أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - الشاعر شهيدا ..















المزيد.....

الشاعر شهيدا ..


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 629 - 2003 / 10 / 22 - 04:33
المحور: الادب والفن
    


                 

ولو أنها نفسٌ تموت جميعة ً
ولكنها نفس تساقط انفسا
امرؤ القيس

 
هذه كتابة لا يرضي عنها الاكاديميون المنهجيون، ولا الفقهاء.
لكنها كتابة قد لا يعترض عليها شاعر واحد قط، حتي لو كان من شعراء الدولة.
الاكاديميون سيعترضون علي الخلط في الاسماء، وفي الأزمنة. وعلي الخلط بين قول شعري وواقعة حياتية.
والفقهاء سيعترضون علي المعني الذي نرتضيه هنا للشهيد فهم لا يرون فيه غير المعني الديني، بينما نحن نريد له هنا معني شعريا. فيكون: ذلك الذي يموت في الموت غير العضوي في بيت شعري، وفي الموت العضوي: جوعا، فقرا، ألما، حزنا، حبا، غضبا، تحديا، يأسا، سكرا، بردا، خوفاً، تشردا، قلقا، توحدا، سأما، رفضا.. الخ موت عضوي في الحياة، ما كان ليتم لولا الشعر. أو ما كان ليُضاء لولا الشعر.
وهذا الأمر طبيعي في اللغات، عندما يغادر كيان لغوي مدلوله الديني الي مدلول وظيفي آخر. فأنت تجيب علي السؤال: كيف حالك؟ بـ الحمد لله ، اجابة لغوية يجيبها المسلمون والمسيحيون واليهود والصابئة واليزيديون والملحدون وغيرهم. لقد اخذت تعني ان الحال جيدة.
بل هناك مدلول ديني تحول الي مدلول وظيفي آخر، في اللغة العربية اولا، ثم انتقل الي شعب آخر لا يدين بالدين نفسه فيستخدمه بمعناه الوظيفي بلا اية معرفة لما كان عليه في ماضيه، كالقول العربي: ان شاء الله، المستخدم في اللغة العربية بمعان عديدة مثل يا ليت، وعسي، ولعل، الخ والمنتقل الي اللغة الاسبانية في مفردة Ojala بالمعاني ذاتها التي اشرت اليها، وبالمدلول الوظيفي الجديد. لا بالمدلول الديني وقد كان المسيحيون من الاسبان في حرب ضروس مع المسلمين.
اذن سيري القارئ الي انني استخدم مفردة شهيد بجمعها وفعلها وما يأتي منه، شعريا، بالطاقة المعنوية المعروفة، ولكن في اتجاه يصب في الشعر. وليرحمني الفقهاء.

