|
باب الحارة: جذور الاستبداد
نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 2070 - 2007 / 10 / 16 - 11:42
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أسدل الستار أخيراً على مسلسل باب الحارة الذي حظي بمتابعة واسعة من شرائح اجتماعية مختلفة. ويعتبر هذا النجاح تتويجاً للنهوض اللافت للدراما السورية وقدرتها على المنافسة إقليمياً بعد أن أصبحت من ضروريات الحياة نظراً لما تمثله من واقعية، وبساطة وقرب من هموم ومشاكل الأفراد العاديين في عموم هذه المجتمعات الناطقة باللغة العربية.
لن نتحدث هنا عن المسلسل وفق منظور نقدي وفني، وإنما من وجهة قيمية ومعيارية ترد الاستبداد الحالي إلى جذوره القديمة والأصيلة وتكتشف منابعه الأساسية في الصميم، في تلك الحارات المغلقة، والبيئات المخنوقة، والجغرافيات الغافية في كهوف الزمان المتلذذة بعادات وتقاليد عفا عليها الزمان تولد الاستبداد وتضفي عليها طابعاً من القداسة والعبادات والتأليه. وهو- الاستبداد- ليس طارئاً أو وليد لحظة راهنة، وبيئة، وفئة، ومكون وطني بعينه، كما تحاول، أحياناً، بعض قبائل المعارضة السورية الإيحاء به وتسويقه.
يطغى الاستبداد كقيمة وسلوك على منظومة القيم الأخرى التي حاول المسلسل تقديمها كالكرم والإقدام والتكافل والوفاء. فالميل نحو الاستبداد شيء غريزي وطبيعي ويبدو واضحاً في صنوف العلاقات التي قدمها المسلسل والتي تجلت على الدوام بالحاكم والمحكوم، والتابع والمتبوع، والرجل القوّام على المرأة المضطهدة المستلبة على الدوام، والتي لا تساوي كأم وزوجة في معايير العادات والتقاليد أكثر من مجرد يمين طلاق بأحسن الأحوال. ومثلت الجانب المضطهد الذي لا صوت له وليس له حق الاعتراض وفق الهيكلية الإيديولوجية التي يؤمن بها ويقدسها الجميع وتمارس وظيفتها الاجتماعية الوضيعة بصمت وخشوع وطاعة عمياء وبدت لا حول لها ولا قوة ولا تأثير خارج نطاق الرجل الذي يتحكم بعالمها بالكامل. النماذج أو الرموز الاستبدادية التي قدمها المسلسل وهي التي توجه الأحداث وتتحكم بها وفق منظورها القيمي الاستبدادي كانت: العكيد والقبضاي الذي لا ينازعه أحد في قرارته ويجسد رمزية السلطة الذي وصل لسدة الحارة وواجهتها ومركز القرار بالفتوة والبلطجة والقوة البدنية لا بالإجماع والانتخاب، ( يقابلها في العصر الاستبدادي العربي الحديث جنرالات البلاغ رقم واحد والدبابة والانقلابات).
الزوج-الأب المتسلط الحاكم بأمره في الأسرة الذي لا يتورع عن تحطيم حياة أسرة بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس نبيلة وجميلة من أجل زلة لسان عابرة وعنجهية كاذبة وفارغة.
الشيخ الفقيه الذي يجسد الجانب الروحي ويضع إمكانياته وخبرته الإيديولوجية في خدمة البني السلطوية والفردية الاستبدادية وتتحكم بالحارة ويفتي لها بما يناسب سياستها ويشرعنها.
وأخيراً وليس آخراً، أبو جودت رئيس المخفر الذي يمثل فساد الجهاز الإداري والتنفيذي وتطبيق القانون والتصرف وفقاً لمصلحته الشخصية في النهب والسلب وتجميع الثروات.
ويقف فوق الجميع، وفي خلفية المشهد المستعمر الفرنسي والإنكليزي الذي يتحكم بالمشهد كلية وكما يحصل اليوم بدون زيادة ولا نقصان.
