(( المثقف المباع هو مزيف قبل كل شيء ))
جان بول سار تر
أسئلة تبوح بالإجابات
عبر مقالته: 0 – مثقفون ... لا رعايا- يقدم د. طيب تيزيني رؤية جد مهمة في مستهل المقال اذ يشير إلى عدوى محاكاة البريق الخالب لأنظار وألباب كثيرين: أفراداً – وجماعات – ومؤسسات ممن يرون أنه ( لم يعد العالم يحتمل أكثر من هوية واحدة هي هوية "السوق الكونية السلمية" التي تبتلع كل الهويات الأخرى المثمرة تاريخياً مثل تلك المتمثلة بالمفاهيم المذكورة، وتحييي كل الهويات الأخرى غير المثمرة تاريخياً، مثل الطائفية والعرقية والشوفينية والعنصرية).
موت المثقف
ضمن هذه الحالة الجديدة، إذا جازت التسمية، يتناول المفكر تيزيني واقع المثقف الذي يُروَّجُ على أن دوره قد انتهى في مجتمع السوق، والعولمة، وأنه قد صار ذا (عقل عملي) و (يعمل بطريقة الرابوت)، خصوصاً وأن المرحلة السابقة، وتحديداً في بضعة العقود الماضية غدا فيها المثقف تابعاً ومسوّغاً لفعل السياسي مادام أنه قد ربط مصيره بمصير "مسؤول في الدولة والمجتمع أو آخر ثانياً، وبمقتضى ثلاثية: المال والجنس والأجهزة الأمنية" .
ثم يروح د. تيزيني بعد هذا ليحدثنا عن تفسخٍ حقيقي لضرب من المثقفين تحولوا إلى " مخبرين وكتبة تقارير عن زملائهم الذين وجدوا أنفسهم على حد السيف.. وسنلاحظ حقل النشاط الذي مارسته تلك الفئة كان يتسع أكثر.. فأكثر مع اتساع الهيمنة على قطاعات المجتمع بكليتها، حيث راحوا ينتشرون عمقاً وسطحاً وخصوصاً في المؤسسات الجامعية والثقافية العامة.."
وإزاء هيمنة هذا الأنموذج الببغاوي، المصفق من المثقفين سادت حالة التصحر الثقافي، بحق ، إذ بدأنا نجد أنفسنا أمام حالة تدعو إلى الخوف حقاً على مستقبل الثقافة، لأن هؤلاء "المثقفين" هم في حقيقة أمورهم أشباه مثقفين ،فحسب، ماداموا في نهاية الأمر "دون إنتاج ثقافي" ودون ضمير مهني ، ودون شرف وطني قومي، فأنتجوا بهذا وذاك حالة من الخراب الثقافي والمهني والوطني والقومي لايزال الوطن يئنُّ تحت ضرباتهم".
أخلاقيات أشباه المثقفين
بجرأة جد كبيرة، يفضح د. تيزيني المثقفين المزيفين الذين هاجسهم،الرئيس هو: الذات والغرق في متاهاتها، ونرجسيتها، مبتعدين من حيث الجوهر عن القضايا الكبيرة والرئيسة مادام أن هؤلاء يتحركون ضمن معادلة نفعية بذيئة للغاية، وهاهو ذا يرسم صورة فوتوغرافية طبق الأصل عن واقعهم: "لقد راحوا يتلقون المال من
سادتهم، والمتعة من مرؤوسيهم خصوصاً النساء منهم" والثناء من رؤسائهم وإذا ما حاول مثقفون "آخرون" طرح ما يرونه من ضرورات مواجهة تلك "الفئة" بإظهار البدائل الثقافية والأخلاقية والوطنية القومية، فان هذه كانت تمتلك ما يتيح لها أن تنهي المحاولة عبر التشكيك في مصداقيتها الموزعة على تلك الحقول: الثقافية والأخلاقية والوطنية القومية، وكذلك على حقل أكثر حساسية وهو التشكيك بمصداقية الانتماء والولاء لرأس النظام" انتهى كلام د. تيزيني حرفياً..
بديهي، أن مثل هذا التشريح لديدان طحالب الثقافة، ومتسلقي جدرانها، وحاملي مفاتيح أبوابها، وسدنتها المزيفين، هو واقع حقيقي ، معروف، لا يبذل المرء جهداً لاكتشافه، فهو واقع واضح للعيان، إذ نشأ،بحق، أنموذج من الكتبة الذين سرعان ما يلجؤون إلى تخوين الآخر، ودفعه إلى الهاوية، من خلال تأليب "أولي الأمر عليه"لأسباب جد تافهة، فالآخر عندهم باختصار: كل من يقف عائقا أمام تحقيق ضروب نزواتهم ومتعهم التي سبق وان تحدث عنها الكاتب ضمن حدود تلك الثلاثية، فهو مارق، متآمر، معاد غير جدير بالثقة.
