نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 2054 - 2007 / 9 / 30 - 08:59
المحور:
الادب والفن
الكتاب: "يمشون على الريح – او هي عودة الى بيسان"
الكاتب: سلمان ناطور
اصدار: "مركز يافا للأبحاث" – الناصرة
بقلم : نبيل عودة
الكاتب سلمان ناطور، من أبرز أدباء الكتابة التوثيقية بما فيها التحقيقات الصحفية التاريخية، في الأدب العربي داخل اسرائيل. وما زلت أرى ان أبرز تحقيقاته التوثيقية هو ما كتبه عن المجازر التي ارتكبت في عشرات البلدات العربية الفلسطينية في حرب عام 1948، وإقامة دولة اسرائيل، وأعتقد انها من أجمل وأبرز أعماله (كتاب "ما نسينا"). كذلك عرفناه كاتباً قصصياً ومترجماً!
في كتابه "يمشون على الريح" أو "هي عودة الى بيسان" يعيدنا سلمان الى رحم المأساة من زاوية غير متوقعة. الكتاب صدر قبل عدة سنوات, ومع ذلك السنين لم تفقده حرارته, واليوم عندما أعيد قراءته من جديد, أعيش مرة أخرى أجواء النكبة, ولكن من زاوية غير متوقعة.. ينجح سلمان في تجسيمها أمامنا, عبر مأساة شخصية لفلسطينية تحلم بالوطن, الذي لا تعرف من تفاصيله عير الانتماء والألم والحب الذي لا ينتهي, وأمنية ان تصبح جزءاً من ترابه وأشجاره وسمائه. بعيداً عن الكراهية للآخر.. الذي يحتل بيتها وأحلامها.
الكتاب مقسم الى عشرة مقاطع – روافد، تلتقي في مصب واحد، اسمه بيسان، تلك المدينة المرهقة من كثرة مغتصبيها عبر التاريخ, وخاصة أشرسهم, الذي يحاول ان يزوِّر تاريخها وانتمائها, ويمحو من ذاكرتنا الجماعية مكانتها. انها بيسان التي يربو عمرها على ستة آلاف عام. والتي خلدتها فيروز في أغنية تخترق أعماق الذاكرة وتجعلها نابضة بالحياة.. وتجعل من مأساتها, تجسيماً لإحدى أكبر جرائم التاريخ. أحياناً تبرز بيسان باسمها الروماني "سكيتربوليس" وأحيانًا باسمها الفلسطيني "بيسان" وأحياناً باسمها الجديد "بيت شان"... واختلاف التسمية لم يكن صدفة، انما لنقل الواقع والموقف والتغيير الحاصل... تبدأ الحكاية من باريس وروما... حيثُ التقى سلمان ناطور بشاعرة ورسامة فلسطينية، اسمها فدوى حبيب. والفنانة فدوى في العقد السادس من عمرها، والأصل من بيسان، هربت مع أهلها من الموت المباشر، الى الموت البطيء في عواصم رمادية، بلا هوية وبلا كيان تنتسب اليه، وعبر تدفق كلمات مونولوج مأساتها الخاصة، يتجدد في نفوسنا ما بدأ يتلاشى في الذاكرة، ترجع لمخليتنا المأساة بوحشيتها، تتجسد النكبة باسقاطاتها، نلمس معاني التشرد والشوق للوطن المفقود، وتبقى مسألة غير مستوعبة، أصعب من ان يهضمها العقل... حقيقة الانسان بلا وطن، بلا ملاعب الطفولة, بلا ذكريات.. ربما نتخيل معنى ذلك، ولكننا لن نفهم صعوبة هذه المعاناة ووحشيتها المجسمة بالضياع في متاهات لا تنتهي... كما يعيشها أبناء شعبنا, المحرومون من وطنهم وذكرياتهم وتواصلهم مع تاريخهم وأرضهم. سلمان يعيدنا عبر فدوى، عقوداً عدة الى الوراء، الى بيسان المدينة التي تحمل عبق التاريخ بامتداداته الكونية, وتتحول بيسان، بيسان الفلسطينية الفيروزية, الى محور لهذا الكتاب، الى ملتقى المصائب... ملتقى الأحزان، يتركنا سلمان، ربما بقصد... نكتشف عمق الجريمة التي ترتكب، والاغتصاب المتواصل لتاريخنا وانسانيتنا وذاكرتنا وكرامتنا. فدوى تزوجت من مغربي، والده كان شريكاً لتاجر يهودي، أولاد اليهودي غادروا المغرب الى اسرائيل، ربما يسكنون في بيت فدوى، في بيسان. تقول فدوى لسلمان: - "إذهب والتقِ هؤلاء الناس، تجتاحني رغبة جنونية لأعرف ماذا يقولون، وكيف يشعرون، وبماذا يفكرون؟ وهل استطيع أن أكون مطمئنة من أن الذي قتلني وورثني، لا يكرهني؟ هل هناك انسانية أعمق وأكبر من انسانية فلسطينية صودرت أحلامها, ونكبت بوطنها, ويقلقها ان لا يكرهها قاتلها ومغتصب ملاعب صباها ؟ وها هو سلمان ينفذ رغبتها، يتجول في بيسان، ويحاول أن يدمج بين الماضي والحاضر.
