|
احزاب وعصبيات غير متمدنة ؟
جمال محمد تقي
الحوار المتمدن-العدد: 2054 - 2007 / 9 / 30 - 11:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
هل هناك حياة حزبية حقيقية في بلدان العالم الثاني والثالث والرابع ؟ اذا افترضنا مجازا ان العالم الغربي هو العالم الاول ؟ واذا جارينا هذه الحسبة فكيف نميز حزبيتهم وتجلياتها عن حزبيات بلداننا ؟ واذا كانت في حزبيتهم تتكرس معاني الانفتاح والشفافية وحرية الاختيار والتعددية العلنية في الكيان الواحد والتداول الميكانيكي للسلطة الحزبية ، وانعدام الايديولوجية بمعناها الصنمي لصالح البرغماتية المتوافقة مع قيم الاستهلاك السوقي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا ، وتشرب حياتهم الحزبية بالانقسامات الاجتماعية الطبقية كانعكاس لتميز خصائص طينتهم الاجتماعية الاقتصادية ذات الصبغة الليبرالية التي تقوم على تشكيلة مترابطة ومتصاعدة من الحريات الفردية المحمية باليات دولة العرض والطلب والتبادل السلمي للمواقع والادوار التي لاحدود لحريتها مادامت لا تناقض حرية عمل انظمة السوق بما لها وعليها ، لان السوق هو معبدها وقدس اقداسها المتمدد باخطبوط العولمة ورافعتها التي تريده رب لا يرد للعالمين جميعا ، فكيف ستكون شكل مقارنة حزبيتنا معها وماهي شروطها وهل التسمية الواحدة ـ احزاب ـ كفيلة بجعل احزابنا صفة لشىء اخر هو ليس اسم على مسمى اوهوتشابه اسمي ذا دلالة مختلفة ؟ اسئلة كثيرة تثيرها اي محاولة جادة لسبر اغوار ما يطلق عليه تجاوزا احزابا في بلداننا ، ومعرفة ماهيتها ، هل هي واجهات لمنظمات سرية تريد الظفر بالسلطة وبكل الوسائل ؟ ام عصابات سياسية ونخبوية تسمي نفسها احزابا ؟ ام هي مجموعات مختلفة من العصبيات العشائرية او الطائفية او العرقية اوالمسلكية ـ كمنتسبي الجيش والمخابرات ـ والتي تظهر بلبوس يغلفها ويجعلها مهضومة اجتماعيا ؟ ام هي مجاميع نخبوية تريد الوجاهة ومتطلعة ومتحفزة للتغيير السلطوي بحكم تأثرها الفكري والميداني واحتكاكها بتجارب الامم الاخرى التي سبقتنا او بحكم احساسها بالظلم وبضرورة التغيير ؟ ام هي فقاعات طارئة ليس لها جذور كونها موسمية مرتبطة بافرازات النزاعات والصراعات الاجتماعية والسياسية السائدة ؟ كي تكون الاجابات قريبة من الواقع علينا الاستدلال به وعلينا اخذ مقاطع متعددة من الحقب المختلفة منه ، وعلينا اختيار عينة تشكل مثالا مفيدا وبارزا ، وعلينا اجراء مقاربات ومقارنات تسلط مزيدا من الاضواء على الموضوع بالقياس النقدي المستند للواقع وتواتر احداثه .
