|
زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2049 - 2007 / 9 / 25 - 11:32
المحور:
الادب والفن
1 لحظة إلتقاط صورته ، الأولى ، ما كان ثمة علامة شقاءٍ تنبي بما يعدّ لأقدار هذا الولد ، المُضيف بضعة أشهر إلى عامه الأول ، والمتكئ على برعم عمره ، الطريّ ، كما على يد والده ، الخشنة . الصورة هذه ، المأخوذة في " ستديو ملوحي " ، المحتفي به مركز الشام القديمة ، هيَ الأعتق في تأريخها لطفولة صبيّنا ، وتشي بما إنتكست به هيئته ، الأصل ، من حال المذكر إلى حال المؤنث ؛ وهوَ المنقلب ، المُحال إلى إخباتٍ يُفترض فيه صرف العين الشريرة . بيْدَ أنّ ما سبق لا علاقة له ، على الأرجح ، بتصاريف اخرى في حياة الطفل ، ما كان أقلها تعاسة ً إختفاء أثر الأب لاحقاً ، والذي دهمَ بيته الحالم ـ كما كابوس ٍ مُخلبَس . وعلى أيّ حال ، فما أبه هذا اليوم ، الربيعيّ ، سوى بشهادة صبيحته على التأريخ المصوّر ذاك ، كما على مضيّ الصبيّ ، خلل ظهيرته ، جهة الدكان الكائن على ناصية المدخل السفليّ للزقاق ، والمتزلف ذوقه بسكاكر ، سائغة . في إنحداره إذاً نحو ذلك المقصد ، صحبة شقيقتيْه الكبيرتيْن ، كان لا بدّ أن يعترضَ طريقه عارضُ السوء ، الجاثم ثمة ـ كهَوْلة ؛ " عربيّة " ، المرأة الكهلة ، المبتلية بالثكل وزرقة العينين . في ذلك اليوم المعتدل من أواخر آذار ، كان الصبيّ مكتس ٍ ، كالمعتاد ، ملبَس البنات الزاهي الألوان ، والمُضافر بضفيرة واحدة ، مقتصدة ، ضامّة شعره الغامق اللون . خلل الأبواب والنوافذ المشرعة ، إعتادت أيضاً إبتساماتُ جيراننا ، النسوية ، مرافقة سير هذا الولد الحلو ، مما كانَ يجلب غبطة مرافقتيْه / التوأم المزعوم . على أنهما هناك ، أمام العتبة المزدلفة جلسة العجوز تلك ، سرعان ما إعتراهما التغيّر . إذ تحولت النظرات القلقة ناحية الشقيق ، مشفوعة بهمزات لكتفه الدقيقة ، في حثه على إسراع الخطى . حال إجتياز الأخوة للعتبة المحرّمة ، همست أوسطهم ذات الشعر الأشقر ، متنفسة الصعداء : " الحمد لله ، لم تنده علينا هذه المرة " . ـ " ولكنها حدجَتْ الولد بعينيها الزرقاوين ، الشريرتين ! " بما أنّ هذا هوَ لونُ عينيّ الشقراء ، أيضاً ، فكان لا بدّ لها أن تفهمَ همزة الأخت الكبيرة . ولكنها كظمت ما تبَطن نفسها ، مظهرة ً إهتماماً بأمر آخر ، وما لبثت أن أجابتها بتشديدٍ على مخارج الحروف : " الحق على ماما . كان يجب أن تخفي ضفيرته قبل كل شيء " . ثمّ راحت ، على الأثر ، في تلويحة دائبة لضفيرتها الكثيفة ، كيداً للشقيقة اللدودة .