***
دخل الشعراء الي اتحاد الادباء، قادمين توا من حفلة التكريم فرحين كبنات مخطوبات.
لقد حصلوا علي مكرمات: سيارات، ودنانير، وساعات تحمل صورا لرئيس البدو.
كان كلامي مع نادل نادي الاتحاد قد تحول الي صراخ، في الممر المؤدي الي الحديقة، لقد رفض الحمار ان يكون الشرب في ذلك اليوم بالديْن بحجة ان ديْني الذي لم أكن قد سددته بعد، كان جد مرتفع.
جلس الشعراء حول موائدهم في الحديقة. يفتحون الظروف ـ المكرمات، ويغلقونها اكثر من مرة. كل يحمل سعره.
حملني غضبي من نادل البار الي الخارج، موقنا ان امر الشرب سيتم في غير هذا المكان، كما في كل مرة اكون فيها مفلسا.
توجهت الي شارع ابي نؤاس، وفي ذهني قائمة من الاصدقاء. وفي كل مرة اتذكر فيها اسما آخر لأضيفه الي القائمة أشعر بهون الأمر.
كنت أدمدم وحدي:
تَعلَّم انّ في دمك سرا، لا تذكره الآن. قل انما هو دولة لا تخرج في الليل او في النهار . كتبته حتي لا انساه. وبقي قلبي محتفظا به، سنوات، حتي بدأت كتابة اخر المدن المقدسة بعد الهرب، ليكرمني بحضوره في بلاد البرد.
لم أكتب، او بالاحري، لم اتذكر هذا، لأتم مفارقة بين نقيضين. ربما كانت لدي رغبة ما لتحقيقهـــا، احتمال. لكـــنني تذكرتها، اعني هذه المفــــارقة، في بلاد لا تري فيها غير المفارقات. لانني كنت قبـــلها قد تساءلت عن معـــني الشاعر في تلك البلاد، التي كـما يقولون، أنجبت، وتنجب آلاف الشعراء.
كذب الاكاديميون. وكذب المصنفون والمعرفون معهم.
كل تلك الكتب الصفراء التي تتحدث عن معان للشاعر: زبالة ينبغي ان ترمي.
ثمة معني واحد للشاعر.
ثمة شعراء رسميون، مهرجون، بلاغيون، باعة جوالون و.. و..
لكن ثمة آخرون.. غرباء، شهداء..
غرباء عن هذا العالم، وضحاياه
الرسميون، والمهرجون، والبلاغيون، والباعة الجوالون هم اعداء اولئك في حياتهم المريرة، ومنتحلون لعذابهم في كل مرة، ينتصر فيها الشعر.
ولكن اين ينتصر الشعر، والشهداء في كل مرة مشردون، فقراء، مرضي، وموتي في ميتات لا تشبه ميتات اعدائهم؟
كنت وأنا ادمدم مع نفسي شعرا عن الدولة التي لا تخرج في الليل او في النهار، قد تذكرت كتابا للعقاد عن الحسين قال فيه ان استشهاده اسقط دولا وأقام اخري.
بهذا المعني يتغرب الشاعر ويستشهد، ليسقط دولا ويقيم اخري.
وبهذا المعني ينتصر الشعر.
ربما يغير العسكريون رئيسا مع وزرائه في انقلاب. لكن الشعراء الذين أعنيهم يغيرون الدولة برئيسها، ونظامها المقدس في كل ما هو ثقافي واجتماعي وتاريخي. انهم يغيرون الناس، والتاريخ.. التاريخ كله بكل ما فيه من مقولات ترسخت وحوادث حفظت.
ولأن افعالهم تشبه الاقدار المحتمة التي لا بد ان يرتكبوها يطردون من الجمهوريات. ولنتذكر ميتات بعضهم، شعريا وعضويا:
طرفة بن العبد، الغلام القتيل في قطع يديه ورجليه وفي (وما زال تشرابي الخمور ولذتي/وبيعي وانفاقي طريفي ومُتْلدي). مجنون ليلي في موته من الحب وفي (وقالوا لو تشاءُ سلوتَ عنها/فقلت لهم، فاني لا أشاءُ) وفي (وعروة مات موتاً مستريحاً/وهاأنذا أموت بكل يوم..). وضاح اليمن في رميه الي البئر بعد تغزله بابنة امير المؤمنين وفي (ترجل وضاح وأسبل بعدما/تكهل حينا في الكهول، وما احتلمْ). صالح بن عبد القدوس في صلبه زنديقا بأمر المهدي وفي (خرجنا من الدنيا ونحن من آهلها/فلسنا من الاحياء فيها ولا الموتي). بشار بن برد، الأعمي، في قتله زنديقا بالجلد بالسياط، وقيل انه دفن حيا، كما طرفة، وفي (لا استطيع الهوي وهجرتها/قلبي ضعيف وقلبها حجرُ). أبو نؤاس في كل حياته وفي كل شعره، بوقوفه أمام أمير المؤمنين متهما بالزندقة، بكرمه، بافلاسه، بموته في الحانات كل يوم، بتخفيه عن الأمين، وبموته آخر المطاف مسموما، كما