المقطع الثاني يتحدث عن الشاعر العبري الإنساني "عمانوئيل بن سابو" الذي اشتهر بقصائده الاحتجاجية ضد الاحتلال ونشاطه في دعم الحقوق الفلسطينية، وكان ينشرقصائده في صحف عبرية، ويوقعها باسم "خميس توتنجي"، وهو اسم سائق تكسي فلسطيني قتله متطرفون يهود عام 1985 قرب مفرق "معليه ادوميم" انتقامًا لمقتل سائق تكسي يهودي. سابو نشأ نشأة دينية، وتربى تربية صهيونية، بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى، ساهم مع "تساحي هنجبي" وأمثاله بمحاولة "إنقاذ" أرض إسرائيل الكبرى، ورفض الانسحاب من سيناء المصرية في وقته. ونشر سابو ديوان شعره الأول عام 1982، وكان ديوانًا يطفح بالقصائد الشوفينية المتطرفة، ولكنه سرعان ما اكتشف ضلاله وأنقذ إنسانيته، ورفض النهج الشوفيني، نهج غوش إيمونيم وارض اسرائيل الكاملة وسائر الفاشيين الغلاة، وانحاز الى جانب الانسان, الى جانب الحق، الى جانب السلام والمساواة والعدل. الى جانب الحقوق المشروعة والانسانية للشعب الفلسطيني. يجمع سلمان بين مصائر الناس، يدفع سابو للقاء عائلة خميس المقدسية, عائلة سائق تكسي قتله المستوطنون الفاشيون, وينقل نتائج اللقاء... ربما هي صورة صغيرة لضرورة اللقاء بين الشعبين، وليسَ بين أفراد فقط, انها شهادة على طيبة الإنسان، بغض النظر عن انتمائة الاثني أو الديني.. اذا ما عاد الى انسانيته. ومع ذلك لي بعض الملاحظات... صحيح انني لتحدث عن مأساة قديمة, ولكن التاريخ لا ينسى ولا يهمل المآسي ما دامة مسببها قائما ويرتكب كل يوم ما هو أكثر بشاعة, وأكثر وحشية بحق شعب سائق التكسي.. وربما هذا ما دفعني لاعادة صياغة ما سجلته في دفاتري عن كتاب سلمان ناطور "يمشون على الريح ".. ونشره في الشبكة العنكبوتية, للمعرفة والتوثيق بنفس الوقت.. لأننا نعيش كل يوم فصلاً جديداً, وعلينا ان نبقى على صحوة.. ان لا نفقد انسانيتنا, لأنها أقوى سلاح نملكه... وآمل ان يستعيد شعبنا هذا السلاح الذي لا يهزم.. ومع ذلك لا بد من ملاحظات للنقاش... وللتفكير من جديد. في كتابة يضعنا سلمان ناطور أمام اناس لا نلقاهم كثيراً في الواقع الإسرائيلي، بحيثُ يجعلك تتوهم أن المشكلة القومية، مشكلة النزاع العربي الإسرائيلي، في طريقها الى الحل، فهم ضد الاحتلال، وضد حكم شعب بالقوة، ضد اضطهاده ومعاملته القاسية. يريدون حياة هانئة, بسلام, بلا وجع رأس, بلا خوف وبلا كراهية.. وهذا ما يجعلني أتسائل، هل حقًا الصورة زاهية بهذا الشكل؟! لا أنكر وجود قوى سلام متعلقة، بل وقوى يمينية متعقلة نسبيا, ولكني لا أستطيع ان أفهم أن يبرز الكاتب، هذه القوى، بحيثُ تحتل معظم مساحة الكتاب وجوه، تاركاً للنهج الرسمي والفاشي الحواشي... أو الحضور الملطف، مما يتناقض مع الواقع الذي نحياه...