توطئة :
اولاـ في التعريف القاموسي للحزب ينحصر المعنى بمدلوله اللفظي ـ نقلا وتأويلا على النحو التالي : الحزب مجموعة غير محددة من الافراد ينظمون انفسهم لانجاز اهداف يتفقون عليها ، وغالبا ما تكون تلك الاهداف سياسية . كيفما كان شكل تلك الاهداف التي يتفق عليها افراد الحزب فئوية او طبقية مثلا كالتي تخص العمال او الفلاحين او التجار او الطلاب او الشباب او النساء او الارستقراطية المالكة ـ فانها تبقى بسياق سياسي له تعاطي مع الدولة او السلطة ، ونفس الشيء ينطبق على الاحزاب ذات الطابع التخصصي عسكري مدني ، اوتلك التي تعالج موضوعة او حاجة محددة اجتماعية او فكرية او طبيعية كالبيئة او الدين اوالادمان او الديمقراطية . . . يشير ابن خلدون في مقدمته الى الاهمية الكبرى لعامل العصبية في قيام الدول او الانظمة وزوالها وعنده العصبية الاولى هي عصبية القبيلة التي تشكل اللبنة الاولى للعصبيات الاخرى في مجتمعاتنا ـ فالقبيلة تعني العائلة ثم العشيرة ومن مجموعة العشائر تقوم القبيلة ثم القوم ثم الدولة ـ والقبيلة هي وحدة للمصالح بين افراد الجماعة الذين يعيشون في مكان واحد ويجوبهم شعور بانهم وحدة جنسية واحدة تحملهم على التلاحم لما فيه خير الجميع ، اما ظاهر العصبية فهو وحدة النسب ! واستطرادا نذكر اهم العوامل الاخرى التي اعتمدها ابن خلدون في تفسيره لتغير المجتمعات ، والتي تشكل بالتالي نواميس حركة التاريخ. 1 ـ عامل البيئة الطبيعية ، كالموقع والمناخ وصفات الارض صحراء سهول جبال وفرة المياه او شحتها . 2 ـ عامل العمران ، اي البيئة الاجتماعية حيث تنشأ وتتطور المجتمعات من البداوة الى الحضارة. 3 ـ العامل النفسي ، اي البيئة الروحية ـ حالة التقليد والمخالفة ـ ففي ايام سيطرة الدولة وتماسك قوتها المركزية يسود التقليد اي تقيد الفرد بقانون الجماعة ، اما ايام الاضراب والتراخي فيسود التمرد الفردي والنفور من القيود . 4 ـ عامل احوال المعاش ، يرى ابن خلدون ان حياة الناس الفردية تختلف باختلاف غلتهم من المعاش اي باختلاف الاعمال التي يقومون بها لكسب معاشهم والعمل الانساني هو اساس الكسب ، اذ انه لابد من عمل انساني في كل مكسب . 5 ـ عامل الضرورة ، يرى ابن خلدون ان حياة الناس الفردية والاجتماعية ادوار تصل بعضها ببعض وان عوامل الطبيعة والعمران واحوال المعاش واحوال الاجتماع لانساني هي المسؤولة عن الشبه الكبير في ادوار التاريخ المختلفة . ان ظهور الاحزاب بمعناه المفهومي الذي يرتبط بالانقسام الاجتماعي طبقيا وبالتالي سياسيا وبالنزاعات على الحكم والملك ، لها جذور ضاربة بالتاريخ البشري وبالتحديد بعد ظهور الدولة وتشعب وظائفها ، فهناك حزب للعبيد يمثل نخبهم الثائرة والمتطلعة للحرية ويمكن ان يكون سبارتكوس قائدا لواحد من احزابهم ، وهناك احزاب الارستقراطية السائدة ، وهكذا ، ومن تاريخنا القديم ناخذ مثال النبي موسى واخيه هارون فقد قادا حزبا جمع من حوله عبيد بني اسرائيل المشتتين في مصر للظفر بحريتهم وتخلصهم من استعباد فرعون مصر ، وقصتهم مع اعادة تربية هؤلاء العبيد ولمدة اربعين عاما في صحراء سيناء هو اعظم درس حزبي بليغ في اعادة بناء نمط الانسان المعبء وعلى مر التاريخ ليؤهل منهم جيشا من المؤمنين يكونون قادرين على اجتراح المعجزات ! والحزب لفظ مجازي ايضا يمكن اطلاقه على اي عصبة من العصب الاجتماعية او