النغمة السائدة – بحسن نية أو سوء قصد – هى أن "الكل باطل وقبض الريح"، وأننا "يا عزيزي كلنا لصوص" إذا استعرنا عنوان الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس.
حتى أن ما قاله مالك فى الخمر يصبح جزءا يسيرا من الهجاء العنيف لنخب المثقفين العرب، والمصريين، فى السنوات الأخيرة.
لدرجة أن كلمة "مثقف" أصبحت تستدعى معها عددا من الصور النمطية الكاريكاتورية، منها على سبيل المثال صورة "المبرراتى" و"الانتهازي" و"الوصولى" و"المرتزق" و"البوق" و"صوت سيده" سواء كان هذا "السيد" هو حكومته المحلية حينا أو أحد صغار كبار موظفى البيت الأبيض أو البنتاجون الأسود أحيانا.
وبطبيعة الحال، فإن هذه الصورة التعيسة لم تأت من فراغ، وليست كلها وليدة الافتراء أو الاختلاق، بل ان سلوك الكثير من "المثقفين" هو المسئول الأول عن رواجها، خاصة بعد "الاختراق" الكبير للعقل العربى فى ظل طوفان "العولمة" الكاسح وهيمنة الخطاب الإعلامي الأمريكي الإمبراطوري المدجج بحاملات الطائرات والقذائف الباليستية العابرة للبحار والمحيطات والقنابل "الذكية" والقواعد العسكرية المزروعة فى الأراضي العربية وجيوش الاحتلال الجاثمة على أنفاس العراق والمهددة بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من تسول له نفسه مناطحة الثور الأمريكي الهائج.
خطيئة التعميم
لكن أخطر ما فى هذه الصورة الرائجة – عمدا على الأرجح- هو ما تنطوى عليه من تعميم خاطئ وظالم.
فليس صحيحا على الإطلاق أن العقل العربى الجمعي تم ترويضه، وليس صحيحا على الإطلاق ان جميع المثقفين العرب والمصريين أصبحوا عرائس ماريونيت أو مهرجين فى بلاط السلاطين أو مضحكين للملوك والامراء أو ناطقين رسميين أو غير رسميين باسمهم أو باسم جورج بوش الابن أو الأب أو زوج الأم.
وليس صحيحا على الاطلاق أن كل النخبة المثقفة العربية ، من رأسها الى ساسها، أصبحت معطوبة وفاسدة لا تعمل حساباً إلا لسيف المعز وذهبه، سواء كان هذا "المعز" مرتديا الزى "الوطنى" أو مكتسيا بمسوح العولمة أو قابعا فى المكتب البيضاوى منتحلا لنفسه وظيفة شرطى العالم دون تفويض من أحد.
وهناك الكثير من الأمثلة التي تدحض هذا التعميم الخاطئ والظالم، لكني أكتفى بالاشارة هنا إلى نموذجين حدثا فى الأيام والساعات الأخيرة .
جماعة محترمة
النموذج الأول هو جماعة الإدارة العليا، وهى جمعية أهلية تواظب منذ نشأتها على تنظيم مؤتمر سنوي تناقش فيها أهم المشكلات المطروحة على جدول أعمال الوطن والأمة.
وقد عقدت مؤخرا مؤتمرها التاسع والثلاثين بمدينة الإسكندرية كالعادة، وفى نفس الموعد المنضبط، رغم أنه لا يوجد مثل هذا الانضباط وهذا الإصرار فى الكثير من مناحى حياتنا.
وإذا جمعت دراسات ومناقشات المؤتمرات الثماني والثلاثين الماضية، وقرأتها جيدا، ستصاب بالذهول والدهشة، لأن كل أوجاع الوطن والأمة مرصودة بدقة، وجرى تشخيصها بوعي شديد، كما تم اقتراح اكثر من علاج ناجع لها.
ولو أن عشر معشار التوصيات الصادرة عن هذه المؤتمرات تم الأخذ بها لأصبح الحال غير الحال.
