|
الدين والعقل
جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2052 - 2007 / 9 / 28 - 04:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقال :أن الدين لم يخسر معركة قادها ضد العقل وكذلك العقل لم يكب معركة قادها ضد الدين. ويقال: أن أول مخترعات الإنسان هو العقل.
والمخ يختلف عن العقل وقد إحتاج الإنسان عشرات السنين ليعقل ذهنه وترهف ملكاته على حسب تعبير (حسين مؤنس)( ) وأول كاتب عربي دافع عن حرية الفكر هو فرح أنطون، حيث نشر كتاباً عن ابن رشد (ابن رشد وفلسفته) ( )، ولكن ما وجه الخلاف الذي أثير حول ابن رشد؟ هل أنكر معتقدات ثابتة لا يجوز المساس بها؟ أم أنه تأثر بأستاذه ابن طفيل (1100-1185م)*
ويبدو أن سبب اتهامه بالكفر عائد إلى دعاية أطلقها المنجمون والكهان: من أن ريح سموم سوف تأتي على الناس، فسأله الناس عن ذلك، وفي معرض رده أنكر وجود قوم عاد وقال هم أصلاً غير موجودين، فكيف هو سبب هلاكهم!!
لقد كانت طبيعة البناء الفكري عند ابن رشد متقدمةً جداً ولا تناسب طبيعة المجتمعات المتأخرة علمياً، فلو كان انتقاد ابن رشد في العصر الحالي لكان –على الأقل- خاضعاً للنقاش والتحليل الانثربولوجي أكثر مما تخضعه المجتمعات المتأخرة لأحكام مسبقة، وإلى نفي وتكفير لمفكرٍ متقدمٍ على عصره بـ 1000عام. ولا أعتقد أن الأمر يتعلق بطبيعة المجتمعات الرافضة للفلاسفة بقدر ما هو متعلق بتوقف العلم عن البحث، أو ليس من الملاحظ أن الأشياء التي مات من أجلها (كوبرنيكس) و(جاليلو) يعرفها اليوم طلاب في المراحل الإعدادية من التعليم المدرسي وإن الذي مات من أجله (عباس بن فرناس) يصنعه اليوم أي شخص هاوي للطيران، بفضل تقدم البحث العلمي.
ولكن العيب الذي يصيب عامة الناس هو أنهم يفسرون أشياء هم غير متخصصين بها فالظواهر العامة من حق الجميع ولكن التفسير من حق الأقلية المتخصصة من النخب أي (النخبة) ( ). علماً أن النخبة لا تصلح إلا لمثل هذه الحالات وهي غير فعالة في التحولات الاجتماعية كما هو الصراع الطبقي.
وعلى ما يبدو أن مسألة العقل والدين قبل نهاية القرون الوسطى كانت في معركة لم يكسبها العقل وكان دائما ما يخسرها، والدين هو المنتصر الوحيد وهذا عموماً عند كافة الشرائع السماوية وغير السماوية، الدين لم يخسر معركةً قادها ضد العقل والعقل لم يكسب أي جولة بل دائماً في حالة تعطل وخسران ومساومة وحلول وسط، والسبب في ذلك هو: تعطل البحث العلمي* وانحياز العقل عن العلم وانضمامه إلى عامة الناس وتراجعه عن البحث إذ أن مختبراته لم تفتح على مصراعيها قبل نهاية القرون الوسطى، فما دام الإنسان يعتمد على أنظمة قديمة غير متقدمة طالما هو وبناءه الفكري في حالة ترهل وتأخر، فالشجرة المنتجة لم تعد الإنسان( ). في نهاية العصور الوسطى وعصر البخار، إن الشجرة المثمرة هي الآلة وهذا يعني أن العقل يخسر معركته في وضعٍ تكون به اليد العاملة هي يد الإنسان لوحدها دون تدخل الآلة الميكانيكية.
