أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف المحسن - كان حلما ليس الا















المزيد.....


كان حلما ليس الا


يوسف المحسن
كاتب، روائي

(Yousif Almouhsin)


الحوار المتمدن-العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21 - 09:00
المحور: الادب والفن
    



لم يكن الوقت متأخرا , لكن ركلة الحارس قد رمته في قعر الزنزانة بين الأرجل والأيدي المتشابكة وبقايا البول المتجمع كبقع في أرضية السجن التي ألفها منذ سنين .. كان يصر أن يستنشق الهواء خارجا حتى أخر لحظة وشهيقه الأخير لم يعتد أن يخرجه إلا بركلة الحارس التي اعتاد عليها وكلماته التي تلعنه بالفارسية …
ركل الكرة ورآها وهي تلتصق في الِشباك وسقط على الأرض مغميا عليه بعد أن أحس بألم في رأسه .. تحسس طين الأرض وسمع أصوات المشجعين وهي تهتف ( فوضي ـ فوضي ـ فوضي) .. هذا الصراخ اعتاد سماعه بعد كل هدف يسجله ليحمله أصدقاؤه في المدرسة إلى غرفة المدير ذات المروحة .. سكبوا عليه الماء من( حب) السيد المدير .
كان لاعبا جيدا ، يتحمل الكدمات والضربات من المدافعين والحراس الحفاة , لكنه يتأوه بعد كل هدف وكلما أراد استنشاق الهواء خارجا.
تجمع الأسرى فوقه .. لم يكن يسمع شيئا ((ابعدوا عنه أخوان خل يتنفس)) (( يمعودين)) , كان يشعر بلذة الهدف الذي يسجله دائما في مرمى حراس المرمى وحراس السجن على حد سواء !
ـ قال ياسر : أستاذ نأخذه لاهله .
لم يفهم حارس السجن شيئا
ـ احمد : فوزي … فوزي.. فوزي .. ( اكعد) فوزي.
دخل المدير .. ابعدوا عنه دعوه يتنفس .
لم يستيقظ فوزي ضياوي منذ ثلاثة أيام .. هكذا قال ( التواب) وهو يغادر الزنزانة مع المضمد الذي جاء لعلاجه فتح جاسم فمه وادخل به قطعة قماش مبللة .. كان منتشيا للهدف الذي سجله لفريق مدرسته .. شرع الأسرى بتلاوة الصلوات على روحه التي ستصعد قريبا بعد إن حقنه المضمد بالحقنة المعتادة التي يجلبونها للأسرى المرضى .
ياسر: أستاذ (( انعبره بالبلم لابو نايف الحجام)) *
المدير: الكي الكي .. ماذا علموكم هنا .. الكي.. ألم اقل لكم أن الكي لا يجدي ولا ينفع .
جاسم : اعطني قداحتك .
رحمن : ما نفع الكي .. فوزي (( راح منا وخلص)) .
جاسم : فوزي ضياوي .. لقد رأيته يضمد أثنين من الإيرانيين في ديزفول …
ناده ياسر فوضي .. فوضي .. أخذنا الكأس .. انتهت اللعبة .
فتح فوزي فمه مبتسماً وعلى وجهه مسحة شحوب .. جاسم .. جاسم أخذنا الكأس انتهت اللعبة .. وعاد إلى غفوته .
أكثر من ألف مرة حذرته من الحارس .. وقلت له عندما تسمع الصفارة أدخل إلى الزنزانة لكنه يعاند .
فوزي يحب الحرية ويفضل الموت على أن يبقى تحت مطرقة هؤلاء …
سنوات وهو يرفض . لقد اعتدنا على الأسر ومالنا سوى أن ننتظر .
فوزي إذا أستسلم مات .. ولهذا هو حي .. قال أستاذ الفلسفة .
حي .. أي حياة .. كل يوم يضربه الحراس ككلب دخل إلى جامع في مدينة الثورة .. (حياتيش يمعود ) .
نحن موتى مستسلمون وفوزي أكثرنا حياة لأنه يقاوم .. يرفض …لقد أخبرني (ينادونه فوضي ويعني أو حرفين من أسمه واسم أبيه الحاج ضياوي فهد الخشن) .