والمدهش أن جماعة الادارة العليا تحرص دائما على أن تدعو رئيس الحكومة والوزراء لحضور هذه المؤتمرات، وكثيرا ما حضر كبار المسئولين وشاركوا فى المناقشات بالفعل ، ولا يخلو مؤتمر من حضور اكثر من وزير.. أى ان الحكومة على علم بهذه التوصيات، بل أن بعض ممثليها ربما يشاركون فى وضعها.. ومع ذلك فانه نادرا ما تم الأخذ بها ووضعها موضع تطبيق.
أما ما يجعلنى أضرب المثل بهذه المنظمة غير الحكومية، فهو أننى من خلال مشاركتى فى المؤتمر التاسع والثلاثين الذى عقد فى الفترة من 15 الى 19 أكتوبر الجارى، ومن خلال إطلاعى على أعمال المؤتمرات السابقة ودراستها دراسة متأنية، أجد نفسى أمام مدرسة للوطنية المصرية بكل ما تحمله الكلمة معنى، وأمام نموذج للمثقف المصرى المحترم الذى لا ينافق أو يداهن، والذى يضع نصب عينيه مصلحة الوطن والأمة أولا وأخيرا، دونما مزايدات أو مناقصات وبلا مركبات نقص أو إحساس بالدونية إزاء "أبانا الجالس فى البيت الأبيض" وزعانفه الأيديولوجية وفزاعاته الفكرية التى أصبحت بالنسبة للكثيرين "أناجيل" لا يجوز مراجعتها أو مناقشتها.
كوكبة مشرفة
وفى المؤتمر الأخير – علي سبيل المثال- كانت هناك مناقشات رفيعة المستوى للعديد من القضايا والمستجدات شملت :
1- مستجدات النظام العالمي منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وانعكاساتها على مصر بصفة خاصة وعلى مستوى العالم العربي والاسلامي بصفة عامة.
2- التواجد الأمريكي المباشر على الأرض العربية واثاره.
3- مفاهيم ومخططات الشرق الأوسط الجديد والسوق الشرق أوسطية.
4- محددات ودوافع النهوض بالاقتصاد المصرى.
5- إمكانية تفعيل دور الثروة البشرية ومؤسسات المجتمع المدني فى مصر لضمان المشاركة الايجابية والفعالة فى مسيرة التقدم والتنمية متضمنة مختلف جهود التحديث والتطوير فى دور المتغيرات المعاصرة على المستوى الإقليمي والدولى
وقد شاركت فى هذه المناقشات كوكبة من المثقفين، الذين تتشرف بهم أى أمة ويتألق جبينها بهم ، منهم الدكتور عبد الوهاب المسيرى والدكتور حمدى السيد وشريف دلاور والدكتور اللواء أحمد عبد الحليم والدكتور حسن نافعه والدكتور عبد الله الاشعل والدكتور جلال غراب والدكتور وجيه دكرورى والدكتور جمال زهران والدكتور حاتم القرنشاوى والدكتور رضا العدل والدكتور محمد منصور والدكتور محمود عبد الفضيل والدكتور نادر رياض والدكتور يوسف مظهر والدكتور محمد رياض والدكتورة أمانى قنديل وجميل مطر والدكتور إبراهيم سعد الدين والدكتور جودة عبد الخالق والمهندس نادر الجيار والأستاذ السيد يسين والدكتور فريد النجار والأستاذ محمود المراغى والدكتور رفعت لقوشه والدكتورة كريمة كريم والدكتور حسن حسنى، والدكتور أحمد بن حلى والأستاذ يحيى المقدم والمهندس سعيد أباظة والدكتور محمود سالم والدكتور أسامة علما والمهندس عمر الفقى والمهندس السيد يونس والأستاذ فاروق جويدة والدكتورة هدى جمال عبد الناصر، فضلا عن الوزيرين مفيد شهاب وعثمان محمد عثمان ومحافظ الإسكندرية اللواء عبد السلام المحجوب.
هذه الكوكبة المتألقة من المثقفين المحترمين ما كان ممكنا أن تجتمع فى مكان واحد وتشتبك فى مناقشات جادة مستمرة لمدة ثلاثة ايام متواصلة، إلا لو كان لجماعة الادارة العليا ذاتها عقل يحسن التفكير والتدبير، وضمير حى تؤرقه أوجاع الوطن والأمة ، وارادة جادة على الاستمرار مهما كانت العواصف والأنواء.
