طلعت الصفدى
الحوار المتمدن-العدد: 2069 - 2007 / 10 / 15 - 12:04
المحور:
القضية الفلسطينية
يفيق قبل صبح الصباح.. يفرك عينيه.. لم يذق طعم النوم منذ الأمس..عظامه قد طقطقت من الجهد والتعب المضني.. يتأرجح... يتعثر.. كأنه ملوح... يجر عربة اليد الصغيرة المحملة بالنفايات الصلبة والسائلة وعلب اللحمة الفارغة، والحلويات والكرتون، وما لا يخطر على بال بشر... يحاول أن يرفع رأسه حتى لا يشتم روائحها النفاذة. فلا يعطس.. ويقلب العربة على وجهها... هذا العامل الذي يتأرجح بالعربة المكدسة بنفايات القرن الواحد والعشرين، ذات اليمين، وذات اليسار.. يتساقط من حمولتها على جانبي الطريق. لا احد يحس به.. أو يتنفس معه.. ينظر بعض المواطنين إليه وإلى العمل الأسود باحتقار، وبترفع، خصوصا في مجتمعات الدول النامية، أو النائمة، ويفصلون بين العمل اليدوي، والعمل الفكري، ويصنعون بينهما فجوة كبيرة.
عمال النظافة، والعاملون، والموظفون في البلديات والمجالس المحلية.. هؤلاء يكدحون، يعملون، يقدمون خدماتهم، بلا تأفف.. فأصحاب الياقات المنشاة، والبرجوازيون، والتجار، والمدراء ، والسلك الرفيع، محظوظون، لأنهم بعيدون عن العمل الشاق، العمل الأسود، فهناك من يقدم لهم خدمات البلدية، ويسهل لهم الحياة، ويوفر لهم الراحة والنظافة، دون أن تتسخ أياديهم، وملابسهم، ويتحايلون للتهرب من دفع الديون المستحقة عليهم لبلدية غزة، ألا يكفيهم أن رواتبهم منخفضة، ولا توازي قيمة العمل والجهد الذي يبذلونه؟؟؟
ألف وتسعمائة وستون موظفا يكدحون في بلدية غزة.. يقدمون خدماتهم الجليلة في كل مناحي الحياة، بدءا من خدمات النظافة، ومياه الصرف الصحي، ومعالجة المياه العادمة، واستيعاب وضخ المياه الصحية، وصيانة الطرق، وتنفيذ المشاريع التطويرية في البنى التحتية والفوقية، وخدمات التنظيم والتخطيط الحضري، وإنشاء الحدائق والتشجير.. الخ.... والويل لموظفي البلدية إذا تعطل مرفق من هذه المرافق الحيوية، التي لا يستغني عنها المواطن، وترتفع الشكوى والتذمر ضدهم، وأحيانا يتم الاعتداء عليهم، حتى ولو كانت بفعل قنابل الطائرات الإسرائيلية، أو عمليات التخريب والسرقة التي يقوم بها البعض، فلا بد أن يكونوا دائما في حالة استنفار قصوى لمواجهة أي تعطيل لها لإصلاحه، حتى وان أحاط بهم الموت !!
ثمانية أشهر مضت ولم يتلقوا رواتبهم... كأنهم يجترون لحمهم، ولحم أبنائهم.... مائة وعشرون يوما انقضت، وهم في حيرة من أمرهم، يترقبون الفرج "وما بعد الضيق إلا الفرج".. مائتان وأربعون نهارا وليلة وهم يحلمون، وينتظرون من يحل مشكلتهم، ويتعامل معهم بإنسانية... وباحترام آدميتهم.. لا يريدون جميلا من أحد... ولا يستعطفون أحدا... ولا يبيعون موقفهم السياسي لأحد.. ولدتهم أمهاتهم أحرارا... إنهم يطالبون بحقوقهم، وحقوق أسرهم وأبنائهم التي اغتصبت، ونهبت، ويجري إهمالها.. فهل هناك من يتعمد في حكومة تسيير الإعمال، القصاص منهم، وعرقلة حل مشكلتهم التي طال انتظارها... وخصوصا أنهم يعانون تكلفة شهر رمضان المبارك، وعيد الفطر الذي ينتظرهم على الأبواب.
لماذا يجري دفع رواتب أولئك الموظفين العاطلين عن العمل، والذين لا يتوجهون لوزاراتهم ومؤسساتهم العامة؟؟؟.. في حين أولئك العاملين والكادحين من موظفي بلدية غزة الذين يبدأون عملهم اليومي من الساعة السابعة صباحا ويستمرون حتى الثالثة بعد الظهر ولا يتقاضون رواتبهم؟؟؟ هل هذا هو العدل، فمن يعمل لا يأكل.. ومن لا يعمل يأكل!!؟
لا أحد ينكر أن الأزمة عويصة، وتحتاج لخطة وطنية لإنقاذ بلدية غزة، وإنقاذ مدينة غزة التي يتهددها الانهيار البطيء، والتدريجي، وستصحو سلطتنا الوطنية، ومؤسساتنا الشرعية، وحكومة رئيس الوزراء سلام فياض على كارثة تلف مدينة غزة، بالإضافة إلى كارثة الحصار الاسرائيلي، والانقلاب الدموي على الوطن.. فالقوى الإدارية، والفنية، والمالية في بلدية غزة وصلت مرحلة الخطر، وانهيار بلدية غزة التي تعتبر من اكبر بلديات الوطن، يعني انهيار لقطاع الخدمات بأكمله الذي يقدم خدماته لما يزيد عن 600 ألف مواطن، وهذا يعنى كارثة بيئية، وصحية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وحضارية، وأيضا معيشية.
