|
المتنبي بين المركز الأولمبي في ميونيخ وستوكهولم
عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 2049 - 2007 / 9 / 25 - 03:22
المحور:
الادب والفن
- 22 -
ركبنا قطار الأنفاق رقم 3 قاصدين المركز الأولمبي للسباحة في مسابحه الهائلة. وصلنا المركز في العاشرة والنصف صباحا. دفعنا أجور ثلاث ساعات ودخلنا القسم الخاص بإيداع الملابس ثم طلبت من صاحبي أن يهيء نفسه لأخذ حمام ( دوش ) حار مع الشامبو. إحتجَّ بنبرة فيها حدة قائلا لماذا ؟ أخذتُ صباح اليوم حماماً ساخناً وما زلت على طهارتي ولم أدخل بعد حمامي ذاك أي بيت للراحة. هل هي طقوس وضوء أم ماذا ؟ قلت كلا. إنها التعليمات وإنها خطوة ضرورية لمراعاة صحة الجميع، أنت وأنا والآخرين من أمثالنا. لا تتنرفز ولا تفقد أعصابك. إفعلْ ما سأفعل ولا تورطنا في مشاكل نحن عنها في غنى. تذكّرأنك ما زلت لاجئا في هذا البلد. تبعني على مضض لكنه رفض أن يخلع ملابس السباحة كما تقتضي التعليمات. أصرَّ أن لا يخلع القطعة الأخيرة الباقية على جسده وأن لا يتعرّى ( ربي كما خلقتني ). قال أُفضّل الرجوع إلى معسكر رفحا الصحراوي ولا أتعرى. سأكسر المجرشة ويا غريب أذكر (هَلَك). دخلت الحمام قبله وكان مكشوفا دون أبواب فرأى جمعاً من المستحمين عراةً يغنون ويغسلون رؤوسهم ويدلكون أجسامهم بالصابون ومشتقاته. جفل الرجل أول الأمر من منظرٍ ما سبق وأن رأى مثيلا له في حياته. قلت له مشجعا ومداعباً (( هوِّنْ على بصرٍ ما شقَّ منظرُه )) مذكِّراً إياه بواحد من أبياته الشعرية. فهم التلميح فإبتسم ورمى جانبا قطعة التوت الأخيرة متخذاً مكانه تحت دوش غير مشغول. لما رآني ضاحكا قال (( حشرٌ مع الناس عيد )). فعلقت قائلا (( عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ... )). لم يسمعني وهو يفرك رأسه ووجهه ثم باقي أعضائه بالصابون مستمتعاً بالماء الساخن يتساقط فوقه مدرارا. سمعته - يا للعجب - يغني صوتا غريباً وهو مغمض العينين تحت فقاقيع الصابون التي غطت وجهه ورأسه بشكل كامل. قلت له هيّا، كفى إستحماماً وماء ساخنا وصابونا. وضعنا على أجسادنا أوراق التوت ودخلنا أحواض السباحة المجاورة. قفز المتنبي في الحوض الكبير العميق المخصص للسباحين المهرة ففوجئت أن صاحبي يجيد السباحة. تُرى أين تعلّم فن العوم ؟ أخذ يقطع المسبح جيئة وذهابا بدون توقف. بل وشرع يتبارى مع بعض السابحين من الشباب. قلت له ممازحا أراك تسبح كأحد تماسيح النيل. قال أي ورب الكعبة. هناك تعلمت السباحة وكاد تمساح مرةً أن يقتلني. هاجمني ثم تخلّى بقدرة قادرعني. سبح المتنبي كثيرا وقفز عدة مرات من القفّازالعالي فسقط مرة على بطنه مما أثار ضحك السابحين، الأمر الذي أغاضه كثيراً. قلت له فلنسترحْ قليلا وسأجلب القهوة من الكافيتيريا. رحّب بالفكرة. إستلقى كاملا على أحد كراسي الإنبطاح ( أو الإنسداح ) المحيطة بحوض السباحة وقدح القهوة في يده. كان مرتاحاً جدّاً مما هو فيه. أعجبه جو المسبح الذي أخذ مع مرورالوقت يغص بالسابحين والسابحات. قلت له تستطيع أن تنام وأنت في وضعك هذا. قال كلا، أريد أن أناقشك في الأمر الذي أرجأنا مناقشته في لقائنا الأخير في بيتك. قلت ذلك أمر جاد يتطلب جوا آخر للخوض فيه وفي دقائق تفاصيله. إستلقِ كما أنت وتمتع بالقهوة وجو المسبح الأولمبي ومتع ناظريك بما ترى من أجساد حور العين شبه عاريات. إنسَ ما يجلب لك ولي المزيد من الهموم. لدينا ما يكفينا منها. رأيت صاحبي سارحاً مغمض العينين حتى خلته قد أخذته سِنةٌ من نوم. تركته في الجو الذي هو فيه وإنصرفت أقلّب صحيفة " الزمان " علّني أجد على صفحاتها شيئا منشوراً لي. بعد فترة قصيرة من الزمن فتح المتنبي عينيه متأهبا للنهوض قائلا هيا نقفز ونعوم ونتسابق مع السابحات الفاتنات، وسأقهر بسباحتي جميع السابحين. قفز المتنبي في حوض السباحة العميق قبل أن يسمع جوابي. حاولت اللحاق به سدى. كان يشق الماء برشاقة وسرعة مثل دلافين الفِرجة المدرّبة. وكان يغوص تحت سطح الماء عميقا كلما حاولت الدنو منه. وحين حاولت أن أمسكه مرة فلت مثل شبوط دجلة من يدي متضاحكا ساخراً مردداً هيهات هيهات. لم يمسك بي أحد من البشر قبلك. هيهات هيهات. لا تجرّبْ المستحيل. جربه المهلبي وكافور من قبلك فلم يفلحا. ثم طفق يردد مقطعاً حرّفه قليلا من إحدى قصائد الشاعر نزار قباني مترنما متحديا هازئا (( إنْ كنتَ قويا أخرجني من هذا اليم / فأنا أعرفُ أعرفُ أعرفُ فن فنون العوم )). ثم يدور فجأة دالقاً لسانه في وجهي هُزءاً وتندّراً. لم أرَ شاعري أبداً في مثل هذا الحال من النشوة والحبور. أهو تأثير الماء أم جو المسبح الرائع أم ماذا ؟ تبدل مزاج الرجل جذريا حتى إني كدت أن أتخيل أنَّ الرجل قد تغير … قد تحول. في الماء يجد الإنسان نفسه أخفَّ وزناً، وبالتالي سيخف وزن همومه . شعرت بالإعياء وإحمرّت عيناي وضاقت الرؤية أمامي لكن صاحبي كان غارقا في جو أثيري علوي ساحر يعزعليه فيه أن يغادره. تركت الماء لأستلقي على كرسي الإضطجاع الطويل مقلّبا جريدة الزمان ومجلة ( رسالة العراق ) التي أستعيرها عادة من الصديق مصطفى. غرقت في قراءة بعض المواضيع لكني كنت أحرص أن ألقي بين الفينة والفينة نظرة على صاحبي الذي كان كثيرا ما يضيع من ناظري بين حشود السابحين. متى سيغادرُ الماءَ صاحبي ؟ لقد تحدّاني بقوله (( إنْ كنتَ قوياً أخرجني من هذا اليم )) . فمنذا يستطيع إخراجه من هذا اليم ؟ سأحاول النوم أو أن أغرق نفسي في قراءة بعض المواضيع السياسية. ترك المتنبي أخيراً حوض السباحة نافضاً الماء عن رأسه ماسحا وجهه بكف يده اليمنى. دنا مني فناداني ( هَي هَي ) ظانا أني كنت نائما إذ رأى الجريدة تغطي وجهي كاملا. أزحتها عن وجهي متسائلا هل شبعت سباحة؟ قال كلا، بل شبعت ماء. ثم عاد يسألني : وأنت هل شبعت نوماً ؟ قلت كلا، لا يأتيني نوم في المسابح، بل كدت أن أشبع قراءةً. قال ذلك أفضل الجميع وأخذ يقرأ (( وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ )).