السياسية او الفكرية او الدينية فالمسلمون في قريش كانوا حزبا يعارض الارستقراطية القريشية التي تعيش جاهلية الدين وتجاهل لاصوات الحق والعدل فيها ! والاحزاب المعارضة لبني امية وحكمها كانت منظمات سرية تجمع من حولها الناس والاتباع للثورة عليها وانتزاع السلطة منها لمبررات واهداف يعتبرها اصحابها واجبة وضرورية بل وبعضهم يعتبرها شرعية وايمانية ايضا ، فكان الحزب العباسي والعلوي ، او حزب بني هاشم ، وحزب الخوارج ، والحزب الزيدي ثم ظهر الحزب الفاطمي في العهد العباسي وهكذا . ان استنباط قاعدة عامة واضحة من خلال مراجعة ومتابعة مسيرة ظهور وتبلور الجماعات الحزبية بمختلف اشكالها ومسمياتها واهدافها وعبر محطات تاريخية مختلفة ، امر يساهم بتيسير البحث وتقسيمه وتركيزه ـ والقاعدة التي اقترحها هي اولا اعتبار وجود الحكم المستبد المطلق وعبر اي مرحلة تاريخية كانت يستدعي بالضرورة وجود نمط حزبي سري يعارضه وعدم وضوح هذا التعارض او عدم فعاليته لا يعني البتة غيابه تماما ، ثانيا وجود الحكم "المتوازن" يحتم ظهور احزاب وجماعات علنية تتوازن مع توازنه سلبا وايجابا مولاة ومعارضة ـ ويمكن اختبار هذه القاعدة وبكل سلاسة على انظمة متعددة في مكانها وزمانها ، من الامبراطورية الرومانية ، وحتى انت يابروتس ، الى النظام الفرعوني في مصر الى اوربا في العصور الوسطى الى الدولة الاموية والعباسية الى الامبراطورية اليابانية والصينية والى اي مكان او زمان اخر فيه انقسام اجتماعي اقتصادي سياسي فكري اي فيه دولة وسلطة فيه حاكم ومحكوم ! المرحلة التي اختلطلت فيها نهضة اوروبا مع ازدهار المزاحمة الراسمالية الحرة ومن ثم تكرس النمط الكولونيالي بعد الخروج من القارة لاستكشاف العالم وامكانيات استثماره واخضاعه ، شهدت نوعا من الانفتاح الداخلي المتدرج وظهرت التعدديات ، التي اقترن مسارها بثورات سياسية واجتماعية ، في انكلترا اولا حيث تراجعت السلطات المطلقة للملكية لتكون سلطات دستورية محددة فالثورة الجليلة فرضت على الملك موافقته على وثيقة العهد التي تعتبر اول وثيقة حديثة تشيع حقوقا مدنية بدائية لكنها تعتبر انجازا فائقا وقتها انها حقوق من نوع جديد تحتوي نواة حقوقا للانسان المواطن ، ثم توالت المتغيرات في دول اوروبا الاخرى فرنسا بروسيا ايطاليا اسبانيا البرتغال حتى وصل الحال الى العالم الجديد امريكا. الثورة الفرنسية ثورة الحرية والمساوة والاخاء هذه الثورة التي تحولت الى هياج دموي غرق فيه الملك لويس وزوجته ماري انطوانيت الملكة التي اقترحت على تظاهرات الجوع المطالبة بالخبز والحرية بان ياكلوا "الكيك" اذا تعذر عليهم الحصول على الخبز ، ان التهكم الشعبي وبالتالي الحزبي صنع من هذا الموضوع الذي يبدو انه عرضي وغير مقصود من قبل " ماري" اشاعة ثورية ساخرة وحرضة ، فالمشكلة ليست بشحة جنس الخبز وانما بعدم القدرة على شرائه لا هو ولا اي مشتق من مشتقات الطحين كالكيك مثلا !!
الثورة ذاتها كانت مدرسة سياسية اممية لليسار واليمين والوسط ، ثورة اكلت رجالها بمقصلة القصاص الذي لا يعرف العدل رغم علو راياته ثورة تحمست بحماسة ميرابو وفجرتها عقول مبدعة تشربت بفكر جان جاك روسو ، شباب يفور دما ومبادرة روبسبير كان احدهم تدحرجت الثورة بهم حتى تدحرجت رؤوسهم وكان راس روبسبير الذي دفع باقرانه للمقصلة لم يتخيل يوما انها ستختم براسه مسك ختامها !
