|
القرآن وأزمة التأصيل: حوار صحفي...
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 2068 - 2007 / 10 / 14 - 09:56
المحور:
مقابلات و حوارات
*- الحلقة الثانية: نشأة التفسير التجزيئي في حوار مع يوسف هريمة «6-4» التفسير بالمأثور حَرَفَ النص القرآني إلى الوجهة الأيديولوجية الوقت - نادر المتروك: نبدأ في هذا الجزء من الحوار مع الباحث يوسف هريمة؛ بطرق باب المناهج المعتمدة في مقاربة القرآن الكريم، ويستفتح هريمة ذلك بالتطرّق إلى جوانب من جرجة النص القرآني باتجاه إضفاء مشروعية على الأخطاء، ثم يتناول الأبعاد التاريخيّة لمنهجية التفسير التجزيئي والتفسير بالمأثور مدللا على صعوبة تفسير القرآن بالحديث، ومبيناً الأسباب التي كانت وراء نشوء هذا المنهج التفسيري. * توقفنا في الجزء الماضي من الحوار عند خطأين في علم الأصول والمقاصد، الأول كان حول تقديم الدين على الإنسان، والثاني أن الأصول لم تنبن على القرآن والفكر الحر. وهذا يفتح الباب على الجهاد في الإسلام، فكيف تعلقون على ذلك؟ - وهنا يأتي الخطأ الثالث في عمق فكرة حفظ الدين، فهي أرادت أن تجعل تشريع الجهاد حسب فهمها للكلمة؛ مردّه التأسيس لهذه الكلية المغلوطة. ولو تأمل الأصوليون قليلاً لوجدوا أن كلمة الجهاد القرآنية، لا علاقة لها بما شحنه هؤلاء من مفاهيم ثقافية ارتبطت بواقع وزمان معينين. فالجهاد في القرآن ليس سوى بذل الجهد ومضاعفته، بما أوتي الإنسان من قوةٍ تارة بالمال وتارة بالتضحية بالنفس، للوصول إلى ما يبتغيه الإنسان من كماليات الدنيا، وهو ضد أي تقاعس، أو كسل للنفس الإنسانية عن أداء دورها الريادي، المنبثق من مسؤوليتها الإنسانية (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم). وليس هناك أي معنى للقتال، أو القتل داخل البنية اللفظية لهذه الكلمة، إلا ما شحنته أيادي من تلطخوا بدماء الناس، وجرّوا معهم النصّ القرآني للاحتجاج به من أجل مشروعية جرائمهم ضد الإنسانية. ورسل الله لم يؤسّسوا لفكرة القتل، كما هو حال جميع المصلحين قديماً أو حديثا. بل كان كل عملهم مرتكزاً على فكرة الإقناع بصدق الرسالة ومشروعها الإنساني:’’فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا’’، فبذل الجهد ومضاعفته كان من أجل تبليغ الكلمة وبالكلمة نفسها، ولم يكن يوما حملاً للسيف. لأن منْ يحمل سيفاً لن يحمل رسالة، ومنْ لا يحمل رسالة السلام، لن يكون إلا جبّاراً في الأرض مهما كانت ماهيته أو حجمه:’’نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد’’. * ما النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه القراءة النقدية للمقاصد والكليات؟ - إن أي بناء على هذا المعطى سيكون كارثياً آجلا أم عاجلا. ولا يكفي أن ننتقي من المقاصد ما يخدم توجّهاتنا، من أجل تجميل الصورة للغرب أو غيره، دون مواجهة الأمر بشكل جدّي عن طريق خلخلة البنيات المؤسّسة لهذه التصوّرات، والبناء على هذه المعطيات بناءً يتجاوز ثقافة العصور القديمة، ويستفيد من إمكاناتها وما قدّمته أيضاً. وإلا فستصبح محاولاتنا الإصلاحية مجرد شعارات رنانة، سرعان ما ستذهب أدراج الرياح بتغير الزمان والمكان. القرآن الكريم.. القراءات التجزيئيّة * في إحدى المرات كنتم تتحدّثون عن قراءات تجزيئية للنصّ القرآني يلجأ إليها البعض من أجل تبرير أفعالهم وانتزاع شرعنة معينة لها. ما هي الآليات والوسائل التي يعتمد عليها التفسير التبريري أو النفعي؟ - كان القرآن مفتوحاً على كلّ القراءات منذ زمن نزوله، الكلّ ينهل منه حسب فهمه وتصوّره له، وحسب المحيط والثقافة الناشئ فيها. ولعلّ أهم بوادر هذه الاتجاهات الفكرية كانت مع مجتمع الصّحابة، الذين كانوا يربطون كلّ آية بسبب نزولها، ويحدّدون بالتالي أهدافها ومقاصدها. ولقد كان الجانب الروائي هو المؤسّس لهذا الفهم، إذ أن كلّ ما نُقل عن الصّحابة نقل عن طريق روايات دُوّنت في فترةٍ تاريخية لها ظروفها الخاصة. وعليه فقد شكّلت مدرسة الرواية والمأثورات الحديثية، أولى المدارس في التفسير التجزيئي، إذ كانت هذه الأخيرة تعتمد في مقاربتها للنص القرآني مقاربةً روائية بامتياز، حيث يتمّ اقتطاع جزءٍ من القرآن لخدمة مشروع ووجهة الرواية. كما التمس هذا التيار الفكري المسمّى بالتفسير بالمأثور؛ على قواعد وأسس كانت تنحرف في الكثير من الأحيان بالنص إلى وجهتها الإيديولوجية، المرتبطة بالتاريخ المعروف في تلك الحقبة من الزمن. ومن هذا المنطلق بدأت تتشكّل ملامح مقاربات قرآنية؛ تعتمد في منهجيتها على الرواية الثقافية، سواء انتسبت إلى أهل الأثر أو أهل الرأي كما يقول المفسّرون. وضاع النص القرآني بين هذه المدارس، كلٌّ ينهل منه ما يسدّد به سهام التكفير والتضليل للآخر، أو يمرّر به ما يعتقده صواباً في العقائد والتصوّرات والمذاهب. ولعلّ هذا الأمر يبقى ضرباً من التنظير الفكري، إذا لم يُرْفق بالمثال الواضح على خطورة مثل هذا المنهج في المقاربة القرآنية. أسباب ظهور النزعة التجزيئية * وهل يمكن الإتيان بمثال يوضّح صعوبة تفسير القرآن بالحديث النبوي أو بالرواية؟ - البخاري، مثلا، من خلال تفسيره لآية «فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى» يروي حديثا يقول فيه أبو هريرة عن رسول الله ‘’حاجّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه. أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله: فحج آدم موسى’’. كان هذا الحديث بمثابة تفسير للقرآن حسب منهجية البخاري في التفسير، التي لا تتجاوز المنهجية الأثرية بشكل عام. فهل آدم أخرج الناس من الجنة حسب النص القرآني المراد تفسيره؟ هذا سؤال تبقى الإجابة عليه رهن الطرح القصصي للقرآن في هذا الموضوع، إذ القرآن يعتبر خلق آدم والخليفة قضاءً ربانياً قد تمّ الحسم فيه قبل خلقه (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). ولم تكن هذه الرواية إلا حلقة من حلقة التأثر بالفكر المسيحي، المؤمن بالخطيئة الأصلية التي لن تزول إلا بالإيمان بالرب يسوع. وإلا فآدم حسب الطرح القرآني للموضوع قد تاب مما اقترفه هو وزوجه بالأكل من الشجرة. وعليه لم يبق أي مبرر لمحاججةٍ وهمية في أذهان صناع هذه الرواية، ونسبتها إلى الرسول لاكتساب الشرعية المزوّرة. فتجربة آدم حسب تصوري لها هي تجربة كلّ إنسان في هذه الأرض، يخطئ ويصيب، ويجور أن يتوب بانتباهه إلى ضعفه وقصوره. ولن يصبح الخطأ خطيئة يجرّ ويلاتها وترثها ذريته من