|
الباحث يوسف هريمة التديّن إذا اصطبغ بالفكر الشمولي انتهى.. آجلاً أم عاجلاً «6-1»
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 2056 - 2007 / 10 / 2 - 02:29
المحور:
مقابلات و حوارات
حاوره - نادر المتروك: يوسف هريمة، الباحث بوحدة البحث والتكوين ‘’مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط’’ في جامعة الحسن الثاني بالمغرب، يعرض وجهة نظره في شأن أزمة التديّن في الوقت الراهن، ذاهباً إلى أن سيطرة الشمولية والبنيات المؤسسة تعدّ مظهراً مهماً من مظاهر هذا الأزمة. في هذه الحوارية المتسلسلة، نتناول مع هريمة قضايا التدين والحداثة، وتأسيس العلوم الإسلامية القديمة والحديثة، والمقاربات القرآنية المعاصرة وقراءة نموذجي محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وعلاقة القرآن بالسنة وعلم الحديث. ؟ لديك اهتمامات مقارنيّة تشتغل في رصد الفكر الديني والوضعيات التديّنية المعاصرة في المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى. في رأيكم؛ هل ثمة أزمة تديّن في العالم الإسلامي اليوم؟ - هريمة: صحيح أن الدراسات المقارنة هي دراسات رائدة لازالت لم تعطها القيمة الحقيقية التي تجعل منها بوابة نحو التطلع إلى مقاربة متكاملة، بالمعنى الذي يوفر الجوّ الملائم لدراساتٍ نقديةٍ تستهدف البنى والارتكازات المعرفية لكلّ تصور ثقافي أو ديني بشكل عام. وغياب هذه الدراسات وحضورها بشكل إيديولوجي ومتحيّز، يهدف إلى عرض الآخر بكلّ تجلياته على تصوراتنا وأفكارنا ومعتقداتنا؛ يشوّه الصّورة ويفقد العملية النقدية بعدها الموضوعي، وإنْ كانت الموضوعية ضرباً من التنظير الفكري في الكثير من الأحيان، لالتصاقها بالبعد الإنساني النسبي والقاصر على الإحاطة بكل شيء. وعليه فهذا الغياب للمدارس النقدية للبنيات المؤسسة للفكر الديني، كان حاضناً رئيسياً لاستمرار الأزمة الفكرية والثقافية، التي يمرّ منها الفكر الديني بشكل عام. ولعلّ الأزمة الحقيقية التي يمرّ بها التدين أنه تدين لازال ينظر إلى الدين في شقه الطقوسي والفقهي، ولم يستطع في الكثير من الأحيان الوقوف عند مفاهيم إشكالية من قبيل الدين والإسلام وغير ذلك. والإشكالية السابقة لم تولد من فراغ معرفي أو مفاهيمي، بل كانت هي الأخرى ذات أصول وقواعد مؤسّسة لها، لعل أهمها النسق الفكري الديني بقواعده وأصوله المقدّسة والمحاطة بسياج من الرّهبة، بحيث لا يستطيع الكثير اقتحام هذا المجال الصّعب نقداً أو تحليلاً إلا في حالات نادرة. والخطير في هذا النسق الديني أنه لم يجرؤ في الكثير من الأحيان على الخروج عن الأطر والضوابط والقواعد المحدّدة سلفاً، رغم قصورها المعرفي ورغم نسبيتها البشرية. فكان هذا الفكر الديني بشكل أو بآخر مجرد ‘’همهمات’’ تتلى، ومجرد اجترار للماضي الممّجد في الذاكرة الإسلامية دون فحص أو نقد. الشموليّة والبنيات المؤسّسة ؟ وكيف ترى اليوم مشكلة العلاقة بين التدين والعصر؟ - هريمة: يبقى الحدث الأبرز في معادلة الفكر الديني المعاصر وما ينتجه من مظاهر التدين المختلفة؛ هو عدم قدرته على إنتاج منظومة معرفية تتلاءم ومتطلبات العصر، وتستجيب لمطالب فئات نمت وتطوّرت في قلب التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدها العالم المعاصر. كما عجز أيضا في الكثير من الأحيان عن تحقيق إنسانية الإنسان، والاستجابة لمطالبه في تحقيق التواصل الحضاري مع العصر ومطالبه الفكرية والسياسية والاجتماعية. إنّ أزمة أيّ تدين - مهما كان انتسابه أو مرجعياته الفكرية - هي حينما يأخذ من مساره مسار الشمولية. بمعنى أن يصبح هذا التدين مستوعباً لمناحي الحياة، وقامعاً للأفكار والتوجّهات المختلفة تحت مسميات عدة. إذ إن الشمول هو موت بطيء لأي تدين كيفما كان تصورنا له. ولنا في المسيحية خير مثال على ذلك حينما استوعبت مناحي الحياة، وصارت الكنيسة ومجامعها تفهم في كلّ شيء، وتتسلط عليه تحت مسمّى الدين، حتى قامت حروب دينية أُبيد فيها الكائن البشري باسم دين وثقافة معينة. ؟ هذه الفكرة تبدو صادِمة للكثير من المتدينين، فهل يمكن التوضيح والإثبات؟ - هريمة: إن الفكر الشمولي إذا ما اصطبغ بأي تدين أو ثقافة دينية يكون الموت مآلها آجلا أم عاجلا. وبهذا نكون قد حكمنا على الدين بالانهيار التام من حياة الناس، حين تختلط المفاهيم البشرية مع بعضها، وتتناقض وجهات النظر، ويموت الدين باعتباره ضحية من ضحايا التسلط البشري، الذي تشارك فيه بنيات المؤسسة الكهنوتية بمختلف مستوياتها. والمعطى الآخر في هذه الأزمة هو ما يمكن أن نصطلح عليه بأزمة البنيات المؤسسة. فلا شك أن أي تصور ديني تكون له قاعدة تمده بالتصورات والأفكار، وغالباً ما تكون هذه القاعدة إمّا نصوص مقدّسة، وإمّا قواعد وأصول وعلوم يتمّ البناء عليها في العملية الدينية. فإذا كانت هذه القواعد الحاضنة للتديّن منفتحة على الآخر بكلّ تجلياته، ومستعدة للتعاون معه في الأفق الإنساني الرّحب؛ فلن يكون هناك أي إشكال. أما إذا كانت حاملة لمشروع لا إنساني، بأنْ كانت تحتضن في طيّاتها عناصر الإقصاء الثقافي والديني والعنصري؛ فستسبّب الخراب لنفسها ولغيرها كما هو مشاهد في عالم اليوم. ازدواجية القيم الدينية والواقع ؟ وماذا عن المفارقة بين القيم الدينية وبين الواقع الذي يعيشه المتدينون؟ - هريمة: هذه نقطة مفصلية داخل هذا الوضع المتأزم، أعني المفارقة بين القيم والمثل التي يدعو إليها أي مشروع ديني وبين الواقع الذي يرزح فيه الإنسان. إذ الإصلاح طريقٌ لا يمكن أن يحقّق غاياته وأهدافه من خلال شعارات برّاقة، أو دفاع غير مبرّر عن هذا الاتجاه أو ذاك. ولكن الإصلاح منهج متكامل يُراعي خصوصيات الزمان والمكان، وينفتح على الدرس الإنساني بعلومه ومعارفه المتطورة، ويكسر كلّ قداسة قد يلبسها هذا الاتجاه أو ذاك بغية الحفاظ على قداسته، أو مآربه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. كما أن أي إصلاح أو أي حديث عن مستقبل للدين، سيبقى مجرد شعارات جافة وخطب تعبوية ما لم يمر الإصلاح بقناة الإنسان، بزرع ثقافة احترام حقه في الاختلاف، وعدم التعامل معه على أساس الأفضلية العرقية أو الدينية أو الطائفية. كما لا إصلاح في واقع ديني يهدر كرامة الإنسان عبر جرّه إلى مستنقعات الفقر والتهميش وذلّ العيش. وهو إصلاح يستهدف أيضا دراسة هذه العلوم من خلال بنيتها وبمنطقها نفسه، فإذا كانت هذه العلوم قد أُسّسَت على ما هو علمي فستكون بنيتها الداخلية ثابتة ثبوت الراسيات، لا يحركها نقد، ولا يؤثر فيها ريحُ أي مقاربةٍ تستهدف المساس من قداستها. وإذا كانت هذه العلوم قد أسستها المؤسسة الدينية بقواعد وأصول وضوابط مبنية أساسا على القمع الفكري، واحتقار العقل الإنساني والنيل منه عن طريق شرعية مزورة، فستذهب هذه المقاربة الدينية جفاء بمجرد رمي حجر في مائها الراكد حيناً من الدهر الحداثة والعلوم الإسلامية في حوار مع الباحث يوسف هريمة «2-6» مدارس الأسلمة تعاني من صياغات غير علمية الوقت - نادر المتروك:
يرى الباحث يوسف هريمة أن جزءا من الأزمة الفكرية الدينية المعاصرة هو عدم الاعتراف بأن ‘’ما أنتجه العقل البشري، سواء اصطبغ بلون الدين أو غير الدين، هو إنتاج بشري يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. ولا ضير أن يكون الكل سواء أمام العملية النقدية، وأن يكون عملنا عملاً تراكمياً يعتمد الاستفادة من الآخر بشكل أو بغيره، لا أن يكون إلغائياً له عن طريق عرضه على ما كرّسته ثقافة معينة، وألبسته لون الإسلام أو غير ذلك’’. وفي هذا الجزء الثاني من الحوار، نبدأ مع هريمة الحوار حول قضية العلوم الإسلامية والصّياغات الجديدة المتمثلة في تياري الأسلمة والمقاصد، والاتجاهات الحضارية. * يجرّنا الحوار السّابق إلى هذا السؤال: أي مدى يمكن أن تتعايش الحداثة مع التديّن في المجتمع المسلم؟ - هذا سؤال مفاهيمي بامتياز. إذ الأمر يتوقف على مفهوم الحداثة ومفهوم الإسلام كما تعلمون. والحقيقة أنه إذا لم نتبيّن حجم الهوة التي قد تسقطنا فيها مثل هذه المفاهيم، سيكون نصيبنا الفشل في أية مقاربة سنقوم بها اتجاهها. وعليه فلابد من استحضار هذا البعد المفاهيمي من أجل رؤية أوضح على سؤال مثل الذي تفضلتم به. فالحداثة كما تعلمون هي وليدة نهضة أوروبية، ووليدة صراع طويل بين المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة وأربابها من جهة، وبين الطبقة المثقفة والحاملة للمشروع الإنساني من جهة أخرى. وقد كان هذا المخاض العسير كفيلاً بأن يضعنا أمام مفهوم مثل هذا، في مقابل التيارات المقدسة للتراث والمؤمنة بأن القديم هو أمرٌ أزلي، لا يستطيع الإنسان أن ينفكّ عنه بحالٍ من الأحوال. فكان هذا المفهوم نقطة تحول في مسار التاريخ الإنساني عموما والأوروبي منه على وجه الخصوص. وعليه فالحداثة هي اتجاه فكري ظهر بالأساس ليضرب فكراً سائداً في العصور الوسطى، كان ضحيته انهيار الدين بشكل كلي من حياة الناس. الاقتصار على الشق الطقوسي من الإسلام * وكيف هو الحال في الشقّ الآخر من التركيبة، أي ‘’الإسلام’’؟ - الإسلام هو أيضاً مفهوم قد تمّ بناؤه على قاعدة ثقافيةٍ اختزلته في الشقّ الطقوسي فقط، فكان الإنتاج هزيلاً بأنْ تحوّل الإنسان من الفرد القادر على العطاء والنماء، إلى مجرد شكل فارغ من المحتوى الإنساني الرحب بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. ولا يمكن بحال الاطمئنان إلى هذه القاعدة الثقافية للفظ، لما تحمله من مآلات نرى تجلياتها في عالمنا المعاصر. وعليه فلا بد من إبداء تصورنا حول هذا اللفظ انطلاقا أيضا مما تحمله حروفه ‘’سلم’’. فالمسلم ليس فئة جغرافية أو ثقافية أو عرقية، وليس انتماء إلى جذور معينة. بقدر ما هو انتماء لأصول هذا اللفظ، أي انتماء للقاعدة السلمية فكراً وعملاً. فالمسلم من كان السّلم منهجه، بأن لم يكن متسلطاً على الآخر في فكره أو جسده، ولم يتعامل مع الناس إلا في حدود التواصل الإيجابي البعيد عن الحساسيات الدينية والسياسية. فالإسلام أسلوب ومنهج السلم، وليس سفكا للدماء أو إفسادا في الأرض وتسلطا على أصحابها (أفنجعل المسلمين كالمجرمين). فلا تساوي بين من كان السلم منهجه، وبين من أجرم في حق نفسه بأن نصّب منها حكماً على الناس، وفي حق غيره بأن لم يؤمِّنْهم في دينهم وفي أجسادهم. * وبناءً عليه؛ ما هي النتيجة في موضوع الإسلام والحداثة؟ - إذا كانت الحداثة دفعاً بعجلة التاريخ إلى الأمام، بالاستفادة من التراكمات الإنسانية المختلفة، وكانت نابذة للتطرف والصدام الفكري وأمّنت الناس في دينهم وفي ثقافاتهم، فلا شك أنها ستكون صنوا للإسلام بالمفهوم الذي أعطيته سابقا له. أما إذا كانت هي الاتجاه المغالي في التطرف اللاديني، أو اعتمدنا المفهوم الثقافي للإسلام، فلن يكون الأمر ممكناً للتعايش بحال نظرا للفجوة الفكرية والمعرفية لكلّ منهما. العلوم الإسلامية ومدارس الأسلمة * يسعى المفكرون الدينيون في الإسلام المعاصر إلى التأكيد على خصوصية التأسيس المفاهيمي للعلوم الإسلامية. ما هي أولاً رؤيتكم لإجمالي العلوم الإسلامية؟ - إن مشكلة أي فكر ديني هو في منطلقاته الفكرية بمعنى أصوله وقواعده. فإذا كان يعترف بأن هذا الإنتاج الضخم من المعرفة هو إنتاج بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، لن تكون هناك أي إشكالية في ملامسة النقاط التي قد تكون مثار جدل بين الناس عموماً. ولكن الخطير حين تتحوّل هذه البنيات المؤسسة إلى ضوابط منهجية ومعرفية، لا يمكن أن يتجاوزها الإنسانُ بدرجةٍ من الدرجات، وأي محاولة للمسّ من قدسيتها أو القرب من الشرعية المحاطة بها، يكون مآله إما القمع الفكري عن طريق التعبئة السياسية ضد هذا الاتجاه أو ذاك، أو عن طريق القمع الجسدي إذا توفرت الظروف لذلك. وعليه فالحديث عن العلوم الإسلامية بأصولها ومعارفها، هو حديث عن الأزمة الفكرية التي يمرّ بها العالم الإسلامي عموماً. وأعتقد بأن الشكل الحالي لهذه المعارف، هو جزء من الأزمة الكبرى لتخلفنا عن ركب الحضارة والثقافة وغير ذلك. وتشكلت حول هذه العلوم نظرتان أساسيتان أولاهما مؤيدة لها ومحتضنة لكلّ ما أنتجته من أفكار وأنماط وقواعد. وثانيهما رافضة لها، مستبيحة لقدسيتها ولكلّ ما أفرزته عبر الحقب والعصور. وهذا النقاش الطويل كان مردّه اختلاف المعطيات والمنطلقات البحثية لكلّ تصوّر من هذه التصورات، إضافة إلى النتائج التي يحصل عليها هذا الفريق أو ذاك. * وكيف تحدّدون أنتم الموقف من بين هذه المواقف؟ - ألا يكون منطلقنا هو مجرد موقف مسبق لا يهدف إلى إعطاء كلّ ذي حق حقه، أو أن يكون منطلقنا إيديولوجيا يتم من خلاله نسف كلّ ما لدى الآخر من إيجابيات. ولكن الهدف الأساسي أن لا تأخذنا الحمية، لنواري السّتار عما نعتبره أخطاء منهجية في بناء هذه العلوم، وألا يكون بحثنا بحثاً تلفيقياً، أي نحاول أن نرضي به طرفاً على حساب الموضوعية والعلم، مهما كان الوصول إليهما أمراً مستحيلا، بحكم تكويننا النفسي أو الثقافي، أو غير ذلك من الأمور المشكلة للعقلية المتحيزة في أبعادها المختلفة. ؟ في سياق ذلك؛ جرت صياغة جملة من التراكيب المنهجية المعبّرة عن خصوصية العلوم الإسلامية، بينها منهجية أسلمة المعرفة في تجلياتها المتعددة، والمدارس المقاصدية، واتجاهات الأسلمة الحضارية التي تتنامى في أوساط المفكرين المسلمين في الغرب خاصة. ما هو تقييمكم لهذه المسارات في الوقت الراهن؟ - هذه المدارس التي وردت في سياق سؤالكم، هي مدارس قد أنشئت في ظروف معينة، وفي واقع فرَضَ على منشئيها التعامل بهذا المنطق، من أجل إيصال أفكارهم ولو كانت الصياغة صياغة غير علمية، أو تكتنفها العديد من الصعوبات. وهذا ليس تشكيكاً في النوايا أو مقاصد المؤسسين، ولكنها الرؤية الموضوعية لواقع هذه المدارس، التي لم تنشئ إلا ثوباً جديداً قد تمّ اقتناؤه من الثقافة نفسها والتي تحدثنا عنها سابقا. بمعنى أن البنية المؤسّسة للفكر الديني الإسلامي، كانت وما زالت هي الحاضنة الرئيسية لهذه المدارس. وبالتالي فإن أي حديث عن إنتاج معرفي خارج النسق المعروف سلفاً، سيصبح مستحيلاً ضمن هذا السياق المعرفي. ولا شك أن الواقع العربي الإسلامي هو جزءٌ من واقع أكبر، تتداخل فيه الأحداثُ والعوامل المختلفة، لتؤسّس لبناتها هي الأخرى في هذا الصرح سلباً أو إيجاباً. ومن هنا كانت هذه المدارس تبحث لها عن موطئ قدم، أمام هذا التقدّم الهائل في العلم والمعرفة، عن طريق محاولات التوفيق بين ما توصل إليه الإنسان من خلال بحوثه وبين الأصول الفكرية الثقافية بشكل عام. ولعل أهم مدرسة قد تبنّت هذا الخط التوفيقي بين مستجدات العصر، وبين الأصول الفكرية الدينية هو تيار أسلمة المعرفة عموماً. ولا شك أن التأصيل الفكري لهذه المدرسة كان يحاول المزاوجة بين العلم والدين. وبالتالي ردم هذه الهوة المتوقعة والناتجة عمّا يمكن أن يصطدم مع المعارف الدينية لهذا الاتجاه أو ذاك. الوقت - نادر المتروك: يرى الباحث يوسف هريمة أن جزءاً من الأزمة الفكرية الدينية المعاصرة هو عدم الاعتراف بأن ما أنتجه العقل البشري، سواء اصطبغ بلون الدين أو غير الدين، هو إنتاج بشري يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. ولا ضير أن يكون الكل سواء أمام العملية النقدية، وأن يكون عملنا عملاً تراكمياً يعتمد الاستفادة من الآخر بشكل أو بغيره، لا أن يكون إلغائياً له عن طريق عرضه على ما كرّسته ثقافة معينة، وألبسته لون الإسلام أو غير ذلك . في الجزء الثالث من الحوار، نواصل مع هريمة نقد تياري الأسلمة والمقاصد، والاتجاهات الحضارية والتي لا تعدو، بحسب هريمة أن تكون ضرباً من المحاولات، التي تحتاج أيضاً الكثير من الشجاعة، لتجرأ على اقتحام العملية النقدية بكلّ تجلياتها. وإلا فسيكون مشروعها هو المشروع نفسه لسابقاتها، أي مجرد عمليات تجميل لواقع متأزّم أصلا، لا يمكن الخروج منه إلا بالتشخيص وإعطاء الحلول الحقيقية . * ما هي قراءتكم التحليلية لتيار أسلمة المعرفة؟ - هريمة: أخذ هذا التيار ينمو ويأخذ شكله المؤسساتي، من خلال منظمات وندوات فكرية تُلقى هنا وهناك، إلى أن أصبح تياراً ذا مشروع بديل حسب تصوّره لهذا البديل الحضاري. ولكن بالرغم من المجهودات التي تبذل هنا أو هناك، يبقى السؤال مطروحا على هذا المشروع، الذي يجعل من العلم رافدة أساسية في خطابه: هل في العلم تصنيفات إيديولوجية؟ هل يمكن أسلمته؟ وما معنى أسلمته؟ هل عرْضه على مقررات الفكر الإسلامي يجعل منه إسلامياً في مقابل آخر غير إسلامي؟ وغير ذلك من الأسئلة المستعصية على الفهم. وفي تصوري؛ فليس هناك أي بوادر إصلاح حقيقية، يمكنها أن تأتي من أي مشروع يكون أساسه التحيّز. وهذه المدرسة تعتمد في تعاملها مع كلّ ما أنتجه الآخر تعاملاً إيديولوجياً محضاً، بعرْضه على مقرّراتها واستنباطاتها وأصولها المعرفية. فما توافق معها أخذ وما لم يتوافق معها أصبح غير إسلامي في تصورها. والخطير في هذه الرؤية وغيرها من الرؤى، أنها تخلط بين الفكر الديني المتمثل في كلّ الاجتهادات الإنسانية قديماً وحديثاً، وبين الدين كمشروع إنساني مجرد. إذ إن محاولاتها التوفيقية تصبح هي الإسلام وتصبح فيصلاً بين العلم الإسلامي وبين غيره. وعليه؛ فإن المقاربة المعتمدة من طرف هذا التيار الفكري، بالرغم من المجهودات التي يمكن أن يؤتيها مثل هذا التصور، تبقى مقاربة غير متكاملة. لأن بنيتها هي بنية ثقافية وفق عصر من العصور، وزمان ومكان معينين. إضافة إلى البعد التحيزي في نظرتها للعلم، الذي لا يمكن إلا أن يكون محايدا في حقيقته الموضوعية. والإنسان هو الذي يحرك نتائجه سلبا أو إيجابا. فليس هناك أي علم إسلامي وآخر غير إسلامي. وإنما هناك علم وهناك إنسان يوجهه الوجهة التي يريدها. * وماذا عن التيار المقاصدي؟ - هريمة: أما التيار المقاصدي فقد بُنيَ هو الآخر على قاعدة ثقافية مرتبطة بنشأة علم المقاصد الإسلامية، أي ما يسميه الأصوليون نظرية الشاطبي في المقاصد. وقد بُنيت هذه الأصول على خمس كليات كبرى قالوا إن الشرع يدور حولها. تتمثل في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وقد مثلوا لكل كلية من هذه الكليات الخمس بأمثلة تطبيقية مستقاة حسب منظورهم الفكري والعقدي، مما قد يطلق عليه ثنائية الكتاب والسنة. وأنا هنا إذ أريد أن أقنع نفسي بصدق ما تحمله هذه النظرية، ومشروعها الإنساني كما تزعم لنفسها، أريد في الوقت نفسه أن أخضعها للمجال التجريبي كما هو حال كلّ النظريات الفكرية التي يكون منشؤها العقل المجرد. وأنا هنا لا أريد أن أستبق النتائج لأعلن موقفي من هذه النظرية سلبا أو إيجابا. وإنما أهدف بشكل أو بآخر