أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمود الباتع - وماذا بعد فقدان الذاكرة؟















المزيد.....

وماذا بعد فقدان الذاكرة؟


محمود الباتع

الحوار المتمدن-العدد: 2054 - 2007 / 9 / 30 - 04:46
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


لقد كان موقفاً شديد الإحراج عندما التقيت قبل فترة زميلاً قديماً كنا قد تزاملنا لعدة سنوات في الماضي ترك بعدها العمل إلى عمل آخر وانقطعت أخباره تماماً إلى أن صادفته في ذلك اليوم وبتدبير من الصدفة المحضة لتحدث بيننا طقوس السلام والتحيات التقليدية التي لم تكن تنقصها الحرارة من طرفنا لأصدم بعيد ذلك بأن الرجل لم يكن قادراً على أن يتذكرني ولا أن يتذكر اسمي أو حتى اسم المكان الذي جمعنا معاً لعدد غير قليل من السنين، وما كان منه بعد أن أسقط في يدي من شدة الحرج إلا ان سارع وبفطنته ونباهته التي لم تتغير عن عهدي بها ليرفع ذلك الحرج بتفسير الموقف بأنه كان قد تعرض قبل عام من تاريخه إلى حادث مروري خشن سبب له هزة عنيفة في الرأس أفقدته الذاكرة بشكل شبه كامل وأدى به إلى فقد معرفته السابقة بكل شيء بما في ذلك اسمه وعنوانه وأقرب مقربيه وكل ما يمكن أن يستدل منه من معلومات عن شخصيته، واستطرد مضيفاً أنه مايزال يخضع لعلاج تأهيلي يؤمل منه أن يستعيد المعلومات الأساسية التي فقدها عن شخصيته وعن المقربين منه من أهله، وأن الأطباء يستعينون في هذا المنهج العلاجي بوالديه وزوجته وأبنائه مستخدمين كل الوسائل الحسية والمعنوية المتاحة التي من الممكن أن تساعده وتساعدهم في ذلك ومن بينها كل ما أمكن الحصول عليه من ألبومات الصور الشخصية والعائلية والأشرطة المسجلة وأفلام الفيديو التي كان قد سجلها لمناسبات وأحداث شخصية وعائلية وما إلى ذلك من وسائل المساعدة الوثائقية إن صحت تسميتها كذلك والتي ساعدته كثيراً على بناء تصور عام عما كانت عليه حياته قبل الحادث حتى وان جاء هذا التصور برمجياً جافاً وخالياً من عاطفة الانتماء وحميمية الذكريات ودفء العلاقات الإنسانية.

من المؤكد أن كثيراً من الناس إن لم يكن معظمهم لم يتح وليس من المرجح أن يتاح له لاحقاً أن يقابل شخصاً حكمت عليه الأقدار بفقدان الذاكرة على شاكلة صديقي هذا منَّ الله عليه بتمام الشفاء واسترداد ما ضاع منه من ملامح هويته الشخصية والاعتبارية التي أفقدته إياها هزة الدماغ اللعينة تلك.

لا يختلف ما تعرض له ذلك الرجل عما تعرضت له أمتنا التي لم تتوقف منذ قرون عدة عن تلقي الضربات الموجعة في رأسها وسائر بدنها بوتيرة أفقدتها توازنها ثم اتزانها وأدت بها أخيراً إلى فقدانها الكامل للذاكرة وإلى غياب وعيها الجماعي بحقيقة هويتها التي لم تعد تتعرف عليها فراحت تتقصاها من روايات وآراء الآخرين عنها ومن بينهم من هو ليس من أخلص الأصدقاء وليست رواياته فوق الشبهات، كما أخذت تفتش عن تلك الهوية في أقبية الخزين التاريخي وفي ألبومات الصور القديمة التي كان الأوائل قد وضعوها كمدونات تسجيلية أو اجتهادات فكرية كانت مناسبة لحقبة معينة من الزمان دون غيرها بعد أن علاها الغبار وعفى عليها الدهر ولم تعد تصلح إلا على سبيل التذكار كمقتنيات تراثية أو أنتيكات ثقافية وفكرية، لم يدر في خلد الأمة مرة أنها قد تلجأ إليها أو قد تحتاجها يوماً كوسيلة مساعدة أو إيضاح لإثبات الهوية أو التعرف على الذات التي لم تعد تعرف لها شكلاً أو مضموناً. وهكذا فقد أصبح الحديث عن الأصالة والتراث الموروث الثقافي موضة سائدة هذه الأيام في الأوساط الثقافية وصار استحضار أفكار وفلسفات ونظريات كانت دارجة وربما مجدية في يوم من أيام الزمن الماضي بمثابة عودة إلى التراث الحضاري ورجوع إلى الجذور التي يصر الداعون إليها على كونها تعبر عن الخصائص العامة لهذه الأمة بكل مكوناتها وأطيافها وبغض النظر عن المسافة الزمانية والموضوعية الشاسعة التي تفصل ما بين الجذور والأغصان إذا صح اصلا هذا التشبيه الذي يناقض في الصميم مسلمات علم البنات التي تقضي باختلاف شكل ووظائف الجذر عن شكل ووظيفة الاوراق.