2 اليوم المستهلّ فيه أيلول ، والمطابق إتمامي عاماً آخر في الحياة ، أسجى عليه حدثٌ آخر ؛ حدث ، ما كنت وقتئذٍ ، بطبيعة الحال ، لأعرف كنهه : وحدة إندماجية ، ربطت بلدنا ببلدٍ بعيد لا يعرف أهلونا بدورهم شيئاً عنه ، خلا ما كانت ترفدهم بها الإذاعة وشاشة السينما . لا غروَ إذاً ، أن يوم ميلادي ذاك ، كان مؤتلقا بصدح موسيقا صاخبة ، تتناهى عبرَ الأثير ، مصحوبة بأغان حماسية . بدا يوماً ، كأنما هوَ عيدٌ يؤشر بعلامة الفرح لعيديَ المفقود . من جهة اخرى ، كنا وقتذاك على جهلنا ، السعيد ، ببدعة الفرنجة الموسومة بـ " عيد الميلاد " ، اللهمّ إلا ما أشتبه بكونها عيد النصارى ، المعلوم لدينا في الزقاق ؛ بما أنّ أحد بيوته الممهورة بختم الإيجار ، إعتادَ الإحتفال به وبمشاركة جيرانه المسلمين ، غالباً . على أنّ كل الفرح ذاك ، الرسميّ ، ما قدّرَ له أن يغشى حياة أسرتنا : توترٌ وقلق وضيق ، راحَ يكتنف مسلك المنزل ويحيله منذئذٍ إلى غير طبيعته الهادئة . بعد أعوام طوال ، دهشَ أبويّ بحق ، لما تدخلتُ في حديثهما المتطرق للفترة تلك ، المنعوتة في قاموس حارتنا بـ " زمن عبد الناصر " . أذكره يوماً ، مبهم الملامح ، قادني خلاله قريب ما ، إلى مكان ما أشْغرَ فيه والدي عن أعين من كانوا يلاحقونه . رأيتنا على تخوم " البدوي " ؛ الخلاء الشاسع ، الفاصل حيّنا عن قرية " القابون " ، والمفروش بكروم الصبّار والتين والعنب والرمان ، البريّة ، المنذورة للحجاج القادمين من كل فج عميق ، بغية التبرك بالمقام المقدّس ، المركون ثمة . أستعيدُ بشكل خاص تلحفي فروة الأب ، الدافئة ، العبقة برائحته المميّزة ، وذهاب بصري مشدوهاً إلى العم " حسن خسرف " ، في قفزاته البهلوانية ، وكلبه الضخم ، فوق حبل مسنود بدعامتين من كل جانب . " مستحيل أن تتذكر ذلك ، وعمرك وقتئذٍ ما كاد ليبلغ الثلاث سنين " : تؤكد الأمّ بيقين محال إلى شكها بما كنت أقصه . متفرساً بيَ بعينيه العميقتين ، بدا أنّ أبي في موقف أقرب لتصديق روايتي . ولكن صديقه ذاك ، الحميم ، المعرَّف بالوسامة والشهامة معاً ، ما كان بإمكانه عندئذٍ منحَ شهادته للرواية تلك ، الأشبه بأضغاث حلم طفوليّ ؛ هوَ من كان قد قضى في ريعان العمر ، إثر جنوح دراجته النارية في مهلكة إحدى دروب المدينة ، العشوائية .
