نايف أبو عيشه
الحوار المتمدن-العدد: 2068 - 2007 / 10 / 14 - 14:12
المحور:
الادب والفن
تحسس الاستاذ صالح القطعة النقدية من فئة العشرة شواقل , ومشى في السوق المكتظ بسائر الحاجيات المعروضة للبيع , وهو يفكر متى سيكون بمقدوره شراء أي منها بدون تردد .لكن المشكلة في القرض الذي استلفه من البنك , والفسط الشهري من راتبه جعله مجبرا على التفكير عشر مرات اذا قرر شراء اية اغرض ضرورية للبيت . ان القطعة النقدية التي يحملها مع ارتفاع الاسعار لا تشتري الا الخبز وبعض البندورة وربما بعض البطاطا , اما الفواكه واللحوم واشياء اخرى كثيرة فلا يقدر الا النظر اليها من بعيد , والتسويف الى اول الشهر الجديد مع وصول الراتب .افاق من افكاره على صوت المراة التي وقفت قبالته تحمل على كتفها طفل صغير , وكلاهما في حالة يرثى لها من البؤس والشقاء وضيق الحال, سالته مادة يدها امامه " من مال الله , على شان الطفل المريض "؟ تمهل لحظة وفكر ان يعطيها الفئة النقدية التي ظل طوال النهار ممسكا بها في جيبها ويتفقدها بين الحين والاخر , ولكنه عندما تذكر المطلوب منه شراؤه بها قال مترددا وهو يحاول تخطيها " الله ييسر لك ". ابتعد في زحمة السوق مقهورا يتملكه الشعور بالذنب . فلو كان معه زيادة لاعطاها ولو ان القطعة النقدية منفرطة الى شواقل لتصدق باحدها , ولكن في حالته تلك لم يقدر لانه بحاجة اليها مثلها وربما اكثر.افاق ثانية على صوت صديقه ابو المعتز يناديه من قلب دكانه , فلم يتردد بالدخول ومصافحته والجلوس عنده حتى موعد صلاة العصر. وقبل ان يسال كل منها الاخر عن صحته وحاله واحواله , جاء الزبائن تباعا لشراء حاجياتهم , وصاحبه يقبض الثمن ويدسه بالجارور القريب , وهو يعتذر لصديقه لانشغاله عنه بالبيع , وعندما ذهب الجميع جلس قبالته وهو يقول له " الوضع هذه السنة صعب كتير والبيع مش كل هذا , رغم انتظام الرواتب للموظفين ورغم رمضان "تمتم الاستاذ نادر وعيناه تلحظان جيوبه التي انتفخت بالاوراق النقدية " الوضع صعب على الجميع " علق صديقه " بصراحة تضررنا كثير من ارتفاع الاسعار وخف البيع عن العام الماضي " رد الاستاذ وعيناه تسترقان النظر الى البضائع المكدسة فوق الرفوف من الارض وحتى السقف " المواطن العادي هو الذي يتضرر لانه سيشتري مهما كان الثمن ,اما التاجر فانه يرفع السعر حسب السوق " هتف صديقه " صحيح يا استاذ لكن بدلا من البيع طول النهار بعشرة الاف كنا نبيع بعشرين واكثر " قبل ان يرد عليه الاستاذ بكلمة تدفق فوج اخر من الزبائن تباعا وعملت يدا صديقه بمهارة لتحضير الاغراض لكل منهم بسرعة لانه يعرف مكانها , وقبض النقود منهم ودسها في جيبه . فجاة وقع نظر الاستاذ نادر على المراة وطفلها تدخل الدكان مادة يدها تطلب صدقة بنبرة ذليلة , لكن الرجل صرفها باشارة من يده وهو يقول " توكلي على الله "! شعر الاستاذ بالحنق والغضب من تصرف صديقه وتمتم " لا حول ولا قوة الا بالله " صاح صديقه " يا رجل مش معقول , كل دقيقة تيجي لك واحدة على ايدها ولد او بنت بدها صدقة . من وين نجيب لهم ؟ اوف ناس لا بتعذر ولا بتشبع قد ما تعطيها " نهض الاستاذ نادر وهو يتنهد مقهورا مما راى وسمع من صديقه وصافحه بسرعه وخرج لا يلوي على شيء والاخير يقول " بدري يا استاذ ما خلصنا حكي " اشاح الاستاذ بيده من بعيد واختفى بين جموع الناس المسرعين كل الى جهته في السوق التجاري المزدحم بالعربات والبضائع .عندما خرج من الصلاة في المسجد , كانت في مخيلته صورتان الاولى للمراة وطفلها والثانية لصديقه صاحب البقالة الذي لم تطاوعه يده ان يمدها بصدقة للمراة ولو بشيكل واحد رغم المال المتدفق اليه طيلة ساعات النهار .