|
من تأريخ الحلة النقابي والسياسي / الجزء الأول
عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 2080 - 2007 / 10 / 26 - 09:09
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من تأريخ الحلة النقابي والسياسي / الجزء الأول . كانون الأول (ديسمبر) 2004 ذكرى وتأريخ الفصل الأول صَفحات من تأريخ الحلّة السياسي والنقابي إنتخابات نقابة المعلمين في الحلة
أولاً : إنتخابات عام 1961 / أوائل شباط 1961
التمهيد للإنتخابات تمَّ تكليفي والزميل الأستاذ عبد الوهاب عَلْوَش ( رئيس النقابة للعام 1959 - 1960 ) للقيام بالتمهيد والتهيؤ لخوض إنتخابات هذا العام. يقتضي الأمر باديء ذي بديء القيام بالإتصالات مع مختلف أعضاء وعضوات الهيئات التعليمية والتدريسية في مدينة الحلة وضواحيها وما يتبعها من أقضية ونواح، وذلك لإعداد قائمة المرشحين للهيئة الإدارية لنقاية المعلمين، ثم حشد التأييد اللازم لإنجاح قائمتنا. عرض علينا الزميل الأستاذ مهدي ناجي الزكّوم إدارة مدرسته لكي تكون مقراً لقائمتنا (القائمة المهنية الديموقراطية) والتي كانت تتنافس مع قائمة وحيدة أخرى تحمل إسم ( قائمة الجبهة القومية المتحدة ).كان معروفاً أنَّ القائمة الأولى تمثل الشيوعيين والديموقراطيين والكثير من المستقلين. أما القائمة الثانية المنافسة فكانت تمثل تجمع البعثيين والقوميين وممثلي التيار الديني وبعض المحافظين والموالين للعهد الملكي. الجبهة القومية هذه كانت وجهاً أو فصيلاً آخرَ تابعاً لجبهة سياسية واسعة النطاق وضعت أمامها هدفاً محدداً واحداً لا غير : إسقاط نظام عبد الكريم قاسم، قتله والإستيلاء بالقوة على السلطة. ما كنتُ وزميلي عبد الوهاب وحيدين في الميدان، إنما كان رفاق الحزب الشيوعي وكافة منظماته ولجانه وأعضائه وخلاياه… كانت جميعاً تحت الإنذار سراً وعلانيةً. كانت لجنة الفرات الأوسط تشرف وتوجه لجنة محلية الحلة، وهذه توجه لجنة مدينة الحلة، وهذه مسؤولة مباشرةً أمام فروعها وتنظيماتها المختلفة. قبيل موعد الإنتخابات بقليل أتممنا إعداد قائمتنا وتم الإتفاق بيننا وبين ممثلي القائمة الأخرى على أن نجتمع في مقر النقابة في يوم بعينه وساعة محددة لبحث بعض التفصيلات الهامة وعلى رأسها إختيار مركز الإقتراع. في الساعة المحددة كنتُ وزميلي عبد الوهاب مستعدين لمنازلة ممثلي القائمة المنافسة، في حين كان هناك أكثر من أربعة أشخاص يمثلون هذه القائمة أتذكّر منهم : المعلم عبود الشلاه ومدير ثانوية الحلة للبنين عبد المجيد الفلوجي وقريبه المدرس عبد الرضا الفلوجي ثم المعلم غفار كاظم المعروف. لا أتذكّرُ من كان يمثل البعثيين في هذا اللقاء… هل هو المدرس عبد الوهاب السامرائي أم المدرس الآخر يونس السامرائي أم المدرس موسى السوداني أم المُعلِّم مختار الكبيسي؟ كان البعثيون على خلاف مع بقية أجنحة جبهتهم حول السيد عبد المجيد الفلّوجي. وعارضوا بكل قوة أن يكون رئيساً للنقابة، وتمَّ لهم ما أرادوا. كانوا على حق… كان الرجل في العهد الملكي وثيق الصلات بأجهزة الشرطة والأمن، وعلى يده تمَّ فصل العديد من الطلاب لأسباب سياسية. قبل الشروع بالتفاوض والمناقشة دخل مقر النقابة ضابط الإنضباط البعثي الملازم شريف صبيح وجلس بجواري ملاصقاً لكتفي.