بعده، دون أي مبرر عقلي أو نفسي. ولكن للأسف الشديد أن الرواية كانت تخدم هذا الجانب العقدي الخطير في بنية الفكر المسيحي، عن طريق التمرير الإيديولوجي الذي يتحول فيه القرآن إلى شاهد، بدل مقترح لافتراض مغاير، برواية تخلق لها مكانا وهمياً للمحاججة بين أموات يفصل بينهم زمن طويل وكبير. وكل ذلك لتكريس أزمة لا زال العقل السلفي بشكل عام يجرّ ويلاتها، ويتناقش حول أصولها: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ * وفي رأيكم؛ ما هي أسباب ظهور هذه النزعة في التفسير والمقاربة القرآنية؟ - أسباب ذلك هو: التوظيف السّياسي للدين، والاحتماء بالرواية لمحاججة الخصم، وانتشار الثقافة الشفوية، والاختراق الثقافي عن طريق مدّ الجسور بالفكر الآخر، والتحريف عن المواضع ومن بعد المواضع بآليات خارجة عن البنية الأصلية. وغير ذلك من الأسباب التي كانت مساهمة في ظهور هذا التيار التجزيئي. وغابت مفاهيم الوحدة الموضوعية، والنظر بعين الشمولية إلى الموضوع الواحد، من أجل الخروج بنتائج حتى لو كانت خاطئة. وهذا ما دفع بالكثير من المفكرين إلى إنشاء مدارس جديدة تكون بمثابة سدّ لهذه الثغرة الفكرية في جدار المقاربات الأثرية للقرآن. ولعل أهمها مدرسة التفسير الموضوعي من خلال تتبّع الموضوع الواحد كما فعل ذلك باقر الصدر، أو تتبع اللفظ كما قامت به عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، أو التوظيف الإلهي للغة كما يقول الحاج حمد وغيرهم كثير. مقاربات أركون والجابري للقرآن في حوار مع يوسف هريمة «6-5» قواعد علم الحديث كانت بوابة للاستبدادين الديني والسياسي نادر المتروك: في الأمس عرضَ الباحث يوسف هريمة وجهة نظره بشأن القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، وفي هذا الجزء من الحوار يستعرض معه نموذجين من هذه القراءات، وهي المنهجية القرآنية لكلّ من محمد عابد الجابري ومحمد أركون. وانطلاقاً من أساسات هذا المبحث، نبدأ الإطلال مع هريمة حول محور السنة والقرآن، وأوجه العلاقة بينهما، وما تولّد عن ذلك من مباحث صبغت علوم السنة والقرآن. * في مقابل ذلك ثمة قراءات معاصرة تستفيد من المنهجيات الحديثة في توليد معانٍ غير دارجة من النصّ القرآني. ما هي مقاربتكم النقدية للقراءات المعاصرة للقرآن الكريم؟ ولنأخذ نموذجي محمد عابد الجابري، ومحمد أركون؟ - تعد مقالات الجابري حول القرآن مقالات قد أثارت الكثير من ردود الفعل النفسية، بسبب ما أشارت إليه بوقوع تحريفات في القرآن، وتعرّض النص إلى عمليات إسقاط. وإلى هذه الحدود يبقى الجابري حرّاً في اعتناق مثل هذا التصوّر سواء اتفقنا مع نتائجه أم اختلفنا. ولكن الإشكالية المطروحة من خلال هذه المقالات هي أنها سقطت في خطأ منهجي خطير، يجعل أيضا من العملية كلها عملية إيديولوجية بامتياز. فالبناء الذي اعتمده الجابري في أطروحاته، هو بناء روائي قام على ثقافة روائية، قد حذرنا من بعض ما تختزنه مثل هذه الثقافة من أبعاد ذكرناها سالفا. والحقيقة أن مثل هذه المقاربة تفتقد إلى الجانب الموضوعي، إذ إنها لا تعتمد بنية النص الأصلية من دون النظر إلى تاريخيته بشكل من الأشكال. إذ النص يطرح نفسه كبديل إنساني لا علاقة له بالتاريخ أو الجغرافيا أو غير ذلك من الأمور. ولكن المنطق الروائي كما مرّ معنا يسمح بمثل هذه المقاربات، بل ويعزّزها ليجعل من المؤمن بها في ورطة فكرية يصعب الخروج منها بحال من الأحوال. وعليه لا يمكن أن تكون مقاربة الجابري ذات بعد موضوعي فكري، إلا إذا تبنّت خط القرآن ونقده من أصوله، ووفق بنيته اللفظية أو الموضوعية، دون استجلاب لروايات خارجة عنه من أجل الوصول إلى نتائج معينة. * وماذا عن المقاربات القرآنية لمحمد أركون؟ - لعل أهم معطى يتجلى في قراءات محمد أركون للمعرفة الإسلامية عموماً، هو نقده اللاذع للأصوليات الفكرية والدينية. ولقد كان للرجل الفضل الكبير في كشف الكثير من العورات الفكرية، لهذا الفكر الأصولي المتأصّل في الثقافة العربية الإسلامية، والذي لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال بديلا حضاريا يمكن أن تقوم عليه نهضة عربية منشودة في أذهاننا. وكان تكوينه الفكري يخدم هذا الجانب من خلال ترعرعه بين أحضان الغرب، والاستفادة من علومه ومعارفه. كانت هذه التجربة الإنسانية والانفتاح على الدرس اللغوي والعلوم المختلفة دافعاً لدراسة القرآن، وفق ما توصل إليه من خلال تجربته الدراسية. وظّف أركون في مقاربته القرآنية أدوات معرفية جديدة على الحقل التفسيري، من سيميائيات وعمليات تفكيكية لغوية، جعلت من النص القرآني منفتحا في الكثير من الأحيان على آفاق أرحب لم تكن موجودة في العرف التفسيري القديم. وهذا من إيجابياته بأن جعل القرآن منفتحا بشكل كبير على طاقات أخرى وإمكانيات تخرجه من النفق الذي كانت تعتمده الرواية بمختلف مستوياتها. ولكن بالرغم من كل ذلك تظل كل المقاربات التي قام بها هذا الأخير مقاربات من خارج النص الأصلي، وهي في غالبها مقاربات إسقاطية ثقافية لن تعدو إلا أن تكون ضربا جديدا من الثقافة القديمة، المجزئة أيضا في تعاملها مع البنية القرآنية لفظاً وموضوعاً. السنة والحديث والقرآن * ثمة إشكالية قديمة/جديدة بشأن العلاقة بين القرآن والسنة النبوية، وقد ظهرت اتجاهات حيّدت إمكانية الاستفادة من القرآن الكريم بسبب خصوصيته الروحانية وعدم إمكان بلوغ المراد الإلهي في زمن ما بعد الرسول (وما بعد الغيبة الكبرى بالنسبة للشيعة الإمامية) وتمّ الاكتفاء بالسنة النبوية (إضافة إلى سنة أئمة الشيعة الإمامية) في بناء الموقف الشرعي ومرجعية السلوك العبادي. في المقابل كان هناك اتجاه ‘’القرآنيين’’ الذين اكتفوا بالقرآن الكريم وأسقطوا مرجعية السنة لأسباب تتعلق بالتاريخانية والخلاف الإيديولوجي وقضية التحريف وغير ذلك. كيف يمكن التعامل مع السنة النبوية مع لحاظ بعدها التاريخي والإشكالات المتعلقة بالتدوين المتأخر وملابساته الغامضة والمريبة؟ وما هي العلاقة التوليدية الممكنة بين السنة والقرآن في الوقت الراهن عدا عن الجهد الأصولي الكلاسيكي؟ - لم تكن العلاقة مع ما يُسمّى بالسنة النبوية وليدة العصر الحالي، بل جذورها تمتد إلى بدايات تشكل هذه الحركة الثقافية. وقد أخذت القضية مسارات كبيرة وعديدة، كان أخطرها أن اعتبرت هذه الأخيرة قاضية على القرآن وحاكمة لمضامينه، بحيث يتعذّر على الداخل إلى دراسة النصّ القرآني الدخول إليه إلا عبر بوابتها الكبيرة، من خلال مرويّات أخذت أشكالا متعدّدة تبعاً للتخصصات المذهبية والفكرية لكل اتجاه. وكما قلتُ في إحدى مقالاتنا فإنّ خطورة مثل هذه المقاربة الدينية للنص الديني، تتجلى في كونها مقاربة احتكارية لا تخضع لضوابط علمية، بقدر ما تخضع لمنطق الشرعية المكتسبة أساسا من المؤسسة السياسية المتجلية في التواطؤ المكشوف بين ما هو ديني وسياسي. والثقافة الروائية التي أنتجتها هذه العلوم هي أحد أهم الأدلة على صدق أو بطلان ما سنقوله. فالإنسانية رشدت واكتمل بلوغ عقلها، ولن تحتاج مجدَّدا إلى منْ سيملأ عقلها بثقافة الرواية بكل تجلياتها، لأن ظروف العصر قد تغيّرت، والمناخ الذي احتضن هذه العلوم قد أصبح آيلا للسقوط إن لم نقل قد سقط بالفعل، نتيجة الهوة الحضارية التي أسقطت فيها هذه العلوم الركب الإسلامي وحضارته. * وهل اعتمد علم السنة والحديث على القرآن في نشأته؟ - علم السنة أو علم الحديث لم يُؤسس يوماً على بناء قرآني، وإن كان النص القرآني حاضرا في تأصيلات المؤسسين لأغراض معينة، تكشف عنها المدارسة النقدية للكثير من الروايات. هذا القول يوحي حقيقةً بأزمة الفكر الديني والعلوم الدينية. فما من علم أسَّسَه القدماء تحت وقع ظروفهم وسقفهم المعرفي، إلا زعموا أن القرآن أحد الأصول المركزية في هذا البناء. وبالتعمق في مثل هذا الادعاء نجد القرآن قد وُظِّف توظيفا خطيراً لخدمة كلّ المشاريع التي كانت تهدف بالأساس إلى إثبات شرعيتها، عن طريق المرور من هذا الطريق الذي يمكنه أن يضمن لها البقاء والشرعية المزعومة. مفهوم السنة اللغوي والاصطلاحي * من أجل إيضاح ذلك، هل يمكن تقديم صورة إجمالية لمفهوم السنة؟ - نعم، لفهم هذا المعطى الخطير في بنية العلوم الإسلامية، وعلى رأسها علم الحديث وما يتفرع عنه من علوم. نقوم الآن بمحاولة فهم مفهوم السنة التي يندرج تحتها هذا العلم، ومقارنتها بالمفهوم الذي أعطاه القرآن لهذه الكلمة. وذلك ليتأتى لنا الخروج من هذا التعميم الذي قد يلقي بظلاله الكلام النظري والمجرد. عرّفت المعاجم اللغوية السنة بأنها هي ‘’الطريقة والسيرة حسنة كانت أو قبيحة’’. وجميع معاني اللغة تنحو هذا المنحى في فهم هذه الكلمة. إلا أن هذا المفهوم اللغوي سيتحول إلى معنى ضيق في اصطلاح المحدثين ومن سار على دربهم، حيث أصبحت السنة تطلق على سيرة رسول الله من قول أو فعل أو صفة خلقية راجعة إلى طبائعه النفسية في حالة الرضا والغضب، سواء كان قبل البعثة أو بعدها. وبهذا المفهوم الاصطلاحي صارت السنة واجبا متبعا تحكمه مجموعة من الروايات الأثرية المنسوبة إلى الرسول، والتي تتحدث عن كل ما يندرج تحت مسمى السنة باصطلاح المحدثين. أما الفقهاء فقد كانوا أيضا متأثرين كما قلنا في مقالة سابقة بعنوان ‘’العقل الفقهي اللغوي وأزمة الفقه الإسلامي’’، بالمفهوم الضيق للفقه المرتبط بالأحكام الفقهية من واجب وحرام وغيرها من آليات الاشتغال الفقهي. فجاء تعريفهم للسنة يتناسب واختصاصهم العلمي فقد أطلقت على ‘’ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي أي ما ليس بواجب’’. وهكذا نرى أن هناك تباينا في المفاهيم بين اللغة والاصطلاح، قد أملته ظروف اشتغال كل فريق والأدوات العلمية التي يشتغل بها. والكل