إن الأحداث الكبرى في حياة الشعوب هي نتاج آليات عمل متقدمة خارجة عن السياق العام لحركة المجتمع، تؤثر في الأحداث وتغير مساراتها وتحدد اتجاهها ولكن نتائجها (في أغلب الأحيان) تتعارض وتلك الآليات كونها لا تقوى على التواصل مع الأحداث بسبب العنف والاضطهاد الذي تمارسه السلطة لتحد من فعاليتها.
تلك الآليات المتقدمة، هي نتاج النخبة المثقفة التي تتسلح بالأقلام والأفكار وتروج للمفاهيم الميتافيزقية (العدالة، والحرية، والمساواة..) كي تُفعل حركة المجتمع نحو التغير المنشود.
لذا نجد السلطة تلجأ لكل الأساليب للسيطرة على النخبة المثقفة من أجل تسخير آلياتها للتحكم بالأحداث دون اللجوء لاستخدام العنف المفرط لمواجهتها، وطالما الثقافة في حراك مستمر فأن المثقفين هم أيضاً في حالة تغير مع مسارات الثقافة وبهذا نجد الاختلاف بالآراء والأفكار بين المثقفين حول مسار الأحداث الكبرى في المجتمعات. ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، وإنما العامل الذاتي للمثقف في متابعة مسيرة التطور للثقافة ينعكس على نتاجه وبالتالي على تحليله للواقع وتأثيره عليه.
ويعتقد ((ماثيو آرنولا)) إن رجال الثقافة العظماء هم أولئك الذين لديهم الرغبة في النشر، وفي أن ينقلوا أفضل معرفة وأفضل الأفكار في زمانهم إلى كل أطراف المجتمع.
شعارات السلطات العربية والمثقفون العرب:
ينهل أغلب المثقفون العرب ثقافتهم من التهويل الإعلامي ومن وهم الشعارات (الوطنية) الفضفاضة التي تُسوقها الأنظمة الشمولية والسلطات (العربية) بسبب حالتي الهزيمة والانكسار الذي يعاني منها المثقف العربي.
فمنذ خمسة عقود وحتى الآن والأنظمة العربية تُحمل الغرب أسباب إخفاقها وهزيمة شعاراتها (الوطنية) وينهل المثقف من ذات المرجل في تحميل الغرب ما آلت إليه الأمور في الساحة العربية.
وهذا التجهيل المتعمد الذي ساهم به المثقفون العرب مع السلطة لتوجيه الأنظار نحو (العدو الوهمي) وعدم النظر إلى الواقع بشكل صحيح أدى إلى هزيمة المثقفين العرب قبل هزيمة السلطات العربية.
فحالة التهميش والانكسار الذي يعاني منها المثقف العربي، بسبب تبنيه شعارات السلطة وأحياناً تعارضه الخجول معها ساهم في إعداد خطاب (ثقافي) ملتبس من الأحداث الكبرى، وما حدث في العراق جراء إزاحة النظام المباد من احتلال كشف مدى الهوة التي تفصل بين المثقفين العرب.
فالمثقفون العرب اللذين نهلوا من ثقافة وشعارات السلطة المبادة في العراق لم يتحرك وجدانهم قيد أنمة ليجدوا أن الاحتلال للأوطان كان (وسيكون) نتاجاً طبيعياً للسياسات الشمولية للأنظمة الفاشية التي جعلت من سقوطها سقوطاً للأوطان، ومن بقاءها في السلطة ساحات للمقابر الجماعية وسيلاً من الدماء تبرره شعاراتها (الوطنية والقومية) الزائفة التي يتمسك بها من لا وجدان لهم من المثقفين العرب لحد الآن!!.
دور المثقف الحقيقي في المجتمع وصراعه مع السلطة المعيوبة:
يعتبر المثقفون نخبة المجتمع وتقع على عاتقهم مهام الدفاع عنه، وبالمقابل تعمل السلطة على تعطيل دور هذه النخبة عبر العنف والاضطهاد لتحجيم مطاليبها وتسخيرها للدفاع عن مصالحها.
لذا فالمثقف الحقيقي يسعى من خلال صراعه مع السلطة إلى تعطيل آليات العنف التي تستخدمها، وفرض آليات عمل جديدة تُفعل المطالبة بالحرية والعدالة وتفرض قيم المساواة بغية سيادة القانون وتحقيق مطالبات السكان بالحياة الكريمة.
فالتصدي لأعمال العنف والإذعان والخضوع للسلطة هي من المهام الأساسية للمثقف الحقيقي، ويجد ((فلاديمير يوكوفسكي)) أنه لا البندقية، ولا الدبابة، ولا القنبلة الذرية تخلق السلطة، ولا السلطة تعتمد عليها. فالسلطة تأتي من الإذعان، ومن الموافقة على الخضوع، لذلك فكل من يمتنع عن الاستسلام للقمع يقلص حجم القمع.
وعليه فأن المثقف مسؤولاً عن المجتمع لأنه يغرف من القيم الإنسانية لتطوير إبداعه ولا يتخلى عن مهامه الأساسية التي تنهل من القيم الميتافيزقية المتعارضة مع قيم السياسي المادية في رؤية الحاجات الأساسية للمجتمع.
