|
مع المتنبي في مقهى
عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 2055 - 2007 / 10 / 1 - 12:16
المحور:
كتابات ساخرة
جاء المتنبي كما إتفقنا على تمام الساعة الحادية عشرة قبيل الظهر. كنتُ أنتظره جالسا في إحدى مقاهي الأرصفة إذ كان الموسم صيفا. حياني وخلع قبعته الأوربية ثم جلس. كان يبدو منضبط الحال مسيطرا كأنْ قد نام الليلة الفائتة نوما جيدا. إختفى شحوب وجهه وكان كعادته حليق الوجه والشارب. سألته ماذا يود أن يشرب. قال أشرب القهوة المرّة. ثم سألني ماذا شربتَ أنتَ؟ قلت شربتُ الكابوجينو Cappuccino . قرّبَ صفحة وجهه مني مستنكرا مستغربا وسألني ماذا قُلتَ؟ قلتُ قد شربتُ الكابوجينو. قطّبَ ما بين حاجبيه وشرع يحاول تلفّظ هذا الإسم الإيطالي الصعب. فشل. لم يستطع تلفّظ أو تهجي هذا الإسم. سألني أن أوضّح له معنى هذا النوع من المشروب وهل فيه بعض العسل أو شيء من الغول. شرحتُ له الأمر في شيء من التفصيل الممل. قال لم أجرّبه سابقا ولم أسمع به لا في حلب الشهباء ولا في فسطاط الخصي الأسود كافور. قلتُ أوَلهذا السبب كنتَ قد ذممتَ وشتمتَ هذا الكافور مراتٍ لا حصرَ لها ولمزته مُشيرا إلى أنه يعاقر الخمرة ببيتك الشعري الرائع الذي قارنتَ به ما بين هذا الرجل وسيف الدولة فقلتَ :
ما الذي عنده تُدارُ المنايا كالذي عنده تُدارُ الشَمولُ
قال إي ورب الكعبة !! ما كان الخصي ليشرب إلاّ الخمور فيزداد سواد غرته توهجا ولمعانا ويغدو كالشمس المنيرة السوداء. علما أنَّ البن اليماني والحبشي كانا معروفين يومذاك في مصر. وكان شراب سواد الناس مزاج العسل والماء ثم اللبن بنوعيه الحلو والحامض الخاثر. قلتُ له قد ذكّرتني ببيتك الشعري الذي وصفتَ به كافورا حيثُ قلتَ ساخرا سخرية مبطّنة ومفضوحة في عين الوقت :
تفضحُ الشمسَ كلما ذَرَت الشم سُ بشمسٍ منيرةٍ سوداءِ
قال بل قلتُ فيه ما هو أشنع من ذلك فلم ينتبه الغبي وتقبّلَ ما قلتُ على أنه مدح خالص لوجه الله، حتى لفتَ نظره بعض رجال حاشيته ممن يفقهون الأدب والنحو والبلاغة. قلتُ هلاّ ضربتَ لي مثلا يا أبا مُحسّد ؟ قال لِمَ لا، وأنشد قائلا :
وكم لظلامِ الليلِ عندكَ من يدٍ تُخَّبِرُ أنَّ المانويةَ تكذبُ
وكان تهكّمي في هذا البيت من كافور وهجائي له في غاية الوضوح. قلتُ له إنَّ سوادَ وجهك وجلدك يُكذب نظرية " ماني " الذي إدّعى أن النورَ خيٌر وأن سوادَ الظُلمة شر. دعوة ماني باطلة، فسوادك إنمّا هو الخير بعينه. ثُمَّ، وفي نفس القصيدة واصلتُ القول الفكاهي الساخر فلم يعترض ولم يستوضح ولم يطلب مني التوقف عن قراءة بقية أبيات القصيدة التي قلت فيها :
أبا المسكِ هل في الكأسِ فضلٌ أناله فإني أُغنّي منذُ حينٍ وتشربُ
يُضاحكُ في ذا العيدِ كلٌّ حبيبَه حِذائي وأبكي مَن أُحِبُ وأندُبُ
