قرأت بشغف المجموعة القصصية الجديدة للقاص العراقي القدير إبراهيم احمد و المسماة ( لارا .. زهرة البراري ) والتي ضمت (11) قصة قصيرة و ابتدأت بقصة ( برج للحزن وبرج للفرح ) . وانتهت بقصة ( لارا ..زهرة البراري ) والتي حملت ايضاً اسم المجموعة القصصية.
فبقراءة موجزة لمجمل قصص المجموعة ، نجد إن قصة (برج للحزن وبرج للفرح) والتي أخذت مساحة كبيرة في المجموعة عالجت في الأساس موضوعاًً سياسياً ومن خلال وقائع حياتية ساخنة وعرضا مكثفا لأحداث وتنهدات عائلة عراقية خاضت غمار المأساة في ظل النظام الشمولي، وعايشت ظروف الحياة السياسية القاسية ، بحيث قدمت تلك العائلة المنكوبة في سبيل تحقيق تلك الغاية النبيلة الإبن الشاب (سلام) قرباناًً من اجل مبدئهم السامي لحين لحظات الموت العصيبة ، بالرغم من اتباع كل أساليب التنكيل والمطاردة من قبل اعوان دوائر الرعب بهم، وبعد شد الخناق بالعائلة من كل الأطراف ونفاذ الصبر الطويل على الممارسات اللإنسانية للسلطة الجائرة والتضييق عليهم من خلال مطاردة الفتاة ( نضال ) ومن ثم اختفاء نضال عن أنظار الشرطة السرية ،وبعد شهور من المراقبة الشديدة تضطر العائلة ان تتخذ ذلك القرار المر والصعب قرار الخروج من العراق، والهروب من العراق بمساعدة احد اصدقاء رب العائلة ، وبعد شهور على خروج العائلة العراقية المنكوبة من العراق والتقائهم ببعض الوجوه الكالحة المتسمة بكل علائم الخيانة والإرتزاق بدماء وتضحيات شهداء الأمس، و من ثم دهشتهم الكبيرة لانحراف بعض كوادر الجهة التي آمنوا لعقود طويلة بفكرها الثاقب ، ومن ثم نهايتهم المحزنة والقسرية في السويد، حيث منفى الروح والوطن وعيش ذائقة الماضي وكآبة الحاضر، وإصابة الأم المسنة رمز الأرض والكفاح الطويل بالجلطة القلبية وهذيانها المستمر في المستشفى باسم ابنها سلام ، وزواج ابنتهم نضال من شاب سويدي بالرغم من مخالفتها للدين والعرف المتبع في المجتمع العراقي المتشدد، وتشتيت تلك العائلة الملتزمة وانفراط عقد الأسرة الوطنية ، حيث تفرق وتشرذم كل فرد من افراد تلك العائلة بين دول العالم وبعد سرد ملف كامل للمأساة مع أم سلام والحوار الطويل مع الماضي ، تختتم الأم الحزينة مشوارها الموجع كطائر غريب تحت ظلال غابات السويد متأملة بذلك العودة السريعة الى أرض الوطن حتى رمقها الأخير في المستشفى السويدي.
