سعيد موسى
الحوار المتمدن-العدد: 2070 - 2007 / 10 / 16 - 11:26
المحور:
القضية الفلسطينية
((مابين السطور))
هي ليست مسلسلات ترفيهية كما يعتقد العض, وليست استباحة وهدر للوقت, وليست استيراد لثقافات مستهجنة لبعض شعوب خلف البحار,وإلا لما شدت الكيان الفلسطيني في هذه الظروف العصيبة, وعلى مستوى اختلاف فئاته, ومستوياته الفكرية, وقد توحدوا أمام تلك الدراما الساخنة, وقد يتحدث أصحاب المدرسة السطحية,وفلاسفة الثقافة السوقية, ورموز التقييمات المادية,ممن لايعني لهم ثبات القيم أي قيمة معنوية,فكل متحرك لديهم منفعة بغض النظر عن الأصالة والحداثة, المهم عندهم العوائد النفعية, ومادون ذلك هو مادة لمواساة المسحوقين, وسأتجاوز نظرة هؤلاء النفعية السطحية, واعتبارهم للمشهد كداء يصيب البشر داخل الكيان, وصولا إلى سر ذلك التوحد أمام تلك الدراما,والحظ مؤخرا اجتياح تلك الدراما للكيان الفلسطيني البشري,حيت تجمد الأبصار, وململة الأجساد, وتحفز المشاعر, حتى لاتكاد تجد حراكا جسديا أمام شاشات التلفاز,لان الباحث عن الحقيقة, ويسبر أغوار هذا الكيان البشري المتجمد, يرى مالا يراه السطحيون, يرى حركة شاعرية ثورية إنسانية,يرى الغضب الصامت, والفرح الصامت,والثورة الصامتة, يرى الصدق والمحبة والتكافل والتضامن, ومراجعة الذات تغمر ذلك الكيان البشري الفلسطيني,الذي ما أن يحين موعد تلك الدراما حتى تجد الشوارع كصحراء جرداء من البشر, وكأنها العبادة, والناسكين يلبون نداء الحق, ولكن أي حق هذا الذي يشد الشباب والشيبة, الأطفال والبالغين, الذكور والإناث, المتعلمين والأميين, المثقفين والجهلاء, حقا هي ظاهرة من الجريمة الاستخفاف بها, ولابد من دراستها بشكل جاد وهادف وصادق,حتى يتمكن صانعوا القرار, وأصحاب المدرسة السلوكية ممن يتطوعون لبث الروح الوطنية والدينية, كي يلجوا لهذا الكيان من أوسع أبوابه, واستثمار ذلك التوحد والانشداد المشدوه والسعيد,كيف للمتناقضات مابين الشخص ونقيضه؟ وكيف التوافق بين الشخص ورديفه؟ كيف لهذه الملحمة الدرامية الثقافية وقد نجحت في اختراق,بل اجتياح ذلك الكيان وبهذه الصورة العجيبة؟
كيف لا, فليست تلك الدراما المجتاحة لأصلب الكيانات, كيف تفتت صلابتها وتنفذ داخل مساماتها الصخرية لكي تصنع العجب, هي ليست صور متحركة عابرة, أو أكروبات بهلوانية اراجوزية, أو حتى مبالغات عبثية وخيال جمهوريات أفلاطونية, هي ليست قصص بطولات أرسين لوبين الخيالية, وليست تلك القصص الاعجازية البوليسية, وليست مسلسلات مهزلة البطولات الزائفة الأمريكية الفيتنامية.
فهي صناعة ظافرة للدراما الحقيقية الصادقة, والتي تحاكي أعماق النفس البشرية, إنها مرآة لمن لايستطيعون التعبير عن ذواتهم, فيجدوا من ينوبوا عنهم بجد وبصدق, يصرخوا عندما يتملك الكيان الصمت, يثوروا عندما يتملكك الخوف, يتمردوا عندما يتملكك الظلم, يحاربوا عندما يطغى الظلم, في تلك الدراما, جور نير المستعمر,واستفزاز أعوانه, فيها جبروت المرأة وقهر الرجال, فيها قسوة الرجال وإذلال النساء مكسورة الجناح, فيها قمة الظلم والقهر, وفيها الإقدام التي تعلوا فوق رقبة الجلاد, وتتحدى ذلك الظلم السياسي والاجتماعي, فيها الحزن الحقيقي وفيها طعم الفرح النادر.