موت الثقافة
لعلَّه من الطبيعي، إذا كان المثقف غير فاعل البتة، ألا تكون هناك ثقافة أيضاً، ونعني هنا الثقافة الفاعلة، الجماهيرية..
ومن الإنصاف القول: إن المدرسة إذا كانت هي التي تقدم الفباء الثقافة، فهي تفرغ عربياً من محتواها، وذلك من خلال تقهقر واقع التربية والتعليم، رغم غنى الخطط والبرامج والمؤتمرات وقد يكون بؤس واقع المعلم الذي يكاد راتبه الشهري لا يكفي ثمن أجرة منزل، أو مجرد وجبة طعام أول أسباب تردي الواقع التربوي وإذا انتقلنا إلى الجامعة، التي يفترض أن تكون موطن ثقافة حقيقية، نجد إن واقع البؤس هذا يتضخم، ويصبح ملموساً بأكثر، ليس لهجرة العقول، أو الإحجام أو التحجيم عن الدراسة الجامعية، فقط، بل وكذلك من جراء إفساد أساتذة الجامعات، ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين أو ربما "مفكرين" وأيديهم تلهث وراء المال، أو المنصب أو الأضواء الزائفة، ناهيك عن أولئك الذين يمنعون في إذلال الطلبة من الذكور والإناث، الأولين بـ: المال والأتاوة، والآخرين بـ: الجسد الأفعى "
رعايا.... لا مثقفين
إزاء هذا الواقع الأليم، لم يعد المثقف عنصرا فاعلاً في المجتمع الذي يتطلب جهوداً كبيرة من قبل طليعة المجتمع – على نحو خاص – للنهوض به، وتفعيله، والاستفادة من طاقاته الكبيرة، بل غدا المثقف على العكس مسهماً في الخراب، حادياً في التخريب... مفروغاً من الدور المنوط به كحامل أسئلة، رائد، وهذا ما يوازي مرامي النظام العولمي الذي يدعو إلى "نعي المثقف" بل ويخدم الدعوة نفسها، ويسهم في تشكيل مفهوم أولي يوحي لأول وهلة بخلاص مجتمع "ما بعد الحداثة" عبر سفينة الوهم والضلال، عموماً، إذا كان عنوان مقال د.تيزيني هو: ((مثقفون..... لا رعايا)) فإن هذا هو المطلوب الآن أمام الحالة الراهنة التي تتطلب تضافر جهود الجميع،بعامة ، والمثقفين منهم: بخاصة، وهو ضرورة، وحاجة لا غنى عنها لتجاوز هذا الراهن المشين، إلا أن انهماك "المثقف" في حالة المتعة الرخيصة، والانشغال بـ ((الخلاص الفردي)) مما أديا به في آخر الأمر إلى تشكيل حالة مغايرة للمطلوب وهي: رعايا لا مثقفون.
سمات المثقف الزائف
يشخص د. تيزيني سمات المثقف الزائف الذي لا يجهد نفسه بحمل النار البروميثيوسية، ولا حتى بلعنة الظلام على غرار المنهزم الذي أشار إليه وفضحه كونفيشوث في الجزء المعتم من معادلته، ولعلَّ هذا المثقف عينه قد أنتج حالة يصفها حرفياً:
1- إنه نظام ملفّق من مجموعات وفئات معظمها لا ينحدر من الحقل ((الثقافي)) وإنما من مصادر أخرى مختلفة : موظفين وعمال ونقابيين، وآخرين متفرغين لشؤون أخرى، بدعوى ضرورات الأمن الوطني أو القومي!!!.
2- ويفصح النظام الثقافي المذكور عن نفسه بمثابة جموع بشرية تكون عبئاً على الحياة الاقتصادية الإنتاجية – على ضآلتها – عبر استهلاكهم "ما ليس له حساب" من الأموال أو مالاً يدخل في الميزانية العامة)).
3- ومن طرف آخر، يبرز النظام الثقافي المعني، بقوة، بوصفه كذلك، ومن ثم هناك نمط من الأيديولوجيا الزائفة تسعى إلى تكسير الحدود وخربطة الأوراق على صعيد الفريقين، فريق هؤلاء المثقفين أنفسهم، وضمن أوساط السواد الأعظم من الشعب.