فأجواء القصة بشكل عام تناولت شريحة منتقية من بين العديد من الشرائح العراقية المكتوية بنار الحروب والتنكيل ومن دون رغبة وإرادة العائلة المهاجرة ، فتناول القاص في معظم قصصه عوالم واستذكارات من خزين الذاكرة الحية، واستعانته بأحداث الماضي ، ولقد حرص القاص على على بعض التفاصيل الغير المملة من خلال عرضه الموفق لشخوص عراقية قلقة، من خلال تفاعلهم الحذر مع المجتمع السويدي ، وبعد معاناتهم الطويلة المفعمة بالشجن في الوطن المسّيج بالموت ، والتي تجسدت جليا ً في أحداث قصة ( الحذاء ) فمسالة الحذاء ورمزيتها وكفكرة بين زمنين وفضائين، كزمن السويد وخواطر من فضاء العراق ، وهو العراقي الذي يرمز لعمق الحضارة الإنسانية وفي جانبه الثاني هو رمز المصائب والمحن وجيل الحرب في العراق، وكوابيس الموت ، ومن ثم الوقوع لبراثن الموت البطيء ، عندما يغالبه طيف الوطن ليل نهار ، ، معدّاً الليالي الحزينة في المنفى السويدي ، دونما اختيار من أحد . وما قصة ( طوابع الدكتاتور ) في تلك المجموعة إلا استياء واضحُ وبيّن لأبناء الشعب من صورة الحاكم ، والتي فرضت عليهم مشاهدتها عنوة واقتنائها كضريبة إضافية بجانب الضرائب الكثيرة التي فرضت عليهم أينما ذهبوا فالقاص تمكن من توظيف الرمز ببراعة ومهارة عالية وتكثيفه للصور والمشاهد عند الإسترسال في الحوار مع الأطفال والمغزى العميق من وراء اقتنائهم لتلك الطوابع البريدية الباهتة ، ومن ثم تسليطه لل ضوء الكاشف والجميل لموقف موظف البريد من خلال تعبيره الراقي لكراهيته للدكتاتور وكراهية الشعب له عند تشويه الموطف لصورة الدكتاتور بالدمغة السوداء ومن خلال لصقه لطوابع صورة الدكتاتور على الرسائل ، فالتعبير في القصه،التقاط إنساني، لمأساة شعب أعزل وهو يعبر عن حالة الكراهية و الرفض للنظام المتسلط ، ونبذ العنف والحرب . اما قصة (وراء مرآة قديمة ) هي استذكار لحالات غير إنسانية ، وعرض ذكي واشارة معمقة لموقف بعض ادعياء السلام ومنظمات المساعدات الإنسانية للشعوب الفقيرة ،واستغلال عواطف الناس من خلال التبرع بالملابس والأغطية والمؤن للأهداف الإنسانية النبيلة ، وادعائهم الحرص في سبيل إسعاد الناس المعوزين في بعض الدول المنكوبة بالحروب والمبتلات بالكوارث ، وفي حقيقتهم لا يبحثون غير مصلحتهم الخاصة والبحث عن اقصر طريق الثراء والتجارة من وراء المساعدات وجمع تبرعات الإغاثة ومساعدة المحرومين ، فالقصة في حقيقتها إدانة وتعرية لشراهة تجار السلاح والحروب في العالم ، انها قصة امتازت برمزية بارعة من خلال كشفها لللبعد الإنساني ونسيج محتواها الفكري .
و قصص أخرى لا تقل جودة في الطرح والمعالجة الإنسانية وتحت عناوين مختلفة كقصة قطة بلا شعر ، و القطرة الأخيرة ، والكلب واللاعبون .وببغاء السيد يوهانسون ، ونبوءة الفجر ، وحامل المظلة . فأجواء هذه القصص رغم تنوع مشاهدها إلا أنها حملت كثيرا من أنفاس الشرق العراق من خلال التعامل الصادق معهم بصورة مباشرة وبصدق مع أحداث ووقائع المنفى والإبتعاد عن الأهل والأحبة نجد فيهن ملامح فنية معبرة حيث تستحق التأمل والوقوف بعيدة عن كل أشكال الثرثرة والابتذال ، رغم بعض الجوانب السردية لحامل المظلة وببغاء السيد يوهانسون والعنايه المفرطة للمحاور الفرعية في شخصية السيد يوهانسون إلا انها لم تفسد شيئاً من فضاء القصة ولم تقع ضحية مشاهد التقريرية والمباشرة في السرد .