- فوضي …فوضي ..أكعد..اكعد
فتح فوضي عينيه مبتسما بشحوب .. صدها الحارس
- يا حارس حبيبي إكعد ..اشرب ..كل ..منذ ثلاثة أيام لم تأكل شيئا
- ثلاثة (منو جاب الثالث ؟)
- هاي إشبيك مو أنت رجال جبير فوزي إكعد أخوية إكعد يا أبو محمود .
كان ألم رأسه فضيعا لكنه فرح بعد أن سجل هدفه الثالث أمام اعين معلم الرياضة الذي وعده باللعب في إحدى الفرق الكبيرة وبعدها سيلعب مع جمولي وعمو بابا وعبد كاظم .
قال معلم الرياضة وهو يدخن لفافته .. فوضي لاعب جيد لكنه يستقتل على الكرة ويتعب الحراس .
أستاذ الحارس تعمد أن يضربه بقدمه هذه المرة أيضا .
انتبه ياسر كان فوضي قد تبول على سرواله وهو شيء اعتادوا جميعا عليه وعلى رائحته .
بين ليلة وضحاها قرر أن يترك بيت خالته ..حاول أن يؤجل هذا القرار اكثر من مرة ، أيقن مؤخرا إن لاحل لكل الذي يجري سوى أن يرحل مع أخيه عن بيت الخالة .. تسارعت خطواته باتجاه النهر وهو يرقب بقايا الاحمرار الذي ذرفته الشمس في أقصى الأفق .. كانت العمارات الشاهقة تلتف بالحمرة والبيوت المتراصة تخفي خلفها سعف نخيل البساتين البعيدة .
قالت له إن أباها لن يقبل لها زوجا لا يعرف من أهله سوى خالته ، حاول أن يقنعها بأن أباه سيعود يوما .. لكنها سكتت السكوت الذي يعني الرفض لا الرضا .
ـ محمود يجب أن تجد حلا وتقنع أبي .
ـ دعني اقنع نفسي أولا وبعدها أستطيع أن اقنع أباك .
ـ أنت تماطل .
ـ من الذي يماطل يا لمى .. الأب ليس سلعة في السوق لاجلبها على قياس أحد .. وأنا لا امتلك لاجله سوى الدعاء .
في باب المسجد جلست امرأة متشحة بالسواد تمد يدها للقادمين .. اخرج من جيبه ورقة بـ(250 دينارا) وأعطاها للمرأة .
ـ أسألك الدعاء ، دخل يصلي .
اغرق الليل الزنزانة بسكون المقابر . أنفاس الأسرى خافتة والوجل مازال يغطي وجوههم .
ـ سيعدمون وجبة هذا اليوم .
ـ لكن التواب ابن التواب لم يخبرني كم واحدا سيعدمون .. قال جاسم .
فتح الباب ، جاء الصوت ، فوزي الضياوي ،فوزي الضياوي .
ـ صاح جاسم ،لا ، لا.
ـ اسكت أنت .. انهض ضياوي .
التفت فوزي ليعانق جاسم لكن التواب سحبه من ياقته إلى الخارج واغلق الباب.
(يمه افتح الباب يمه) محمود .. محمود ..لم تفعل هكذا بي .
فتح محمود الباب .. ماما.. لا ارغب بتناول العشاء .. أنا تعبان وسأنام لبعض الوقت .
ـ والعشاء.
التفت محمود وعاد الى سريره ليستلقي .
ـ ماما ، ما بك ، الست أمك ، منذ أن توفيت والدتك وأنا أمك.. لماذا تفعل هذا بي ، هل كتب علي أن افجع بالمرحومة وبك ، اعرف إن الموضوع لا يسرك لكن خالك قد فعل ما بوسعه ، والذي خلق لمى يخلق غيرها ..
دمعت عينا جاسم وهو يتكأ على الجدار وامسك بلحيته المتدلية على صدره وبدأ بالنواح فيما بدأ الأسرى بالطم على الصدور .