قاعدة عامة اخرى يمكن استنباطها تقول : ان النظم البرلمانية على اختلاف زمانها ومكانها تحتم وجود كتل برلمانية متجانسة ومتنافرة وبمقدار تعمق انسجام اعضاء الكتلة الواحدة يتحدد شكل تحزبها ، موسميا اودائميا ، جزئي ام كلي ، وهذا ايضا نوع من انواع التحزب المتوازن ، منذ مجالس اثينة وروما الى الدوما الى مجالس النواب والشيوخ والاعيان والشورى والشعب . سيادة الراسمالية كتشكيلة اجتماعية اقتصادية اطلق العنان لتصفية القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي كانت سائدة في مرحلة الاقطاع وعبوديته المقيدة للتطور الاقتصادي الاجتماعي وتبعاته ووفر فرصة تحتية لتيسير النمو الراسمالي التراكمي وغير التراكمي للقيم النقدية والاخلاقية والسياسية والاجتماعية فبدون حرية الحركة والتنقل وحرية التفكير وحرية التعبير ـ المتجاوزة لما قبلها من قيود عبودية واقطاعية ـ وحرية السكن وحرية التملك وبلا حدود ، وحرية الاستثمار وبلا حدود لا يمكن للراس مال من النمو والتسيد ـ دعه يعبردعه يمرـ مبدأ ساد في الطور الراسمالي الاول لكنه اخذ شكلا اخر في طور نموها الاحتكاري ، الذي عزز الحريات الفردية مادامت هي فردية وكرس الهيمنة على العقل الجماعي والفعل الجماعي وهذا على الصعيد الداخلي اما الخارجي فالنهب والهيمنة والاستبداد هو ديدن احتكاري تنافسي اشد قساوة من كل مظالم التشكيلات السابقة لقدرته الفائقة على التدمير وفرض السطوة دون قيد او شرط ، وعليه تعززت الحياة الحزبية بهذه الروح واصبحت مستقرة بل تكثفت فيها كل المعاني اعلاه رغم شفافيتها والياتها التداولية ونجاعة اساليب عملها ضمن انظمة الديمقراطية الراسمالية السائدة ، الامثلة كثيرة على ان تغير الاحزاب الحاكمة وتداولها على السلطة لايشكل خطرا على النظام القائم وعندما يكون الامر كذلك فان هناك وسائل كثيرة لدرء هذا الخطر ولا يهم ان كانت تلك الاساليب ديمقراطية ام لا ، الاحزاب في الغرب انجزت دورها وصارت جزءا مهما من منظومة النظام الكلي حتى انها تعاني من رتابة وعزوف من القواعد على التواصل معها لذلك هي تفكر جديا بتجديد نفسها واساليبها ! تبقى الاحزاب في الغرب وانظمتها وشكل تحركها ونموها واهدافها ضمانة مجربة حتى الان لواقع السلم الاجتماعي الذي تعيشه دوله ومجتمعاته ، وبشكل واضح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الان .
ثانيا - في موضوعة تداخل العلاقة بين الاحزاب والايديولوجيا ، ورغم ان للاثنين خصوصية وتميز واستقلال تاريخي ، الايديولوجيا قد تتقدم على التحزب تاريخيا بمعنى ان منظومة الافكار قد تبرز قبل ان تجد من يتحزب لها ، فكارل ماركس وفريدريك انجلز مثلا قد وضعوا اسس وقواعد ايديولوجية ونظرية للشيوعية قبل ان تقام احزاب لها ، والايديولوجيات الدينية ايضا تظهر هي اولا على ايدي فلاسفة وانبياء ومصلحين ومن ثم تتبلور احزابها من الاتباع والمريدين ، ولا تسود الفكرة الايديولوجية الا اذا اوجدت حزبا لها يصل بها الى السلطة ، وعندما