ويؤكد ((سارتر)) على أن المثقف ليس مسؤولاً عن نفسه، وإنما مسؤول عن كل البشر، والإنسان الذي يرى قيمة الاختيار لا يستطيع إلا اختيار الخير، والخير لا يكون كذلك إلا إذا كان الخير للجميع، فالمثقف قائد الجماعة.
وهذا ما يميزه عن السياسي، قائد مجموعة حزبية يتطلع لتحقيق رغباتها، فقد تكون تلك المجموعة الحزبية تعبر عن مصالح طبقة اجتماعية ما ولا تمثل المجتمع بأسره.
وقد يعبر السياسي عن تطلعات فئات متعددة، لكنه لا يمكنه تحقيق متطلباتها الأساسية التي قد تتعرض (أحياناً) مع منظمومته الفكرية التي تستند إلى معايير خاصة في تمثيل طبقة ما وعلى حساب طبقات أو فئات اجتماعية أخرى.
وهذا الاختلاف الجوهري بين المثقف والسياسي يعبر عنه ((دوستويفسكي)) بقوله: إن الفرق بيني وبينكم (السياسيون) هو أن ما تسيرون به إلى منتصف الطريق، أدفعه أنا إلى النهاية.
لذا فأن المطالبات الأساسية للمجتمع ملقاة على كاهل المثقف أكثر منها على كاهل السياسي، وهنا تبرز أهمية المطالبة بتفعيل آليات السلطة الرابعة لتكون الرقيب على النهج السياسي كونها تعبر عن تطلعات كامل المجتمع.
هذه المطالبة، يجب أن تنتزع من أنياب السياسي الذي يسعى لإلغاء دور المثقف وتجير مهامه لصالحه لكي يكون المثقف مروجاً ومهرجاً لسقطات السياسي وتبرير عيوب السلطة الظالمة مقابل تحقيق رغبات (ذاتية) يسعى إليها مثقفو السلطة!!.
وبهذا يتحول مثقف السلطة إلى جلاد يمسك بسياط السلطة لينال من المثقف الحقيقي ومن سائر فئات المجتمع. وهذا التحول الذي يطرأ على المثقف من كونه ممثلاً وراعياً لمصالح المجتمع إلى جلاد ومدافع عن السلطة يمثل قمة الانحدار والسقوط نحو الهاوية، وبذلك يفقد (مثقف السلطة) سمة المثقف الحقيقي ويصبح داعية لقيم مضادة تتناقض ومهامه الأساس. ولا توجد في التاريخ سلطة (عادلة) لذا فأن مثقف السلطة لا بد أن يكون انتهازياً!!.
فالقيم الإنسانية التي يعبر عنها المثقف، لا تتطلب الحياد أو الانحياز إلى قيم مضادة، بل تعبير ينعكس على نتاج المثقف وسلوكه العام للدفاع عن القيم الإنسانية. ويجد ((دانتي)) بأن قاع جهنم محجوز لأولئك اللذين يقفون على الحياد عندما تتعرض القيم الإنسانية للخطر.
فالمثقف الحقيقي يخوض صراعين كبيرين هما: صراع مع السلطة المعيوبة وصراع مع الطارئين على الحركة الثقافية من مثقفي السلطة (الانتهازيين). والصراع (الأقسى والأشرس) للمثقف الحقيقي هو صراعه مع مثقف السلطة، فالأخير يستخدم آليات قمع متعددة: الإلغاء والتهميش ورفض الآخر وهي مقدمة يعبر عنها ((برهان غليون)) بأنها مقدمة لاغتيال المثقف الحقيقي جسدياً، فالقتل المادي لا يحتاج إلى تفكير جديد بل إلى حالة انفعالية جديدة فقط.
فالصراع الذي يخوصه المثقف الحقيقي ليس دفاعاً عن نفسه فقط وأنما دفاعاً عن المجتمع بأسره. ويعبر عن ذلك ((سامي سويدان)) بقوله: المثقفون يدافعون عن جوهر وجودهم ومغزاه، لكنهم أيضاً يناضلون في تخليص المجتمع من آفات القمع والإرهاب والاستغلال التي تكبله وتستنزفه وتشوهه.
فلا قيمة لمثقف ونتاجه ما لم يكن لديه موقفاً إنسانياً لصالح مجتمعه ومدافعاً عن قيم إنسانية تتعرض لخطر الانتهاك والتجاوز.
فكل النتاجات الثقافية الإنسانية عبر التاريخ والحاضر والمستقبل تجدها (وستجدها) حاضرة في الوجدان ولها أنصارها ومروجيها كونها تعبر عن القيم الإنسانية، والقيم الإنسانية ثابتة وهي مطالبات كل الأجيال لذا تجدها على أرصفة ساحات الحرية تطلق صيحات التحرر وتطالب بالعدالة والمساواة وهي تصلح لكل الأزمنة.
ستوكهولم بتاريخ 26/10/2003.