وفي قرارة نفسه صمم ان لا يدخل دكانه مرة اخرى وان عاتبه سيعرف الرد المناسب في حينه . وجد نفسه مرة اخرى امام ذات المراة تمد يدها وتطلب صدقة من اجل طفلها . لم يتردد هذه المرة في اخراج القطعة النقدية اليتيمة في جيبه ناولها اياها , فسمعها تردد " الله يعطيك, الله يجبر خاطرك " احس بارتياح كانما حمل ثقيل ازيح عن كاهله وظل يردد "لا حول ولا قوة الا بالله " ثم تساءل في قرارة نفسه "هل كانت زوجته ستفعل مثلها لو اضطرتها الظروف لذلك ام لا ؟". لم يبتعد كثيرا عن المسجد حتى لقي زميله الاستاذ نادر , الذي كان قد انتقل لمدرسة اخرى , تصافحا بحرارة و واطمئن كل منها عن صحة الاخر واحواله , وانتقل الحديث بينهما عن مشكلة الرواتب واقساط القروض . ومن سياق الحديث لاحظ زميله نبرته المهمومة فساله ان كان بحاجة للنقود , الا انه تمتم بنيرة خجولة " الحمد لله مستورة " . عندها قال زميله وهو يناوله ورقة نقدية من فئة مائة شيكل " بدون احراج , هاي مائة شيكل واخر الشهر وقت تقبض ترجعها " رفض الاستاذ صالح ان ياخذها وهو يقول الحمد لله مستورة " لكن زميله الذي يعرفه جيدا قال بالحاح " اسمع يا صاحبي , انا بعرف ظروفك منيح , وانا ما عندي قسط لقرض ولا غيره , واسرتي صغيرة , والناس لبعضها , وانا ما بتصدق عليك صدقة . اعتبرها دين لوقت القبضة " دسها الاستاذ صالح في جيبه وهو يشكر زميله , لكن الاخر قال معاتبا " ولو يا استاذ صالح احنا زملاء واصدقاء ونشعر مع بعض , وانا محرج اني اعطيك مائة شيكل لاني بالمائة التانية لازم اشتري اغراض للبيت " . شكره ثانية , واشترى كل منهما اغراضه وافترقا . عندما وصل الاستاذ صالح البيت وهو يحمل حقيبته والاغراض التي اشتراها , سالته زوجته من بعيد بنبرة عدائية " ليش تاخرت كتير اليوم ؟" , رد عليها لاهثا " تعالي احملي الاغراض معي بدل ما تفتحي لي تحقيق ليش متاخر "
تقدمت اليه تناولت منه اكياس النايلون الملاى بالخضار والفواكه واللحمة , وسالت ثانية باستغراب " صحيح , انت ما كان معك الا عشرة شيكل من وين هاي الاغراض كلها ؟" ساله بنبرة حادة "انتي بدك عنب والا تقاتلي الناطور ؟" ردت بنيرة لا تخلو من سخرية " بدنا عنب لكن مهم نعرف كيف جبناه " , تمتم بنبرة مقهورة " لا حول ولا قوة الا بالله " تابع قبل ان ترد عليه " المهم هاي الاغراض , ومعهم لحمة جهزي لنا الطبيخ قبل يضيع الوقت , وانا داخل انام وارتاح من المشوار " . قالت من بعيد وهي تدخل المطبخ " انا جهزت طبخة عدس اليوم وخلي اللحمة لبكرة ".تراكض الاولاد صائحين فرحين بقدومه للبيت وكل منهم يخبره عما حدث معه في المدرسة خلال اليوم . جلس على مقعد قريب وضمهم اليه وهو يتامل وجوههم الفرحة والذابلة من تاثير الصوم , وعندما اخبرته اصغرهم والتي كان يميزها عن باقي اخوتها بحبة خاصة , انها تصدقت من مصروفها بشيكل على رجل فقير , رد معاتبا " هيك محيتي الحسنة اللي عملتيها " سالت ببراءة " ليش بابا ؟" رد عليها بنبرة ودية " لان الواحد منا وقت يتصدق بشيء ما لازم يحكي للناس عنه , ولا حتى ايده الشمال تعرف عن ايده اليمين " صاح شقيها الذي يكبرها بعام مبتهجا " هييي , سوسو ضيعت الحسنة وهي بتفكر حالها اشطر منا " بكت الطفلة , وضحكوا منها اخوتها , لكن والدها مسح دموعها وضمها اليه " ما تسمعي كلامهم ربنا يحاسب على النوايا . اذا نيتك تعملي الخير يسجل الحسنة لكن بشرط ما تكرريها " هدات الطفلة وقالت " ما بكررها احكي عن الصدقة " عندما دخل لينام جاءته زوجته وقالت " اليوم انا طبخت عدس , و... " صاح مقاطعا " اعملي صينية لحمة للاولاد واحنا نوكل العدس " . سالت بنبرة فضولية " هاي اغراض كتيرة وما معك الا عشرة شيكل من وين جبت "؟ رد صائحا " حلي عني بدي انام وارتاح شويه قبل الافطار وما تنكدي علي " علقت وهي تبتعد " اكيد اعطوهم سلفة وما بده يحكي لي " نفخ بغيظ وهو يواري راسه وعبثا حاول النوم والافكار تجول بخاطره , وعندما افاق على صوتها تناديه للافطار ,وقبل ان يجلس الى المائدة راى صينية اللحمة صاح بها " ليش صبرتي عليها حتى انحرقت ونشفت هيك "؟ ردت وهي تجهز باقي لوازم المائدة " فكرتها تتحمل مثل لحمة الخاروف " .جلس الى المائدة ساهما يفكر , وعندما ارتفع صوت الاذان شرب بعض الماء وارتشف عدة مرات من صحن العدس الساخن , وعندما راى اولاده لا يستطيع أي منهم مضغ قطع اللحم المتيبس من الشواء بالفرن ,رمقها بنظرة مؤنبة , وهو يقول " صدق المثل . النساء ثلاث اصناف مرة ومرمرة ومسمار بالعنترة " !
نايف أبو عيشه
24/9/2007
#نايف_أبو_عيشه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