لذلك يعتبر العلم في المجتمعات الزراعية التي تنتج غذاءها بطريقة تقليدية يعتبر من السموم المضرة بالشعوب، فمثلاً: أغلق الامبراطور (جستيان 565م) مدارس الفلسفة وظلت كذلك ولم تشتغل أوروبا بالفلسفة إلا حين تطورت العلوم خارج الكنيسة في نهاية العصور الوسطى وكان للعرب الفضل الكبير في إنقاذ الفلسفة اليونانية من الضياع، ألم يقل الكهننة للامبراطور حين طلب منه المأمون كتب الفلسفة (أعطه إن هذه الكتب لم تدخل دولة إلا أفسدتها) ( ).
والدين عامل قوي من عوامل الثقافات القديمة التي تعتمد على أنماط قديمة، فلقد انتشرت اللاتينية بفضل الإنجيل والديانة المسيحية في عموم أرجاء العالم المسيحي( ) ومن الملاحظ عندنا أن اللغة العربية قد انتشرت في الأردن وسوريا والعراق ومصر والمغرب العربي بفضل الديانة الإسلامية كما انتشرت اللاتينية بفضل الديانة المسيحية بأوروبا ولم يكن للفلسفة اليونانية أي دخل إلا من بعيد، وحين استعادت أوروبا صحوتها ورجعت إلى الكلاسية القديمة لم يستطيع المثقفون في أوروبا من قراءة الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية إلا من كان منهم يقرأ الإنجيل لأنه مكتوب باللاتينية.
لقد كانت الفلسفة قبل ظهور الرب ضرورية لفهم منطق الكون عند الإغريق وضرورية للعدالة وهذا يفهم كثيراً من منطق سقراط (469-399ق.م) حين رفض الهروب من السجن وفضل احترام القوانين لأنها وحدها الكفيلة بتحقيق العدالة والمساواة وبذلك شرب شراب (الشوكران) وأسلم الروح والجسد لقمة المنطق والفلسفة. ولقد أساء كثيرُ من المثقفين استخدام كلمة العقل والدين والعلم، ففي حين عرّف العقل على أنه الوسط كان الدين يعرّف على أنه النقيض الثاني للعلم والعقل، وليس من جامعٍ اليوم بين العلم والعقل، لأن العقل كان وما زال يعرف تعريفاً وسطياً بين الدين وبين باقي المذاهب؛ إذ أن مفهوم العقل غدا مع الزمن منهجاً سلوكياً لإقامة تناغم وتجانس بين العلوم القديمة وبين الدين، وبهذا يكون (توما الإكويني) محقاً في كتابه (الرد على الأمم) حين قال: إن الإسلام والمسلمين وضعوا أسس ديانتهم على أساس قدرات وإمكانات العقل الوسيط( ).
أما العلم فإنه يخرج عن هذا المألوف متحدياً سلطة الاثنين معاً: الدين والعقل، لذلك كان محقاً فرح أنطون: " إن إصلاح الأرض مسألة علمية وليست مسألة دينية، وعلى أورشليم القديمة، أن تفسح مجالاً لأورشليم الحديثة". إن العلم بعكس العقل لا يقبل بالحلول الوسط، ذلك أن العقل والعقلانية والتعقل تعد من الخيارات السياسية، أما العلم فإن خياره الوحيد إما النجاح وإما الفشل. لقد اعتبر (نيتشه) أن العالم تم إفساده على يد العقل وهو يرى العقل قد جلب وبالاً وخراباً بتدخله، ويرى المسيحية تراثاً خانعاً وضعيفاً، وفي نظريته نظرية (العود الأبدي) يرى أن خلاص العالم يتم على يد (الديونوسية) المتمردة على (الأبولونية) الخانعة( ) إن (فردريك نيتشه) يعتبر العقل بمكانة العلم، وهذا اليوم غير واضح المعالم وقد يكون مخطئاً بما أوردناه عن العقل والعلم من فوارق. وبما أورده حسين مؤنس. ولربما أن نظرة نيتشه صادرة عن نقد أدبي، لأنه يرى أن الأدب يصدر من الديونسية الشهوانية إذا كان صادقاً و إذا كان كاذباً فإنه يصدر من العقل، أي أن التفكير المنطقي أرغم العواطف على الاغتراب.