3 السالك إلى مقام " البدوي " ، من جهة الحيّ ، لا بدّ من مروره بمحاذاة مقام آخر ، لا يقلّ رهبة وغموضاً ؛ وأعني به ، تلك الهضبة المشرفة على الدرب ، المشجرة بالصنوبر اليانع العبق والخالد الخضرة . ويبدو أنّ " قاسيون " ، الأب الخالد ، هوَ من أنجبَ إبنة السِفاح هذه ، في زمن لا علاقة له بأزماننا البشريّة ، متوّجاً بذلك علاقته ، غير الشرعية ، بالأمّ " الغوطة " . ثمة إذاً ، على تخوم الهضبة ، أين تلوح من بعيد أبنية " مشفى إبن النفيس " ، ذات البياض الناصع ، المسوّرة بجدران داكنة ، عالية ؛ هناك ، إرتفع بصر الصبيّ ، ذي الأعوام الثلاثة المطابقة لهذا اليوم الخريفيّ ، مشدوهاً بما يراه : تبدى له " الحاؤوظ " بجرمه الهائل ، كغول مهول ؛ وليسَ بصفته الطبيعية ، كحوض يرفد بمياهه العذبة تلك الأبنية الأنيقة ، كما الثكنة وخيامها وبراكياتها ، البائسة . على أنّ الجبل ، في خلفية المشهد ، كان أليفاً لعينيّ طفلنا ، لدرجة إعتباره إياه حافة العالم ؛ عالمه الصغير ، الذي ما كان يعرف غيره ، والمحصور آنئذٍ ضمن أسوار السفح . عبثا كانت محاولته تمييز الرجال الغرباء ، المجهولين والملغزين ـ كأبطال الحكايات الخرافية ، المحفوظة في ذاكرته الطفلة بفضل وسع خيال شقيقه الكبير . هذه الذاكرة ، وبعد مرور عقود وعقود ، تصرّ على يقين المشهد ، المغروس مثل شتلة في الركن الأكثر عتمة فيها ؛ المشهد ، الخاطف ـ كبارق البرق ، والمحتل كله من لدن شقيقه ذاك . كان " جينكو " يومئذٍ على موعد مع عصبته الصغيرة ، في طقسها الدائب ، المعتاد على الحضور للمكان الممنوع على أيّ كان ؛ عدا أولئك الغرباء ، الغامضين . إعتادوا الإغارة بحجارة مقاليعهم ونقيفاتهم ، المتطايرة نحو تلك الجهة ، مما كان يبعث الحماسة في الأطفال الآخرين ، الفضوليين ، للمساهمة في طقس طيشهم . كان جنود الثكنة ، المرابضة في تلك الهضبة ، وجلهم من الغرباء المصريين ، هم المستهدفون بالحجارة ؛ الجنود ، من ذوي الألبسة الغريبة ، وخصوصاً بناطيلهم القصيرة ، الإنكليزية الطراز . " هرب العفريت من يدي ، ذلك اليوم .. وحسناً فعل ! " : تعلق الأمّ على ذيل المشهد ذاته ، مشددة أيضاً على ما كان من أوهام أهالي الحيّ ، حيال هواء المكان ذاك ، وأنه موبوءٌ بجراثيم السلّ ، المجنحة ؛ بما أنه يضمّ المشفى المختصّ بمعالجة هذا المرض ، المعتبر عضالاً في حينه .
4 طقس شقيقي الكبير ، شبه اليوميّ ذاك ، كان ترجيعاً طفولياً للجوّ المتجهّم ، السائد وقتئذٍ في الحيّ . فكراهية الرئيس العتيد لجمهوريتنا العروبية ، المتحدة ، إنسحبت إلى هذا الحدّ أو ذاك إلى مواطنيه المصريين ، المتوطنين هنا كعسكر أو موظفين ؛ كراهية ، كانت محتدمة في نفوس أهلينا ، وما فتئت مترسّبة ثمة ، بالرغم من مضي السنين الطوال ، حتى أنّهم إعتادوا القول بكل بساطة : " مثل خبز عبد الناصر ! " ـ كنعت للشيء السيء المادة والصنع . وما زلنا أيضاً نترجّع تلك الأسطورة ، المتداولة في كل زمان ، عن خطاب رائد القومية العربية هذا ، الذي إفتتح به الحملة الحاقدة ، المسعورة ، على الحريات السياسية في بلدنا ؛ وتحديداً ، ما زعم من بوحه فيه بجملة مدوّية : " حيّ الأكراد ، هذا الحيّ الإنفصاليّ ! " . قدح