كان في الحقيقة يوظف القرآن من أجل الانتصار إلى اتجاهه ومنطلقاته الفكرية. فـي القـرآن مفهــوم نسـقي للسنــة يختلــف عن المفهــوم السائــد مراجعة عدالة الصحابة والقرآنيين في حوار مع يوسف هريمة:6-6 نادر المتروك: مراجعة عدالة الصحابة والقرآنيين في حوار مع يوسف هريمة: فـي القـرآن مفهــوم نسـقي للسنــة يختلــف عن المفهــوم السائــد في الجزء الأخير من هذا الحوار؛ يضع الباحث يوسف هريمة تصوّراً مختلفاً لمفهوم السّنة كما وردَ في القرآن، حيث يذهب إلى أن القرآن الكريم لم يستخدم هذا المفهوم على النحو الوارد في المدوّنات الرّوائية، وهو ما يدعوه إلى أن تتوقّف الاستخدامات الأيديولوجية لهذا المفهوم بعد نسف مدعى التأسيس القرآني له. ولا يتوقّف هريمة عند هذا الحدّ؛ حيث يُلقي نظرة نقديّة على الموروث الرّوائي الذي يراه مساهماً في تدعيم الاستبداد الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي، منطلقاً من ذلك لإسقاط نظرية عدالة الصّحابة، ولكن بعيداً عن الاستقطاب الشيعي والسّني، واعتماداً على الرؤية الموضوعية التفكيكية. وفي الوقت نفسه، لا يرى هريمة أن جماعة القرآنيين تأسّست على قواعد علمية وموضوعية، ويضع في ختام الحوار مبادئه للقيام بعمل نقدي لتشكيل وعي إنساني حر. * هل تم التأسيس لمفهوم السنة في الثقافة الإسلامية انطلاقا من القرآن؟ أم انطلاقا من تأثيرات كل مدرسة والاتجاه الذي تتبناه؟ - استعمل القرآن لفظة السّنة في العديد من مواضعه وسياقاته. وقد كان المعنى الملازم لهذه الكلمة يبيّن من خلاله أن الكون والتاريخ والنفس البشرية، وكل الأمور المرتبطة بالنسق الكوني تسري وفق سنن الله، ووفق نظامه القانوني المحكم غير المتأثر بالتغير والتبديل (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). هذه السنن المبثوثة في الكون بما يضمن للإنسان أن يسير على بصيرة من أمره في كل مجالات الحياة، هي المحرّك الأساسي لحركة التاريخ والحضارة، في نسق واضح يجنب الإنسان مغبة الخروج عن نسقها. لأن أيّ خروج لقوانينها حسب الطرح القرآني، هو خروج عن السّير والنظام العامين في تركيبة هذا الكون (وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين). والسنن في القرآن ليس نسقاً واحداً. وإنما هي أشكال متعدّدة منها ما هو متعلّق بالسير العام للكون، ومنها ما هو مرتبط بحركة التاريخ وتركيبة النفس البشرية، وغير ذلك من الأمور. وتتميز هذه السنن بخصائص تميزها عن غيرها، لعل أهمها التتابع والاطراد في نسق واحد (ولا تجد لسنتنا تحويلا). والمعطى الثاني أن هذه السنن مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإنسان، فهي ملتصقة به غير بعيدة منه. فسنن التاريخ والمجتمعات تحكمها علاقة تأثير وتأثر بالنسق الإنساني بكل تجلياته (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وهكذا فالقرآن يطرح مفهوماً نسقيا لكلمة ‘’السنة’’ من خلال استعمالاته المختلفة لها. وهو مفهوم بعيد كل البعد عن كل المفاهيم الثقافية، المرتبطة بواقع الرواية وتأثيراتها المختلفة. وعليه لم يبق أي مبرر للقول بأن هذا المفهوم على الأقل قد أُسّس قرآنياً. * وكيف تنظرون إلى القواعد التي تأصيلها داخل علم الحديث؟ - هذه القواعد التي أصّل لها هذا العلم؛ كانت بمثابة بوابة كبيرة للاستبداد السياسي والديني، وفتحت الآفاق على الكثير من المفاهيم غير الإنسانية، لتجد لها موطئا في الثقافة الإسلامية عبر بوابة الرواية الحديثية. ولعل أهم هذه القضايا قضية عدالة الصحابة وما استجلبته هذه الأخيرة على الثقافة الإسلامية بمختلف مستوياتها. وأريد أن أؤكد هنا أنني لا أنطلق من حقد على أحد من الصحابة كما تزعم الشيعة، أو أٌكابٍرُ لأجعل كلّ الصحابة في ميزان العدالة المطلقة كما يزعم أهل السنة. وإنما أريد من خلال إسقاط هذه النظرية المتلاشية أن أضع قضية لها خطورتها مثل هذه في سياقها التاريخي والبشري. فالصحابة بشر مهما أرادوا أن يجمّلوهم لنا أو يشوهوهم، تجري عليهم سنن الإنسان كما تجري على غيرهم. وإذا كانوا كذلك فلن نحتاج بَعْدُ أن نصنع منهم أناسا فوق التاريخ، فالكل يأخذ حجمه الطبيعي في زمان النسبية، دون أن تكون لنا أي خلفيات أو مسبقات فكرية على هذا الطرف أو ذاك. نقد جماعة القرآنيين * ما هي قراءتكم لسياق التيارات المنفعلة ضد التيار الرّوائي، وخصوصا جماعة القرآنيين؟ - هذا التيار الروائي الذي كان ولازال محتكرا للمشهد الديني، وَلَّدَ ردود فعل أخرى، واتجاهات مضادة لعل أبرزها الاتجاه الذي أصبح معروفا بالقرآنيين. وأخذ هذا الاتجاه في ترسيخ مبادئه وأفكاره، وعادت له هيئات فكرية تنطق باسمه، وإن كان يعرف في الكثير من الأحيان اضطهادات في العديد من الأقطار العربية، بسبب الثقل الثقافي الروائي واستحكام الآلة الكهنوتية في زمام الكثير من السياسات. وقد آمن هذا الاتجاه الفكري بأن القرآن هو الكفيل بالخروج من مستنقع هذه الثقافة المسيطرة، والمحتكرة للحق في الاختلاف منذ زمن تأسيسها. ولم يعترف بالرواية وصار ناقدا لبنيتها عن طريق عرضها على مضامين هذا الكتاب. وعلى أي كان هذا التيار ردة فعل طبيعية، على مخالفات كبيرة في بنية الرواية عموما. إلا أنه هو الآخر سقط فيما سقط فيه التيار الآخر، حين تسلط باسم القرآن عوض السنة، وجعل من العملية كلها مختزلة في نصوص اللغة. وغاب عنه بأن كل العمليات التفسيرية سواء ارتبطت بما سمي بالتفسير بالمأثور، أو ارتبطت بالقرآن هي عمليات اجتهادية يعمل فيها الإنسان فكره وتكون معرضة بشكل طبيعي للقصور وعدم الإحاطة. * ما هي أهم المؤاخذات الموجّهة للقرآنيين في نظركم؟ - إن الاتجاه القرآني مهما حاول أن ينتسب إلى القرآن سيجد نفسه أمام اجتهادات فردية أو جماعية، لن تتحول إل قرآن، ولو كانت تجعل منه منطلقها الوحيد. فالعلاقة مع القرآن حسب تصوري لها لن تتأسس من خلال تيار، أو من خلال منهج بذاته مع ضرورة ذلك. وإنما العلاقة مع القرآن هي علاقة كل فرد منا في جدليته مع هذا الكتاب، أخذا وعطاء وشكا وإيمانا وظنا واطمئنانا. فالحق لن يُعرف إلا من خلال التجربة الواقعية لكل منا في تعاطيه مع عمق هذا الكتاب. ولن تتحول اجتهادات الآخرين أو مقارباتهم باسم القرآن إلى حقائق وجودية ونفسية يتم تأطيرنا من خلالها. ومن جهة أخرى فإن هذا التيار الفكري المنتسب للقرآن، يجد نفسه أيضا أمام إشكالية بحتة، حين لا يستطيع الإجابة عن مفاهيم مثل الصلاة والصوم والحج التي تغيب بشكل كلي أو جزئي على النص القرآني. وبالتالي يتم اللجوء إلى المفاهيم الثقافية والروايات المؤسسة لمثل هذه المناسك وإن تنكروا لذلك بدعوى التواتر العملي. فالتناقض والتباين في هذه المدارس هو تباين جوهري، إذ الكل يعتمد في تعاطيه مع الدين مقاربات ثقافية كانت الرواية الإسلامية أحد روافدها الأساسية. * في الختام، ما الذي تخرجون إليه بناءً على نقودكم المطروحة؟ - ليس هناك إمكانية محدّدة، يمكنها أن تؤطرنا في تعاملنا مع الظاهرة الدينية عموما. إذ الدين هو وجهة لكل إنسان، يأتيه وفق سقفه المعرفي ونسبيته الإنسانية. ولا بد لنا أيضا أن نقول في هذا المقام بأن اعتماد القرآن كمرجع بعيد عن الثقافة والتاريخانية، سيؤسس لفضاء أكثر رحابة ونقاوة من الفضاء التعتيمي الذي خلقته الرواية في تعاطيها مع هذا الكتاب. ولكن لبلوغ هذا الأمل كان لزاما أن تكون مقاربتنا مقاربة شمولية في نقدها. فليس هناك أية علاقة توليدية بين نص يطرح نفسه للإنسان عموما، دون تمييز ودون أي خوف من كشف ما يمكن أن يكون زيفا أو ستارا يستتر خلفه. وبين ثقافة أسست نفسها على الحق الإنساني في التفكير، وجعلت من الإنسان مستهلكا لا مبدعا لحضارة منشودة. لديّ ينبغي أن لا نخجل من القيام بمحاولات النقد الكثيرة على علاتها، لنكشف سوءاتنا وعيوبنا، بالاستفادة من الآخر بكل تجلياته. ولن يكون التسلط باسم القرآن تارة أو باسم السنة تارة أخرى، مانعا من القيام بعملية تفكيكية لمجموعة من المسلمات التي ألبست ثوب الدين، وذلك من خلال القيام بعملية نقدية موضوعية هدفها تشكيل نزعة إنسانية كونية ينعم فيها الإنسان بالحرية والكرامة على قدم المساواة. وهذا لن يتأتى إلا بـ: دراسة الفكر الديني دراسة إبستمولوجية، ودراسة الفكر الديني دراسة موضوعية بعيدا عن التحيز والذاتية، ودراسة الفكر الديني في أبعاده المتكاملة. *- هذه هي الحلقة الثانية التي نشرتها صحيفة الوقت البحرينية: - العدد 582 - الثلثاء 13 رمضان 1428 هـ - 25 سبتمبر 2007 - العدد 583 - الأربعاء 14 رمضان 1428 هـ - 26 سبتمبر 2007 - العدد 584 - الخميس 15 رمضان 1428 هـ - 27 سبتمبر 2007
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الباحث يوسف هريمة التديّن إذا اصطبغ بالفكر الشمولي انتهى.. آ
...
-
عين على منهج إبراهيم ابن نبي في قراءة القرآن*
-
القرآن ومنطق الإقصاء
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
الشفاعة المحمدية والامتداد العقدي المسيحي
-
الفكر الإسلامي وأزمة البنيات المُؤَسِّسَة
-
حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة
-
ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
-
أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
-
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
-
علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
-
الأديان ومستقبل الإنسانية
-
نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي
-
القرآن الكريم والتسلط باسم الدين
-
ثقافة الشيخ والمريد وأزمة الفكر الديني
-
العواصم الثقافية ورهانات المستقبل
-
النص الديني بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|