|
الأغنية العربية المعاصرة
صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 2058 - 2007 / 10 / 4 - 10:29
المحور:
الادب والفن
تمثل الآداب والفنون روح أية أمة والمرآة المباشرة التي تُمكّن أى مراقب خارجي من التعرف المباشر على هذه الأمة وطبيعة المرحلة التي تمر بها. فالآداب والفنون هما التعبير الصافي عما وصلت إليه الأمة من تقدم أو انحلال. كما أن الآداب والفنون هما التجلي العميق عن كنه وطبيعة ما يجرى في الواقع اليومي؛ فرغم أهمية السياسة والاقتصاد والاجتماع فإنهم لا يستطيعون جميعاً أن يصلوا إلى ذلك الجوهر العميق والخالص الذي يمثل روح وجوهر أية أمة من الأمم. ولنأخذ مثالاً هنا بروايات الراحل العظيم نجيب محفوظ التي رصدت معالم الهزيمة في مصر الستينيات قبل حدوثها بسنوات طويلة. لقد عجز بريق الاقتصاد كما عجزت ضغوط السياسة و تهويمات الأيديولوجيا عن التبشير بالهزيمة العسكرية المروعة في يونيو 1967 كما بشرت روايات محفوظ وغيرها من الأعمال الإبداعية الرائعة عما يحيق بالمجتمع المصري في ذلك الوقت. من هنا فإن الحديث عن الأعمال الأدبية والفنية ليس محض ترف ولا محض تسويد للصفحات ولا رغبة في التعامل مع ظواهر قد تبدو للبعض هامشية أو ثانوية.
وتمثل الأغنية العربية إحدى هذه الظواهر الفنية التي تطالعنا ليل نهار عبر شاشات القنوات الفضائية والإنترنت والوسائط الأخرى. وهى ظاهرة جديدة من حيث طبيعتها المغتربة عن الواقع العربي وثقافته الفنية المتعارف عليها. فهى ظاهرة اغتراب بامتياز لا تمت بصلة للواقع العربي، كما لا تعبر عن جوهر ثقافته الحقيقية، وإن كانت تؤشر على مدى التفكك والسقوط المرتبط بالأمة العربية المعاصرة. من هنا فإنه من الأهمية بمكان الوقوف عند بعض السمات الأساسية المرتبطة بهذه الظاهرة. ورغم مدى التدهور والسقوط الذي وصلت إليه الأغنية العربية المعاصرة فإن الأمر لا يعدم وجود بعض المطربين والمطربات الجادين الذين يحلقون خارج السرب، لكنها تظل أصوات منفردة لا تعبر عن السياق العام المتدهور والركيك، ناهيك عن الأوصاف الأخرى التي يعف القلم عن سردها.
من المعروف أن الغناء أو الطرب أيا كانت التسمية يعبر عن حالة إبداعية وموهبة فريدة، فلا يمكن لأى مغني أو أية مغنية أن يعتلي خشبة المسرح ويقف أمام الجمهور وهو خالي من الموهبة. فالغناء لا تنفع فيه واسطة أو معرفة أو حتى تلك الشركات الإنتاجية الضخمة التي تتبنى هذا أو ذاك. وما يحدث الآن هو تجاوز لكل الأعراف الفنية المتعارف عليها، فالكل يغني والكل يعتلي خشبة المسرح، والكل يقف أمام الجمهور. لا يهم الصوت ولا تهم الإمكانيات الفنية والمهارية والإبداعية، فالشعار الحالي للأغنية العربية المعاصرة: دعه يقف دعه يتمايل دعه يغني، أو دعها تقف دعها ترقص دعها تغني. فهو غناء بالقوة وليس بالفعل. وفرق كبير بين أن يكون هناك غناء بالفعل، وأن تكون هناك ظواهر فنية طربية ممتعة، وبين أن يكون هناك غناء بالقوة وبالوجود وبالقهر. ما يحدث الآن هو غناء بقوة العضلات وبإثارة الغرائز وبثروات الشركات الإنتاجية وبالضغط على الجماهير المتلقية الخاضعة المغسولة عقولها والموؤودة مشاعرها وتوجهاتها.