إلى وضع ما يمكن أن يكون لبساً نظرياً عن طريق التلفيق والتزوير على المحك الحقيقي. فإن كان نافعاً للناس حاملاً مشروعه الإنساني فسيمكث في أذهان الناس وسيحمل مقومات الدفاع عن نفسه. وإذا كان مجرد قالب فارغ قد تمت زخرفته من الخارج ليسحر أعين الناس ويسترهبهم، فسرعان ما تنكشف حقيقته بمجرد إطلالة بسيطة على هذا الخواء. نسبيّة العلوم الدينيّة ومحوريّة الإنسان * قبل إتمام نقد مدرسة المقاصد، فإن كلامكم الأخير يتصل مباشرة بمشروع نقد العلوم الإسلامية، مما يستوجب التوضيح قليلا. - هريمة: عند تناول أي قضية تهدف إلى مساءلة نقدية لعلم من العلوم خاصة العلوم المرتبطة بالدين، يجب استحضار ما يمكن أن نصطلح عليه بنسبية العلوم الدينية. وقد يبدو الكلام تبسيطيا ومجرد تحصيل حاصل عند البعض. لكن الغوص في عمقه ومراميه يعكس حقيقة أزمة الواقع الديني بشكل كبير، حين جعل من هذه العلوم علوماً فوق البشرية، وارتفع بها عن النقد والمساءلة من خلال مقولات وقواعد واهية، أصّلت لبقائها محفوظة من سهام كلّ مقترب لبنيتها تحليلاً أو نقدا. ونظرة إلى الواقع الإسلامي بعلومه المختلفة تصدّق ما أكدناه، حينما اعتبر علومه قد جاوزت القنطرة ونضجت واحترقت، ومثل هذه المفاهيم الرامية إلى الارتفاع على سقف الإنسان، دونما أي منطق علمي. * وبما أننا بصدد علم المقاصد، فما الذي يمكن تطبيقه نقدياً على علم الأصول؟ - هريمة: علم الأصول واحد من هذه العلوم التي لم تنشأ من فراغ، ولم تحافظ على أسسها بالشكل المعروف حالياً، إلا من خلال هذه القواعد والقوالب الفكرية الفارغة المحتوى التي تفصل بين النظرية والتطبيق. كما أن المقاصد، وهي فرع من علم الأصول، لم تنلها أيضا يدُ النقد لما قد شرحناه آنفا. وعليه فلا بد من التذكير بنسبية هذه العلوم، لنخطو بجسارة في ظل ما هو نسبي بشري، ولنتمكن من تفعيل حريتنا وحقنا فيما نعتبره نقداً حقيقيا لبنية هذه العلوم الإسلامية بعيداً عن المزايدات أو المناقصات. * من أجل التوضيح، نكتفي باختيار كلية من الكليات لأجل تشريحها نقدياً، وهو مقصد حفظ الدين، حيث إنكم كتبتكم في ذلك. - هريمة: لعل الخطأ الأول في هذا الترتيب أنه قدّم عنصر الدين على عنصر الإنسان، ونسى أو تناسى أن الدين للإنسان وليس العكس، ولو نزعنا عنصر الإنسان، بصفته صاحب الريادة داخل المنظومة الكونية، لاختلت المعادلة، ولما عاد للدين أي دور أو هدف. وقد يبدو لناظر أننا ننطلق من نظرة معادية للدين أو ما شابه. ولكن الأمر يختلف هنا ونحن نتناول قضية لها وزنها وتبعاتها على مختلف المستويات. فحفظ الإنسان هو أولّ كلي يمكن أن نتحدّث عنه، ولا توجد أي إيديولوجية سواء كانت دينية أو غير دينية، إلا وركزت على البعد الإنساني ليجد خطابها المصداقية والواقعية أيضا. والدين نفسه لا يخرج عن هذا الإطار العام لأي تصور فكري أو ثقافي آخر. فإذا غاب الإنسان غاب الدين، وغابت معه كل الحمولات الثقافية التي يدعو إليها. وبالتالي لا يبقى أي مسوغ لهذا الترتيب المغلوط والإيديولوجي في الوقت نفسه. تجاوز ثقافة العصور القديمة * هذا خطأ يمكن ملاحظته في عموم البحوث الأصولية والفقهية أيضاً. ما هو الخطأ الثاني أيضاً؟ - هريمة: الخطأ الثاني في المعادلة الأصولية، أنها لم تبن بناءها على قواعد القرآن والفكر الإنساني الحر، المؤمن بحرية العقيدة والفكر. وهي ليست بدعاً من العلوم الإسلامية التي أبت أن تبتعد عن النص القرآني في الكثير من الأحيان، متوسّلة إليه عن طريق الاستشهاد لخدمة هذا التوجه أو ذاك. إن الكثير من نصوص القرآن تنطق بشكل واضح في تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله إيجاباً وسلباً، وتنهاه عن تعليقها بأسباب خارجية، وذلك حين ربط مسؤولية التغيير بالإنسان في قوله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . فكل مخلوق مسؤول عن نفسه، تترتب على أفعاله نتائج تحدد مصير حياته، وعلاقاته مع بيئته، ووسطه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. هذه المسؤولية انبثقت من فكرة حرية الاختيار التي دعا إليها الدين عموماً. وهي الكفيل الوحيد لصناعة السلام العالمي، وبناء الحضارة الإنسانية المتجاوزة للحساسيات الدينية والثقافية، وغير ذلك من الأمور التي تشعل فتيل الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، وتذيب جهود البشرية في بناء ثقافة السلام، الغائبة وراء الحسابات السياسية، أو التأصيلات الدينية الفاقدة للشرعية الإنسانية. فالدين سلوك رشيد لا سيف على رقبة الناس لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . ولكلٍّ الحق في التدين أو غيره وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومنْ يحمل سيفه لإلزام الناس على تبني تصور معين، أو الركون في نمطية خبيثة، فهو مجرم بكل المقاييس سواء كانت دينية أو غير دينية فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر . .
*- نشرت الحلقة الأولى من الحوار في صحيفة الوقت البحرينية: - عدد 579 - السبت 10 رمضان 1428 هـ - 22 سبتمبر 2007 - عدد 580 - الأحد 11 رمضان 1428 هـ - 23 سبتمبر 2007 - عدد 581 - الاثنين 12 رمضان 1428 هـ - 24 سبتمبر 2007
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عين على منهج إبراهيم ابن نبي في قراءة القرآن*
-
القرآن ومنطق الإقصاء
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
الشفاعة المحمدية والامتداد العقدي المسيحي
-
الفكر الإسلامي وأزمة البنيات المُؤَسِّسَة
-
حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة
-
ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
-
أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
-
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
-
علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
-
الأديان ومستقبل الإنسانية
-
نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي
-
القرآن الكريم والتسلط باسم الدين
-
ثقافة الشيخ والمريد وأزمة الفكر الديني
-
العواصم الثقافية ورهانات المستقبل
-
النص الديني بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|