لا تتزاوج الفكرة مع التحزب لتكوين عصبيتها الخاصة بها والتي غالبا ما تكبر على حساب العصبيات الاخرى المتعايشة معها بعلاقات تدور بدائرة ـ التفريغ والازاحة ـ فانها تبقى مجرد فكرة او نظرية تذكر من باب الذكر والبحث ، وربما فشل القائمين عليها في ايجاد قاعدة حزبية لها رغم سعيهم الذي قد يصطدم بقوة قمع ذا عصبية اشد قد يحرمها حتى من مجرد الذكر ايضا ، فاخناتون مثلا ورغم كونه فرعونا ذا سلطة وشكيمة لكنه فشل في جعل ايديولوجيته الجديدة هي السائدة بسبب عوامل العصبيات وصراعاتها وبغياب حزبيتة التي تخلق عصبية اكثر شدة لها قاعدة اجتماعية اقتصادية مؤهلة للتغيير الذي اعلن عنه دون قاعدة ، لقد بشر بدين جديد توحيدي لديانات الوجهين القبلي والبحري يتخذ من اتون الشمس رمزا له على خلاف الدين السائد الذي يعتبر قرص الشمس كله رمزا له فقتل الفرعون وحورب اتباعه ! لكن الايديولوجيات التي لها عصبية حزبية وقاعدة متجددة وتنهزم بالمغالبة فانها يمكن ان تعود ثانية وربما بلبوس جديد او دونه ، كما حاصل الان مثلا مع النازية الجديدة ، اوحركات اليسار الجديد ! ان احد اهم المؤشرات التي يمكن التاكيد عليها هنا هو ان الغرب جرب العصبية الايديولوجية والتحزب لها وعلى نطاق واسع حتى بداية العصر الحديث حيث فككت الراسمالية البناء القرووسطي الفوقي والتحتي الاقطاعي والذي لم يبقي منه سوى شوائب فوقية سرعان ما تلاشت بعد السرعة الفائقة التي سارت عليها سلسلة الثورات المتلاحقة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا ومعرفيا ـ الاكتشافات العلمية الاكتشافات الجغرافية الثورة الصناعية انحسار الايديولوجيا الكنسية ، وبروز العصبية اليبرالية والتحزب لها ، الثورة العلمية التكنلوجية ! وساد نوع اخر من العصبيات كانت الحروب العالمية الاولى والثانية هي اهم تجلياتها ـ الاحتكار ، الاستعمار ، رفاه الشمال على حساب الجنوب ، ابتداع نوع من انواع التكافل الاجتماعي بحدود تفيد اليات عمل السوق واستقراره في الداخل الغربي لتجاوز حالةالاستياء من العوز الذي قد يؤدي للثورة بين طبقاته ذات الدخول المنخفضة او المعدمة ، بالترافق مع اطلاق العنان للحريات الفردية المقيدة بقوانين العرض والطلب وترسيخ نظام دولة المؤسسات والدساتير التي تمنح الجميع حقوق متساوية مادامت لا تقف او تهدد السوق وحركته ، وهذا مايسمونه بالديمقراطية ! في بلدان الجنوب مازالت الايديولوجية تلعب لعبتها الاولى كعصبية وكحزب ، فاذا كانت اوروبا قد تجاوزت معادلة " الطبقة ـ الايديولوجيا ـ الحزب ـ السلطة " نحو "احزاب السوق ـ السلطة " فان في بلدان الجنوب مازالت تتوزع نماذج "الايديولوجيا ـ الحزب المتعسكر ـ السلطة " او " القبيلة الجيش السلطة " وباغلفة تحمل قشور التحديث الحزبي والايديولوجي ! حتى اننا نجد احزابا وحركات سياسية في بلدان الجنوب ببرامج تحمل بصمات ـ مونتسكيو ، جان جاك روسو ، البيان الشيوعي لماركس وانجلس ، الامير لميكافللي ، الدولة والثورة لينين !