يقال، او مضروبا.. وفي آخر شعر قاله: (دبّ فيّ البلاء سفلا وعلوا/وأراني أموتُ عضوا فعضوا) وفي ما قاله غلامه: غلام ازدي بعد موته: (ماتَ البديع وماتت دولة الفطن.. الخ). دعبل الخزاعي في هجوه الخلفاء وفي (اني لأفتح عيني حين أفتحها/علي كثير ولكن لا أري أحدا). ابو تمام في بكائه علي نفس الشعر التي ماتت وفي (لم آتها، من أيّ صوب جئتها/الاّ حسبتُ بيوتها أجداثا). ابن الرومي البغدادي في موته مسموماً وفي (وضجيعــي في ليلة القر كفاي وللوغـــد كاعبٌ أمـــلود). الحلاج في ما قاله قــــبل الموت: (قيامي بحقك ناسوتية، وقيامك بحقــــي لاهوتية) وفي بكائه في يوم ما، قبل الصلب: (أكثر اعدائي في بلادك). المتنــبي في محنة ألا يذكرَ في حياته اســــم ابيه، وألا يذكره أحد غيره. في حياته، أو بعد حياته الي الابد. وفي (واحرّ قلباه..) وفي (أري العراق طويل الليل..). المعريّ في انقاذ المعرة من حصار صالح بن مــــرداس وفي (أنا أعمي أهدي الي المنهج والناسُ كلهم عميان). ابن سبعين في تركه القضـاء، ليهيم في الشوارع فيركض الصبيان وراءه، ويرمونه بالحجارة وفي (بد العارف). السهروردي المقتول بأمر صلاح الدين وفي (ما حييت لغسل اللبّاد) وفي (الغربة الغربية). ثربانتس في بكائه في الصفحة الاخيرة من دون كيخوته بعد ان نشر أحدهم ـ قبله ـ قسما ثانيا لها. فيصرخ (دون كيخوته ولِد من أجلي، وأنا ولدت من أجله). مارلو في مقتله البائس بسبب بضعة فلوس. شيللي في رفضه ان يتخلي عن كتاب نشره ضدّ الدين. فلا ينعم بوراثة أبيه، ويموت بعدها غرقاً مع كتاب لسوفكليس. بايرون في وقوفه مع نابليون ضدّ بلده انكلترا وفي موته جنديا في اليونان. شيللر في صدّه بتهوفن عن رؤية نابليون. هولدرلين في شرقياته الفارسية وفي جنونه. ادغار الان بو في شكل موته وفي جواب غرابه كل مرة: أبداً.. أبدا. ديكنسون معتزلة لا تري نفسها لأيّ مخلوق. رامبو المقبل علي الموت، في دمدمته (الله كريم) باللغة العربية. يسينين الميت قبل انتحاره بسبب روزا دونكان. لوركا في توسله الي السفلة من افراد الحرس المدني الاسباني: (ألا تقتلوني). آرتو المجنون، المنتقل من مصح الي آخر، في ابلاغه اندريه بريتون ان عشرات الالوف قد ملأوا شوارع لوهافر مطالبين باطلاق سراحه لحظة القاء القبض عليه، وان بريتون نفسه قد قتل بالفعل اثناء المجزرة التي حدثت تبعا لذلك، السياب في توسله الي لواء ركن كان مديرا للموانيء العراقية ومخاطبته اياه: (سيدي اللواء الركن مدير الموانيء العراقية). عبد الامير الحصيري في تنقله مطرودا من مائدة الي اخري في اتحاد الادباء، وفي (أنا الشريد، لماذا الناس تذعر من وجهي، وتهرب من اقدامي الطرق)، خليل حاوي في انتحاره هو والاعمي المغني والكلاب، امل دنقل في بكائه مع زرقاء اليمامة وفي (لا تصالح ولو قلدوك الذهب) صلاح عبد الصبور في (ينبئني شتاء هذا العام/ بأنني سوف اموت/ ذات شتاء مثله، ذات شتاء).. الجواهري في غرباته عن بلاده وفي (طه، وما جزعا أبث شكايتي..)..
ولست انوي المضي طويلا في تذكر الميتات وتعداد اسماء لا ادري متي انتهي منها. ما كتبته هنا هو ما بدر الي الذهن. وللقاريء الفطن ان يستذكر قائمة اخري في ذهنه بدءا من شاعر ملحمة جلجامش في مقتل انكيدو مثلا، ويمر بأرستو فان في مرثيته لسوفكليس في الضفادع: (قانع وسط الاحياء، قانع وسط الموتي)، وبآخرين من ازمنة لاحقة حتي يصل بعد قرون الي غوته في الروح الرافضة في فاوست، وبودلير في علاقته بأمه، ولوتريامون، الميت غضبا ويأسا، في انتهاكه النظام والفوضي معا..
ويستطيع ان يتذكر من شعوب قريبة منا، في الهند وباكستان وايران وكردستان وتركيا وغيرها، شعراء كبارا في ميتات ملفتة.

