غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21 - 09:37
المحور:
الادب والفن
"قراءة في ثلاثية بكاء العزيزة للدكتور علي عوده"
في ثلاثيته الروائية يقدم علي عوده المسألة الفلسطينية منذ نكبة 1948 وحتى انفجار الانتفاضة الشعبية في العام 1987 وما تلاها من تداعيات.
وتنطلق الرواية في الجزء الأول "الدموع" من مساحات القرية وأزقة المخيم إلى فضاء المدينة من خلال مشاهدات أطفال أدركهم العدوان الثلاثي صبية وقفوا عند عتبة الأسئلة, ثم درجوا طلاب جامعات يشتبكون من الحياة, أدركتهم نكسة حزيران بأسئلة جديدة حارقة..
وفي الجزء الثاني تمضي الرواية مع وقائع وأحداث الوطن تحت نير الاحتلال, ومسار الثورة في الداخل وفي الشتات, وتقف عند خروج الثورة من بيروت" في العام 1982" إلى المنافي بعيدا عن خطوط التماس مع العدو.
وفي الجزء الثالث "الدخان" تنفتح الرواية على أرق التحولات التي عصفت بالمجتمع العربي والفلسطيني سلباً أو إيجاباً, وانحسار العمل المسلح, وتشظي قوى الثورة الفلسطينية, وترويض ملفاتها على مذبح مزايدات الأنظمة العربية الداعمة والمضيفة.. إلى أن تنهض الحالة باندلاع الانتفاضة الشعبية في القطاع والضفة, وتلتقط المسيرة الفلسطينية نبضاً جديداً يضع النقاط على الحروف..
وتقوم الرواية على إخبار الراوي العليم, وتعتمد الواقعية التسجيلية الأقرب إلى التوثيق المرتبط بالأحداث وتتجاوزه إلى التحليل, والتأويل, وطرح الأسئلة من خلال شهادات أبطالها, ما يوحي بتعدد الروايات وتعدد الأصوات, لكن الرؤية المدققة ترى في التعدد لعبة فنية تدفع كل المعطيات إلى مجرى الحالة بتعدد زوايا الالتقاط سرداً ووصفاً وتأويلاً وتحليلاً, يحيل جغرافيا الرواية إلى مساحة تفاعل الاقتصادي والاجتماعي والنفسي, ورقابة القيمي, والموروث الديني والشعبي في مرجل المتغيرات السياسية التي عصفت بالشعب الفلسطيني منذ أكثر من نصف قرن وما زالت..
الحكاية بين الرواية ودلالة الخرافة.
شخصيتان مركزيتان تتبادلان الأدوار لعرض الحكاية في الرواية, هما عزيزة الخيال وإبراهيم الشاهد, وتلتقط الشخصيات الأخرى ما تناثر من السيرة, وتأخذ أدوارها وأقدارها من تفاعلها الإيجابي "القبرصية وخالد الربيع وزاهر جوده", أو السلبي "عصام الفايز وجميل حب الرمان", أو المُحير/الملتبس "عوض الشاهد وزوجة البصبوص"
وتتأسس الرواية على خلفية زمكانية, تقوم على حكاية شعبية تقع بين احتمالية الحدوث, وغيبية التأويل, ما يرسب دوافع كامنة تضع أقدار الناس بين والمخيّر الفاعل والمسيّر المستسلم لقدره, وتنبثق الخرافة من عين الماء المتفجرة من المنبسط الصخري في الوادي الفاصل بين أم الغزلان الواقعة خلف الحدود والقرية, حيث تصب في الوادي سيول ماء المطر المنحدرة من جبال الخليل, وتحول الوادي إلى بركة شتاءً, تجف صيفاً لتفجر العين ماءً زلالاً يروي الإنسان والحيوان والطير وشجر الكروم المحيطة بالوادي, وتقول الحكاية التي يتوارثها ناس القرية جيلاً بعد جيل,أن شاباً هارباً من الجيش التركي "فراري" التقى بالصبية عزيزة عند العين, سقته فوقع في هواها, فخطبها من أبيها فرفض الأخير تزويجها من غريب, فخطفها, تعقبوهما وقتلوه, وذبحوها ليلة الخامس عشر من آب عند العين.. فصارت روحها تظهر في نفس الميعاد من كل عام تستنجد بحبيبها, فأطلقوا على العين عين المجنونة أو عين العزيزة, وعرف الوادي بوادي العزيزة, وساد الاعتقاد أن كل بنت تولد في ذات الميعاد تصاب بالجنون وتجلب لأهلها العار..