تحركت سيارة (الايفا) .. شعر أبو محمود بوجع في عينيه ،كانت أشعة الشمس تصفع وجهه مثلما تصطك أضلاعه مع كل مطب تدخله السيارة ،خيل أليه انه في نهاية العالم .
كانوا ثلاثة ولم يصدق أحد منهم انهم سيعودون إلى أهلهم ، كما قال التواب ابن التواب ، بدءوا بقراءة سور من القرآن بانتظار إعدامهم الذي بات وشيكا .. كما حدث لمن سبقهم من المرضى .. قال أبو محمود: اللعبة انتهت والنتيجة ثلاثة إلى صقر ، ابتسم الآخران بشحوب ولمعت بداية دمعة في عين أبي محمود ، سينتهي كل شيء .
سينتهي كل شيء قال ذلك وادار وجهه إلى الجدار ، بينما از السرير تحته .
ـ منذ يومين ونحن نتجه إلى الغرب ربما صدق التواب وسيعيدوننا إلى العراق.
ـ سمع الله من فمك ، انهم أنذال يحبون أن يتسلوا بنا قبل أن يطلقوا علينا النار .
ـ لو أرادوا ذلك لفعلوا منذ ثمانية عشر عاما .
ـ هذا العرق سيمسح كل الأسماء التي كتبوها على ظهري طوال الليل .
ـ وهل كنت تعرف انهم سيرسلوننا إلى العراق .
ـ ليس تماما ولكن الأسرى قالوا انهم إذا قتلوك فسوف يعيدونك إلى العراق وهناك سيقرؤون ما يتبقى من أسمائنا غير الملطخة بالدم .. وربما سيفعلون شيئا لنا ، للخروج من المعسكر الذي لا يخرج منه أحد . نظر فوزي إلى الأفق كان يترنح بشكل عمودي ( والايفا ) متجهة إلى الغرب ، أي ضياع هذا .
ـ تعلمين لماذا احب الغروب ، لانه انتقال بين نهار الضجة والضوء إلى سكون الليل وظلمته ، الغروب منطقة منزوعة السلاح ، بلا شخصية واضحة ، يذكرني بسويسرا والفاتيكان وأبي ، أبي الذي لم أره ، آه الكأس أيضا بلون الغروب ، وفمك الحبيب .
ـ أنت تهذي يا حامد .
ـ ومن أحق مني بالهذيان؟! ..
اقترب منها هامسا ، عندما يكون النهد مستنفرا يسهل الإمساك به ..مد يده الى فتحة ثوبها متسللا بهدوء ، سحبت نفسا عميقا ،أبعدت رأسها إلى الوراء ،
…..آه .
ـ مابك ، ما بك ، ما الذي يؤلمك .
ـ ظهري ، تحطم من هذه وهذا الذي يلازمني منذ ثمانية عشر عاما .
ـ سينتهي كي شيء الأمر وستعود إلى اهلك قريبا ، وسترتاح ، ترى ولديك اللذان اصبحا رجلين الآن .
محمود في العشرين وحامد في الثامنة عشر، لكن ما الذي يدريني انهم على قيد الحياة، بعد حرب الكويت .
ـ انهم على قيد الحياة وستجدهم رجالا وتزوجهم .
أتمنى أن يتزوج لكن ماذا افعل إ ذا كان ابن أختك يريد لمى ولمى فقط .
سمع محمود ملاحظة زوج خالته وهو ينزل السلم مرتديا زي العمل .
ـ الزواج ليس هدفا يا خال ، شعر بغصة في فمه فتوجه مسرعا إلى الباب ، تمنى أن يجد شخصا يتحدث اليه سار وحيدا يستمع إلى صوت خطواته على الرصيف ، وقعت عيناه على كلب يعبر الشارع ، فيما تلاحقه حجارة طفل ، في موقف الباص رأى لمى مع أمها، تبادل معها النظرات ، ابتسمت لمى ، أدار محمود وجهه وصعد إلى الباص.
انتشرت في السماء بقع متراصة من الغيوم التي تنبأ بالمطر ، فقدت السيارة قدرتها على السير ، تهادت كسلحفاة في شارع خيل لآبي محمود بأن لانهاية له سوى القبر، كانت نوبات الإغماء تتعاقب عليه مثلما تتعاقب قطرات الماء التي يرشها الحارس فوق جبينه .