غ3ف
اولئك كانوا شعراء، ولدوا لكي لا يعيشوا مثل بقية الخلق.. ولكي لا يموتوا مثلهم. ولقد تعمدت ان اخلط الغربيين بالعرب ليلاحظ القارئ ان هناك تناغما روحيا بينهما، حتي لكأنهما ابناء قبيلة واحدة.
وسأدع الغربيين جانبا في هذه الكتابة، فالادب الغربي انتهي منذ زمن طويل من رسم صورة الشاعر الشهيد في الغرب، بل لا يعد فيه الشاعر شاعرا حقا الا اذا كان من تلك القبيلة التي ذكرت بعض اسمائها.
وسأذهب الي ما اسميه دولة المتوكل والغزالي.. اعني عرب اليوم.
فصورة الشاعر عندهم، لما تزل، مضحكة، بعيدة عن اية مأساة. ومن المضحك المبكي ان العرب تسمي نفسها امة شاعرة.
الشاعر هو قوال كذاب، لا يتواني عن اي قول. بل ان في عراق اليوم شتيمة مؤذية هي شعّار يقولها الناس ضد القوّال الكذاّب، وضد الذي لا شرف في افعاله ولا كبرياء، بل تهريج. وأحسب ان المفردة قد اشتقت من الجذر ذاته الذي جبل منه الشاعر.
عالم اجتماع، كالراحل علي الوردي، وفي كل مرة يذكر فيها الشعراء، فانه يقدم صورة مضحكة عنهم مثل وكعادتهم و هذا ديدنهم ، ويستغرب من الذين يقولون ان الشعراء شموع تحترق لتنير الدرب للآخرين، واشياء اخري كثيرة، تجدها مبثوثة هنا وهناك، في كتبه.
يوحي الوردي ـ وانا اقرأه، لأنني لا املك اخر غيره، يحدثني عن تاريخي الشخصي بالنضج والامانة المعروفين عنه ـ في بعض افكاره بانه ضد دولة المتوكل والغزالي، يحاول في احيان كثيرة، التلميح الي هذا. لكنه عندما يتعلق الامر بالشعراء، نجده غارقا في صورة كاريكاتورية عجيبة عنهم. ربما ثمة حادثة شخصية في حياته هي التي جعلته ينظر اليهم تلك النظرة الهزلية. او ربما بسبب بيئته الاجتماعية التي عاش فيها، والتي جعلته يري شعراء مجالس فاتحة او حسينيات .. او.. او..
لكنه كمؤرخ، وكعالم اجتماع، لابد انه قرأ عن غير ما رأي.
افمن المعقول انه لم يسأل نفسه: ما كل تلك الصلبان؟ وما كل تلك الميتات الغريبة؟ وما كل ذاك الجنون؟
لقد ظلم الشاعر العربي كثيرا، لأسباب لها علاقة بالسلطة والدين.
كان الخليفة يصور نفسه بانه الواهب المعطي. وهو محق هنا، في وقت كان الشاعر فيه مادحه، لان المدح كان غرضا شعريا، ووسيلة نشر، ولانه كان يتم ايضا، لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، لسنا بصددها الان.
هذا الامر ما كان عربيا منذ البدء حتي النهاية، فالادب الغربي كله يعج في ذلك الوقت القرين للوقت العربي بقصائد المديح والرثاء والاهداءات الي الملوك والقادة والكونتات وما الي ذلك من رتب معروفة.
لكن الشاعر العربي، وانا اعني من ينتمي الي قبيلة الشهداء التي اشرت اليها، كان يعبر في شعره عن شخصية قوية ومتطرفة احيانا في اوج مدحه للآخر. بل لا احد يستطيع التصور، مجرد التصور ان يقول المتنبي في حضرة سيف الدولة:
سيعلم الجمعُ ممّن ضمَّ مجلسُنا
بأنني خيرُ من تَسعي به قَدَمُ
ومع حق الخليفة في تصوره عن نفسه بأنها المركز الكوني، الذي يتزاحم الشعراء علي الفوز به. فقد كان هناك شعراء لا يذهبون ـ احيانا ـ اليه، الاّ بعد ان يطلبهم، وسيكون ابو نؤاس مثلا. فكم مرة اراده هارون ومن بعده الامين، فلا يجدانه الا بعد وقت من البحث، في بار بغدادي، مخموراً مع غلام. ولنتذكر ان اول مرة رآه الرشيد فيها كان مقبوضا عليه بتهمة الزندقة. ولنتذكر ـ ايضا ـ بأنه كان يرهن ثيابه وخلع خليفة بني العباس عليه من اجل الخمر.
كم مرة سجن ابو نواس وكم مرة كان رأسه سيقطع عن جسده، كم مرة مات في حياته، كما يتشكي امرؤ القيس.