كان شتاء ذلك العام شديد البرودة لذا كانت باب المقر موصدة، يقف خلفها جندي إنضباط يمشي عادةً خلف الضابط شريف، من أهالي بعض القرى المجاورة لمدينة الحلة ( لعلها برنون أو عنّانة أو كويريش أو الجُمجمة … وكلها قريبة من آثار بابل الشهيرة ). بعد السلام وبعض المجاملات الشكلية سألني هذا الضابط (( كيف أموركم وأمور الإنتخابات )) ؟ قلت له حرفياً (( ستفوز قائمتنا إنْ لم يتدخل الجيش ))… وكنت أقصده هو وأمثاله من الضباط والجنود المحسوبين على حزب البعث. شرعنا بالتباحث مع ممثلي قائمة الجبهة القومية فإختلفنا حول تعيين مركز الإقتراع : نحن إقترحنا أنْ يكون مركز الإقتراع في المدرسة الشرقية الإبتدائية العريقة، نظراً لأنها تحتل بالفعل مركز مدينة الحلة. أصرَّ الآخرون على أن يكون التصويت في ثانوية الحلة للبنين… وكانت يومذاك بعيدة عن مركز المدينة ومحاطة بالكثير من بساتين النخيل وتمتد أمامها ساحة واسعة مكشوفة.كان سوء القصد واضحاً، ذاك لأنَّ المعلومات التي كانت تصلنا أنَّ عصابات معينة تابعة للجبهة القومية سوف تمنع أنصارنا من المعلمين من الوصول إلى صناديق الإقتراع، بل والإعتداء على من يصرُّ منهم على ممارسة حقه المشروع. ولكي لا نبدو وكأننا ضعفاء أمام ممثلي القائمة القومية وافقنا على إقتراحهم (( وقد وقع فيما بعد ما كنا نتوقعه ونخشاه )) ثم إتفقنا على العلامات التي تميز قائمة مرشحينا عن قائمة مرشحيهم : لهم المثلث ولنا الدائرة. زرتُ اليوم التالي مقر النقابة للتشاور مع زميلي عبد الوهاب علوش فأمضيت قليلاً من الوقت معه ثم غادرت المكان لأفاجأ بجندي المخابرات إيراهيم السامرائي مقابل مقر النقابة. دنا مني وطلب مني مرافقته إلى مركز الشرطة. رفضت طلبه فشرع يهدد ويتوعد ثم أوقف إحدى العربات التي تجرّها الخيول وطلب مني الصعود فصعدت. أمر صاحب العربة ( العربنجي ) أن يتجه نحو مركز الشرطة متخذاً طريق الشارع الرئيس المحاذي لنهر الفرات. خالفته ورجوت العربنجي أن يأخذ الطريق الشعبي المكتظ دوماً بالناس. أصر السامرائي على طلبه فإستجاب صاحب العربة. دخلنا مركز الشرطة في المساء المبكر فماذا وجدت هناك ؟؟ الضابط إياه الملازم شريف صبيح. أغلظ لي القول بصوت جدَّ خفيض. وجه لي لوماً لم أفهم دوافعه، وواصل ثرثرته حتى إلتحق به معاون الشرطة شياع البرّاك ( من عائلة برّاك الحلة ) فخفف من غلوائه وأسرَّ في أُذنه كلمات لم أسمعها فكفَّ عن ثرثرته لكنَّ جندي الإستخبارت لم يكفَّ عني. إقترب مني بشكل إستفزازي وطلب مني مرافقته إلى الطابق العلوي من بناية مركز شرطة الحلة. أدخلني غرفة هناك فوجدت فيها ثلاثة من مفوظي الأمن المعروفين لأهل الحلة. كان إثنان منهم جدَّ مؤدبين، أما الثالث ( ثالثهم ) فشنَّ هجوماً عليَّ وصوته يهدر هدير ماكنة فيها عطب أو يخور خوار ثور جريح. غادرت هذه الغرفة فإذا بالجندي إياه ورائي وأنا أهبط إلى الطابق الأرضي يهذي بسباب بذيء من نوع (( كلب إبن الكلب… سرسري… هتلي… شيوعي… كافر… زنديق… كلب إبن الكلب…)). لم أعلّق ولم أُجب. تركته ينبح كالكلب. خرجت من باب مركز الشرطة فماذا وجدتُ ؟ وجدت العربة والعربنجي في الشارع فطالبني بأجرته. قلت له خذ أجرتك من الجندي إبراهيم السامرائي…هو الذي أوقفك وهو من طلب منك المجيء إلى مركز الشرطة. منتصف الليلة هذه طرق باب بيتنا شرطي الأمن السرّي مسلم (( الذي كان صديقاً سرياً للحزب الشيوعي عن طريق المرحوم عباس مجيد البياتي، شقيق حميد مجيد موسى البياتي )) وأخبرني أنني موقوف، وعليّ مراجعة معاون الشرطة الخفر. إرتديت ملابسي ولم أشأ أن أُزعج أهلي فلم أخبرهم بالأمر ورافقته إلى مركز الشرطة. في إحدى حجرات الطابق العلوي كان في إنتظاري ضابط شرطة بملابس مدنية. كان مؤدباً كيّساً. سألته : خيراً إنشاء الله ؟ لماذا إستدعائي في هذا الوقت المتأخر ؟ أنا موظف حكومي والشرطة تعرف جيداً المدرسة التي أمارس فيها مهنتي كما تعرفون موقع بيتي. إبتسم الرجل إبتسامة غامضة وطلب مني الجلوس ثم قال : إنك موقوف، لقد تهجّمتَ على الجيش العراقي وإتهمته بالتحيز للقائمة المنافسة لقائمتكم. على إية حال، واصل الكلام، مطلوب منك والحالة هذه أن تُحضر كفيلاً وإلاّ فلسوف تمّضي الليلةَ موقوفاً في المركز. شَخُص أمام ناظري ضابط الإنضباط (الشريف) شريف صبيح وسؤاله الخبيث حول وضع الإنتخابات وصيغة جوابي عن سؤاله. نظرتُ إلى ساعتي فوجدتها تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل. قلت له هل أستطيع أن أستعمل هذا التلفون ؟ أجاب : بكل تأكيد. أتصلتُ ببيتنا. مرَّ وقتٌ غير قصير حتى أتاني صوت المرحوم والدي قائلاً : نعم. قلتُ له يا والدي إنني عدنان، أتكلم معك من مركز الشرطة. قال على الفور : خيراً إن شاء الله… هاي بدايتها…، رجوته أن يأتي إلى مركز الشرطة على عجل. بعد حوالي نصف ساعة حضر الوالد متعباً لاهثاً يسحب أنفاسه بصعوبة ( كان عمره يومذاك إثنتين وسبعين سنةً ). وقّعَ على ورقة وضعها ضابط الشرطة أمامه وغادرنا المركز بدون إبطاء. كانت الشوارع خالية تماماً، لا سيارات ولا عربات ولا من بشر. يوم الإنتخاب زارني فجراً المعلم الناشط والشيوعي المعروف بين المعلمين السيد عدنان أحمد دنان ومعه سيارة تاكسي. سألته لماذا السيارة التاكسي ؟ قال المعلومات المتوفرة لدى الحزب تقضي أنَّ ممثلينا سيُمنعون من الوصول إلى مركز الإقتراع في ثانوية الحلة للبنين. ذهبنا معاً فأنزلني قريباً من المدرسة. وصلتُ إلى قاعة التصويت فوجدتها خالية إلاّ من صندوق الإقتراع. بعد قليل من الوقت حضر الزميلان عبد الوهاب علوش وبرفقته الزميل الآخر مُرشّح قائمتنا المعلم ( الطبيب فيما بعد ) كاظم عبد علي. لم يمر بعض الوقت حتى فوجئنا بحضور ضابط الإنضباط شريف صبيح. ما أن رآنا حتى فتح عينيه على سعتيهما مذهولاً مما يرى… الظاهر إنه لم يكن يتوقع حضور ممثلي قائمتنا إلى مركز الإقتراع. معلوماته، بل قراره، أن سوف يُحال بيننا وبين الوصول إلى غايتنا : صندوق الإقتراع. وإنْ لم يحضر ممثلو قائمتنا فلسوف تفوز قائمة الجبهة القومية بالتزكية لعدم وجود قائمة منافسة. هكذا كان قرارهم وهذا كان أملهم : فوز رخيص بدون مشاكل ومضاعفات. بعد الساعة الثامنة صباحاً بقليل بدأت بعض جماعات من المعلمات والمدرسات بالوصول وتعبئة إستمارات التصويت. كنتُ أعرف أكثرهن لأنهن من نصيرات قائمتنا. ثم أتت مجاميع من أنصار ومؤيدي الجبهة القومية.