قبلته في جبينه .
ـ كنت وقحا البارحة.
ـ الجنس ليس وقاحة ، الوقاحة إن تخفي الجنس خلف تقاليد وضعها مهووسون بالجنس لم يطبقوها، وهم أكثرنا شذوذا .
ـ الحاد ،هذا كفر والحاد .
ـماذا تقولين ..هل هذا منطق فتاة متعلمة ،ماذا لو رافقت بائعة القيمر ،لو كان الجنس إلحادا لما أعطانا الله أعضاء تشم بعضها على بعد كيلومتر .
أنت سكران .
ـ أنا ثمل لكن من هذا الذي …. .
تضحك
ـ المهم إنني ما زلت عذراء .
ـ المنطقة الجنسية منزوعة السلاح.
في المناطق منزوعة السلاح يسلمون الأسرى ، نزل فوزي ضياوي من ( الايفا) التي وشمت ظهره بالكدمات ، سار أمام التواب الذي دفعه بأخمس بندقيته لينظم إلى جمع الأسرى ،
أحس بالدهشة وهو يرى العلم العراقي على مبعدة مئة متر ، تصاعدت نبضات قلبه وشعر ببرودة تسري في جسمه ، دارت السماء حوله لمرتين ، سقط على الأرض ، سجلت هدفا .
الجوع شرطي تجيد الحكومات تدريبه، أما الفاقة فمومس تضاجع المصلين في أحلامهم ليستيقظوا مبليين بسائلهم المنوي وبلذة تحاول ان تنسيهم وقت الصلاة .
ـ لماذا تأخرت يا محمود .
ـ العالم الثالث متأخر ، فكيف لا أتأخر .
ـ اقسم بالله بأنني سأطردك إن فعلتها مرة أخرى ، ولكن هاك خذ السيارة وابعث ( طلبية) الحاج إسماعيل في ألا عظمية وآبي مروان في الكاظمية .
ـ أستاذ اقدر أن اسأل ،،
ـ تكلم ،
ـ أنت تاجر سجائر فلماذا لاتدخن وتمنعني من التدخين .
ـ هل فكرت يوما بأن تأكل برازك ؟
ـ ضاحكا ، لا.
ـ إذن اغلق فمك واذهب عن وجهي قبل أن أجبرك على أكله.
أستاذ سؤال آخر .
ـ ما الفرق بين علم الزاوية وعلم البلد .
ـ الاثنان من القماش الرخيص .
أعطيته حقنة منومة فدعوه يهذي لقد عانى كثيرا وإذا لم يره العميد سالم فسيموت قبل الصباح. أومأ المضمد للطبيب المقيم انه قد فهم كلامه واستدار مبتسما يستمع لهذيانه.
ـ فوزي ضياوي فهد ، 1958، تاريخ الآسر 4/2/1982 المحمرة ، متزوج ، يسكن الحرية ، اضطرابات في القلب ، صداع في مؤخرة الرأس، تصلب الشرايين ، كلية التربية الرياضية ، محمود وحامد ، متى سيأتي أهله؟
ـ زوجته متوفاة وولداه عند خالتهما التي لم نعرف عنوانا لها .
ـ لكننا سنعرف غدا.
ـ تكون نوبتي قد انتهت ولن أكون هنا عندما يصلون .
ـ هل تعتقد انهم وصلوا الآن .
ـ لقد قتلوهم بالتأكيد .
ساد الصمت في الزنزانة للحظات ، نهض جاسم إلى شباك الباب مناديا ، اغا ، اغا ، وظل الصوت في أرجاء السجن يدور اغا ،اغا.
قفز من نومه بعد أن سمع لغطا وتلاطم أصوات ، حامد ، حامد ،انهض ، أبوك عاد .
ـ صحيح يا محمود .
انه في مستشفى الرشيد ، انهض، وارتد ملابسك.
ـ حي
انهض
ألا تريد تغيير هذه الملابس ، عميد سالم جلب لك( تراكا ) رياضيا بعد مباراة البارحة ، سأساعدك ، سأساعدك .