تجمّع مرة عند الرشيد، وشاة السلطة من الفقهاء ومجالسي الخليفة.
قالوا عن ابي نؤاس: انه زنديق فهو القائل:
يا أحمد المرتجي في كل نائبةٍ
قم سيدي نعص جبار السمواتِ
وكاد رأس الشاعر ان يقطع، لولا ذكاؤه فيقول للرشيد: أني يكون زنديقا من يقرّ ان للسموات جبارا.
السلطة والدين، عاملان اساسيان في تدمير فكرة الشهادة عند الشاعر العربي، وهما حتي هذه اللحظة قائمان ومتحكمان، في دولة المتوكل والغزالي.
الخليفة حاكم باسم الدين، والدين قوي بقوة الخليفة، ومناصرته وبينهما الشاعر المسكين، المرتد، الزنديق.
انهما لا يكتفيان بقتل الشاعر، بجلده، بدفنه حيا، بصلبه، بحرقه، بتعليق رأسه في الكرخ، وباقي جسده في الرصافة، انما يسفهان موته خوفا من بقائه حيا بعد الموت. فكان الشعراء الشهداء عندهما مداحين، مرتزقة، في صورة هزلية مشوهة، ستنتقل كما هي الي عقل عالم الاجتماع، المتنور.
لقد قاما بدعاية مضادة ضد الموت الشعري، عبر تلك القرون كلها. لكن الشاعر، المسكين، الشهيد، كان ينتصر بعد حياته، في كل مرة. وسيكون، مرة اخري، ابو نؤاس مثلا، فتتفق كتب التاريخ عنه بأنه كان شاعر غلمان وسكر ومجون. حسن، لم يعرفا؟ اعني ـ السلطة والدين ـ ان الشاعر ربما سينتقم منهما جارا التاريخ كله له ومعه.
يروي لنا ابن منظور وابو هفان في كتابيهما عن اخبار ابي نؤاس ان الشاعر كان يشرب ذات مرة مع الامين الذي نشط للسباحة فلبس ثياب ملحم (من الحرير) ووقع في البركة فنظر ابو نؤاس الي بدن محمد فرأي شيئا لم ير مثله قط فلما كان من غد قال ابو نؤاس لراوي الخبر: ويلك، رأيته فرأيت بلية لا توصف وفتنة لا تطاق ثم انشأ يقول:
اني لَصبُّ ولا أقول بمن
أخافُ من لا يخافُ من أحدِ
اذا تفكَّرتُ في هوايَ لَهُ
مسستُ رأسي هل طارَ عن جسدي
اني علي ما ذكرتُ من فرقٍ
لآملٌ أنْ أنالهُ بيدي
وبعد ان قال الشاعر أبياته هذه، بقي بعدها ـ في آخر ايام الامين ـ مستخفيا، فلم يظهر حتي قتل الخليفة.
ولم يمر انتقام شعري كهذا، مرورا سهلا في كتابة التاريخ.
فغير تخفي الشاعر الاعزل، عن الخليفة وحرسه، ووشاته وعيونه، غير هذا القتل، نعثر علي قتل آخر للشاعر في كذب الرواة لابعاد الابيات عن الخليفة وجسده. فيقول بعضهم انها كانت في كوثر خادم الأمين، ويقول ثانٍ انها كانت في اخيه ابي عيسي، بل ان ثالثاً يقول انها كانت في مديح الامين!!... و.... و..
ابو نؤاس شاعر غلمان، حسن، ان الاخيرة وفق سياقها هذا، تعني فروخا في اللهجة العراقية، وربما في اللهجة الكويتية ايضا، وللتحقق من هذا الامر ينبغي ان نسأل كويتيا!
وفي مختار الصحاح والمعجم الوسيط نقرأ تعريفا للفرخ: ولد الطائر كما يقول الرازي، ويؤيده المعجم الوسيط، لكنه يضيف الي ان الفرخ من الرجال هو الذليل، وربما من هذا المعني نستطيع ان نفهم لماذا يقال في الكلام العراقي: الفرخ مكسور العين.
لقد أراد ابو نؤاس ذات مرة، ان يكسر عين امير مؤمنين، عربي.
 

 



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكيدةُ المصائر
- آخرونَ قبلَ هذا الوَ قت
- حكاية في الحانة
- مكيدةُ المصائر
- القصيدة ملجئي الوحيد للثأر
- البلاد
- الحرب والشعر
- اِبْنُ رُشْد ..
- آخِرُالمُدُنِ المُقَدَّسَة
- جراح الضحايا
- أُدباءُ الحَفيز!
- جلسةٌ قبل الحرب
- فــي الأصــلِ الشـّـعـريّ


المزيد.....




- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - الشاعر شهيدا ..