الحالة العثمانية ـ العربية :
دخلت الدولة العثمانية اوروبا بجيوشها حتى طرقت ابواب فيينا ، لكن منبتها لم يشهد ماشهدته اوروبا من تطور وسيطرة للنمط الانتاجي الراسمالي وازاحتة للنمط الاقطاعي في الانتاج السائد في العصور ما قبل الحديثة ، بحيث بقي اعتمادها على النمط الريعي شبه الاقطاعي " نمط الانتاج الاسيوي " ، ومع انها اجرت العديد من الاصلاحات على تركيبتها الفوقية بما احدثته من عصرنة لجيشها وانظمتها الادارية وعلى مؤسساتها بما فيها الصناعية ـ الحربية والتموينية ـ وتطوير طرق المواصلات من سكك حديد ، واساطيل بحرية ونهرية ، وطرق معبدة ـ قد اطال من عمر الامبراطورية المتآكلة ـ الرجل المريض ـ لكن كل ذلك لم ينقذها من مصيرها المحتوم لانها لا تملك القدرة على تغيير قاعدتها التحتية التي هي حصيلة لمعطيات موضوعية لا تتغير بالرغبات والقرارات ، وحتى بعض اصلاحاتها المهمة كانت هي ايضا وكانها مشاريع اميرية للدولة ذاتها اي لا ينطبق عليها مفهوم الانتاج الراسمالي الحر فلا سوق استثمارية ولا منافسة ، وهي بمجملها منقولة وغير منتجة محليا ! ان الغلبة لمن يملك دورة اقتصادية مثمرة تحقق النمو الانتاجي كما وكيفا وتساهم باستثمار الثروة وليس تكديسها لان تكديسها يحرمها من القيمة المضافة التي تعيد زخم الربح والاستثمار لتكبر الثروة وتزداد قوة وتاثير وحيثما دارت ، لتصنع بنفسها قاعدة تحتية لقوتها العسكرية المتجددة ! لقد تاثرت الحياة السياسية العثمانية ومن خلالها العربية ايضا بالحياة السياسية الاوربية واخذت عنها الكثير ، ومن جملة تلك التأثيرات كان تشكيل الاحزاب والعمل الحزبي الحكومي والمعارض وكذلك استحسان وجاهة وصحية الحكم الدستوري المعمول به في اوروبا ، وكان لدور البعثات الدبلوماسية والبعثات الدراسية وحركة التجارة بين الدولة العثمانية ودول اوروبا تأثير طبيعي على واقع عموم الطبقة السياسية العثمانية بما فيها الطبقة العليا المكونة من السلطان وحاشيته والامراء والقادة الكبار والولاة ـ علية القوم ـ الى الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة المقبلة على التغيير كصغار القادة والسفراء والمديرين وحتى وزراء الخبرة ، وحتى مندوبي الولايات او اعيانها او مبعوثيها في مجالس الاستانة او مثقفي ووجهاء الولايات العاملين في مرافق الدولة المركزية بما فيها الجيش ومنهم العرب ايضا من امثال ـ عزيز باشا وشريف باشا والزهاوي والرصافي وساطع الحصري وغيرهم ـ اضافة الى الفئات الادنى منها في الطبقة المتوسطة كالقضاة والكتاب والضباط والمهندسين والاطباء وكل اصحاب الكفاءات العالية ، ناهيك عن التعمد الاوروبي الغربي وخاصة البريطاني والفرنسي والبروسي في تحريض التكنوقراط والمبهورين بالمتغيرات الاوروبية من عناصر الطبقة السياسية العثمانية في محاولة لحثهم على التغيير والدفع باتجاهه المؤدي للتبعية للغرب الاستعماري وليس التحديث المؤدي الى التقدم والتعافي من الامراض ، بما يسهل مبتغيات هذه الدول لاحقا في هز كيان ـ الرجل المريض وتفكيكه ـ وذلك من خلال دور استثماراتهم المباشرة ومشاريعهم وايضا من خلال انتزاع الامتيازات لجالياتهم التي اخذت تتغلغل في كل جنبات الدولة ، ولا يفوتنا هنا ذكر الدور الفكري المؤثر الذي لعبته البعثات التبشيرية وعلى عموم ولايات الدولة ! ان الذي ينطبق على حالة الدولة العثمانية كان ينطبق ايضا على حكم اسرة محمد على باشا في مصر ، رغم تفوق درجات وقوة الاصلاحات التي تحققت في ظل حكم محمد على باشا حتى انها اخذت تهدد مصالح التوسع الاستعماري في المنطقة كلها ، فالمستعمرون الاوروبيون لا يريدون دول جديدة وقوية تخلف الدولة العثمانية وتحرمهم من صيدها الثمين ، فنرى هذه الدول تقف مع بني عثمان وتدافع عنهم في حربهم على مصر محمد علي باشا الذي