لم تمضِ ساعة من الزمن حتى دخل القاعة الملازم شريف صبيح وطلب مني مغادرة القاعة ومرافقته في جولة تفقدية للإطمئنان على سلامة الوضع حول مركز الإقتراع. ركبنا سيارته العسكرية وتجوّلنا في الشوارع المحيطة بالمدرسة الثانوية فماذا رأيتُ ؟ صفوفاً من الجنود مصطفين دون سلاح على جوانب الشوارع. فجأة رأيت غفار كاظم المعروف جالساً تحت الشمس الساطعة على أحد تخوت مقهى في الشارع الرئيس المؤدي إلى المدرسة الثانوية محاطاً بمجموعة من الشباب يحملون رماحاً خشبية طويلة. رفعتُ صوتي قائلاً : أُنظرْ ملازم صبيح ! هذا أحد مرشحي القائمة القومية غفّار كاظم المعروف ومعه مجموعةٌ من الشقاة، لا شكَّ إنهم سوف يعتدون على جماعتنا أو في أحسن الأحوال يمنعونهم من الوصول إلى مركز الإقتراع. يا للعجب ! تجاهل الأمر كأنه لم يسمع ما كنتُ أقول ! وكيف لمثله أن يستمع لقول أمثالي ونحن قطبان متضادان ! طلبتُ منه أن أرجع لمراقبة عملية الإقتراع. رجعتُ فماذا وجدت ؟ وجدتُ المركز خالياً إلاّ من بضعة أنفار من مؤيدي قائمة الجبهة القومية المنافسة. فوجئتُ بحضور نائب ضابط حسن الهيئة ضخم الجثة تبين فيما بعد إنه نائب ضابط مخابرات أو إستخبارات… لا أعرف ما هو الفرق ! لم يستطع حتى تلك الساعة ( بعد الحادية عشرة قليلاً ) أنصار وأصدقاء ومؤيدو قائمتنا من إختراق طوق الحصار المضروب حول المدرسة الثانوية والوصول إلى مركز الإقتراع. كان الأمر واضحاً لنا، نحن ممثلي القائمة المهنية، وحصلت لدينا القناعة بلا جدوى مواصلة العملية الإنتخابية. تشاورت مع زميلي عبد الوهاب ( عَلْوَشْ / من أهالي السماوة ) وكاظم عبد علي ( من أهالي الحلة ) حول الموقف فكانا مثلي مقتنعين بأنْ لا فائدة من البقاء حول صندوق لا يمسسه إلاّ البعثيون والقوميون وأنصار قائمتهم وباقي حلفائهم في الجبهة القومية. فجأة دخل القاعة معلم من الذين درّسوني يوماً في المدرسة الإبتدائية هو الأُستاذ فاضل خضر الحديثي، إقترب مني وهو يُلقي إستمارة الإقتراع في الصندوق فأسرَّ لي أنَّ شقيقي قحطان ( كان حينها ضابطاً برتبة ملازم أول ) ينتظرني عند مدخل المدرسة ومعه والدتي. تركتُ القاعة لأستجلي حقيقة الموقف ولأعرف سبب مجيئه من بغداد إلى الحلة وحضوره مركز الإقتراع في مثل تلكم الظروف البالغة التعقيد. إعترض طريقي نائب الضابط وسألني عمن يكون الضابط في باب المدرسة ؟ بكل عفوية وسذاجة مفرطة أجبته إنه شقيقي. لم يكتفِ بجوابي فعاد يسألني وما إسمه ؟ بسذاجة أكبر، بل وبلاهة، ذكرت له إسم أخي ورتبته العسكرية ظناً مني أن ذلك سيُخيفه ويُضفي عليَ نوعاً من الإعتبار الذي فقدته وإفتقدته جراء الحصار المضروب عليَّ وعلى زميليَّ الآخرين الواقفين معي في مركز الإقتراع وإستحالة وصول أنصارنا. حين وصلت الباب الخارجي للمدرسة الثانوية فوجئت بأخي يسحبني من يدي بقوة قائلاً : أترك القاعة، هذه مهزلة وليست إنتخابات. ثم أردف قائلاً : المدرسة مطوّقة بالجنود ولديهم أمر أنْ لا يتدخلوا في شؤون المعلمين، أي أن يتركوا أنصار القائمة المهنية لقمةً سائغةً لمنافسيهم البعثيين والقوميين