أما عوض الشاهد, فيقدم تأويلاً لا يخرج عن روح النص, ولكنه يطلق أسئلة ودلالات أخرى, فالعزيزة بنت المختار المخطوبة لابن عمها, تُخطف ليلة عرسها, فتنطلق عائلتها للبحث عنها دون جدوى, وفي طريق عودتهم يصادفون شاباً غريبً يقتادونه ويشنقونه على جذع الجميزة على اعتبار أنه الخاطف, وفي ليلة الخامس عشر من آب يصادفون فتاة غريبة يذبحونها عند العين, ويختلط دمها بماء العين ويشيعون أنها العروس المخطوفة.. لكن هناك من شاهد بنت المختار في يافا بلبس فاضح..
وعند حواف الصحراء في ليبيا, وفي قرية وادي العزيزة يروي مربي الأغنام الحاج مصباح الشيباني حكاية عزيزة الليبية, التي هربت مع عشيقها, فتعقبهما أهلها وتركوا العشيق يهرب, أما هي فتركوها لوحوش الصحراء تلاقي مصيرها, فأصيبت بالجنون, ورجعت إلى البئر تستنجد بحبيبها, فهجر الناس البئر حتى لا يصاب من يشرب من مائه بالجنون.
فلماذا أسس الكاتب روايته على الخرافة/الاسطورة؟ وما هي الدلالات والرموز خلف ذلك؟ وهل في ذلك إعادة أنتاج للموروث الشعبي كأحد مكونات الشخصية الفلسطينية والعربية؟ التي تدفع الناس إلى مصائر وأقدار لا يملكون لها دفعاً, فهم مرجومون بصراع لا متكافئ, ومفروض عليهم دخول المارثون مع القوى العاتية على أمل النجاة أو التطهر أوإثبات الذات؟!
ربما كان ذلك, وربما تجاوزه إلى ما هو أبعد.
فهل نعثر على الإجابة في سيرة عزيزة الخيال بطلة الرواية التي تلتقي عندها الأحداث, وتتناثر من حولها ومضات الذاكرة
عزيزة الخيال بؤرة الفعل وقدر التشظي.
حفيدة الخيال عاشق الخيول, الذي قايض الأفندي بمائة دونم أرض على فرس أصيل, ولم يتبق له سوى عشرة دونمات يورثها لابنه عابد, الذي مات في صدفة غادرة خلال اشتباك مسلح بين متسللين إلى الأرض المحتلة واليهود, تاركً زوجته القبرصية وفي حضنها الطفلة عزيزة ابنة ثلاثة أشهر, لتلبس القبرصية ثوبه, وتلف رأسها بحطته, وتتزنر بحزامه وتحمل شبريته, وتغلق صندوقها على أسرارها وتعلق مفتاحه في صدرها, تعود إليه كلما استبد بها الشوق أو تكاثر من حولها الطامعون, وتقوم على تربية ابنتها وخدمة الكرم لا سند لها غير صديق زوجها الوفي عوض الشاهد, الذي علمها خدمة الأرض, وآخاها في عهد الله.
تنشأ عزيزة في كنف أم رجالية الطباع خشنة, تعرف كيف تدافع عن نفسها وكيف تقتفي أثر الثعابين وتصطادها وتنزع أنيابها السامة, وتتفتح على رعاية وعطف عمها عوض, ومحبة ابنه إبراهيم الذي ترى فيه رجلها وقدرها, والذي يبادلها العشق ويفصح عنه بلا مواربة.. يكبران معً ويسافر للدراسة في مصر, ويحيرها تلكؤ عمها في إعلان خطبتهما, وتأجيل الأمر إلى ما بعد الانتهاء من الجامعة, فتعيش موزعة بين انتظارها لإبراهيم, وتحرشات جميل حب الرمان المخنث الداعر, الذي تجرأ وحضنها بين الشجر أثناء عملها في جني الثمار.. تصوم على غيظها ولا تخبر أحداً..