صحيح أن الظواهر الفنية تمزج ما بين الفن والاقتصاد، فالفن يحتاج إلى المال كما يحتاج إلى الشركات التي تقف وراءه وتحتضنه وترعاه وتنميه، لكن ما يحدث الآن قد أحال الفن إلى ظاهرة اقتصادية فقط تهتم بالإنتاج والتوزيع وحسابات المكسب والخسارة. وحينما يهيمن الاقتصاد على الفن تتوارى المواهب وتهرب الكفاءات وتنزوي المشاعر الإنسانية الحقيقية التي تعبر عن جوهر الواقع المعيش. ما يحدث الآن هو تناول مادي بحت للأغنية العربية من حيث نجاح المغني الفلاني أو المغنية الفلانية في تحقيق مكاسب كبيرة مقارنة بالغير، أو نجاح المُنتِج الفلاني في احتكار السوق لصالحه، بغض النظر عما إذا كان المُنتِج الفني ينتمي حقيقة لعالم الفن أم لا، وبغض النظر عما إذا كان هذا المُنتِج يفهم في الفن من عدمه.
لقد أصبح إنتاج الأغنية العربية المعاصرة يشبه إنتاج أية سلعة أخرى مثل الملابس أو الأجهزة المنزلية أو أدوات التجميل. وكما تتشابه هذه السلع فيما بينها، يتشابه المغنيين والمغنيات فيما بينهم، إلى الحد الذي يمكن للمرء معه أن يتصور بشكلٍ عبثي أن شركات إنتاج الأغنية العربية المعاصرة تمتلك آلات فعلية لإنتاج هؤلاء المغنيين والمغنيات بدرجة كبيرة من التشابه وعدم الاختلاف. وهو الأمر الذي يجعلنا في الكثير من الأحيان لا نعرف زيد من عبيد ولا فلانة من علانة.
تقوم فلسفة الأغنية العربية المعاصرة على أن ما يرفضه الجمهور اليوم سوف يقبله صاغراً في الغد القريب. ومن أسف أن ذلك هو الذي يحدث فعلاً، وثبت معه أن شركات الإنتاج الغنائي في العالم العربي تفهم الواقع العربي ومتطلبات السوق بدرجة كبيرة من الوعى. فما حدث أن الكثير من المغنيات، على وجه الخصوص، اللاتي كان يتم الحديث عنهن إبان ظهورهن على أنهن ظواهر عابرة فقاعية سخيفة قد أصبحن الآن من نجمات الواقع العربي المتربعات على شاشات القنوات الفضائية العربية، يدخلن كل بيت، ويقتحمن كل جمع.
ولأن الأغنية العربية المعاصرة ظاهرة اقتصادية بالأساس، تعبر عن هشاشة هذا الواقع، وفقر إبداعه، فإنه لا بد من تدعيمها على مستوى التحليل والتفسير. فالفن الجيد المعبر لا يحتاج لوسطاء لترويجه والحديث عنه، رغم أهمية ذلك. فهو يدخل القلوب ويمس المشاعر ويثير العواطف النبيلة. أم الفن الهابط الركيك فإنه يحتاج للكثير والكثير من الحديث والترويج عن نفسه، بحيث نجد أنفسنا في النهاية أمام تفسيرات وتأويلات تتجاوز بدرجة غير معقولة هذا المنتج ذاته. وفي هذا السياق يندهش المستمع أو المشاهد العربي من تلك المقابلات الإعلامية والمقالات الصحفية التي تتحدث بإسهاب عن أغنية بعينها، وعن أداء صاحبتها، وعن طبيعة الموسيقى الراقية المصاحبة لها. وكيف أن المغنية قد تطور أداؤها بدرجة كبيرة تختلف عن بداياتها الأولى، الأمر الذي يعني نضجاً فنيا كبيراً، وتطوراً للأغنية العربية المعاصرة غير مسبوق. والغريب في الأمر أن هذا المستمع أو المشاهد لا يجد شيئاً من كل هذه التحليلات في الأغنية موضوع التحليل، الأمر الذي يجعله يعتقد خطأً بقصوره الفني وعدم فهمه للمنتج المعروض أمامه.
تعتمد الأغنية العربية المعاصرة على جيل هش ورخو من الشباب غير الواعي بما يراد لهم وبما يحاك ضدهم. وتكشف تلك الأعداد الضخمة من المراهقين والشباب الذين يرتادون تلك الحفلات ويشاهدون تلك الأغنيات عن رغبات مكبوتة لا تعي معنى الفن الحقيقي ودوره الخلاق، بقدر ما تريد أن تطلق رغبات مكبوتة سواء من خلال الرقص أو التمايل أو ترديد كلمات تلك الأغنيات الجوفاء الخالية من أى معنى أو مضمون. وفي هذا السياق تتكامل الأغنية العربية الحالية بتجلياتها الركيكة المتدهورة مع غيرها من الظواهر الاستهلاكية الأخرى مثل انتشار الوجبات السريعة والإقبال غير المسبوق على السلع المستوردة المختلفة.
ولأن معظم الوجبات السريعة مستوردة، كما أن معظم السلع المستهلكة تحمل أسماء غربية ذائعة الصيت، فإن الأغنية العربية الحالية جاءت أيضاً غربية بامتياز سواء على مستوى الشكل أو المضمون. ويحتاج أى مشاهد عربي يطالع أية أغنية عربية حديثة إلى بعض الوقت حتى يدرك أنها أغنية عربية. فلا الشكل ولا المضمون ولا الملابس ولا الرقص ولا التمايل ولا الخلاعة يمتون بصلة مباشرة للواقع العربي اليومي. إن الأغنية العربية الحالية تتكامل مع غيرها من الوسائط الأخرى في سرقة عقول الشباب واستلابهم وفرش طريق العولمة المخيف بالزهور أمام الشركات المتعددة الجنسية التي لا تعرف سوى حسابات المكسب والخسارة الماديين.
من أسف أن الأغنية العربية المعاصرة تخلق واقعاً منشطراً بين ظواهر نطالعها عبر شاشات الإعلام المختلفة وبين واقع قيمي محافظ. وما بين انفلات الأول وتحفظ الثاني يستمر الواقع العربي في إنتاج المزيد من تلك الأغاني الهابطة، وفرض المزيد من الضوابط القيمية الجامدة. وقانا الله شر الهبوط والجمود.
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الحرية والخوف- التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية 2007
-
ثقافة التمثيل
-
عزمي بشارة والملاحقات الإسرائيلية
-
التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2007
-
المثقف والعاصمة: هل من علاقات متبادلة؟
-
رواية -شيكاجو- وتنميط العربي المسلم
-
!!زواج من أجل الطلاق
-
فورا بوش، جرينجو بوش
-
عن الحب والرومانسية وأشياء أخرى
-
ثقافة النكد في العالم العربي
-
حرب الأفيون الأمريكية
-
إثنان وثلاثون عاماً على رحيل أم كلثوم
-
قصص قصيرة جداً
-
مواجهة خطاب التنميط والعنف الغربي بين التناول العلمي والإلتز
...
-
!!محافظون وثوريون
-
أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي
-
!!أستاذ الجامعة بين استحكامات البنية واستحقاقات المهنة
-
ذووا الدم البارد والعقلانية الخبيثة
-
!!مذكرات سمير أمين وعصر الرأسمالية الشائخة
-
نهوض المرأة في تقرير التنمية الإنسانية العربية الرابع
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|