واصل المتنبي حديثه الشيّق قائلا : كان الرجل - لا عافاه الله - نتن رائحة ما تحت الإبطين. وإسمه كما تعلم كافور. لذلك خاطبته بأبي المسك لأطرد عن أنفي هذه الرائحة الكريهة. ثم لعله يفهم إشارتي أنَّ جسده الأسوّد نتن الريح وأن عليه وهو يجلس لإستقبال كبار ضيوفه أن يستحمَّ ويغتسل وأن يتطيب ولأكثر من مرة في سواد يومه. هكذا رأينا ملوك زماننا. ومن أين تأتي لأمثاله الملوكية وطبائع الملوك وقد قلتُ فيه يوما :
أرانبُ غيرَ أنهمُ ملوكٌ مُفتَّحةٌ عيونهمُ نيامُ
ثم أي نوع من الرجال كان هذا العبد الأسود؟ أما لماذا قلتُ ( أبا المسك هل في الكأسِ فضلٌ أنالهُ / فإني أُغني منذ حين وتشربُ ) فلهذا البيت قصة. زرته مرة لأقدّمَ له تهاني العيد فوجدته يعبُّ مما لذَّ وطاب من أنواع الأشربة والخمور. وحين شرعتُ بقراءة قصيدتي تركني وإنصرف عني لشرابه ولندمائه . تجاهلني كأني ما أتيتُ لأفدّمّ له تهاني العيد. بالطبع ما كنتُ أغني وما كنتُ أميل للغناء أصلا. وفي مناسبات الطرب والموسيقى والغناء الأخرى ـ وما كان أكثرها ـ كنتُ أراه يهتزُّ مع كؤوس الراح ومُعَتق الخندريس طربا ونشوة ً وسُكرا ً فتضيع أمامه الدروب ويفقد سيطرته على أصابع يديه فتندلق الخمرة على ثيابه الفاخرة. وأخيرا ً يفقد وعيه فيحمله خدمه وخاصته إلى قصره كالميت ذراع هنا والأخرى هناك. لم يجرؤ أحد أنْ يُعلّق أو أن يضحك. وكان طريقي الوحيد إلى الضحك عليه والسخرية منه هو طريق القوافي، الصريح منها والمُبطّن. لقد رأيته - بإختصار شديد - أغبى إنسان في الوجود. وقد تعلم أني أيضا قلتُ فيه :
أكلّما اغتالَ عبدُ السوءِ سيدَه أو خانه فله في مصرَ تمهيدُ
جوعانُ يأكلُ من زادي ويُمسكني لكي يُقالَ عظيمُ القدرِ مقصودُ
جُودُ الرجالِ من الأيدي وجودهمُ من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
شرب فنجان قهوته المُرّة حسب طلبه بدون حليب وبدون سُكّر. كان يترشفها وهو منسجم في حديثه وذكرياته المُرّة مع كافور الأخشيدي في مصر على مهل وببطء مُتَعَمّد. وكان يرفع فنجان قهوته أحيانا ويُقرّبه حتى يُلامس شفتيه ويتركه هناك هُنيهة دون أن يتناول منه شيئا ثم يضعه ثانية في صحنه ليُغرقَ وجهه في سحابة كثيفة من دخان سيجارته. كان واضحا أنَّ للرجل في مصر ذكريات عزيزة رغم مرارة تجربته مع أميرها كافور. ذلكم أمر طبيعي ومتوقع. هذه سُنن الأمور في الحياة وطبائع البشر. ما كانت كل أيامه نَكَدا وتربّصا به من قبل أعدائه من جهة وترقبا منه لهؤلاء الأعداء من الجهة الأخرى. وكان له في مصر صديق مدحه في واحدة من روائعه هو أبو شجاع فاتك المعروف بالمجنون (( الذي قدم من الفيّوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار فقال يمدحه )) ...حسب ما جاء في مقدمة هذه القصيدة من الديوان :
لاخيل َ عندكَ تُهديها ولا مالُ فَليُسعدِ النطقُ إنْ لم تُسعَدِ الحالُ