وهناك بالفعل جنود مجهولون كثيرون وراء هذا الجهد النبيل يستحقون الشكر والتقدير، اكتفى لاعتبارات المساحة بالإشارة الى ثلاثة منهم فقط: الدكتور زكريا جاد نقيب الصيادلة ورئيس الجمعية والدكتور عمرو عبد الحميد موسى الأمين العام للجمعية. والزميل العزيز أسامة غيث الأمين العام للمؤتمر، و"الدينامو" المحرك له، وقبل ذلك كله النموذج المشرف للصحفى المصرى الملتزم بقضايا وطنه وأمته والمدافع عنها فى كل الظروف والأحوال بموضوعية ونزاهة وشجاعة.
صنــع اللــه
أما النموذج الثانى للمثقف المصرى، والعربى، الذى يضع اصبعه فى عين التعميم الخاطئ والظالم الذى يروج أسطورة "يا عزيزى كلنا لصوص"، فهو الأديب صنع الله إبراهيم، الذى فجر قنبلة مدوية فى الحياة الثقافية المصرية، والعربية باعتذاره عن عدم قبول جائزة الرواية العربية، وهى جائزة لها قيمة معنوية وأدبية كبيرة، فضلا عن قيمة مادية كبيرة أيضا – بالنسبة لامثالي وأمثال صنع الله- حيث تبلغ مائة ألف جنيه بالكمال والتمام.
وقد تصرف صنع الله بصورة راقية ومتحضرة جدا، فقد ذهب الى دار الاوبرا، حيث تجرى مراسم التكريم وصافح وزير الثقافة، والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وأعضاء لجنة التحكيم الذين صوتوا لصالحه . ثم وقف أمام الميكروفون وألقى بيانه الذى تضمن مسوغات اعتذاره عن عدم قبول الجائزة والمائة ألف جنيه.
وليس المهم هو ما إذا كنت توافق أو لا توافق على مسوغات صنع الله (أنا شخصيا أوافقه على معظمها)..
المهم هو أن صنع الله ضرب مثالا للمثقف الذى يحترم نفسه، ويحترم قناعاته بصرف النظر عما إذا كانت هذه القناعات – فى رأيك - صحيحة أم قابلة للجدل.
المهم هو أن صنع الله قدم نموذجا عمليا للمثقف الذى لا يجبن أن يقول "لا" بالفم الملآن وعلى مرأى ومسمع الجميع.
المهم هو أن صنع الله تمرد على لعبة التواطؤ والمسكوت عنه، بدليل أن الاغلبية الساحقة من المثقفين الذين كانوا حاضرين لهذه الواقعة ظلوا يصفقون تصفيقا حادا لمدة تزيد على ربع ساعة متواصلة إعجابا بموقف صنع الله الذى لم يفكر أحدهم فى الإقدام على جزء منه.
المهم هو أن صنع الله قدم لابنك وابني والأجيال الصاعدة نموذجا للمثقف المتسق مع نفسه ومع أفكاره ومعتقداته، بصرف النظر عن مدى اتفاقك أو اختلافك مع هذه الافكار وتلك المعتقدات – وقدم مؤلف رواية "أمريكانلى" أو "أمرى كان لى" رواية واقعية لا تقل إبهارا هى رواية "أمريمازلى" أو (أمرى ما زال لى).
ومن هذين النموذجين، النموذج الجماعى المتمثل فى جماعة الإدارة العليا، والنموذج الفردى الذى جسده صنع الله إبراهيم، نستنتج خطأ التعميم الظالم لنظرية "يا عزيزى كلنا لصوص"، وأن هناك مايزال رغم كل محاولات الاختراق والبيع والشراء- مثقفون محترمون يمثلون ضمير مصر .. الذى لا ينام فى الإسكندرية (اقتباسا بتصرف لعنوان رواية الصديق إبراهيم عبد المجيد الرائعة) ولا يرقص على السلم، حتى لو كان سلم الأوبرا.