4- على هذا النحو، يظهر النظام المعني من حيث هو بنية مغلقة، ترفض ما ليس منها، وتدينه، وتنتج نفسها وتعيد إنتاج نفسها على نحو مطرد، وضمن وظيفة الترسيخ المباشر وغير المباشر للنظام السياسي القائم وملحقاته.
5- وبهذا، يصبح ذلك النظام الثقافي واحداً من أخطر العوائق أمام عملية التحديث والإصلاح والتطوير الوطني والقومي الديمقراطي..
إذا كنت قد أوردت حرفياً فيما سبق سمات المثقف – كما قدّمها د. تيزيني، فذلك بالتأكيد، لإحساسي إن أي اجترار منه، أو إضافة إليه، إنما يخل بالتشريح الدقيق لحالة خطيرة، وواقعية، بدأ المثقف الحقيقي –و- القابض على الجمر- مطالباً، بتعرية أوراق الحالة، وتناولها، ومقابلة الوجوه كلّها، كجزء من الدور المطلوب من المثقف العضوي الفاعل في برهة التحول التاريخية الأكثر إحراجاً على الإطلاق..
تكريس اللاتكريس
لا يتعرض د. تيزيني من خلال تناوله وتشخيصه لواقع المثقف العربي، توصيف صورته في محض لحظة، أو زاوية سوداودية، بفرض تأطيرها، فحسب، وإنما هو يذهب أبعد من ذلك بكل تأكيد، فهو يدين ما هو كائن ضمن حدود البرهة المرصودة، أو الراهنة، بغرض تشكيل حالة لإعادة النظر فيما هو واقع، سكوني، لأول وهلة ومؤكد أن هذه السكونية، ليست مجانية، من صنع المصادفة، أو القدرية، بل هي حصيلة جملة أسباب، سبق وأُشير إليها، بل تأتي كنتائج لمقدمات موضوعة بإتقان شديد، مادام إنه يدرُّ على نخبة الامتيازات بكلّ مالذَّ وطاب، على خلاف السواد الأعظم من المثقفين ومن يراد أن يظلوا ظلال فضاء لوحة الواقع قطيعا بشرياً لابدّ من وجوده كي تتم المفارقة الكاريكاتيرية في أقصى حدودها الواخزة للضمير الإنساني..
ومن هنا، فالكاتب يشير إلى أن ما يُشاع من شعارات يكررها بعضهم ضدّ ذواتهم، ببغاوياً مثل نهاية التاريخ – نهاية المثقف – حتمية العولمة- إلخ.
إنما هدفها الأول: تكريس ما هو قائم، لا كسر شرنقته والخروج منه، وعليه، في آن واحد، وطبيعي إن خير مناخ ملائم لنشر الرؤى، هو إبقاء مفردات التخلف على راهنيتها – تخلف – تمزق – ناهيك عن عامل القمع الذي لابد منه في مثل هذا المقام، بغرض الإمعان في التكريس و – استدامته – بلغة د.تيزيني نفسه، وإذا كان المفكر، قد وضع إصبعه على الجرح، وقام – كما ذكرت – بتشخيص الحالة، وتحليلها، إلا إنه في نهاية المقال أبقي الإجابة مفتوحة. يقول: ما العمل حيال هذه الوضعية الإشكالية التي يمكن وراءها من القوى السياسية و " الثقافية" ما يسعى إلى تكريسها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال الكبير يدل في سياق تفحص مجموعة من الخيارات الاستراتيجية التي لابد من ضبطها وتقصيها والوصول إلى ما هو أقرب إلى المصداقية المعرفية والأيديولوجية والسياسية، ويمكن هنا _ تسجيل بعض الملاحظات الخجولة على مثل هذا الحديث: -
1- د. تيزيني واحد من قلة قليلة من باحثين ممن يسجلون – وبحق – مقاربة مهمة لفهم الواقع ولعل تشخيص أية حالة مرضية هو نصف العلاج كما يقال.
2- إن الإجابة شبه الشاعرية في خاتمة المقال لا تقلل من أهمية الإجابة الحقيقية في متن المقال بعامة.
3- مادام إن د. تيزيني مشروع فكري خاص في هذا المجال، لذلك فإن أية آراء بهذا الصدد، من قبله، هي في الأصل موفورة وبكثرة في عدد.
من دراساته ومواقفه ومقالاته التي استطاعت أن تدلي هي الأخرى بدلوها، وتثير أسئلتها المهمة بهذا الشأن، انطلاقاً من فهم متقدم للدور المطلوب من أي مثقف / وطني وحقيقي في أحرج لحظة تاريخية حتى الآن...