سلخ من العثمانيين الشام وفلسطين والسودان وصار الاسطول المصري يحوم على المياه الاقليمية لمركز الخلافة ذاته ! ان الطبقة المتوسطة الاوروبية كانت هي العمود الفقري للتحولات التي شهدتها قاعدتها التحتية "الانتاجية الثورية " ان قربها المباشر من دورة الاقتصاد والسياسة جعلها قوة تغييرية فاعلة ـ طبقة صناعية تجارية بنكية مستثمرة للكفاءات التي تضاهي كفاءات الدولة بل تتفوق عليها مما جعل هناك نوعا من التقاسم الوظيفي المنتج بينهما ، لذلك هي اكبر من ساهم في تغيير شكل ودور الدولة في اوروبا الحديثة اوروبا الراسمالية ، اما الطبقة المتوسطة في الدولة العثمانية ومصر فكانت اسيرة لقولب الطبقة العليا وفي احسن حالاتها كانت اما اصلاحية تابعة او اصلاحية مطاردة ويطغي على مواقعها من دورة الاقتصاد البعد الشديد فهي خليط من التكنوقراط والتجار والمتنورين والوجهاء ورجال الدين الشعبيين ! ان عناصر حزب الاتحاد والترقي عينة من عينات المراتب العليا للطبقة المتوسطة في الدولة العثمانية وميولها الاصلاحية الضيقة واهدافها المعلنة دليل اخر على عمق ازمة قاعدة هذه الطبقة وانعدام "انتاجيتها الثورية " بحيث عادت واستسلمت لحزب الثكنة العسكرية الذي لم تبارحه حتى وقت قريب ! لم يكن زعماء النهضة العربية ايضا اكثر عمقا من اقرانهم الاتراك ، فاصلاحيتهم ايضا كانت مستندة على هشاشة القاعدة التحتية ، "لحزب" جمال الدين الافغاني ومحمد عبده الذي لم يتجاوز الرومانسية في تحديد عروته الوثقى ، وبالتالي لم يؤسس لعروة وثقى جذرية ، عبد الرحمن الكواكبي ، ورفاعة الطهطاوي ومحمد سعيد الحبوبي ، مثلهم مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس وكامل الجادرجي ومن قام مقامهم حيث تخلوا عن التدافع لصالح تجذير الاهداف السياسية والاقتصادية للطبقة الوسطى مما جعلهم وامتداداتهم فريسة سهلة لحكم الثكنة او القبيلة المتلفحة بايديولوجيات دينية او عنصرية او رومانسية بعضها مستحضر من الموروث بتحويرات عصبية وبعضها مأخوذ من الغرب بدهشة النقل وليس اعمال العقل فيها ! الحزبية وعصبيتها في اوروبا الغربية وامريكا استقرت على سوق العرض والطلب وارتبط نبضها بنبض البورصة ، واصبحت البرغماتية هي المحرك الاول لها ، وهي بهذا المعنى تتقاطع تماما مع المدنية التي يعتمد فحواها على اعتبار ان الثروة هي وسيلة وليست غاية ، وسيلة لتقدم ورفاه الانسان ومتى ما اصبحت الثروة هي الهدف والانسان وسيلة من وسائلها فان هكذا انسان وهكذا مجتمع هوابعد مايكون عن المدنية التي تمجد الانسان مجرد لانه انسان ! اما الحزبية وعصبيتها في عالمنا العربي فهي اما صدى مشوه للحزبية في بلاد الخواجات او تأويل سطحي للقبلية او الثكنة !
الثورة والسلطة والحزب :
الثورة رد فعل اجتماعي لتخلخل العلاقة بين الدولة والسلطة والمجتمع ، وتتبع انواع الثورات وخصائصها واشكالها المستوى النوعي للتخلخل المعني ودرجة شدته وليست هناك مقاييس ثابتة للمحددات التي ببروزها تبرز الثورة ، وانما هناك لحظات حرجة تشهد حالات الانتقال من الكم الى الكيف في العلاقات السائدة بين الدولة والسلطة والمجتمع او بجزء شديد الفاعلية فيه ! قد تقوم الاحزاب السياسية كنتاج لتلك الثورات لكنها ذاتها لا تنتج ثورات ! فالثورة مفهوم تاريخي له شروطه الموضوعية والذاتية والدور الحزبي ومهما علا شأنه فانه يبقى جزءا من العوامل الذاتية ، ويمكن ان تكون الاحزاب ذاتها من يشعل صاعق الثورات او يطلق شرارتها وليس انتاجها ، فقيام الاحزاب وحدها لا ينتج ثورات ، قد تنتج الاحزاب انقلابات فوقية وقد تحقق مكاسب بنضالاتها ، لكن مفهوم الثورة اعمق واشمل من ان يحتويه حزب سياسي او مجموعة احزاب ! قد يقول قائل ان الذي فجر ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى 1917 هو الحزب