وعبث عصاباتهم. هيا معنا للبيت ! فتح باب سيارته ودفعني إلى داخلها وأنطلق بنا نحو بيتنا. في مساء نفس اليوم تم الإعلان عن فوز قائمة الجبهة القومية فوزاً ساحقاً… وكانوا كرماء معنا إذ أعطونا بضعة أصوات…/ وتم إختيار المعلّم عبود الشلاه نقيباً للمعلمين. وقيل في حينه إنه وغفار كاظم المعروف يمثلان الشرطة في النقابة. الشرطة كانت تمثّلُ يومذاك العهد الملكي وكافة رموزه من إقطاع وتيارات دينية وضباط الشرطة الذين تدربوا في دوائر وعواصم حلف بغداد، فضلاً عن بعض العناصر المحسوبة على بعض الأجنحة القومية ومُدّعيها. هكذا جرت وهكذا تمّت مهزلة إنتخابات نقابة المعلمين لمحافظة بابل أوائل شباط 1961.وما كان وضع الإنتخابات في بقية مراكز الألوية العراقية ( المحافظات ) بأفضل من وضعه في مدينة الحلة. كان الوضع السياسي في عموم العراق ينحدر بسرعة مذهلة من السيء نحو الأسوأ. زاده سوءاً الحرب التي إندلعت في كردستان والتي كانت عاملاً إضافياً حاسماً في سقوط قاسم والحكومة والدولة في أيدي الجبهة القومية.كنا وحيدين نصارع الأنواء والعواصف الهوج ضد خصوم تقف معهم جهات وأطراف شتى منوعة : كانت معهم بريطانيا وأمريكا وحلف بغداد وشاه إيران والأردن والكويت والسعودية ثم مصر جمال عبد الناصر بكل ثقل هذا الرجل العربي والعالمي. كان القرار أن يكون رئيس النقابة ( في حالة فوزنا في الإنتخابات ) الأستاذ حسين صالح، مدير متوسطة الحلة للبنين بالوكالة، وأن أكونَ أنا نائب النقيب، فهو أكبر سناً وأقدم خدمةً مني.كنتُ أحد زملائه في هيئة التدريس في نفس المدرسة. تمَّ إتخاذ هذا القرار بعد أن إعتذر الأستاذ عبد الوهاب علوش حتى عن ترشيح نفسه في قائمتنا، مجرد ترشيح، وكانت له دوافعه الخاصة. تعقيب : بعد إنقلاب شباط 1963 المشؤوم تم إعتقال أخي الضابط قحطان ووُضِع في السجن رقم واحد الكائن في معسكر الرشيد. وكانت إحدى التُهم التي وُجِهت إليه : التدخل في شؤون إنتخابات نقابة المعلمين في الحلّة …!!! ما بعد الإنتخاب لم تمضِ إلاّ بضعة أيام حتّى جاء إلى بيتنا مأمور مركز بنجوم ثلاث على رقبته يُدعى " عائد " (( ليس من أهالي الحلة. لعب هذا الشرطي دوراً خطيراً في تخريب مسيرة ثورة 14 تموز إذ قاد في منتصف صيف 1959 هجوماً مسلحاً على مقرالشبيبة الديموقراطية في مدينة الهندية، وأعتقل من كان فيه، ومن ثم تمت محاكمتهم وسُجِنوا لمددٍ طويلة بإعتبارهم هم من قام بالهجوم المسلح ضد شرطة طويريج…)) … جاء هذا الشرطي ذو النجوم الثلاث إلى بيتنا وسلّمني مذكرّة إتهام قرأتُ فيها موعداً للحضور أمام حاكم التحقيق السيد " خليل ". التهمة : الطعن في نزاهة وحيادية الجيش العراقي الباسل !!! حضرتُ المحكمة في الموعد المحدد وبصحبتي إثنان من شهود الدفاع وهما الأستاذ عبد الوهاب علوش وأُستاذ الرياضة العريق وإبن الحلة المعروف زكي راجي. ثم حضر الملازم شريف صبيح مُصطحِباً معه كالعادة جندي الإنضباط كشاهد إدّعاء. نادى الحاكم فدخلنا سوية. جلس الضابط فجلست. لكنَّ الحاكم خليل طلب بأدبٍ مني أن أقف، غير أنه لم يطلب ذلك من الضابط فبقي جالساً. بدل ذلك طلب منه، كذلك بلطف، أن يتخلى عن مسدسه فخلعه من وسطه وأعطاه لمرافقه جندي الإنضباط. طلب منّا الحاكم خليل أن نُقسمَ بالقرآن الكريم أنْ لا نقولَ إلاّ الصِدق ففعلنا. طلب من الضابط الإدلاء بإفادته فأفاد بأنني تهجّمتُ على الجيش العراقي وإتهمته بالإنحياز إلى قائمة الجبهة القومية. سأله الحاكم ألديه شهود إثبات ؟ أشار إلى الجندي أن يدخلَ غرفة الحاكم. دخل الجندي وأقسم القسم المألوف واضعاً كفه الأيمن على القرآن أن لا يقولَ إلاّ الصِدق. ثم كرر ما قال الضابط حرفياً كالببغاء. سألني الحاكم خليل هل لدي شهود دفاع ؟ قلتُ أجل. دخل غرفة الحاكم زميلاي عبد الوهاب وزكي راجي (( عضو الهيئة الإدارية للنقابة، وكان حاضراً في مقر النقابة حين دخلها الضابط شريف وجلس بجانبي )) فأفادا أنهما لم يسمعا مني الكلام موضوع التهمة. ثم أعربا عن دهشتهما من هذا الإتهام، إذ أنهما حسبا أنَّ الملازم شريف أحدُ أصدقائي حيث لم يتخذ مجلسه إلاّ بجواري ولم يسمعا منّا الإثنين إلاّ كلام المجاملات الحميمة. طلبت الكلام فوجّهت بعض الأسئلة إلى الجندي : أين كنتَ حين كان الملازم شريف معنا في مقر النقابة، أقصد هل دخلتَ معه المقر أم بقيت خارجه؟ قال بقيتُ خارج المقر. سألته ثانيةً : أنت تعلمُ أن الطقس كان يومذاك شديد البرودة، بداية شهر شباط… فهل كان باب المقر مفتوحاً أم إنه كان موصداً ؟ قال بل كان موصداً ! وجّهت كلامي للحاكم متسائلاً : أُستاذ خليل، كانت الباب موصدة وكان شاهد الإثبات خارج المقر فكيف تسنّى له أن يسمع حديثي مع الملازم شريف ؟؟ إبتسمَ الحاكم ثم قال على الفور: تُغلق القضية لعدم توفر الدليل الكافي. تركنا غرفة الحاكم فإقترب الضابط مني وأراد أن يقولَ شيئاً وهو في حالة من الإحباط والذهول، وكان اللؤم يغطي سحنة وجه الذي مال إلى الشحوب، لكني تجاهلته وإلتحقتُ بزميليَّ فسمعته وهو يحث الخُطى خلفي قائلاً : كيف تُنكِرُ ما قلتَ في مقر النقابة وقد أقسمتَ بالقرآن أنْ لا تقولَ إلاّ الصِدق ؟ أهملته ولم أشأ التعليق. فشله يكفيه وما كنتُ شامتاً ببعثي كاذب متآمر. كان قبل ذلك دوماً يتظاهر بالرغبة في صداقتي والتقرب مني والإعراب عن ودٍ مزعوم مشبوه. أردتُ كذلك أن أسأل الحاكم ساعة المحاكمة : ما دخلُ ملازم الإنضباط هذا بإنتخابات نقابة المعلمين وما سبب حضوره إجتماعاتنا التمهيدية والتفاوضية ؟؟ لكني أحجمتُ ولم أُوجه هذه الأسئلة لأني كنتُ أعرف أنَّ منطقة الفرات الأوسط وجنوب العراق كافّة كانت تحت سيطرة قيادة الفرقة الأولى للجيش العراقي. وأنَّ قائد هذه الفرقة الزعيم سيد حميد الحصونة كان من ألد أعداء قائمتنا ومؤازريها وأنصارها وإنه هو من أصدر الأمر بإغلاق مقرات الحزب الشيوعي ومحلات بيع جريدة إتحاد الشعب في المحافظات السبع التابعة للفرقة الأولى يومذاك (( البصرة والعمارة والكوت والناصرية والديوانية والحلة وكربلاء )). رافق ذلك عمليات إغلاق المقاهي التي كان يرتادها الشيوعيون وأنصارهم وأصدقاؤهم المستقلون. ففي مدينة الحلّة مثلاً إُغلقت المقهى التي كان يملكها الرياضي المعروف حساني كاظم الموسوي (( شقيق الشهيد المرحوم ضابط سلاح الدروع المُقّدَم إبراهيم كاظم الموسوي الذي أُعدم في الأيام الأولى لإنقلاب شباط 1963 )).