وللمراقب غير المستهين والمستخف بمشاعر البشر المقبلين غير مدبرين ولا مترددين على تلك الدراما, وللباحث المتجرد الذي يلهث خلف ضالته (الحقيقة), فيلمس أثناء رفع الستارة عن أول مشاهد تلك الدراما عبر الشاشة الصغيرة, بان ذلك الكيان البشري وعلى وقع موسيقى البداية يأتي بحركات لا إرادية بطيئة, يُثبت فيها نفسه على الكرسي وعلى الأرض بعدة حركات تعني الاستيطان والاستقرار, والتحفز بكل كيانه ليتلقى جرعة, وكأنها البلسم الشافي عندما يستسلم المشاهد كما المريض لطبيبه,والغريب انك تشاهد نفس هذا الوصف في العديد من الأماكن التي يتم فيها تسليط الضوء على المشاهد الذي ينصهر مع تلك الدراما, المتفحص والباحث الذي يتمتع بفراسة ويكون جُل تركيزه بين الإيجاب والقبول, بين المُلقي والمتلقي, بين الكيان التكنولوجي(التلفاز) والكيان البشري(المشاهد), وكان دائرة كهربائية تكتمل وتحدث حراكا ذات معنى وقيمة, إنها دينامكية تسري وتكتمل بالانصهار والتوحد بين الكيانين, وفي ذروة الاكتمال والتوحد, تجد بشكل غريب أن الكيان البشري لايعير لغير الكيان التكنولوجي أي اهتمام, لا بنظره ولا بسمعه ولا بمشاعره, وهذا يعني القفز والانعتاق من الجسد الملموس, وامتطاء النفس المعنوية.
وللباحث الأكثر تركيزا بفراسة وهدوء سيرى العجب, سيلمس ردات الفعل الصامتة أمام مشهد الظُلم, ذروة التناقض في محاكاة الذات البشرية, بعض الأنفس من ذلك الكيان البشري تنتابها رعشة لاتكاد تُرى بالعين المجردة, وكأنها تتوحد مع تلك الشخصية وتتقمصها, أو ربما تندهش من حديث تلك الشخصية عن واقع المشاهد, ويخال لك حينها بالمفهوم السيكولوجي وحراك العقل الباطن, أنها تقفز فعلا لتناصر تلك الشخصية التكنولوجية, والغريب انه وفي نفس المشهد الظالم تلمس بعض حركات الرضا والاستكانة لدى البعض الشاخص, مما يدل على الرضا العجيب, فيتجسد التناقض كما بالشاشة الصغيرة وفي نفس المشهد, التعايش والنفور , بين العدل والظلم,بين الخير والشر, بين القهر والتمرد, بين الاستكانة والتحدي,وإذا مانظرت للمشهد من زاوية أخرى, ترى عيون دامعة, فأي تلك الدموع استجابة للحزن وأيها استجابة للفرح في نفس المشهد؟
دراما عجيبة حقا, وتستحق الاحترام وتستوجب الاهتمام, إنها مدخل قوي للتعبئة الوطنية والسياسية والاجتماعية, إن تلك الدراما مدخلا ذات فعل عظيم في زراعة القيم الإنسانية والوطنية(العدالة,المساواة, المحبة, التكافل, الإيمان) , مدخلا عظيما كذلك فيما لو تمكن الباحث أو المراقب من رفع توصياته, للجراح النفسي والمحترف الإعلامي, وجهات التخصص, في صناعة متناسبة لأدوات الجراحة, لإخماد جذوة القيم الهابطة أو حتى استئصالها( الظلم,التكبر, الافتراء, الكره, المعصية, القسوة )وكل الأمراض الوطنية الاجتماعية, حقا دراما تستحق التوقف, وقد طغت رغم بساطتها على كل ألوان العروض الراقصة,والصادحة بما تيسر من نهضة الغناء المشوه,والتي تأخذ الكيان البشري صوب السعي إلى قمة الأفضل, تحت شعار((الغاية تبرر الوسيلة)) .