فالرشوة التي تستشري الآن في مجتمعاتنا، والفساد والاستبداد السياسي والاجتماعي كان قد مارسه قبلنا أجدادنا العظام في تاريخنا التليد المجيد، أو مورس عليهم بشكل ما، ولذا لا نرى خجلاً، ولا حتى غرابة، حين نصادفه في حياتنا اليومية، أو نتابع فصوله على الشاشات فهو من صميم هذه التقاليد والحياة ونتوق للمارسته ونتباهى بها. فقد جسد أبو جودت دور المسؤول ورجل الأمن الفاسد الذي يستغل منصبه للاسترزاق والتكسب على حساب الآخرين. وهو على استعداد لقلب الحق باطلاً والباطل حقاً بـ"كم" ليرة، وينقلب من "حاميها إلى حراميها"، ومن "حراميها إلى حاميها" حسب ما تقتضيه الظروف، وبلمح البصر، في ظل غياب كامل لآلية قانونية وضمير مهني، والحال من "بعضو" في هذه الأيام. الجميع على استعداد لممارسة الرشوة بالرغم من تحريمها الديني فأمام المصالح والمنافع تسقط النصوص المقدسة، وتصبح على الرف ولا يؤخذ بها كما هو جار حالياً. انحياز المؤسسة الفقهية وجهوزية الفتاوى لكل طارئ جسده الفقيه الشيخ الذي لم يجد غضاضة ولا صعوبة، وعلى سبيل المثال، في إيجاد حل فقهي "تيك أواي" وعلى السريع حين أشار على أبي عادل بحمل زوجته وإدخالها المنزل محمولة على ظهره لأن أبا عادل كان قد حلف عليها يميناً بألا "تعتـّب" باب المنزل بشهر، وألا تخرج منه بشهر.
فالاستبداد ليس طارئاً على هذه المجتمعات وليس وليد اللحظة الراهنة وجذوره تقبع هناك في كل زاوية في تراث التاريخ التليد وهو معشش ومتجذر في وجدان أبناء هذه الجغرافيات الرثة. فما يحصل اليوم من استبداد، كان قد أسس له سابقاً، ومارسه العقيد، والفقيه، وصاحب الشرطة، والذكر القوام على النساء، وضحيته الجماهير الخانعة والصامتة والموجهة بريموت كونترول العادات والتقاليد، وهو ما نقله المسلسل وعبـّر عنه بشكل صادق وأمين. و لم يحدث في مجتمعاتنا ما يمنع تكرار وإعادة إنتاج هذا الاستبداد. ولم نعهد أية نقلة نوعية أوفكرية وثورية على مفاهيم راسخة في مجتمعاتنا إذ لا أثر البتة هنا لأية ممارسة ديمقراطية وغياب شبه مطلق وكامل لآلياتها بل هناك تأكيد في دساتيرنا بشكل على أن مصدر إلهامنا السلطوي والإداري وبوصلتنا السياسية تقبع في ذاك التراث العظيم. أي، بمعنى آخر، إعادة إنتاج وتكريس لاستبداد مزمن أبدي.
وفي ظل غياب مطلق للأطر والأدوات الديمقراطية المؤسساتية في المسلسل، والمعمول بها والمعروفة اليوم، تبرز النزعات السلطوية الاستبدادية المتنوعة بقوة كالذكورية الجامحة في أسوأ أشكالها في مواجهة الطاعة النسائية الخاضعة والمستلبة، وتسليط الضوء على نماذج الاستبداد الأخرى التي تتبدى في المسلسل دون أن تثير استهجان أو استنكار المحتفين لطالما أنها لصيقة بالوجدان وموجودة في العقل الجمعي العام، بما ينطوي عليه ذلك من علاقات غير متكافئة وغير عادلة ولا تقوم على مبدأ المساواة بين الجميع، الحاكم والمحكوم، الذكر والأنثى، الشيخ الفقيه ورجل الشارع الأمي العامي. وبهذا يصب مسلسل زمن الحارة، عن قصد أو سواه، وكغيره من المسلسلات التي تقف على نفس الأنساق والأنماط الفكرية الرومانسية التي تحتفي وتقدم الماضي بشكل جميل فقط وبعيد عن أي تلطيخ وتشويه، في دعم تيارات الفكر السلفي التي تطرح نفسها تالياً كبديل موضوعي عن المنظومة الحالية التي فشلت في التأقلم مع تيارات الحداثة والعولمة ونشل المجتمعات من وهم الماضي التليد، وعبر الإيحاء الماكر بأن العودة المستحيلة لتلك المناخات هي الحل الوحيد لهذه الشعوب المنكوبة والعاجزة. إنه بالمحصلة نمط من أنماط الاحتفاء بالرداءة عبر قالب فني بديع وجميل و يستخدم كل أدوات التجميل والمساحيق الفكرية التي تتلاعب بـ، وتدغدغ عواطف ومشاعر البسطاء والأميين الذين يشكلون الغالبية العظمى في عصر الاستبداد العربي المقيم، لينجح في النهاية في إعطائهم تلك الحقنة المناسبة والجرعة الكافية من التخدير.