الحقد ذاك ، الموصوف ، قدّر لوالدنا وبعد ملاحقة من المخبرين وأضرابهم ، أن يحتسيه صبراً ، وأن يبقى طعمه ، المرّ ، تحت لسانه أبداً : بيتاً بيتاُ ، شهد الزقاقُ تلك المداهمة ، الليلية ، المستهدفة رجله الشيوعيّ ، الأبرز ـ وفق تصنيف سجلات جهاز الأمن ؛ أو " المكتب الثاني " ، كما كان منعوتاً زمنئذٍ . " سحلاً جرّوه على الطريق ، من قدام باب منزلكم ونزولاَ حتى مكمن عربتهم ، على مدخل الزقاق " : هذه الجملة ، إعتدتُ في فترة مراهقتي سماعها على لسان وجيهة آل " كرّي عيشيْ " . لكأنما جارتنا ، المحتسبة آنذاك بقلق علاقتي الحميمة بأحفاد رجلها ، كانت تخاطب وعيي لمخاطر إنزلاقي في الطريق نفسه ، والمتأثر خطى الأب . وإذاً مع غياب هذا الأخير ، فراراً ثمّ سجناً ، وجدَ شقيقي " جينكو " في الأزقة ملاذاً لحيويته المدهشة ، كما ولروحه القلقة سواءً بسواء . بدوري ، رأيتني في تلك السنّ ، المبكرة ، أغشى غموضَ أزقة الحيّ ، العلوية والسفلية ، بما كان من إقتفائي لأثرَ شقيقي ، الأثير ؛ إقتفاء ، دفعت ثمنه غالباً بالنهر والتعنيف : فعلاوة على حذره من إغضاب والدتنا ، كان " جينكو " يشفق على برعم عمري ، الهش ، من تبعات غاراته ، العاصفة ؛ أنا من كنت ، فضلاً عن ذلك ، " مموّهاً " ما فتئتُ بكسوة الأنوثة وبصفتي طفل العائلة ، المدلل . ميزتي الأخيرة ، كان من المنطقيّ أن تنهض كحائل بيننا ؛ خصوصاً وأنني إنتزعتها منه بعلامة ولادتي الذكورية ، الأحدث عهداً . بيْدَ أنّ شقيقي ، في غمرة مغامرات عمره ، المبكرة ، ما وجدَ على الأرجح وقتاً للعنعنات تلك ، المألوفة بين الأخوة . وربما ، إلى الأخير ، ما كان رجل أسرتنا ، الصغير ، ليأبه بعد بأيّ كان ، إثرَ فقدانه لشقيقة روحه : ربما شاءَ إستعادة ذكرياته مع " شيرين " ، وعلى طريقته العنيفة ؛ حينما كانت حجارة طيشه ، الصمّاء ، تتطاير إلى أهدافها ، الإعتباطية .
5 ـ " هاك َ ما فعله قردا شقيقكَ .. ! " محتدّة بسخط ، صارخ ، تقول إمرأة العمّ ، مشيرة لزجاج نافذة الحجرة العلوية ، المهشم ، بفعل غضبة الطفولة . كان رجلها ، دأبه كل مرّة مساءً ، ينصت إليها بغير قليل من المبالاة ، مكتفياً على الأكثر بهزة من رأسه . ولكنه الآن ، إذ عرف منها سبب هذه الواقعة ، الجديدة ، فإنه ما تردد عن قذفها بحجر آخر : " عفارم عليهما ! وأنت جديرة بما فعلاه بكِ " . ففي جلستها المعتادة ، خلف نافذة حجرة النوم ، الفارهة ، كانت " مزيّن " في صباح البوم نفسه ، تتابع ما يجري في الزقاق ، حينما إنجال في فضائه جلبة الشقيقين . من عليتها هذه ، ندهتْ لأولاد الجيران ، ملوحة ً لهم بقطع السكاكر ، المغلفة بالسيلون المقصّب : " هاكم ! " . ثمّ راحت على الأثر تتهاطل مكرمتها على أولئك الأطفال ، المنعوتين بلقب جدّهم ، " حج عبده " . بحدسها الغريزيّ ، أدركت " شيرين " مرمى إمرأة عمّها ، اللدودة ، فلم تحرك ساكناً . إنما حركة شقيقها ، بغتة ً ، فوّتَ عليها إبتسامة ظفر مؤكدة : " وأنا أيضاً " ، إرتفع صوت " جينكو " نحو النافذة الحريمية تلك ، أينَ قبعت صاحبتها شبه متخفية عن الأنظار . هنا ، حانت الفرصة التي إنتظرتها " مزيّن " ، لإستنفاض ما سيعتمل من يأس في قسمات الشقيقين . فإنتهضت