ولعلي اذكر هنا وقد راقبت سابقا, و قبل دراما((باب الحارة)) مسلسل أكثر درامية يستحق فعلا الاحترام والدراسة, ألا وهو مسلسل((نصار عريبي)), وكان لذلك المسلسل فعل ذو أثار عجيبة, خاصة لأعلى فئة الصغار والأشبال,ورأيت كيف يتقمص هؤلاء الصغار بالمطلق شخصية (نصار) في مواصفات الشهامة, والتصدي للجلاد المستعمر وأعوانه, وبنفس قيم دراما ((باب الحارة)), فتجد الأطفال يشاهدون مسلسل(نصار) ثلاثة أو أربع مرات يوميا, ودون كلل أو ملل,على عدة فترات وفي العديد من الفضائيات,حتى إذا وجد الطفل أسرته منشدة في متابعة أحداث سياسية أو اجتماعية أخرى,استنفر كل خلاياه الفكرية والجسدية , ويتجمع الصبية فيقنعون احدهم بان يذهبوا إلى بيته ويتناولوا جرعة غذاء الروح الوطنية(نصار), من خلال مشاهد الظلم والتمرد,القهر والتعسف الاستعماري والاجتماعي, وما يواكبه من استفزاز روح التحدي لدى نصار ورفاقه, والتفاف الشرفاء من حولهم, ليعطوهم ويمنعوهم, بالحماية والإيواء والسرية, فيمدوهم بالدعم المادي والمعنوي لتحدي إخطبوط وشبح ذلك القهر, رافضين الاستسلام والاستعباد, وبذلك يروي الأطفال ظمأهم, ومن يعتقد من أصحاب نهج السلوكية, أن ذلك يحبط هممهم ويجعلهم يركنون إلى نهاية مع نهاية المشهد الدرامي, فإنهم مخطئين وان أدى مشاهدة تلك الدراما من البدايات إلى النهايات إلى تهدئة الأنفس مؤقتا, فإنها على المستوى المنظور والبعيد وعلى مسرح الحياة حيث يستمر المشهد, فلا يحدث فتورا وقبولا لواقع القهر والظلم على الإطلاق,بل إنها تعبئة سليمة وبشكل مكثف وبطيء لنفس تطمأن للنصر في نهاية المطاف.
فكيف لو يعلم القائمين على صناعة الدراما, وأتمنى ألا تكون مجرد صناعة سينما أو تلفاز, من اجل مكاسب مادية فقط, وبذلك تكون العملية خطرة جدا في ظل طوفان الخصخصة الإعلامية المدمرة, والتي تجتاح العالم اليوم استجابة لنداء العولمة المقيت والخطير, بهدف توحيد ثقافة القرية الكونية الصغيرة, وطغيان ثقافة الغرب اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا,تلك الثقافات التي تتناقض بالمطلق مع ثوابتنا وخصوصياتنا القيمية الأصيلة, مما يجعل أصحاب رؤوس الأموال من الصهاينة والمتصهينين,من أصحاب ثقافة التضليل والتبشير والتلويث, أن يندسوا كالسرطان داخل تلك المؤسسة الإعلامية, فيندسوا في ثنايا تلك المسلسلات باسم الحداثة, حتى لانعد نميز بين الحق والباطل, وبين الغث والسمين, وبين الحقيقة والتزوير, فنفاذ تلك الثقافات الوافدة المسمومة من بوابة الخصخصة الإعلامية, تجعل المستثمرين لأهداف تاريخية وسياسية يمزجون كثيرا من المسلسلات بالتفاهات والتشكيك وفتور الحافز لانتزاع الحق,فيصبحوا قادرين على توجيه بوصلة ذلك الحق ليجعلوه باطلا مقبولا على النفس, وقتل روح العطاء والانتماء , وزرع روح اليأس لدى الأجيال, بهدف الوصول إلى جيل لايجد أي معلم من معالم ذلك الحق, فيتعايش مع واقع الاستعمار بثقافته ولغته وقوانينه كواقع جميل, وربما نلمس ذلك النفس أحيانا على الساحة العربية الإسلامية وللأسف حتى الفلسطينية, إنهم عنوان الانهزامية النفسية, حين يعلوا صوتهم النشاز قائلين بصوت الهزيمة, نعلم أن القدس لن تتحرر!!! واللاجئون لن يعودوا!!! والدولة لن ترى النور!!! فيطلبون الفتات بهدف الحياة ويقولون على بركة الله!!! تسليم ببرجماتية المحتل, الذي ينجح لدى بعض الأنفس الوطنية المريضة, من استئصال خلايا الإيمان بالنصر على مدى الأجيال, متمنيا أن يقوم على صناعة تلك الدراما متخصصين من علماء نفس, وتوجيه وطني ومعنوي, مثقفين وطنيين مخلصين, لصناعة جيل لايؤمن إلا بالنصر, جيل يقهر القهر, ويبطش برقبة الظلم,جيل لا تأخذه رحمة بصناع الفتن, وتجار الأوطان.