ـ ألم يأتي أهلي ؟
ـ سيأتون لا تقلق ، المهم أن تعتني بنفسك حتى تشفى .
ـ أولادي .
ـ أولادي اجلسوا ( قال الضابط ذي الكرش الواسع) أشعل سيكارة ، أبوكم هنا في المستشفى وهو بصحة جيدة وسترونه لكن بعد أن أسمعكم بعض الكلمات .
ـ (( عوف الحجي يا أبو محمود المهم صحتك ، ارتاح وبعدين انسولف )) اصعد لغرفة محمود ونم وغدا سيذهب حامد إلى أمه ويأتي بها من السماوة .
تتقافز الدموع في وجه الخالة ثم تبدأ في النواح .
ـ لماذا تبكين ؟ لقد قرر أبي أن نذهب إلى السماوة ولا أستطيع أن ارفض طلبا له فهو مريض .
ـ حامد تتركني وتريد أن لا ابكي !
ـ سيناء أنا مشتت ، دعيني أعيد ترتيب نفسي ، دعيني ارتاح ، لا أستطيع أن أجد حلا يبعد هذه الفكرة عن رأس أبي .
ـ من الذي يقاتل أنا أم أنت ، ومن كان أسيرا ، كنت أسير ذكراك لكنك فككت قيد أسرك ورحلت ،،سعاد،، كنت أحسدك دوما لأنك تقبلين بكل شيء وتصبرين وتتحملين ، ويبدو إن أحد الأمراض التي احمل ثلاثـــة منها قد أضاع قافلتك في الصحراء ،
ـ مجنون هل نحتفل بعيد زواجنا في الصحراء .
ـ أريد أن أتحرر من كتل السمنت والحجر وأنادي بأعلى صوتي ،وفي صحراء السماوة، احبـــــــــــــــــــــــــك .
(( نخل السماوة ايكول طرتني سمرة)) النخل هناك مزروع بطريقة غير منتظمة ولهذا عندما ندخل إلى البستان لعشرة أمتار لن يرانا أحد ، مثلما لن ير السمراء أحد في البستان عندما تخلو إلى حبيبها .
ـ فوزي أنا حامل .
ـ دعي ابنك يستنشق هواء الصحراء .
آه، آه، غطس في الماء ولم نستطع اللحاق به ، قال بأنه سيقفز من أعلى الجسر مرة أخرى ، كان متعبا ، لم يظهر بعدها.
بدأت الفتيات بإيقاد الشموع على قطع الفلين في الماء . محمود وابوه والخالة ينتظرون خروج حامد من قعر النهر، كان المساء الثالث باردا ، أحس فوزي بالحاجة إلى الموت ، كيف يموت حامد كيف ، واحتضن محمود والدموع في عينيه ،كيف تموت سعاد ، كيف أعيش أنا .
انظرا !! حامد امسك قطعة الفلين برأسه وأطفأ شمع البخور
حامد ..احمد الله على عودتك لنا ميتا!…………..0
لم يكن الدخان هو المأوى الأخير الذي لجأ أليه ، حُفر القذائف المدورة وحدها ليست حلاّ لهذا العناء الذي يسمى حياة ، السيجارة تبعث الدخان كدوائر ، حامد أيضا خلف وراءه دوائر في الماء ، رصاص القناص يقسم السيجارة إلى نصفين ، ويقسم القلب الى نصفين ،
ـ بني الحزن رغيف تذوقته منذ أعوام عدة .
ـ لقد فتحت عيني على هذه الدنيا دون آم ودون أب ، خالتي كانت لي كل شيء فكيف اخرج من بيتها وهي مازالت بثوب حدادها على حامد .
ـ السلحفاة الكبيرة بطيئة الحركة ، والدول الكبيرة اكثر بطئا ، العوائل كذلك ، اعتمادك على نفسك سيعجل من سرعتك ، سيخلق منك دولة كبيرة بسرعة .
ـ أبي هذه الطلاسم لا افهمها .
ـ ليست طلاسم هذه تعاويذ مباركة كتبها ( السيد) وهو مدعوم من الله وستحفظك من كل شر وتبعد الخطر عنك في الحرب .