مباشرة ً بقامتها المكتنزة ، الفارعة ، وبهتافها الشامت : " لا ، لن تحصل وأختك على شيء .. لأنكما بلا تربية ! " . وبالكاد تمكنت إمرأة العم من التواري ، وقد شدهتها المفاجأة ، لمّا طارَ على الأثر قنوط ُ الولد بحجر غضوب ، مرتطماً بزجاج النافذة اللئيمة . إمرأة عمّنا ، العتيّ ، محضتهما إذاً شرّها المستطير ؛ شراً ، ما كان آنذاك مفهوماً بحال لغضاضة عمريهما . تلك العدوانية تجاه الطفلين ، كان لها على ما يبدو سبب وحيد ، محال إلى حالة " مزيّن " النفسية المحبطة : يقينها الراسخ بحقيقة عقمها بعد سنوات عشر من الزواج ، والذي حاوطه ما دهم مشاعرها من غيرةٍ شديدة ، مبعثها تردد الأقاويل عن نية رجلها الإقتران بإمرأة اخرى . إلى الخالة الصغيرة ، المقيمة لدينا بعيدَ وفاة الجدّ ، إتجهت سهام غيرة " مزيّن " ، الصمّاء ، بعدما دخلَ في وهمها أنّ تلك الزيجة ، المقترحة ، هيَ في وارد خطط والدتنا . " رحمها الله ، كم كانت تعسة بقلة عقلها ! " ، تستطرد كلمة ُ الأمّ ، معقبة ً على تلك الحادثة ، الطريفة ، الموغلة في الزمن ؛ زمن الصِبا ، البائد ، بمشاغله وإهتماماته .
6 في واقع الحال ، فحجارة أخي ، الطائشة ، طالت كل شيء في مرماها كائناً ما كان . وإذ إعتُبرَ في هيكل زقاقنا ، معبودَ لداته ومنذ سنه المبكرة تلك ، فلا غروَ إذاً أن يقودهم في طريقه ، القويم ، إلى أزقةٍ اخرى ، كيما ينثروا في أركانها أسئلة العمر الطريّ ، القاسية . بما أنّ حارتنا و" حارة الكيكية " ، المجاورة ، تتصلان معاً عند مدخليهما العلويين ، فكان من الطبيعي أن تجدَ خطى " جينكو " ، التمهيدية ، وجهتها المطلوبة . ثمة عامل أخر يتأول سابقه ، ويتعلق بوجود حضانتيْ الأطفال ثمة ، الرئيستين ؛ " الإسطمبولي " و " الديركي " . هذه الثانية ، كانت الأقرب للزقاق ، مما حتم على أمهاتنا إرسالنا إليها . وقتذاك ، كان شائعاً أن يوجه الأهل أولادهم إلى الحضانة ؛ أو " الخجا " ، بإسمها الأعجميّ ، أو سمّها ما أردتَ ! أن يقتصر دوام حاضنة زمننا ، الأول ، على العطلة الصيفية غالباً ، فلسبب وجيه على الأرجح ؛ ما دامت مهمتها مقتصرة على " ضبّ " الأطفال بعيداً عن منازلهم والأزقة المحتبية لهذه المنازل ، على السواء . آنذاك ، كان شقيقي في سنته الإبتدائية ، الثانية ، طالباً ذكياً ومشاكساً في آن ، إحتار لصفتيه ، المتنافرتين ، أساتذته وأولي أمره . هيَ ذي عطلة الصيف ، على كل حال ، وقد أضحت على أبواب الأهل ، فلا مكان للطفل المشاغب أفضل من أسوار الحضانة . ولكنّ " جينكو " سبق له أن طُردَ من " مدرسة الإسطمبولي " ، جراء " فصوله " المعتادة . لم يقدّر لي مرة قط ، حظوة الإنتساب لحاضنة الطفولة هذه ، اللهمّ إلا ولوج فضولي ، لمرتين أو أكثر ، في فنائها الداخليّ بحجراته العديدة ، الأنيقة . على أنني بالمقابل ، كنت ثمة أمام بابها الكبير ، الحديديّ المطروق ، على موعد دائب مع خروج أخي ، المنتظر ، حينما كان هوَ بحق تلميذ المدرسة ، الأكثر شهرة . هناك ، شهدتُ بنفسي ما جرى في اليوم ذاته ، المتعيّن فيه على تلميذنا حمل حقيبته القماشية والرحيل أبداً من حاضنة الأطفال الما عادت ، للحقيقة أيضاً ، تليق بسمعته ـ كأفاق ذي دبسة مهولة . " أريدُ نقودي ، حالاً .. ! " : كان " جينكو " لحظتئذٍ يصرخ بالآنسة الشابة ، التي حاولت تهدئته بالقول أنّ قسط الفصل الدراسيّ ، سيسلم لاحقا لوالدته شخصياً . إختفت الفتاة ، فيما ركلاته منهالة على الأثر بوجه باب المدرسة ، الموصد بوجهه . هذا الباب ، ما لبث أن أصدى عنه عويلٌ مدوّ ، أجوفَ وعميقٌ في آن ، إثر تهاطل حجارة المنجنيق المتبرطم غضباً . عبثاً كانت محاولة الأمّ بعدئذٍ إقناع " وصال ديركي " بقبوله في الحضانة ، المعروفة بكنيتها . " ماذا تعنينَ بـ " صبي بالغ " ، بالله عليكِ ؟ " ، تتساءل والدتنا وهي تفرد يديها محتارة ً . كان شقيقنا ، فيما مضى من العطل ، زبوناً دائماً في هذه الحضانة ، بكل مشاغباته وطرائفه. إلى ذلك ، تفرّد مسلكه هنا بالوداعة ، وبالذات في حضرة الآنسة وصال . أمامها ، كان مطيعاً وهيّاباً بشكل لا يصدّق ، حتى لما إعتادتْ الأمر بحبسه في أطلال المطبخ القديم . فبعدما يُصار إلى دهن وجهه ويديه بالمربى ، كان شقيقي يمضي ردحاً من الوقت ، يطول أو يقصر ، في عتمة المكان ذاك المنعوت من قبل التلامذة بـ " حجرة الفئران " ، وبدون أن تصدر عنه نأمة شكوى أو إحتجاج : هنا ، في مكانه العتم الجاف هذا ، لعله كان يستعيد مشهدَ ذلك اليوم الشتويّ ، البعيد ؛ مشهد موت شقيقته الصغيرة ، الذي هرب منه وقتئذٍ فرقاً ودهشة وحيرة .
إنه ثمة ، على المنحدر المترب ، المودي إلى مخرج زقاقنا . ليكن ما شاءه له الآخرون كباراً وصغاراً . ليكن " جنّوْ " ؛ قرين الجنّ ، بحسب تحريف إسمه . ما يهم شقيقي ، الآن ، أن كل حاجز ، صيفيّ ، لحجب حيوية جسده وروحه ، قد تلاشى . فلا تثريب عليه ، إذاً ، أن يمضيَ في مجاهل جهالته ، وأن أتبعه بدوري ـ كتابع خفيّ .
للحكاية بقية ..
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شعب واحد
-
زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
-
جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
-
هذا الشبل
-
زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
-
وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
-
يا نائب وَحِّد القائد
-
وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
-
زهْرُ الصَبّار
-
وداعاً ، إسكندرية كافافيس
-
الأرمن والعنصرية اللبنانية
-
الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
-
قاض سوري للمحكمة الدولية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 3
-
زنّار الجنرال
-
موت إنغمار بيرغمان ، آخر رواد السينما العالمية
-
أمير الشعر
-
لحية أتاتورك
-
السادي والسويدي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5
المزيد.....
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
-
بأغاني وبرامج كرتون.. تردد قناة طيور الجنة 2023 Toyor Al Jan
...
-
الرياض.. دعم المسرح والفنون الأدائية
-
فيلم -رحلة 404- يمثل مصر في أوسكار 2024
-
-رحلة 404- يمثّل مصر في -أوسكار- أفضل فيلم دولي
-
فيلم -رحلة 404- ممثلاً لمصر في المنافسة على جوائز الأوسكار
-
فنانون من روسيا والصين يفوزون في مهرجان -خارج الحدود- لفن ال
...
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|