ولي كلمة هنا, فلابد للحق أن يقال, فأثناء دراستي لدبلوم الماجستير, طلبت مني البر فسورة- ودودة بدران أن أقوم بإعداد بحث حول قضية إعلامية سياسية, وقد توصلت إلى مادة ووثائق مشرقة لدى النظام السوري, الذي نختلف معه كثيرا فيما يتعلق بالحريات السياسية والوطنية, وننتقده كثيرا عندما يقمع المثقفين والمناضلين, وعندما اشتد الكرب بسوريا وما يزال, فقد نصحنا الرئيس بشار الأسد بالتوجه إلى الشعب السوري للمصارحة والمصالحة, والنزول من الأبراج العاجية للجماهير, وتوسيع مراسيم العفو, وتكثيف التعبئة الوطنية وتصليب اللحمة الشعبية, لمواجهة مايمكن أن تتعرض له سوريا الشقيقة من عدوان مازال يلوح في الأفق من الصهاينة والأمريكان وأعوانهم.
وفعلا أعددت بحثا خاصا أخذت عليه علامة ممتاز,فمن خلال الاطلاع على العديد من المراجع والوثائق والدوريات,فيما يتعلق بالإعلام السوري وتحديدا الفضائيات, في مواجهة طوفان الخصخصة والعولمة, وتوصلت إلى نتائج مفادها, أن الرئيس الراحل المرحوم- حافظ الأسد, رفض أمام قدسية الإعلام وطنيا, أو ربما ذلك الرجل المحنك, عرف مدى خطورة السلاح الإعلامي, وخطر فيروس الخصخصة, الذي طال معظم الدول العربية التي لم تصمد أمام الإغراءات المادية, والضغوطات السياسية, وبعناد شديد حرم عمليات الخصخصة, لأي من المنافذ الإعلامية خاصة الفضائية, لتبقى عربية سورية المظهر والجوهر, رغم مالقي من ضغوطات واتهامات بالتطرف والانغلاق, ومعاداة ثقافة الغرب, وعدم سماحه بالاقتراب من الإعلام السوري, وتبين أن الرجل كان ذو فكر ثاقب, ورؤيا بعيدة, أمام مانشاهده اليوم من فضائيات صهيونية بأثواب عربية وإسلامية, همها الأكبر بث الفرقة الوطنية, وتفتيت اللحمة الشعبية,وزراعة الإحباط واليأس,والتنظير للعدو الصهيوني وأعوانه, حتى أصبحت بعض الفضائيات تخضع للقرار الصهيوني, بحجم أرقام استثماراتهم المادية, وبحجم جيش خبراء الإعلام الأصفر والأسود والأحمر الدموي, فكان يجب أن اذكر على سبيل النزاهة العلمية والروح الوطنية ذلك السلوك السوري, وعدم القبول حتى وقتنا هذا بتعريض الفضائيات والمنافذ الإعلامية في سوق النخاسة ومستنقع السقوط الثقافي, وعدم الاستسلام لغزو الخصخصة, وما لتلك الخصخصة من أثار مدمرة على الكيانات البشرية الوطنية,.
وفي نهاية المطاف لايسعني إلا أن أتوجه بالتحية والاحترام لمخرج الدراما السوري( بسام الملا) على تلك المسلسلات الرائعة إذا ما تناولناها من زاوية التعبئة الوطنية والاجتماعية والسياسية.
#سعيد_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