وفي الصيف يعود إبراهيم, ويزداد تحرش جميل بها, فتستدرجه إلى الوادي, وتوثقه بالحبل على جذع الجميزة وتحاول ذبحه, لولا تدخل إبراهيم الذي كان يراقبها, فيطلق سراحه ويحضنها..
وفي الليل تتسلل إلى البركة حيث ينفرد إبراهيم مع نفسه, وتندفع إليه راغبة مشتاقة, فيردها إلى البيت ويغطس في ماء البركة, فهل في ذلك فعل تطهر أم هو تأكيد على طهارة ونقاء العلاقة بينهما..؟
تمر الأيام وتصبح عزيزة شابة ناضجة عاشقة, تشارك في احتفالات النصر بزيها العسكري, منتصرة, ولكنها تفجع بموت أمها القبرصية غدراً بلدغة ثعبان.. وتصحو من الصدمة على الفقد والحرمان, وتنتقل إلى بيت سندها عوض الشاهد, ميراثها الكرم ومفتاح الصندوق المغلق الذي أنتقل مفتاحه إلى صدرها.. تفتح الصندوق فتنفتح أمامها أسئلة الفجيعة من جديد, صورة أبيها عابد الخيال, كواشين الأرض والكرم, عقد زواج أمها باسمها الحقيقي تماضر الراعي, مصاغ فضي, وشهادة ميلاد أصلية تثبت أن تاريخ ميلادها الحقيقي في يوم 15 آب, ومستخرج آخر لشهادة ميلاد بحلف يمين توثق تاريخ الميلاد في يوم 20 أيلول من نفس العام.. يضربها الذهول وتمطر عليها أسئلة سوداء,
هل استخرجت القبرصية شهادة ميلاد اتقاء للفأل السيء وقدر الفضيحة والعار؟ وهل راوغ عوض الشاهد في موضوع ارتباطها بابنه إبراهيم لذات السبب, فدفع جميل حب الرمان في طريقها ليلتقي عار المخنث مع فضيحة المرجومة؟! وبحث عن عم مجهول معدم يأتي به من مصر لإتمام صفقة زواجها من جميل الذي رفضت القرية مصاهرته, فتزوج من ثلاث نساء غريبات هجرنه غير آسفات..؟
لا ملاذ غير إبراهيم, تكتب له وتستجير به, لكن الرسالة تبقى حبيسة الصندوق, فقد نشبت حرب حزيران قبل أن تجد من يوصلها له..
أية أقدار تعصف بها, وما هي إمكانياتت المقاومة لديها, تفكر في الهروب مع مجموعة أبو الكاس المطاردة من اليهود, لكن الرجل يطلب منها البقاء وانتظار إشارة الفعل.. تستجيب وتقوم على تنظيف القنطرة, وإعداد مخبأًَ للسلاح كما كان يفعل عوض الشاهد,, وتنجب ابنها شادي من جميل, وتنجح العملية الفدائية, ويعقبها حملة اعتقالات واسعة, وتكتشف أن زوجها يعمل لصالح اليهود ويراقب الفدائيين من دكان البصبوص, وللتمويه يُعتقل جميل ويحكم سنة ونصف ليخرج عميلاً مبرمجاً يعمل في تجارة الأراضي ويملك سيارات وشركة مقاولات, فتسعى للطلاق بصفقة تتنازل بموجبها عن الكرم لابنهما شادي, على أن يساعدها للسفر إلى مصر للدراسة في الجامعة.