نريد القول: إن لعصر الزراعة اليدوية أخلاقه وللصناعة أخلاق أخرى ( ) . ونريد أن نقول هنا أن كل عصر له سمته وطابعه الخاص الذي تطبع به الأشياء فتأتي انعكاساً لرأي العلم، فمن الملاحظ جداً أن عصر (نيوتن) مثلاً امتاز بالوضوح والدقة وكأن نيوتن قد خططه بيده وقوانينه بما انعكس ذلك على (بلزاك) ( ).
وقد ورد في مجلة المنتدى كلاماً فيه نوع من الخلط والتصحيح في نهاية الموقف لكلمة العقل والوسطية، إذ ورد تعبيراً وتعريفاً للعقل: "نهج العقلانية في التفكير هو نهج واقعي يقوم على أسس علمية وينطلق من وعي اجتماعي...بقدر ما تبدو الوسطية بسيطة إذ يمكن لأي فرد أن يكون وسطياً ولكن ليس بإمكان سوى القلة أن يكونوا عقلانيين"( ).
وكان الأصح والأجدر به أن يقول...سوى القلة التي تبحث عن الحوار لتجد به طريقاً لتسوية خلافاتها مع الأطراف المتغلبة عليها. ولقد ورد في نفس المجلة كلاماً للمفكر العربي الكبير حسن حنفي ما يدعم وجهة نظري حيال الموضوع "الوسطية ضد التطرف والعنف وهي تنشأ من ثنائية الدولة وخصومها في حيال غياب المعارضة المشروعة كالتعددية السياسية". وتفسيري للوسطية أنها موقف متعقل وليست متهور لمواجهة الكوارث ولإدارة الأزمات الفكرية وقد استعملت كلمة الوسط والوسطية كتعبير أخير بديل عن العقلانية ذلك أن العقلانية أصبحت كلمة مستهلكة ولتستمع لهذه المقولة: " إن قضية الإصلاح الذي نريده لعالمنا العربي يجب أن ينطلق من الوسطية الجامعة...إن الوسطية هي الخطاب الممكن توجهه للإنسان المعاصر لأنها توفيق بين مضامين الدين وحاجة الإنسان وظروفه وهي الكلمة السواء بيننا وبين الإنسان المعاصر"( ) فكلمة توفيق هنا كانت تستخدم عند كتابنا في الخمسينات ومن ثم أصبحت مرادفاً للعقل وللوسطية.
ويتضح مما جرى ويجري أنه كلما تقدم العلم كلما كان الدين بحاجة ماسة لوسيط يعلل به مرتكزاته وثوابته، وكلما تقدم العلم كلما ابتعدت كلمة العقل والعقلانية والتوفيقية وحلت مكانها كلمات أكثر تواضعاً من كلمة العقل والعقلانية أمام سلطة الدين، مثل: الوسط والوسطية والاعتدال وعدم التطرف وعدم المغالاة.
إننا نلاحظ ذلك منذ الخمسينات من القرن الذي خلا إلى هذا اليوم، كيف يتغير الخطاب (Piscourse) العربي الثقافي والعالمي معاً، لقد كانت الفلسفة فيما مضى تسترضي الدين لتعليل ملاحظاته ونظرياته، أما اليوم فإن علماء الدين هم الذين يركضون خلف النظريات العلمية لتبرير عملية تركيب الكون من الألف إلى الياء ومن العناصر الأولية الثلاثة: النار والهواء والتراب إلى عصر الذرة و(الكوارك) لذلك قد نستطيع القول أن العقلانية موقف وسط بين الدين والفلسفة وهي متواضعة جداً أمام الأبنية الفكرية المتعفنة، أما العلم فإن له موقف عنيد من الدين ولا يقبل المساومة على نتائج البحث العلمي ونلاحظ أن الدين هو المتواضع أمام العلم.