من الضروري أن يستفيد الانسان من تجارب الماضي وان يستخلص العبر والدروس من نجاحات وإخفاقات السلف ولكن ايضا من الضروري إدراك المسلمات التاريخية التي مفادها ان الامم لا يتزايد انشغالها بتاريخها وبماضيها إلا بمقدار ما يكون واقعها وحاضرها مأزوما، فتصدع الشخصية الاعتبارية للفرد أو للجماعة يدفعه دائما إلى التداعي على الماضي في محاولة تبرير أو تسويغ هذا التصدع من خلال تلميع الماضي «التليد» وصولا إلى قناعة افتراضية مفادها ان التصدع أو الانهيار الاعتباري للشخصية الموضوعية سببه الانحراف عن ذلك المسار التاريخي لهذه الشخصية، في هذا السياق وفي خضم عملية البحث هذه نرى أن معظمنا قد تأثر كثيرا بروايات الآخرين عنا وعن تاريخنا، ومن بين هؤلاء الآخرين من يضمر لنا العداء ويحاول ان يصفي حسابات غابرة كانت له مع اجدادنا عن طريق ايراد وتقرير مواقف واحداث في سياقات تناسب تلك الحسابات ويراها صحيحة وتدعم وتؤيد وجهة نظره عنها وعنا، ولعل ابسطها مثلا ما اخذنا نطلقه بضمير مرتاح على حقبة القرون الوسطى من انها عصور الانحطاط والظلامية والجهل والتخلف في حين ان هذه العصور مثلت ذروة الاشراق والتقدم والحضارة لدينا، وهذه قضية أخرى ليس هذا مجالها.

ادى استنفار المخزون التاريخي من العقائد والفلسفات إلى الانكفاء الشديد على الذات الاعتبارية المتصدعة للامة، كما ادى إلى استحضار ماض ذهب إلى حال سبيله بكل ما فيه من ظروف ووقائع وصداقات وعداوات وتحالفات وصراعات لم يعد هذا مكانها ولا زمانها في الوقت الذي انفتحت هذه الدنيا بعضها على بعض ولم يعد مناسبا لها ولائقا بها ما وجدناه في اقبية التاريخ من تصفيات وتوصيفات وافكار كان لها وقع السحر علينا من حيث كونها اوراقا ثبوتية تبين هويتنا الحاضرة دون ان نتمكن من ادراك حيثياتها ومقدماتها واسبابها فضلا عن استيعاب نتائجها التي اتت في وقتها ذاك، وكان ان التصقت تلك الافكار والاجتهادات التصاقا عقائديا عشوائيا افرز مفاهيم جديدة استعصت على فهم العالم المعاصر نظرا لغرابتها عن المنطق السائد في قياس الامور، حيث ان لكل زمان منطقه الخاص به في التفكير والاستنتاج والاستنباط، وما تقسيم العالم إلى دار للحرب ودار للسلام وما جاء لاحقا من شطر الدنيا إلى فسطاطين واحد للكفر والثاني للايمان إلا واحدة من تلك الامور التي جعلتنا نظهر كصورة ناشزة في المشهد العالمي.