وفي مصر تنخرط في النشاطات الطلابية, وتتواصل مع كوثر العرابي أرملة خالد الربيع, وإبراهيم وزوجته سميره صالح وتتعرف على انحرافات عصام الفايز.. تنهي دراستها وتعود إلى القرية وتعمل باحثة اجتماعية في مدارس وكالة الغوث.. وعندما تندلع الانتفاضة تشارك في الهبة الشعبية, وتنحاز إلى العمل المسلح تحت قيادة مفيد السماك, وتتفتح برعمة حب بينهما رغم فارق السن يرعاها معلم التاريخ الذي كان يراقب خطواتها عن بعد, ومع تصاعد أعمال الانتفاضة ينكشف أمر جميل حب الرمان الذي اندس بين المشايخ, ويهرب مع غيره من الجواسيس إلى إسرائيل..
فهل رسم كاتبنا من خلال مسيرة عزيزة الخيال نموذجاً موازياً لمعاناة الشعب الفلسطيني منذ النكبة, وما مر به من انتصارات قليلة وهزائم ونكسات كثيرة, لحقت به بفعل الغير وترسبت في وعيه الجمعي ممثلاً بنخبه السياسة الفاعلة ما غَبش رؤيتها, وجعلها تتخذ قرارات خاطئة أو متعجلة جاءت بنتائج مدمرة, مثل تسلط الخرافة على وعي عوض الشاهد, فدفعته هواجسه إلى الزج بعزيزة في أحضان جميل حب الرمان, الذي اتخذها عتبة أولى لتصفية حساباته مع "القرية" المجتمع الذي أخذه بجريرة أمه الخاطئة
وهل نجد لدى إبراهيم الشاهد ما يضيء بعض الإجابات؟؟
إبراهيم الشاهد والرواية الموازية.
يتفتح وعيه في كنف أبيه عوض الشاهد الذي شارك في المقاومة قبل النكبة, ويغطي تسلل الفدائيين بعيداً عن رصد قوات الطواريء الدولية, ووفاءً لروح جاره وصديقه عابد الخيال والمنتمي للمقاومة بعد النكسة, يعمل بيرجياً في بيارة الأفندي ويقوم على خدمة وفلاحة كرمه الواقع عند حدود وادي العزيزة.. يصبح إبراهيم شاباً ينحاز إلى الفكر القومي, التجربة الناصرية, ويجد في عزيزة الخيال من يريد ويحب, وعندما يسافر إلى مصر وصديقه خالد الربيع للدراسة الجامعية يترك قلبه معها في الوطن, لا تغريه بنات القاهرة بما يتمتعن به من انفتاح بالقياس لبنات القرية المحاصرات في عالم ضيق, والمزملات بالأعراف والتقاليد, وفي القاهرة يشارك وصديقه في النشاطات الطلابية والوطنية, ويزداد معرفة بالفكر والسياسة ويراقب بإعجاب علاقة صديقه خالد الربيع الماركسي بكوثر العرابي الريفية الوطنية المحافظة.. في الإجازة الصيفية يعود إلى القرية ويزداد تعلقاً بعزيزة بعد أن ربطت جميل حب الرمان بالجميزة, وبعد أن تسللت إليه عند البركة ليلاً, يدفعها شوقه وعشقها إليه, ولكنه يفاجأ بمراوغة أبيه في فكرة الارتباط بها متعللا ًكالعادة بالانتهاء من الدراسة, وفي مصر تدركه نكسة حزيران ويتوه في شوارع القاهرة ويقذفه الزحام إلى النيل, ليقف متأملاً البحار الذي يفشل في فرد الشراع لتسيير المركب عكس رياح الخريف, فيلوذ بالمجداف على ما في ذلك من جهد وتعب, فيصعد على شُح الموارد ويسكن وخالد في الباطنية في شقة المعلمة عزيز’, وتحت رعاية تاجر المخدرات المعلم حسنين الذي يتفاءل بهما لأن الله مع قدومهم رزقه بولد من زوجته الثانية بعد خمس بنات من زوجته الأولى..
يعود إبراهيم إلى توازنه وينخرط في العمل الثوري, ويتعرف على سميرة صالح الطيبة, المندفعة, المجنونة بماوتسي تونج, وابنة الشهيد الذي قضى في الدفاع عن القدس الطيبة 1967, فيرى فيها أصالة عزيزة الخيال, واندفاعها نحوه دون الإعلان الفج عن عواطفها..