ويكاد يجمع علماء اللغة والنحو العربي على أن مسالة العقل لم يثرها الفلاسفة قبل النحاة حين ظهرت مشكلة (التنازع) في اللغة: إذ اجتمع فاعلين على فاعل، فمن هو الفاعل الحقيقي؟ وهل يجوز أن يكون للمفعول به أكثر من فاعل؟ وقد أجاب البعض بنعم!! وأجاب البعض بلا!! وعلل الرافضون المسألة: "إذا اجتمع على المفعول به أكثر من فاعل معنى ذلك أنه يجوز أن يكون للكون أكثر من خالق لأن الله هو العلة الفاعلة للكون". وفي هذه اللحظة عرضت المسألة على العقل ولم تعرض على نصوص الشعر القديمة وأقوال العرب.
لهذه الأسباب فر الفلاسفة العرب من المنطق واعتبروا أن العقل والفلسفة قد أفسدا على الناس حلاوة الدين والإيمان وهذا الموقف للفلاسفة العرب يشبه موقف الأب الروحي للحداثة اليوم وهو (فردريك نيتشه)( )، وانتقد ابن (باجه 1138م) -وهو أول فلاسفة المغرب العربي- الغزالي لأن الغزالي اتجه اتجاهاً صوفياً قائماً على القلب والذوق والحس والوجدان، ولكن ابن باجة لم يسلم من عقلانيته واعتبر كافراً وزنديقاً، لأنه فضل شقاوة العقل على طراوة الحس، وحاول أن يسعد بعقله إلا أنه مات به مسموماً سنة (1138م) وهذه نتيجة طبيعية لفيلسوف عاش في مجتمع يعتبر أن الاشتغال بالفلسفة مثلها مثل السحر والتنجيم( ) وكذلك الغزالي اتهم بالكفر والزندقة عندما ألف كتاب (الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي) ( ) وفي قصة حي بن يقظان موقف كلاسيكي من الدين إذ يعتبر ابن طفيل (المتوفى 1185م) أن التوفيق بين الفلسفة والدين يتم بطريقة العقل، ويرى أن الوحي والعقل واحد، وهو يدرك ما يعنيه بالوحي أي (الشريعة). لقد كتب انجلز في مؤلفه (فورباخ): " إن المسألة الأساسية العظمى في أي فلسفة....هي علاقة الفكر بالكائن أو علاقة العقل بالطبيعة، أيهما يسبق الآخر، العقل أم الطبيعة؟؟" وانقسم الفلاسفة فسمين: أولئك الذين يؤكدون تقدم العقل على الطبيعة ويقبلون على هذا النحو في آخر تحليل بخلق العالم أياً كان نوع هذا الخلق ...والذين يؤكدون تقدم الطبيعة انتموا إلى مختلف المدارس المادية( ) والانتماء الأخير لم يحدث إلا في الآونة الأخيرة حين تقدم العلم بشكل (ديالكتيكي) وخصوصاً حين توصل بعض علماء الفيزياء إلى ظاهرة محتواها: أن تحول العناصر يعمل في الطبيعة على نحو ديالكتيكي وليس ميتافيزيقي*
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشرق الجديد
-
التحول في التركيبة الإجتماعية
-
الإسلام هوالجناح العسكري اليميني للزعماء العرب
-
حياتنا في رمضان
-
الشيوعية قادمة
-
الزعماء العرب في مواجهة الديمقراطية
-
سعر التكلفة +الربح الوسطي في السوق الماركسي
-
العلمانية هي الحل :في العراق ولبنان وفلسطين !
-
الرحالة كارل ماركس
-
حياة الناس تتجه للتغيير والحكام والملوك العرب يقمعون التغيير
-
المرأة مثل الإعلان تجدد نفسها بالتكرار
-
البروتستنت والكاثوليك 1
-
مأساة برونو : الدين للناس والإلحاد للعلماء 1548-1600م
-
حياتنا كعرب
-
المرأة تعادي المرأة
-
مدينة بلا حب
-
الحب النقدي
-
رسالة من إمرأة مثلها مثله1
-
الملك حسين رجل كبير في بلد صغير
-
حياتنا العامة أحيانا ليس لها علاقة بالسياسة
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|