كما أُغلقِت مقهى سومر لأصحابها جبار ونجم عبود العجمي، ومقهى آخر كان يديره السيد عقرب كَجْوة (( شقيق الشيوعي طالب كجوة )). فضلاً عن ذلك كان إثنان من جلاوزة البعث من حثالات البشر يُعيثون في مدينة الحلة فساداً. فلقد قتل المجرم ناجي الدليمي السيد رزوقي منجي الشمعوني وجرح بطلق ناري الحاج مهدي حميد طخّة، غير أنه أخطأ حساني كاظم الموسوي الذي كان هدف الدليمي بالدرجة الأولى. وقع هذا الحادث في الشارع الرئيس الذي يربط مركز مدينة الحلة بباب المشهد والمستشفى الجمهوري وموقف سيارات النجف والديوانية، وقع مقابلَ دار المعلّم البعثي يومذاك فاهم كامل الصحّاف وإبن عمّه محمد سعيد الصحاف. نجا حساني من الموت لكنه لم ينجُ من الإستفزاز. فلقد إستفزه يوماً جندي المخابرات أو الإستخبارات إبراهيم السامرائي في مقهاه على شاطيء نهر الفرات التي حوّلها بعد إغلاقها إلى معمل للشبابيك والأبواب. رفع يده لكي يلطم حساني فعاجله الرياضي حساني بحركة مصارع محترف وطرحه أرضاً وإنتزع منه مسدسه. عندها قامت القيامة ضد حساني. تم إستدعاؤه إلى مركز الشرطة الرئيس وهناك إستلمه شرطي غير معروف لأهل الحلة، فإنهال عليه ضرباً عشوائياً بعصى غليظة أُعِدت خصيصاً لهذا الغرض. لم يكف الشرطي عن ضرب حساني إلاّ بعد أن تدخلَ البعثي كريم إبراهيم المطيري وتوسّط لدى كبار مسؤولي الشرطة لإطلاق سراح حساني. كان المجرم ناجي الدليمي يتمتع بحماية ورعاية بعض تُجّار الحبوب ولاسيّما التاجر الثري كاظم عبد الأخوة (( والد البعثي خَلَف وأخيه طارق ))، فقد وفّرَ له في داره الكبيرة الواقعة في منطقة باب المشهد المأوى والطعام وما كان يتناول من مشروبات كحولية، بعد أن أُدين أمام المحكمة بحادث قتل رزوقي منجي الشمعوني. مع جرجرتي وإتهامي وتبليغات المحاكم تم إيذاء بعض مرشحي قائمتنا من وجوه الحلة المعروفين… صدر الأمرُ بنقل الأستاذ الجليل ونصير السلم الشيخ يوسف كركوش من إحدى مدارس الحلة إلى قرية الإبراهيمية ( الدبلة ) الواقعة على الطريق بين الحلة وناحية القاسم. كما نُقِلَ زميلي ومدير متوسطة الحلة للبنين بالوكالة، المربي الفاضل والرجل الشجاع المقدام الأستاذ حسين صالح إلى ثانوية الهندية ( طويريج ). وقُبيل موعد الإنتخابات قام نفرٌ من الرُعاع وسفلة الشوارع نيابةً عن رؤوس الجبهة القومية بالإعتداء على مرشح قائمتنا الفنان المشهور والمربي القدير الأستاذ سلمان جاسم الحمداني ( أبو صبيح ). رأيته دامي الوجه ونظّارة عينيه محطّمة الزجاج. سألته من إعتدى عليك أبا صبيح ؟ قال : سليم الصفّار وجبار عباس اليوسف. كما صدر الأمر من متصرفية الحلة ( المحافظة ) إلى مرشح قائمتنا، مدير المدرسة الشرقية الإبتدائية المربي المعروف الأستاذ محسن ياسين (( قريب المرحوم البروفسور صفاء الحافظ )) بإخلاء داره العائدة إلى الإدارة المحلية. كما إفتعلت أجهزة الشرطة صيف عام 1961 حادثاً غير مسبوق : قامت بحملة إعتقالات لمجموعة كبيرة من مرشحي قائمتنا وبعض أنصارنا دون أن توجه لهم أية تهمة. فلقد كان من بين من أتذكر منهم المدرس حميد جَرَس ( من أهالي البصرة ) والشيوعي المقدام المعلم عبد الوهاب غني القاضي ( الصفّار ) والمعلم