سمع دوي انفجار عنيف على بعد أمتار منه ، اغرق الملجأ بالطين ورائحة البارود .
ـ لقد كان الحاج محقا ( والسيد) محقا أيضا ، إن هذه التعويذة تؤدي دورها .
سقطت قذيفة أخرى لم يعرف أين سقطت لكن سقف الملجأ انهار على رأسه ولم يعد يعي شيئا .
ـ قالت لي خالتي بأنك لن تطلبي شروطا تعجيزية تعيق زواجنا وها أنتِ الآن تطالبين بكل هذا .
- أنا لم أطلب سوى أن تبدأ في تأثيث البيت بما يحلو لك لكن حاول أن تسرع لأن العيش في السماوة بالنسبة لي أشبه بالكارثة 0
في منتصف المسافة بين ما يريد المرء وما يكره ، هناك بركان التردد الذي يقطع الطريق ليل نهار حاف القدمين .. فتح الحاج ضياوي الخشن كيس التبغ وبدأ بأعداد لفافته ،
- أنا لا اعرف السنين هذه ، السنين أحداث لا أرقام ، وهناك فرق بين عام 1967 كما تسميه أنت يا متعلم وبين السنة التي غرقت بها ( شو يهات) حجي لا كوط ! ..السنون تسمى بالأحداث لا بالأرقام .
- حاج…
- لا تقاطعني ..خذ مثلا آخر هناك سنة 1970 كما يسميها معلمكم هل يتذكرها أحد لولا أنها سنة الحنطة المسمومة التي أعطتها الحكومة للمزارعين فتوفي عدد منهم .
الزمن لا يخلق الأحداث لكن الأحداث تصنع الزمن !
- أن نؤرخ لأعوامنا بالكوارث فهذا أشبه بالكارثة .
- الحياة لا تحتمل الحزن وهذا الصوت الرخيم لا أريد أن ( يزعل) مني .. سأحاول أن أعمل بشكل أكبر حتى أوفر لك ما تريد بأسرع وقت ، لكن أرجو أن لا تحدثني عن السماوة بهذه الدرجة من السخف ..
- أريدك أنت في بغداد أو السماوة ..
- لقد قال أبي أننا سنأتي في السنة الأولى لوفاة حامد .
- وكيف توفي هذا العدد الكبير ، انك تهذي ..
- أخبروهم أن لا تأكلوا مسموح بصيغة الممنوع !
- ممنوع .. لماذا يضيق علي هذا الحارس الخناق ..
- هل قرأ الصليب الأحمر الأسماء التي كتبوها على جسمك ؟
- نعم انهم يعلمون مكان المعسكر
كانت قدماه مربوطتان الى السرير بسلسلة حديدية .. التفت ..رأى رجالا ملثمين بلحاهم يلبسون الأبيض ويتنقلون بين المرضى وهم يشتمون بالفارسية ..تحسس يده كانت تعويذة السيد) في مكانها لكن ألما في رقبته قد بدأ يزداد .. هذا العام ليس عام 1982 أنه عام الأسر .
- إذن أمسكوا به ..
- وصادروا سلعته ..وسيحكم بالإعدام إن لم تفعل شيئا .
- دعهم يضعون الأحكام التي يريدونها ، فلقد أعددت لهذا اليوم وسأسحبه في اللحظة المناسبة من بين أيديهم .
- كيف أستاذ .
- محمود ، يشبه ولدي ، سأرسله بدلا عنه ليعدم .
- السائق ، إنك عبقري يا أستاذ و( المحروس)
- سيسافر إلى عمان أو الشام ، اخبره غدا بذلك .
- لقد قال لي سيعمل فترة أطول ليكمل شراء أثاث زواجه .
- محمود رجل فلا تخف عليه .
- لقد قلت ذلك عن حامد ، وذهب مني ، بعد إن أصبحت أبا لعشرة أيام .
- ( خوية ) ارتاح وسيأتي محمود إنشاء الله .