لماذا يجري هذا التجاهل الكامل والمتعمد من قبل السلطة، ورئاسة الحكومة الفلسطينية؟؟ وخصوصا أن المعلومات تؤكد أن الرئيس أبو مازن قد كلف المجلس البلدي بإدارة البلدية، وجدد التكليف بتاريخ 1/9/2007؟؟؟ وإذا كانت الأزمة قد تعددت أسبابها التراكمية، بدءا من تراكم الديون المستحقة على المواطنين، الذين فقد معظمهم أعماله في إسرائيل، أو توقفت رواتبهم نتيجة الانقلاب الدموي، وتعثر حل مشكلة رواتب شرائح كبيرة من الموظفين الحكوميين المدنيين والعسكريين، أو بسبب الركود التجاري، وإغلاق المعابر والحصار، أو بسبب عدم تلقي بلدية غزة أي دعم من أية جهة محلية أو دولية، وان توفر دعم دولي فلغرض تغطية المشاريع، وليس للرواتب، بالإضافة إلى ديون الإقراض من بنك فلسطين التي وصلت إلى أكثر من 6 مليون شاقل، والتي تضطر البلدية لدفع فوائد شهرية على هذه الديون تقدر بـ 70 ألف شاقل، فهل موظفو البلدية مسؤولون عن هذه الكارثة التي ألمت بالوطن، وبالعار الذي خلفه الانقلاب؟؟ وهل تجري معاملة موظفي بلدية غزة، بنفس الطريقة التي تعاملتم بها مع موظفي السلطة الوطنية من مدنيين، وعسكريين، الذين ينتظرون رواتبهم منذ أكثر من خمسة أشهر، ودون جدوى أو بصيص أمل؟؟؟ لقد قدم المجلس البلدي جملة من الحوافز للمساعدة في التقليل من الأزمة، وتوفير جزء من رواتب العاملين، مثل عمليات التخفيض والتقسيط التي أعلن عنها، التي وللأسف لم تجد تجاوبا من المواطنين، وإسهامًا في إنقاذ موظفي بلديتهم، ومدينتهم العريقة .
إن بلدية غزة تحتاج إلى 5 ملايين شاقل شهريا لتغطية رواتب موظفيها، ونفقات التشغيل، وهذا المبلغ يشكل حوالي 0,5% من اجمالى رواتب السلطة الوطنية، وهو ما يدفع موظفي البلدية للمطالبة بضمهم لكادر السلطة الوطنية، فمن حقهم كمواطنين صالحين تأمين حياتهم، ومستقبلهم، ومعيشتهم، وحتى لا تتهدد حياتهم، وحياة أبنائهم .. بلدية غزة هذا الصرح الوطني الشامخ، الذي يشكل معلما بارزا في تاريخ البلديات الفلسطينية، ومنارة لمدينة غزة، التي لها الشرف والفخر، أن يتشكل فيها أول مجلس بلدي عام 1893 في فترة الحكم العثماني.
موظفو بلدية غزة لا يستحقون هذا الإهمال، وهذا التقاعس في حل مشكلتهم، لا بد من مناصرتهم وتقديم كل الدعم لهم من كل المواطنين، والإسراع في دفع مستحقاتهم، وتجنيد كافة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، والعربي، والدولي، لتواصل عطاءها، وفى مقدمتها هيئة العمل الوطني باعتبارها ذراعا لمنظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة، وتضع قضيتهم في سلم أولويات عملها، والضغط على أصحاب القرار والمال، من أجل الإسراع في حل مشكلتهم من جذورها، بدءًا بدفع رواتبهم، ومستحقاتهم المتأخرة..
إن استمرار البرود، وتجاهل تردى أوضاع بلدية غزة، والفشل في تقديم حلول ايجابية تنصف الموظفين، ينعكس سلبا على القيام بواجباتهم تجاه المواطنين، مما يزيد في حجم المأساة، والكارثة ليست عليهم وحدهم، بل على كل مواطني غزة الذين هم بحاجة إلى خدمات البلدية، وبحاجة إلى الدعم والإسناد، بهدف تعزيز صمود المواطنين في وجه الاحتلال الاسرائيلي، وعدوانه المتواصل، وحتى لا يقعوا رهينة بيد الانقلابيين، فهم أولا وأخيرا مواطنون وليسوا رعايا!!!
#طلعت_الصفدى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