوايته السمر والليالي لينسى تعب المقود وضجيج الركاب، فوق جسد أنهكته الجروح ولو بدَّرَ الأموال، أو غابت شمس صبح مستقبله. كلما أحس برغبة السمر ترك المقود واقتاده الكبت إلى جسد الفاتنة " علية " كما يسميها، يعبث به كما يشاء ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، والكل بين شهوة تنتهي بقذف إلى مزبلة التاريخ، أو سد رمق الجوع الذي يهدد راحة الناس. كانت تراوده ويراودها كل ما مر على سوق الراحة بحافلته. وارتبط بينهما وشائج من الصعب أن تفك عراها. فهي قبلة للتنفيس الجنسي، وهو ملجأ من الاحتماء بما قد يسببه لها الارتماء في أحضان زبناء كثر. فمنذ تعرفها عليه لم تعد تعرف غيره. فما يمكن أن توفره من غيره يجود عليها به في ليلة حمراء أو سوداء بِسَخاء ورضا نفس منقطِعَيْ النظير. ظلت هذه العلاقة تمتد إلى أبعد من ذلك، لتغادر " علية " سوق الراحة إلى مكان اقتادها إليه عشيقها. هو بيت تنزوي فيه لوحدها منتظرة فارس أحلامها أن يأتي لإفراغ ما في الجعبة من محتوى. تركت الأب والأم والأخت والأخ الشاهد على جريمة التاريخ، وذهبت مع السائق تحلم بالغد الأفضل، وتتوق إلى علو يخلصها من كثرة الزبناء ومشاكلهم. لم تكترث إلى مصير الأب المعوز ولا إلى قلب الأم المقطع، ولا إلى مصير الأخت بين جزارة السوق. أما الأخ الصغير فقد ألقوه في غيابات جب لعل الزمان يلتقطه من بين مخالب الفقر والحرمان... يتبع...
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دمعة على أعتاب جسد: الجزء الثاني
-
محراب الحرية
-
في محراب وردة...!!!
-
وَهْمُ سُورٍ...؟
-
أنا ومستنقع العربان...!!!
-
بلاد الوهم...!!!
-
القرآن وأزمة التأصيل: حوار صحفي...
-
الباحث يوسف هريمة التديّن إذا اصطبغ بالفكر الشمولي انتهى.. آ
...
-
عين على منهج إبراهيم ابن نبي في قراءة القرآن*
-
القرآن ومنطق الإقصاء
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
الشفاعة المحمدية والامتداد العقدي المسيحي
-
الفكر الإسلامي وأزمة البنيات المُؤَسِّسَة
-
حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة
-
ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
-
أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
-
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
-
علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
-
الأديان ومستقبل الإنسانية
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|