وحين توفي أبو شجاع فاتك بمصر سنة خمسين وثلاث مائة رثاه الشاعر بقصيدتين قال ضمن ما قال في الثانية البيت الذي شغل الكثير من نُقّاده وعاشقي شعره :
هوِّنْ على بَصَرٍ ما شقَّ منظرهُ فإنما يَقَظاتُ العينِ كالحُلُمِ ... عدّلَ الرجل من هيئة مجلسه. مسح رأسه بمنديله وظهر عليه شيء من أمارات الرضا وبعض ظلال من الغبطة. كان واضحا أنه بحاجة ماسّة لتناول شيء يُبلل به ريقه مع ميل جليٍّ للرغبة في تغيير مسار الحديث. كان كعادته خجولا متهيبا بالنسبة للطعام والشراب. لا يطلب عادة إلاّ إذا سُئل. لكنه لا يرفض شيئا إنْ عُرِض عليه. إقترحتُ عليه أن يُجرِّبَ مشروب الرومان، كابوجينو. قال إنها والله لفكرة جيدة رغم كثرة ما نازلتُ من الروم أيام أن كنتُ مع سيف الدولة في حلب. لقد هجوتهم وأذللتهم بدون رحمة مغلوبين أكانوا أم غالبين. كنا نُقاتلهم أشد قتال وفي قلوبنا الكثير من الوجل واضعين نُصْبَ العيون ما ورد من آيات في سورة الروم من القرآن الكريم : (( غُلِبت الرومُ. في أدنى الأرض وهم من بعدِ غَلَبهم سيَغَلِبون. في بضعِ سنينَ للهِ الأمرُ مِن قبلُ ومِن بعدُ ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون )). جاءت البنت الحلوة لتلبي ما نرغب فطلبتُ منها فنجاني كابوجينو. طلب المتنبي أن تجلب له مع ما طلبنا قدحا من الماء القراح. ترجمتُ طلبه لكن البنت الحلوة إعتذرتْ قائلة لا نُقدّمُ هنا ماء ً عاديا للزبائن. قلْ له أن يشرب بيرة أويشرب نبيذاً أوكولا أو عصير برتقال. آسفة. ثارتْ ثائرة صاحبي فإحتجَّ رافعا صوته لكنَّ البنت الحلوة لم تتجاوب ولم تلن. تركتنا والناس من حولنا في عَجبٍ من أمر هذا الرجل الأصلع ذي الصوت الملعلع والذي يبدو عليه كأنه حديث نعمة ومظهرٍ وملبس ( معيدي لندن ). قال بحدّةٍ موجها كلامه إليَّ : أهذه مدنيتكم التي تدّعون؟ تتركون الناس عطاشى والماء في فراتنا تلقُّ فيه السحالي والثعالب والذئاب والخنازير والكلاب؟ هوّنتُ الأمر عليه قائلا لا تنسَ يا أبا الطيب أنك في أوربا ضيفا جديدا ً. وأنَّ عليك أن تتأدب بآدابها وأن تتكيف وعاداتها وتقاليدها وأن تتخلق بأخلاق أهلها ولا مفرَّ من ذلك. أو أن تتركَ هذا البلد الذي آواك وأكرم مثواك كما آواني قبلك وأكرم وِفادتي بعد أن طردتني من داري ومضارب أهلي قبائلُ بني عبْس وبني أسد الذين قتلوا والدي وهتكوا حريمنا وأخذوا أراضينا بالقوة الغاشمة. إشربْ عزيزي عصير البرتقال أو كأس ماء معدني. طلب عصير البرتقال. هدأت سورة غضب صاحبي قليلا بعد أن أسرف في التدخين. قرأتُ في وجهه ما يشبه الموافقة على ما قلتُ وشيئا من الإستسلام الذي لا مفرَّ منه. الإستسلام للأقدار المفروضة على البشر. قال متنهدا من أعمق أعماق صدره (( ولكنْ معدنَ الذهبِ الرغامُ )). تجاسرتُ أن أفتعلَ بسمة منافقة خجلى لأبددَ عنه وعني بعض هذا التوتر والغضب الذي ما كان في واقع أمره إلاّ تعبيرا عن أزمة حادة ومحنة كبيرة واجهها المتنبي بعد أن أُضطر إلى مغادرة وطنه ومسقط رأسه. تفجّرَ غضبُ الرجل المأزوم أصلا عَلَنا مما أثار فضول جمهور مُرتادي المقهى. قلتُ له مداعبا إذا ً أنتَ تعرف المعادن يا أبا الطيب؟ قال متبسطا أجل، أعرف أنَّ الذهب الجوهر الصافي لا يكون إلاّ مخلوطا مع رمال بعض الأنهار أو مع الأتربة والصخور والأوشال. ثم أردف قائلا في لهجة تشوبها الفكاهة الساخرة : أما أنْ تقترح علىَّ فتاتك الحلوة المغناج قاسية القلب أن أتعاطى ماء المعادن والمعدان فلا وألف لا. ترك هذا البلد أفضل لي من الإدمان على تناول المياه المعدنية مشروبا ً. لم أستطع أن أُقنع الشاعر بنوافع المياه المعدنية سواء للشرب أو الإستحمام. أصرَّ أنَّ (( معدن الذهب الرغام )). قررنا مغادرة المقهى على أن نلتقي غدا ولكنْ في مقهى أخر، فإنَّ مقهى اليوم لم تعجب صاحبي. أو بكلام أكثر دقّة لأن البنت الحلوة إياها لم تخدم المتنبي كما كان يريد. لم تسقه كأس ماء عذب فرات بارد. أرادها أن تقدّمَ له الخدمات الجُلّى كأي جارية من جواريه في بلاد الشام والعراق ومصر. ولمّا آن أوان دفع الحساب أصرّ الشاعر مأخوذا بجذور طبائعه البدوية ومستلزمات كرم ريف العراق العشائري أن يدفع حساب الإثنين. قلتُ كيف تدفع حسابنا وأنتَ حديث عهد باللجوء وليس معك نقود كما أحسب؟ قال الحمد لله. إستلمتُ صباح اليوم أول دفعة من مخصصات اللجوء، وسأدعوك قريبا إلى غرفتي المتواضعة كي نأكل شوربة العدس ونشرب القهوة المُرّة وماء الحنفية البارد متجنبين دوخة الراس وذل طلب الماء القُراح في مقاهي أوربا. تذكّرتُ بعض شعر الجواهري (( ذُل السؤال جرعته فبخلتِ حتّى بالجوابِ )).
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء مفاجئ مع المتنبئ / وأد الجنس البشري
-
المتنبي والمِعرّي وفايروس الشيطان
-
المتنبي على فضائية كوكب المريخ
-
المتنبي : إنفجارات في ألمانيا وكوارث في العراق
-
بعد السقوط / المتنبي و ( الدفتردار مهدي الهوبزي ) -القسم الث
...
-
المتنبي مع فيصل وعمّار في ( موناسنزيّا )
-
المتنبي بين المركز الأولمبي في ميونيخ وستوكهولم
-
المتنبي في المسرح الألماني في ميونيخ
-
المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية
-
المتنبي وثياب الإمبراطور
-
روم المِعرّي
-
إبن رائق الموصلي
-
المتنبي في إيطاليا
-
المتنبي وأدونيس
-
السامري / أصل ومعنى الكلمة
-
الجواهري وقفص العظام
-
المتنبي وأبي العلاء المِعرّي - 15 -
-
دموع المتنبي / إلى الأستاذ ناثر العذاري
-
المتنبي ومحمود درويش
-
رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / إلى الأستاذ فاروق سلّ
...
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|