البلشفي في روسيا بقيادة لينين ، وهنا يحصل خلط بين القوى التي تستثمر الثورة لتحقيق اهدافها الخاصة وبين الثورة ذاتها كحركة تغيير اجتماعي شامل وعاصف ، فروسيا كانت تعيش ازمة طاحنة وعلى كل المستويات منذ ـ ثورة 1905 ثم تلتها ثورة 1907 وتلتها ثورة شباط 1917 ـ ان هناك حالة ثورية متسلسلة وهناك بروفات ثورية متواترة وهناك انجازات قد حققتها تلك الثورات وهذه الحالة الثورية وهذا المسلسل الثوري لم ينجزه حزب لينين او لينين نفسه وانما الاكثرية الساحقة من المطالبين بالتغيير فالتغيير اصبح ضرورة موضوعية يحتمه تناقض البناء السياسي القائم مع ضرورات انبثاق نمط بنائي جديد في الشكل السائد للعلاقات الانتاجية ، اذن فالحزب البلشفي استثمر الثورة وبنى على معطياتها معطياته هو، وهنا ليس حزب لينين من صنع الثورة ! ذات الشيء ينطبق على الثورة الشعبية في ايران 1979 التي اطاحت بنظام الشاه وجاءت بالخميني ، فلم يكن الخميني وحوزته من صنع الثورة انما هي ايران الثائرة حتى قبل تحرك الخميني ، والحالة الثورية قائمة في ايران ومنذ انقلاب زاهدي على حكومة الدكتور مصدق 1952، فالثورة بمعنى نجاحها في انجاز التغيير الجذري كانت قادمة لامحال ، والخميني هو من استثمر قدومها وجرى بها على مجاريه ! ان شكل الثورات في مرحلة الراسمالية وبمختلف درجاتها تاخذ انماط متميزة عن الثورات في المراحل التي قبلها ، ومن اهم هذه الاشكال : ـ الثورات البرجوازية الديمقراطية ، الثورات التحررية ، الثورات الاستئنافية ، الثورات المتداخلة ، الثورات المخملية ـ .
كل الثورات في عالمنا العربي اما كانت نتاج لحركات شعبية مسلحة من اجل انجاز التحررالوطني من المستعمرين والمحتلين كما هو الحال في ثورة الاوراس في الجزائر وثورة 14 اكتوبر في اليمن الجنوبي ، وثورة العشرين في العراق وثورة 1919 في مصر ، او نتاج لانقلابات عسكرية تتحول بفعل عمق انقلابها وجذريته وتقدميته وشعبيته الى مصاف الثورات الاجتماعية ! ومنها ثورة 23 تموز في مصر ، ثورة 14 تموز في العراق ، ثورة 23 سبتمبر في اليمن ، ثورة الفاتح في ليبيا ، ثورة اذار في سوريا . . . !
#جمال_محمد_تقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الذي على رأسه ريشة في عراق اليوم ؟
-
الطواعين !
-
11 سبتمبر حقيقي في العراق !
-
زيارة الامبراطور الاخيرة !
-
لا مجتمع مدني حقيقي في ظل الاحتلال وحكوماته المتعاقبة في الع
...
-
لينين يحث الشعب العراقي على مقاومة المحتلين !
-
نوري المالكي خادم الاحتلالين !
-
القرن امريكي !
-
الحلم الامبراطوري الكوني الامريكي حقيقة ام وهم ؟
-
فلسطين فينا شعورا ولا شعور!
-
من يكتب التاريخ ؟
-
اعضاء منتخبنا واللجوء !
-
الوطنية العراقية أم المنجزات !
-
الافتتان الطائفي ينخر عظام الوطنية العراقية !
-
بعد خراب البصرة اكتشفوا : لا سلاح للدمارالشامل في العراق!
-
من يصارع امريكا في العراق ؟
-
العراق ملجأ كبير للأيتام !
-
حزب ش ي ع ي بدون هوية وطنية ولا طبقية !
-
غزة تحك ظهرها !
-
نفس العضّة
المزيد.....
-
مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف
...
-
مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي
...
-
الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز
...
-
استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
-
كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به
...
-
الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي
...
-
-التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
-
أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
-
سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ
...
-
منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|