- جاء محمود ، هذا جيد في الصباح أعدموه ( اغلق الضابط الهاتف )
الألم فقاعة تنفجر لتنجب مزيدا من الفقاعات ، أما الصراخ فحمم بركان أفلحت في الوصول إلى الفوهة ، وعندما تتكئ على ألمك فأنه سيختفي لتسقط على الأرض فيلاحقك ألم آخر ، كان كتفها يكاد ينخلع من ثقل ما تحمل ، وضعت سلة الخضراوات وجلست على الرصيف في انتظار من يراها بعد إن فقدت القدرة على الأبصار ، أحست بيد تمسكها من كتفها الذي آلمها طويلا ..
- ( ها يمة شبيج شو كعدتي )
- حجية بعد ما أكدر ..
- مريضة ؟
- آي ..آه .. مريضة
- دكومي وياي آخذج للطبيب
- العفو حجية أشكرج ، هسة أرتاح وأكوم )
ماذا يفعل الأطباء لهواء يدخل إلى صدرها ولا يخرج ، لقد أعلنوا براءتهم من التقرب إلى البركان ، وطلبوا من الناس الابتعاد عنه ، فالرئة التي تقذف دما …….. آه
- لقد منعتها من الذهاب الى السوق ، لكنها رفضت ..
- أين حامد ؟
- تركته عند جارتنا أم أحمد
كان هدوء المشفى ينذر بشيء ، الهدوء الذي يسبق البركان ، اقتاد زوج الخالة محمود من يديه وحمله إلى خارج الردهة بعد أن بدأ الأطباء والممرضون يتسابقون إلى غرفة أم محمود . انسحب زوج الخالة ومعه محمود ولحق به بعد دقائق الأطباء وتهادى إلى سمع الجميع صوت نواح الخالة .
- بيان صادر من القيادة العامة للقوات المسلحة .. بسم الله الرحمن الرحيم ، أيها الشعب العراقي الباسل ..يا أبناء امتنا العربية المجيدة ………… أتممنا انسحابنا من المحمرة
- حجي ابني وين ؟
- بضاعتي وين ، محمود أخذها وترك السيارة وهرب .
منذ أسابيع وفوزي ضياوي الخشن يجلس على دكه المقهى المقابلة للمحل منتظرا عودة محمود ابنه ..
ـ أعطيك ما تريد لو انك طردت هذا الشيطان من هنا .
ـ أبو محمود الشيطان يريد طردك، وأنا سأ طردك لكني سأخبرك من أين تبدأ البحث عن محمود ، اذهب إلى ( عبودي الصانع) وهو سيدلك .
حجم الخراب كاف لأن يتعلق بكل شيء وحرب قتل الأحياء قد أنتهت ، لكن حرب إحياء الموتى لم تنته بعد ، الأخذ بنصيحة ( عبود الصانع ) والتجول بين القبور هو ما فعلته قدماه المقتنعتين بما حدث .
- محمود في مقابر البلدية ، كيف وصل إلى هنا ؟
- عمي هذه أسماء من دفنتهم هذا الشهر .
- إذا كان ابنه قد أعدم فلم لم يحزن أم أن الحزن كتب علي ؟
- هل تفتح لي هذا القبر ؟
- ممنوع ..لماذا يضيق علي هذا الحارس الخناق ، ممنوع بصيغة المسموح
- أعطيك ما تريد
- لا….
في الليل تسلل في زحمة سوق الموتى ، داس على قبرين ، كانت عينه تراقب الموتى القدامى الذين بدءوا بلعب الكرة ،رفع فأسه في الهواء مهددا الموتى الحراس ، سمع هتافات تندد بالاحتلال البريطاني لمصر ، اقترب من القبر ..
- انه هو
سمع حارس المقبرة صوت الفأس ، ابتسم في سره وعاد إلى نومه فهو يعلم أن اللعب مع الموتى لن يمر دون عقاب .
فتح قبر ولده ، رفع قطعة القماش التي يلتف بها
- أهلا أبي لقد تأخرت ، أحمد الله على عودتك لنا ميتا .



#يوسف_المحسن (هاشتاغ)       Yousif_Almouhsin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تثاؤب قصة قصيرة
- الحوار والحوار الدرامي


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف المحسن - كان حلما ليس الا