إن استجلاب عقل ووعي الماضي واعتناق منهجه وعواطفه في الحاضر وتبني كل ما احتواه من عداوات ونزاعات وحروب واسقاطها على الواقع الآتي المعيش قد انعكس سلبا علينا قبل غيرنا واسرف في تعميق شروخ ذاتنا المتصدعة اصلا، وها هي الصراعات الدموية بين المذاهب والاعراق والاديان تكاد تقسم على صحة ما اقول، والضحية في كل هذا المشهد هو نحن دون غيرنا، والمستفيد هو اعداؤنا الحاليين الذين لم نعد نراهم بعد ان استبدلناهم بأعداء افتراضيين لا وجود لهم إلا في اساطير الاولين، وإلا فما معنى أن يقدم أحدهم على تفجير نفسه تحت عنوان «الجهاد» في دار للعبادة وسط المصلين لمجرد انهم يصلون بطريقة لم ترق له، وما معنى إقامة دعاوي الحسبة على اشخاص وتجريدهم من ممتلكاتهم، والتفريق بينهم وبين ازواجهم لمجرد انه قال أو اعتنق أو حتى فكر بأسلوب لم يعجب البعض، وما معنى اثارة الجدل والسجال حول قضايا لم تكن وليست مؤهلة لأن تكون يوما ذات موضوع مثل تعدد الزوجات والنقاب والحجاب بل وحتى قيادة المرأة للسيارة لتصبح وحدها مقياسا للتدين والورع وصدق الايمان؟

يقودنا هذا إلى تساؤل لابد من طرحه بجدية عما إذا كان التراث يكفي لإثبات الهوية، وعن كيفية الخروج من هذا المأزق التاريخي الحضاري الذي وصل بنا إلى هذا المنحدر على مركبة استحضارنا السطحي لهويتنا من خلال الماضي، بحيث صرنا اسرى لذلك الماضي بكل ما كان فيه من سلبيات واخطاء وخطايا وما اكثرها دون ان نتمكن أو نرغب في التقاط ايجابية واحدة من ايجابياته دون امل في الخروج منه إلا بتغيير جذري في منهج وطريقة التفكير وفي آليات الفهم والاستيعاب، فلم يقدنا الانكفاء على الميراث إلا إلى انغلاق الذات وتقوقعها على مكوناتها الدقيقة ليقوم كل عرق وكل مذهب وكل دين لنا بترسيخ مفهومه الضيق عن نفسه وعن الآخر، حتى اصبح لكل فئة من هذه الفئات «ذاتها» الخاصة و«اخرها» الخاص إلى أن اضطربت الرؤى وضاعت الاهداف، وخسر الانسان أو كاد يخسر كل شيء، الوطن والانتماء والمستقبل والماضي والحاضر والآمال والاحلام والانسانية، باختصار شديد.. كل شيء!

لقد ازداد المشهد العالمي تعقيدا بعد غزوة منهاتن في الحادي عشر من سبتمبر، حيث اوقعنا ذلك العمل في اتون حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وايضا لا قبل لنا بها ولا مصلحة، وقادتنا تلك الحماقة المتطرفة إلى صراع مع اناس اشد حمقا وتطرفا شاءت المقادير أو المصادفات ان يقيض لهم حكم العالم من خلال ذلك البيت الابيض، وفي تلك اللحظة التعسة من عمر البشرية لنجد انفسنا وقد انحشرنا بين مطرقة المحافظين الجدد وسندان القاعدة في حرب ضروس بين اصوليتين، حرب عالمية لا منتصر فيها إلا الجنون وليس من خاسر فيها سوى الإنسان بكل مقوماته واعراقه ودياناته وأوطانه، حرب نشبت ولا يتوقع لها ان تخبو قريبا بين اناس قد فقدوا الذاكرة، وقوم لا ذاكرة لهم من الاساس.



#محمود_الباتع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سقوط زيتونة !
- هل كان يجب أن تموت بدور؟
- الإنسان والغريزة والأخلاق
- نحو فلسفة أخلاقية للاختلاف
- أحداث نهر البارد .. من المسؤول؟
- عاشقة الليل تستأذن بالرحيل
- نحن وعصر المابعديات
- رعاةُ البشر .. فرقوا ولم يسودوا
- ماذا نريد من العلمانية ؟
- الأكراد والعرب .. أية علاقة؟
- التطرف ومنهجية التقديس
- قراءة في إعلامنا الأصفر
- عيدٌ للحب .. ما المانع ؟
- قلبي للبيع
- فلسطين .. بين الموت والحياة
- إعدام صدام .. إحياء ميت
- تهويمة العيد والعام الجديد
- المرأة المفترية .. والرجل المفترى عليه
- ربوني .. وبعرف أهلي
- الرجل متوحش ولكن .. لماذا تتوحش المرأة ؟


المزيد.....




- هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش ...
- القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح ...
- للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق ...
- لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت ...
- مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا ...
- رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
- الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد ...
- بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق ...
- فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
- العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمود الباتع - وماذا بعد فقدان الذاكرة؟