وتتوتر الأجواء بعد مبادرة روجرز, ويتم إبعاده مع خالد الربيع إلى دمشق, ومنها ينتقلان إلى بيروت, يعمل خالد في تصنيع الأسلحة, ويلتحق هو بالإعلام الموحد, وتنحصر خطواته بين مخيم صبرا حيث يسكن في بيت العجوز أم سعيد, والفكهاني حيث يعمل. وبعد فترة قصيرة يتزوج من سميره صالح, ويتزوج خالد الربيع من كوثر العرابي ويقيمان معاً في شقة واحدة,
وفي بيروت يكتب محذراً من مفاسد بعض قيادات الثورة, وحياة الترف والبذخ, وعصابات السرقة والسطو المسلح وتجييش الزلم, أمثال عصابة أبو الشريم وأبو الشوارب, فتطلق عليه النار وتفقد يده اليمنى القدرة على الكتابة, ويصاب بالاكتئاب فيغادر لبنان إلى ليبيا, ليعمل في صحيفة مع طاقم يضم المصري الذي فقد ذراعه في حرب 1967, والمغربي والتونسي الفارين بعد محاولتي انقلاب فاشلتين في بلديهما, والشيوعي السوداني الفنان الصامت, ومن معايشته للمثقفين المغتربين عن ساحاتهم, يشاهد تواري المبادئ أمام المنفعة الشخصية, والسقوط على مذبح لقمة العيش, وتؤرقه العلاقة بين الدم والحبر, الحبر المسفوح في تسويق الحكام والأنظمة, ودم الفلاح في قريته المختزن في الثمار, يلوح له برتقال دم الزغلول ولبه الأحمر الذي رضع من دم الفلاح في قريته.. وتحاصره بيروت المحاصرة, ويدميه استشهاد خالد البيع, وموت السوداني الصامت, فيترك الصحافة إلى مهنة التدريس في قرية وادي العزيزة الواقعة على تخوم الصحراء, ويعايش مغتربين عرباً يحصلون على رزقهم بنمط آخرمن المعاناة.
وفي القرية العربية, يعود إلى التأمل والمصالحة مع النفس, ويعمر حاكورة على غرار حاكورته في وطنه.. وتحضر أخبار الوطن مع تباشير الانتفاضة, فيعو إلى الكتابة ويعيد إنتاج الحكايات الشعبية وإسقاط أفكاره, فيقتنص حكاية الصعيدي المتسول الهارب من الثأر, الذي يخفي وجهه بشكل يثير العجب, فيطلقون عليه عجيبة, حتى يرأف بحاله غريب يقيم في الجوار ويشغله في الزراعة ويزوجه ابنته, وينجب منها ستة أولاد, وأربعة بنات جميعهم يشبهون أبيهم, عرفوا بأولاد عجيبة, هل غاب الصعيدي الهارب, وهل ورث أولاده همه, ومبعث غربته ومنفاه, أم أن الرجل تغرب عن ذاته فعاش في ذاكرة الآخرين وهماً ملتبساً, يكتب إبراهيم الشاهد مسرحية بإسقاط فكرة أنه عند غياب العقل يغيب الإنسان عن رسالته, فيلتقط المسرحية والفكرة ابن ذلك البلد مصباح الحامدي, المثقف المستنير وابن العشيرة الكبيرة أيضاً, ويعرضها على مسرح الجامعة فتلاقي الاهتمام.. ويتعرض الحامدي لحادث دهس ينجو منه بأعجوبة, فيغادر إلى لندن ويصدر صحيفة معارضة, ويستقطب المثقفين العرب للكتابة فيها, ولكن إبراهيم يفضل البقاء في ليبيا جسداً, وروحاً في الوطن, ويكتب قصة الحاكم الذي طلب من نائبه نقل عشرة فئران براً إلى مدينة نائية, فيضع النائب الفئران في كيس وبنطلق بها في سيارته إلى المدينة, وعندما يصل يكتشف أن الفئران ثقبت الكيس وهربت, فيُحضر الحاكم عشرة فئران أخرى ويضعها في كيس ويرجّه حتى تدوخ الفئران وينطلق بها إلى المدينة, وكلما قطع مسافة يتوقف ويرج الكيس ويواصل السير, حتى وصل بها سليمة دائخة, في القصة يسقط سلوك الحكام في ترويض شعوبهم بشغلهم بقضايا هامشية بعيداً عن القضايا الأساسية.