يبرز المسلسل أيضاً، فتنة نزع الحجاب كرمز مقدس وأحد أسلحة وهمروجات التأسلم السياسي، وتظهره كتابو مقيم في وجدان الجميع، بحيث يقف الجميع ضد هذا العمل العدواني حتى لو كان من قام به أبو عصام "كبير الحارة"، فلا كبير أمام قدسية الحجاب الذي عاد ليكتسح الحارات العربية من جديد ولم يتغير الواقع اليوم، بالطبع، عما كان عليه في زمن تلك الحارة. أما التعاضد والتآزر والتكافل الذي يحاول أن يظهره المسلسل بشكل رومانسي، ما هو في الحقيقة إلا سمة من سمات ومظاهر المجتمع الأبوي الرعوي حيث تزدهر غريزة القطيع ويسود فكر الجماعة. وهو سلوك ما قبل حداثي ومؤسساتي ومدني وسياسي. فالضمان والأمن الاجتماعي الحديث لا يأخذ بهذه الأساليب غير العملية والمشاعية التي لا يمكن التعويل عليها البتة في خلق أمان وسلم أهلي بل ربما يراكم عوامل رفض وانفجار مجتمعي.
يتساءل اليوم، كثير من الكتاب والنشطاء وببراءة الأطفال، من أين يأتي هذا الكم الهائل هذه الاستبداد والفساد الذي يصبغ مشهدنا الدامي بصنوف القمع الفظيع. والجواب ليس بعسير ومرده لذاك التاريخ الحافل بكم هائل من أنماط وأنساق الفساد والاستبداد التي تتجاوز كل ما هو مألوف لتدخل في باب العجائب والملاحم والأساطير. واذهبوا إلى الحارات الناطقة بالعربية وزواريبها لتروا فيها كل ما هو عجيب وغريب. فالاستبداد يعشش في مجتمعاتنا وهو خاصية مثالية طالما تمتعت بها على مر الزمان. وما نراه اليوم من فساد واستبداد هو ما ورثه لنا أجدادنا العظام من استبداد وشمولية. وباب الحارة هو باب لدخول حارات هذا العقل السقيم وقراءة كل ما فيه مع رداءة وعقم وعفن متجذر مقيم، وهو الذي لا يتورع عن التمسك بـ، والجهاد لإحياء تلك العادات والتقاليد بتصميم فريد وعجيب.
ما يمكن أن نلخصه في سر هذا الإقبال على متابعة المسلسل بهذا الشكل الجماعي هو ما يقال باللهجة المصرية هو أن "العرب يتفرجون على خيبتهم".
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موائد الرحمن
-
نحو مؤسسة أكثر تجدداً للحوار المتمدن
-
نور الدين بدران: وداعاً
-
زمن الحارات
-
إستراتيجية الغزو السلفي
-
الأميّة بين الجاهلية والإسلام
-
الدعارة الحلال
-
الفاشية الإخوانية
-
الحرب الشاملة ضد سوريا
-
متى نفطر على الكرامة والحريات؟
-
انتصارات العرب الجوفاء
-
مرحى لأستراليا
-
السيد محافظ اللاذقية
-
المثلية الجنسية ومنع الاختلاط
-
هل المثلية الجنسية عيب وعار؟
-
خطر الفكر الديني
-
الاتجاه المعاكس والأمن الإعلامي العربي
-
هل تشفع لنا النذور؟
-
بيان من أمير الجماعة الفنية
-
إمارة -فنّستان- السورية
المزيد.....
-
أشرف عبدالباقي وابنته زينة من العرض الخاص لفيلمها -مين يصدق-
...
-
لبنان.. ما هو القرار 1701 ودوره بوقف إطلاق النار بين الجيش ا
...
-
ملابسات انتحار أسطول والملجأ الأخير إلى أكبر قاعدة بحرية عرب
...
-
شي: سنواصل العمل مع المجتمع الدولي لوقف القتال في غزة
-
لبنان.. بدء إزالة آثار القصف الإسرائيلي وعودة الأهالي إلى أم
...
-
السعودية تحذر مواطنيها من -أمطار وسيول- وتدعو للبقاء في -أما
...
-
الحكومة الألمانية توافق على مبيعات أسلحة لإسرائيل بـ131 مليو
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. مقتدى الصدر يصدر 4 أوامر لـ-سراي
...
-
ماسك يعلق على طلب بايدن تخصيص أموال إضافية لكييف
-
لافروف: التصعيد المستمر في الشرق الأوسط ناجم عن نهج إسرائيل
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|