فالقصة التي حملت عنوان المجموعة والمسماة بـ ( لارا .. وزهرة البراري ) إنها قصة عراقية خالصة من حيث السرد والحدث ، وكوردستانية المشهد واللقاء ، في سياق القصة نجد شابا وسيما في مقتبل العمر و يعمل كصحفي مغمور ، وبعد وقف القتال في كوردستان العراق يذهب مباشرة الى كردستان وكصحفي متدرب ضمن البعثة الإعلامية التابعة لوزارة الإعلام لتغطية الحدث ذلك الحدث السياسي الهام ، وفي بلدة- عقرة - يلتقي الشاب علي بعائلة آشورية طيّبة، فـ( لارا ) الحسناء هي بنت لتلك العائلة الكريمة ، الفتاة الجميلة ذات العشرين ربيعا، ووقوع الصحفي الشاب علي في غرام الفتاة لارا ، و يظل علي مدة من الزمن يكتم حبه وإعجابه بالفتاة في قلبه وذاكرته كحب برئ وخالد ، عندما يأخذ من لارا هدية تذكارية لتخليد هذا الحب النقي ( زهرة برية جميلة فواحة في عقب قنبلة فارغة بلون ذهبي حائل )
والتي حدثت وتمت تلك المحاورة الساخنة واللقاء على حافة وادي الحسرات ، الوادي الذي شهد مصرع الناس بكل مشاربهم ،هياكل بشرية مختلطة مع هياكل الحمير والسيارات والأشجار ، وعقب القنابل المنفلقة ، بمزامير الرعاة ، وبقايا كتب رجال الأيام الصعبة مع كتب المتصوفة ، في هذه القصة تشعر انك أمام حدث بالغ الجمال والدقة في التصوير ، وتحمل في طياتها لمحات عاطفية ، وإنسانية شفيفة ، ومن خلال لغة مبسطة ، بعيدة عن التكلف والإطراء . بداية القصة وتسلسل الأحداث وشخوصها جاءت موفقة ، والحبكة الفنية في البناء جاءت ممتعة غير مملة ، وكما إن خاتمة القصة حملت للمتلقي متعة الفهم ،مع متعة اللحظات الرومانسية التي طوتها صراع الانتماء والولاء ، دون الاكتراث لأتون القلب، وجذوة العاطفة التي لا تعرف الرماد .
وبإيجاز نسجل دهشتنا لبراعة إبراهيم احمد في مجموعته القصصية ( لارا .. وزهرة البراري ) بانه حقا صاحب لغة أدبية شيقة ، ، لغة هادئة ممزوجة بالتوتر والانفعال وذات نكهة ممتعة، من خلال توزيعه الذكي ومشاهدتنا لأحداث قصصه المنوعة بالألم والأمل وعلى مساحة زمنية معقولة ، انه قاص متمكن في اغلب قصص مجموعته فنيا وابداعيا وجريئا في طرحه للنماذج والشخوص العديدة ووفق انتماءاتهم الاجتماعية والسياسية ، وفي ظروف اجتماعية متشابهة ، من حيث المنفى والبعد عن الوطن والإندماج القسري بالمجتمع الجديد في السويد ، فتمكن من رصد حالات المنفى، بأسلوبه الشيق البسيط وكيفية التأقلم وصعوبة الإندماج مع الواقع الجديد، من حيث الأمكنة والمواقع ومدن وأجواء سويدية بحتة ، و كيفية إبراز تلك المشاهد وانسجامها مع أحداث وشخصيات المجموعة القصصية .
مع استغلال القاص بكفاءة للغة سلسة وجميلة من حيث أدائها لغايات كل قصص المجموعة، ومع الاسترسال لوقائع يومية ساخنة في المنفى السويدي ، مع تداخل بعض الأحداث مع تجارب القاص العميقة في المنفى ،من خلال بعض اللمحات الشاردة من تجربة العيش في المنافي لأكثر من عشرين عاما ونيف لذا جاءت تلك الأجواء كمعالجات لحالات عذاب المنفى ، واشتغال ذاكرة الوطن بمسلسل الحروب ، والدمار والمعاناة ، وتوجه أنظار العالم نحو تطبيق مبادئ الديمقراطية ، ونبذ النظم الدكتاتورية، وكل أشكال العنف والإرهاب ، ونثني بكل صدق على مقدرة القاص الكبير ابر أهيم احمد في الكتابة الإبداعية وامتلاكه الفذ لأدوات بناء القصة القصيرة المتميزة وانتهاجه للواقعية المتضمنة باللمحات الموفقة ، وعبر تجاربه الطويلة من خلال الدراسة المعمقة لآثار الكتاب الكبار في داخل الوطن وخارجه ، والتي تركت بصماتها الواضحة في وقائع اغلب قصص القاص إبراهيم احمد فشهادة تقدير في سطور متواضعة ربما لن تكون بمستوى إبداع القاص وان هذه المجموعة إضافة مبدعة ومقدرة قصصية تستحق الوقوف بتأني وتأمل في متانة وروعة أسلوب القاص.
عبد الحكيم نديم
شاعر وفنان تشكيلي