الملاحظة الأخرى: سلمان ناطور في عرضه لشخصياته كان مثاليًا تمامًا، ربما من منطلقاته الشخصية الفكرية... بحيثُ أعطى الطيبة حدوداً مغرقة بالمثالية، الذي يقرأ عن يوسي ويوني ورضوان وألبرت وأحمد.. يشك انه موجود في الجنة، حيثُ تجري أنهار من الخمر والعسل، وعشرات الحوريات، يتجولن بين المحظوظين عند ربهم، ولسنا في إسرائيل، أو بيت شان بالتحديد، بيسان المغتصبة.. فكل شيء ملطف... المشاكل العرقية غير ملموسة, المشاكل القومية في خبر كان... والعنصرية والشوفينّية أوهام فلسطينية ربما, الاستغلال غير ملموس، بكلمة من الرابي يستجيب المقاول ويدفع اجرة العامل العربي"!!"... والكل ضد الاضطهاد، من أعضاء الليكود والمفدال حتى قسم كبير من الجيل الجديد (طلاب المدرسة) ولا وطن ضائع كما ارتسمت الصورة في البداية بكل حدة... أعتقد أنك بالغت أو خدعت، أو جرتك اللعبة الأدبية.. يا سلمان. صحيح اننا انسانيون ومسالمون، ونناضل بالوسائل المشروعة، التي يسمح لنا بها مضطهدونا... لنيل حقوقنا... ولا نكره الشعب الآخر، ونعتقد أنه مضلل من قيادته، التي تلقي به وبنا في مهاوي الردى، ومع ذلك يجب أن لا نغفل للحظة أو نتساهل أمام حقيقة وجود تيار فاشي شوفيني يزداد شراسة وعدوانية ضد الفلسطينيين وضد اليهود أصحاب الضمير. أنا بشكلٍ خاص لم تقنعني تلك المقاطع، رغم جمال صياغتها، وجاذبيتها. فالواقع الاجتماعي والسياسي الذي نحياه، طغى على كل صوت آخر، وكان مناقضًا للصورة الجميلة الملتقطة على خلفية الجرح البيساني الذي لم يتوقف نزيفه الدامي. وحتى اليوم عندما أعيد قراءة هذه الوثيقة المكتوبة بروح أدبية انسانية, وأضيف للنص الذي سجلته في وقته, أشعر ان المبالغة في رؤية الجانب الانساني, مع كل اهميتها, تقودنا الى طمأنينة سلمان نفسه لم يقصدها, وقد تكون شخصية الأديب المبدع, تفوقت في لحظة الكتابة على الموثق. ربما سلمان لا يرى نفسه كاتباً وثائقياً, ولكننا لا نعرف تسمية لهذه الكتابة أكثر دقة من التوثيق. حتى الكتابة بالاعتماد الذاكرة الجماعية, هي توثيق, رغم انها مليئة بالتفاصيل المتناقضة والمتقاطعة، ولكن ما يبررها, هو اهمية حفظ ذاكرة شعبنا من النسيان, ذاكرة تلقي الضوء على الواقع من زوايا شخصية, ذاتية جداً أحياناً، ويبقى كشف الحقائق التاريخية وفصلها عن الذاتي, مهمة للباحثين المتخصصين. سلمان يحاول أن يجعل من كتابه لوحة لـ"بيت شان" – الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل.. وفعل حسن حين انهاه "بعرس في السماء" عن مقتل فتاتين، فلسطينية من نابلس ويهودية من بيت شان، في اسبوع عرسهما، كأنه يحذر من حلقة سفك الدماء المغلقة. وكأني به يقول، ها هو الجرح الذي لا يزال مفتوحًا، رغم الزمن. وينتظر أصحاب الضمائر ليضعوا حداً له, ولكن حقيقة المؤلمة ان ما كان هو حلقة في سلسلة نشهد كل يوم مأساة جديدة من حلقاتها, التي لم تتوقف بعد. واضح ان مأساة الأم الفلسطينية، كأم... لا تختلف عن مأساة الأم اليهودية، كأم, وهذا صحيح أمس واليوم وغداً ودائماً. المسؤول عن الموتين هو طرف واحد، وهو لم يبرز في النص، بل شعرت ان هناك مساواة في الذنب، مساواة بين المستوطن الذي قتل بدم بارد الفتاة الفلسطينية، وبين حجر الانتفاضة الذي قتل الفتاة اليهودية. نحن نرفض الموتين، ويؤلمنا هذا الموت، ولكنا نرى أن المجرم واحد، المذنب واحد... وهو الاحتلال والاستيطان الكولنيالي.
ان سلمان ناطور رغم كل ملاحظاتي، يقدم لنا عملاً هامًا يحمل نكهة خاصة، ويثير الكثير من الخواطر والمشاعر، ويجدّد بالنفس مرارة وحزن الضياع، الضياع في الغربة، والضياع في الوطن، والذهول أمام أطلالنا، وتاريخنا الذي تبعثره الرياح. ويبقى كتاب "يمشون في الريح" عملاً يحمل الكثير من الخصوصيات، يضاف لرصيد سلمان ناطور... وهو, وهذا المهم, يبرز انسانية الفلسطيني في مواجهة قاتله. وكأني به يرمز الى أهمية الغاندية (اسلوب غاندي في مقاومة الاحتلال البريطاني للهند سلمياً, الذي حقق الحرية والاستقلال للهند) في نضال الشعب الفلسطيني. كتبت ملاحظاتي على الكتاب منذ صدوره.. وقرأته من جديد.. قبل ان أقرر نشر ملاحظاتي.. روما يدفعني لفتح دفاتري القديمة.. رؤيتي لأهمية اعادة الكشف عن نتاجنا الأدبي والفكري, في ظل الفوضى الثقافية والترهل الفكري الذي صار مميزاً لواقعنا الاجتماعي.
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