هل عاد إبراهيم الشاهد للبحث عن إجابات الأسئلة الأولى؟
يقضي الليل ساهراً في الحاكورة البديل, فتطل عليه عزيزة الخيال بين الغفوة والصحو, ترشق الجنود بالحجارة..تقترب.. وتبتعد..وعندما يحاول الإمساك بها تترك له جديلتين من دخان..
فهل قبض المثقف الشاهد على دخان العزيزة في المنفى, وهل تصلح حاكورة ليبيا بديلاً ولو مؤقتاً عن حاكورته التي طالها الخراب بعد موت أبيه وداستها دبابات الاحتلال إبان الانتفاضة؟
إنه السؤال الأول ما زال يضرب قشرة الدماغ: أن لا بديل عن الوطن مهما اشتعل في فضاء العرب من حرائق, وما تناثر من دخان, فالحقيقة كامنة في العين الساكنة في منبسط الصخر تذرف دماً في زمن الجفاف, وتنتظر سيول الغيث المنحدرة من جبال الخليل, لتعود إلى فيضها ماءً زلالا ولو بعد حين.
رتوش وظلال على ضفاف الصورة.
هل تكاملت الصورة بصمود عزيزة الخيال في الوطن, وعذابات إبراهيم الشاهد في المنفى, أم أم أنّه لا بد من رتوشٍ وظلالٍ تتوزع بين مساحات النور والعتمة, ليصبح الواقع الحقيقي جذراً ًأصيلاً للواقع الروائي, وحتى تكتمل لعبة السرد بقناعات المؤلف الباحث عن حقيقة الفعل ومقتضيات الفن, ما يفرض على القارىء التفاعل, وهنا يكمن البحث عن سؤال الرواية, ومن هنا كانت ضرورة الشخصيات المرافقة لتقدم شهاداتها..
خالد الربيع: الاشتراكي المنحاز إلى الفقراء, لا يساوم على الحقيقة, مخلص حتى الاستشهاد, يلتزم بخياراته, ويقدم نموذجا مضيئاً يوجه بوصلة إبراهيم الشاهد عندما تتكاثف الغيوم وتغبش الرؤية.. يقضي في ربيع العمر ويتناسخ فعلا وحضوراً في أولاده زوجته كوثر العرابي الباقية على صدق الانتماء والميراث.
وعصام الفايز: النتاج المشوه للفقر والحرمان والفقد, واضطراب الذات, شهواني, صغير الطموح يغلف حطامه الداخلي بمظهرية مخادعة, يمضي من فشل إلى سقوط, يراود عزيزة الخيال في ذروة الانكسار ويقيم علاقة رخيصة مع المعلمة عزيزة في الباطنية, ويرتبط مع عصابات الشر في بيروت, ويسطو على قلب وأموال سوزان الأفندي, يفشل في زيجتين, ويخسر ولاء ابنته الوحيدة التي تفضل حضانة أمها المصرية على حضانته, وأخيراً يسقط في براثن زوجة تخفي عنه عاهة وراثية, وتهديه ولداً معاقاً مع سبق الاصرار.
وجميل حب الرمان: ابن الجنكية المخنث, الذي ينتقم من المجتمع الذي أخذه بجريرة أمه الزانية, يتزوج عزيزة الخيال في لحظة غدر لم يقدر عوض الخيال عواقبها, يسقط في براثن الاحتلال عميلاً رخيصاً, ويتسبب في قتل وسجن المقاتلين والمناضلين, ويفرض على عزيزة معادلة قاسية قاسمها ولدهما شادي,الذي جاء الدنيا ابن المفارقة, لكنه يتجه للضوء بفعل صمود أمه,
والأستاذ زاهر جوده: مدرس التاريخ المقيم في القرية, يوجه المناضلين جيلاً بعد جيل, ويشكل محطة التقاء, وعندما يموت في ليلة ماطرة عاصفة يسير خلفه الوطني الصادق والمتدين الثائر.