في السادسة تركنا المسبح عائدين إلى دورنا. وفي قطار الأنفاق رقم 3 فاجأني صاحبي أنَّ لديه دعوة لحضور مهرجان ثقافي في العاصمة السويدية ( ستوكهولم ). قال لي ما رأيك؟ قلت إذهبْ وشارك ثم عُدْ وحدثنا عمّا رأيت. قال ليس لدي ما أقول للقوم. قلت بل هم سيقولون الكثير وما عليك إلا الإصغاء. ثم إنَّ حضورك بحد ذاته سيملأ سماء العاصمة السويدية وسيشغل ساكنيها قاطبة. قال وهل تظن إنهم سيسمحون لي بتوجيه كلمة نقد أو تعليق أو إشارة ؟ قلت ذلك يعتمد على جو المهرجان العام وعلى نوعية المشاركين فيه ومستوى الحضور. قال وستودعني في المطار ؟ قلت أجل، وسأكون مسروراً أن أودعك. قال إذا ً تأهبْ فغداً ظهرا ً أغادرُ ميونيخ متوجها إلى ستوكهولم.
- 23 -
( دولة الخروف الأسود )
قضّى أبو الطيب خمسة أيام في ستوكهولم ( 29/5 - 3/6 2002 ) وعاد ليقص علي ما رأى من أعاجيب في عاصمة السويد. إستضفته في بيتي على الطعام الذي يحب والشاي الذي يفضل ولكيما نستمتع بأقصى قدر من الحرية. لقد أرجأ ضيفي الكلام إلى ما بعد طعام الغداء. قال لا يأتي الكلام الجيد مع الطعام الجيد. إما هذا أو ذاك. تركته على سجيته يأكل كيفما شاء لكنه كان غائبا عني في مكان وعالم آخرين. كان يفكر بعمق ولا يرفع عينيه عن مائدة الطعام. يتنقل بهما ما بين الصحون برشاقة فراشة وخفة نحلة. طلب ماء باردا فأتاه مع قليل من الثلج. تلفّتَ يمنة ويسرة وقال أين اللبن ؟ قلت له قد طلبت ماء. قال أجل، نسيت، في الصيف ضيعت اللبن. هل الشاي جاهز ؟ أجلْ، وأكثر من جاهز. سألته هل ستفتح قمقم أسرارك ؟ قال لا أسرار لدي. ليس في حياتي ثمة من أسرار. مع الشاي الحقيقي يأتي الإبداع. هات شايك أوّلاً لأقصَ عليك ما قد رأيت. قال المتنبي :
في يوم المهرجان الثاني رأيت موكبا تتقدمه ملكة السويد. توسط الموكب ( دولة الخروف الأسود ) محاطا بجوقة من الطبّالة والمصفقين ومهرجي السيرك الصيني. ما أن تقدم الموكب قريبا مني حتى إستطعت تشخيص بعض المعارف. فهذا رسام وذاك عازف عود وآخر مصور ثم لمحت شخصا يقرأ في كتاب. وحين واصل الموكب مسيرته في واحد من أهم شوارع المدينة رجمت الجماهير المصطفة على الأرصفة جوقة ( دولة الخروف الأسود) بالطماطم والبيض المسلوق. الأمر الذي أدى الى تدخل الشرطة الملكية التي أنقذت ( دولته ) والزمرةَ التي كانت تحيط به. لم يكد الشارع يخلو من جماهيره الغضبى حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الملكة التي مدّت يدها تصافحني مرحبة محيية عاتبة علي أني لم أخبرها بحضوري إلى عاصمة بلدها. إعتذرت منها أني لم أعد أحمل سمة شاعر وإنما قبلت دعوة المهرجان الثقافي لأستمع ولأرى حسبُ. قالت سأدعوك غداً إلى القصر الملكي على حفلة عشاء ولأقدمك لصاحب الجلالة الملك. قلت لها على الفور معتذرا إني لا أطيق منادمة الملوك. ثم قرأت لها (( قالت إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزةَ أهلِها أذلّةً وكذلك يفعلون // سورة النمل )). قالت لكنك يا أبا الطيب تعلم أن بلدنا بلد عريق في ديمقراطيته ومشهور بمستوى وتنوع حرياته وأن الملكية فيه رمز لإستقرار أوضاعه ليس إلاّ. ثم، أضافت، ألم يزدنا العرب ملكا جديداً ؟ قلت أجل، لكنَّ الملكَ الجديد لا يُطلق على نفسه لقب ( صاحب الجلالة )، ذاك لأنَّ الجلالة لصاحب الجلالة والإكرام خالق الملوك والصعاليك من أمثالي وسائر البشر. قالت إنَّ لفظ الجلالة بلغتنا لا يعني ما يعنيه في لغتكم. إنه مجرد من الهالة الدينية التي تسبغونها أنتم عليه. قلت لها بحزم : مع ذلك فإني أعتذر عن مقابلة السيد زوجك . مع الشاي الرابع سألت ضيفي : يا أبا الطيب لدي سؤال أخشى أن أطرحه عليك. قال قل ولا تخف. قلت له إنك لم تبين لي بعد لماذا أسميت ( دولته ) بدولة الخروف الأسود. قال على الفور لأن ( دولته ) كان يوما خروفا صوفته بيضاء، واللون الأبيض كما تعلم ينقلب مع مر الزمن إلى الأسمر الفاتح فالجوزي البنّي الغامق ثم ينتهي متحولا إلى الأسود. ثم ألم تحكم العراق عام 813 للهجرة قبيلة أجنبية تركمانية حملت دولتها إسم دولة الخروف الأسود ( قره قوينلو ) وإسم مؤسسها( قره يوسف) حيث حلَّ إبنه (شاه محمد) في بغداد وحكم العراق بإسم أبيه ؟ قلت بلى قد كان ذلك. وقد حكمتنا بعدها دولة أخرى تسمى ( دولة الخروف الأبيض ). قال إنما هي تلك بعد أن تحولت اليها. السواد ( الظل ) يتمم البياض ( النور). قلت له وهذا ما قلت في واحد من أبياتك الشعرية (( ومَن خبرَ الغواني فالغواني / ضياءٌ في بواطنه ظلامُ )). تضاحك الرجل وهو يجهز سيجارة أخرى ولم يعلق. ثم عدت أسأله ولماذا سُميت دولة التركماني قره يوسف بدولة الخروف الأسود ؟ قال لأن ( الخروف الأسود ) كان شعار هذه الدولة المرسوم على راياتها كما يقول المؤرخون (( كتاب : تأريخ الحلة للشيخ يوسف كركوش الحلي. القسم الأول. منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف / الطبعة الأولى 1965 / الصفحة 100 )). لم أعطه فرصة كافية لكي يتمتع بمذاق طعم تبغ سجارته إذ يهوى ذلك مع الشاي وخاصة بعد الطعام، فسألته : ولماذا أسبغتَ عليه لقب ( الدولة ) فقلتَ دولة الخروف الأسود ؟. نفث دخان لفافة التبغ ضجرا متأففا ليقول إنك أكثرت من الأسئلة ودماغ الإنسان كما تعلم لا يعمل بشكل طبيعي ما دامت المعدة ملأى بما لذ وطاب. زِدْ على ذلك إني ما زلت أشعر بالإعياء جراء وعثاء السفر وإجراءات المطارات ومطبات الأجواء العليا وفرق الضغط الجوي وسواها من أمور لم أألفها من قبل. قلت حسنا، فلنؤجل الجواب والمسألة برمتها حتى موعد لقاء آخر. قال كلا، بل سأجيب على أمل أن ننتهي من الخوض في هذا الموضوع. قلت هيا. قال وهل نسيت أن ( دولة السيد فلان ) هو اللقب الرسمي لرئيس الوزراء في البلد الشقيق لبنان ؟ قلت إي والله، قد نسيت. عذرا أبا الطيب، عذرا والعذر عند كرام الناس مقبول. دولة السيد رياض الصلح ودولة السيد رشيد كرامي ثم دولة السيد رفيق الحريري. قال أفلا يستحق هذا الخروف الغارق في نرجسية مركّبة غريبة في شذوذها أن يحمل لقب ( دولة الخروف ) ؟ كان السيد قره يوسف قوينلو يمثل دولة الخروف الأسود. أما صاحبنا ( خروفنا ) فإنه دولة بذاته. قلت بل وأكثر، يستحق لقب ( صاحب العصمة ). قال لا تخلط الجد بالهزل. هل نسيت أني قلت يوما (( ووضع الندى في موضع السيف بالعلى // مضرٌّ كوضع السيفِ في موضع الندى )). إعتذرت مرة أخرى فقد لاحظت أن صاحبي قد آب من سفرته إلى ستوكهولم ومقابلته لملكة السويد بمزاج حاد وصدر يضيق لأبسط الأسباب. معه حق، إنه يكره لقاء الملوك. وإنه هو الذي قال(( أرانبُ غيرَ أنهمُ ملوكٌ / مفتّحةٌ عيونهمُ نيامُ )).
بعد الغداء والشاي والسجائر عرضت على صاحبي أن يمضي القيلولة في بيتي وأن يقص علي بعدها وقائع يوم المهرجان الثقافي الأول فقد تجاوزه قافزا إلى فعاليات اليوم الثاني. وافق الرجل ونام فورا بكامل ملابسه. بعد لحظات بدأ قطار الشخير يشق عنان سماء البيت. كان الرجلُ مُتعباً حقّاً ومتخماً. معه حق.
في أمسية المهرجان الثقافي الأولى - قال المتنبي أثناء شاي ما بعد القيلولة - سمعت شعرا بالفصحى وباللغة الدارجة. تلت ذلك بعد فترة إستراحة قصيرة محاضرة عن الغموض والإبداع في شعر أبي الطيب المتنبي. قال المحاضر في بداية محاضرته كلاما غريباً عليَّ لم أسمع له مثيلا من قبل. تكلم عن الصورة الشعرية وإبداع الغموض وغموض الإبداع في الشعر. تكلم عن إسقاط المحور الشاقولي على المحور الأفقي كإحدى أبرز آليات توليد الصورة الشعرية وغير ذلك مما قرأه وإستعاره من كتب بعض مفكري الغرب وآخرين من العرب. ما كنا في زماننا نعرف السوريالية ولا كنا نسعى للغموض في أشعارنا كهدف أو وسيلة لجلب الشهرة على قاعدة ( خالف تُعرف ). كنا نعرف أن الشعر شعر وكفى. أي إما أن يكون المرء شاعرا بطبعه وسليقته أو أن لا يكون. إما أن يكون الشعر مطبوعا أوأن لايكون شعرا على الإطلاق. لقد ظلمني بعض نقادي السابقين إذ إتهموني بالسعي المتعمد للغموض وخلق الإشكال والتغريب واللعب على حبال اللغة وإستفزاز أئمة اللغويين ومشاهير النُحاة. كنت وبكل بساطة رجلاً شاعراً بطبعي وحسي وثقافتي وعلمي. وكنت أخضع بالكامل لسلطان الشعر وجبروت غوايته حين يأتيني مُداهماً. كان يخترقني ويسخّرني كالعبد من خلال طبيعتي وتكويني وجبلّتي التي فُطرتُ عليها. وما كان في وسعي أن أرد هذا الجبروت الطاغي ولا أن أوجهه الوجهة التي أريد. بالعكس، كان هو المحرّك والموجّه. كنت مجرد قشة في كف هذا القدر الغامض الذي رسم مجرى وخطوط حياتي وما لاقيت من عَنَتٍ ومشاكل كان ختامها مأساة قتلي غيلةً في دير العاقول ما بين واسط والنعمانية عام 354 للهجرة كما يعرف الجميع. لم أندمْ على ما أذعتُ من أشعار بين الناس أبدا. وكان لحسن الحظ في زمني من يفهم ويقدّر شعري وفلسفتي في نظم الشعر. كما كان هناك الحساد والمتشاعرون والموتورون. قلت له قد أبنتَ فأحسنتَ البيان ولكن ألم يقل المحاضر شيئا آخر عن شعر المتنبي ؟ قال بلى، ساق الكثير من الأمثلة على الإبداع في الغامض من أشعاري وإعتبرني مؤسس المدرسة السوريالية في الشعر العربي. سألته وهل وافقته في كل ما قال. قال كلا، بل كنت أوافقه على الكثير مما قال. قلت مثلا ؟ قال وافقته على الإبداع الغامض بشكل خاص في البيت (( إذا بدا حجبت عينيك هيبتُه / وليس يحجبه سِترٌ إذا احتجبا )) والبيت الآخر (( نافستُ فيه صورةً في سترهِ / لو كنتُها لخفيتُ حتى يظهرا )). لقد إعتبرهما المحاضر قمة هرم الإبداع في شعر المتنبي وقال متعجبا ( كيف لم ينتبه النقاد إلى تفرّد وسحرهذين البيتين ؟ ). قلت معلقا : لا فُض فوه. إنهما لكذلك غاية في الغموض والإبداع. قال ولقد طلب المحاضر من الحضور أن يساعدوه في شرح البيت الثاني لأنه عصي على الشرح والتفسير. قلت وإنه حقا لكذلك يا أبا محسد. قال مزيدا من الشاي. مع الشاي سألته وهل كانت هناك أسئلة من لدن الحضور أو ملاحظات وتعليقات. قال نعم، أبدى البعض بعض الملاحظات كما حاول أحدهم التشويش بخبث فتحاشاه المحاضر بلباقة وكياسة. ثم ماذا يا أبا الطيب، هل حضرت باقي أيام المهرجان ؟ قال نعم، حضرتها جميعاً. وكانت بين شعر وعزف وغناء وعرض لوحات رسم وبعض الأفلام. كانت أيام المهرجان تظاهرة رائعة حقا دلت على قدرة وكفاءة منظميه وسخاء يد الجهات السويدية المسؤولة التي موّلت المشروع. شكرا لملكة السويد وشكرا ( لعصمة ) زوجها الذي لولاها لما تنعّم بهذا اللقب السامي، فسواه مجرد ( أمير ) !.
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المتنبي في المسرح الألماني في ميونيخ
-
المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية
-
المتنبي وثياب الإمبراطور
-
روم المِعرّي
-
إبن رائق الموصلي
-
المتنبي في إيطاليا
-
المتنبي وأدونيس
-
السامري / أصل ومعنى الكلمة
-
الجواهري وقفص العظام
-
المتنبي وأبي العلاء المِعرّي - 15 -
-
دموع المتنبي / إلى الأستاذ ناثر العذاري
-
المتنبي ومحمود درويش
-
رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / إلى الأستاذ فاروق سلّ
...
-
رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / الجزء الثاني . إلى ال
...
-
المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى
-
قصيدة [ مرحىً غيلان ] لبدر شاكر السياب
-
[ المسيح بعد الصلب ] / قصيدة لبدر شاكر السياب
-
المتنبي وفاتك المجنون
-
المتنبي بين البدويات وحَضَريات ميونيخ
-
المتنبي أمام إله الماء - نبتون -
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|