المعروف عبد المولى جليل والكاسب الشيوعي السيد فاضل المُرعب. وبعد أسبوعين تقريباً حُشِرَ معهم المعلم الشيوعي المتفرغ للحزب المرحوم عباس مجيد البياتي. قلتُ، لم توجّه لهم أية تهمة فأمضوا في معتقل مركز شرطة الحلة أكثر من شهر من شهور الصيف القائضة. لم يعتدِ عليهم أحدٌ لكنهم تعرّضوا جميعاً لأنواع من الإستفزازات الكلامية ومحاولات إبتزاز البعض منهم. معلِمون، طيب، ولكنْ ما ذنب رجل كاسب، وما علاقته بالمعلمين ونقابتهم ؟ ربما لأنه والد الشيوعي عباس المرعب، الذي كان يومذاك طالباً في كلية التربية في بغداد. تعقيب : تم بُعيد الإنتخابات تجميدي في الحزب تجميداً تشريفياً… بتنسيبي عضواً في لجنة التثقيف. كان معي في هذه اللجنة الشهيد المرحوم شهيد محمد سعيد الخوجة نعمة (( قُتلَ في الأيام الأولى لإنقلاب شباط 1963 … قتله الشقي جاسم محمد الحسون )). وكان مسؤول هذه اللجنة الرفيق مجيد طُعمة، من أهالي قَصَبة الإمام التابعة لناحية المحاويل. سألت فيما بعد عن سبب إبعادي عن التنظيم ؟ جاءني الجواب : ذاك لأنني أبديتُ موقفاً ضعيفاً في مركز الإقتراع حين خرجت مع الملازم شريف للإطلاع على الموقف خارج مركز التصويت. ثم لأنني تركتُ هذا المركز دونَ أن أصطحبَ معي زميليَّ عبد الوهاب وكاظم. كان جوابي كالأتي : رأيتُ أنَّ من الضروري أن أرى ما كان يجري خارج مركز الإقتراع.كان الوقت يمرُّ دون أن أرى أحداً من أنصارنا. وكان القرار الحزبي أن يأتي الأنصار مجاميعَ مجاميعَ لا فُرادى ومن عدة منافذ وجهات وليس من جهة واحدة. أما خروجي من المركز وتركي زميليَّ فكان ذلك خارج إرادتي. فوجئتُ بحضور والدتي وأخي الذي رأى بأم عينيه الإعتداء على بعض المعلمين ومطاردة آخرين بشكل لا إنساني.كانوا يهربون في البساتين أمام أنظار بعض طلابهم من البعثيين والقوميين والرجعيين. حتى المعلّمات… لم يسلمن من أيدي وألسنة الشقاة والكلاب المسعورة المنفلتة والخارجة على الأعراف والتقاليد والأخلاق.كانوا إذا ما شكّوا في أمر إحداهنَّ مزقوا حجاب الوجه ( البوشية ) ليكشفوا هويتها. هذه هي شيمة وغيرة وشرف البعثيين والعروبيين والقومانيين…!!
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المتنبي وفاتحة والطبيبة أسماء
-
رسايل تلفونية بين المتنبي وحنان عمّان
-
المتنبي يزور الخيمة سراً
-
المتنبي والمتصوف هرون بن عبد العزيز الأوراجي
-
المتنبي وحنان
-
المتنبي وإبن بطوطة ( مداخلة إشتراكية رمزية ) / إلى مليكة الح
...
-
المتنبي والصورة / إلى حنان في عمّان
-
المتنبي يروي قصة لجوئه
-
المتنبي متوعك الصحة
-
في ضيافة المتنبي
-
المتنبي وفوزي كريم
-
مع المتنبي في مقهى
-
لقاء مفاجئ مع المتنبئ / وأد الجنس البشري
-
المتنبي والمِعرّي وفايروس الشيطان
-
المتنبي على فضائية كوكب المريخ
-
المتنبي : إنفجارات في ألمانيا وكوارث في العراق
-
بعد السقوط / المتنبي و ( الدفتردار مهدي الهوبزي ) -القسم الث
...
-
المتنبي مع فيصل وعمّار في ( موناسنزيّا )
-
المتنبي بين المركز الأولمبي في ميونيخ وستوكهولم
-
المتنبي في المسرح الألماني في ميونيخ
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|