فهل أخذت الشخصيات مواقعها, ولعبت أدوارها بما يكمل المشهد ويثري أبعاده؟ وهل دخلت مساحات الرواية كمكونات تعكس ما جرى في الواقع؟ أم هي نماذج حملت رسائلها ودلالاتها وشفرات أسمائها أيضا, ما يضعنا أمام السؤال القديم الجديد, حول ما الذي نلتقطه من الواقع ليكوّن واقعا روائيا.. وهنا يكمن الشرط الفني الذي يحمل في ثناياه أسئلة الرواية..
في تقديري أن الكاتب اختار نماذجه بحذق مدروس, ولم يخرج عن ذلك غير شخصية عبد الله الشريف الذي دخل الرواية بثقة, واختفى ليظهر وقد تحول أصوليا دون إرهاص مسبق.
ولعل ما يدفع إلى التأمل أيضاً هو دلالات الأسماء, فعزيزة الخيال حالة التفرد والندرة, مثل مهرة جدها الخيال الأصيلة, فجاءت عزيزة مهرة أصيلة لا يملك قلبها غير الفدائي مفيد السماك, بعد أن غيبت الأقدار حبيب عمرها الأول, وإبراهيم الشاهد, المثقف المؤرق بالمعرفة, المتمسك بالانتماء, والراصد للأجندة, والمتفاعل بها والمخذول من الآخرين, يخذله أبوه في موقفه من عزيزة وتداهمه نكسة حزيران, ويصدمه نفاق من امتطوا ظهر الثورة, وترعبه ألاعيب الحكام.. فهل يبقى في زاوية الراصد الشاهد؟ أم تراه يتقدم إلى المبادرة مدفوعا بمشاهداته وعذابه, وخالد الربيع الشهيد/الحقيقة الحاضرة الغائبة التي تورق ربيعاً متجدداً, يتواصل حضوراً في أولاده وزوجته كوثر العرابي.
وعلى جانب آخر تقفز الأسماء المتناقضة مع دلالاتها وكأنما التناقض سرها ومفتاحها أيضا, فعصام الفايز نموذج تناقض المظهر مع المخبر, فهو المتسلل الذي يسطو على الغير لا يفوز في النهاية بغير الهزيمة/القدر بإنجاب طفل معاق من صلبه, وكذا جميل حب الرمان صاحب الذات المدمرة المنطوية على علقم الحقد ينفثه في الآخرين.
وبعد:
فالرواية انطلقت من محطات زمكانية معلومة, ما يوهم بارتباط السرد بالفوتوغرافي قدراً مفروضاً, ولكن الكاتب ظل حذراً من الوقوع في شرك النقل المباشر, وغواية التصوير المحايد, بقدرته على اختيار مفردات الحياة اليومية بنبض المعايش للحالة,وبحساسيته عند تحديد زوايا الالتقاط, مثل وصف عمليات جني البرتقال بدءاً من قص الثمر, وحتى تجهيز الصناديق للتصدير, قبل انتشار مصانع تعبئة وتغليف الحمضيات في القطاع, وكذلك وصف الأفراح والمواسم الشعبية والدينية, واستدعاء الأغاني والمدائح والأهازيج وألاعيب البهلوانات والدراويش, بما يعكس مواريث ترسبت في الوجدان الجمعي ووجهت سلوك الأفراد والجماعات, وأفرزت نسيجاً روائياً مقنعاً, مكتمل الشروط, يبدأ من مفردات الواقع, ويندفع بأرق الأسئلة الجارحة التي طالما حاصرت الفلسطيني وما زالت.
* الدكتور على عودة باحث أكاديمي متخصص في الرواية الفلسطينية, يكتب القصة القصيرة والمسرحية, وله عدة أحاث في الرواية العربية والفلسطينية, نشر ثلاثية بكاء العزيزة ضمن منشورات وزارة الثقافة واتحاد كتاب فلسطين في الفترة ما بين 2003 - 2006
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