حظيت عملية "القاعدة" في 11 ايلول بتأييد شعبي واسع كونها استهدفت قلب الامبراطورية الامريكية. ولا عجب ان الولايات المتحدة تحولت في السنوات الاخيرة الى عنوان لحقد وكراهية الشعوب العربية والاسلامية. فهذه الشعوب تعيش في ضنك العيش بينما تنظر الى العالم الغربي كيف يهنأ بمستوى معيشة مرتفع على حساب خيراتها. من هنا، ومدفوعة بدافع فقدان الامل بالحياة والتغيير، تتحمس هذه الشعوب الى أي عمل يستهدف الغرب، وفي مقدمته امريكا.
في الصفوف الامامية للمواجهة المباشرة مع امريكا وقفت المنظمات الاصولية التي تفرعت عن حركة الاخوان المسلمين وتبنت الجهاد نهجا وعقيدة. استراتيجيتها في السنوات الاخيرة كانت تعميم المواجهة على نطاق عالمي واستهداف المصالح الامريكية اينما كانت، سواء في افريقيا او الجزيرة العربية او حتى داخل قلب الولايات المتحدة نفسها.
لتحديد الموقف من هذه الحركة التي وضعت نصب عينيها دحر النظام الامريكي العالمي، ولمعرفة مدى واقعيتها وما اذا كانت جديرة بالتأييد الذي حظيت به فعلا، واذا كان برنامجها صائبا لتحقيق المهمة الجبارة التي حددتها لنفسها، فلا بد من التطرق لاصولها الفكرية كما هي معروضة في الانتاج الفكري لهذه الحركة.
البحوث التي وضعها عرب او مستشرقون لمعالجة هذا الموضوع من زاويته الفكرية، تعود بنا الى مصر في الستينات، وتتطرق جميعها الى اهم المنظرين لهذه الحركة، سيد قطب مؤلف "معالم في الطريق"، الكتاب الذي كلفه حياته اثناء حكومة عبد الناصر عام 1966. كتاب آخر يجري التركيز عليه هو "الفريضة الغائبة" لعبد السلام فرج، ويتضمن شرحا لاهمية الجهاد في الاسلام ويعتبره الفريضة السادسة، بالاضافة الى فرائض الاسلام الخمسة. فرج الذي قاد جماعة الجهاد في مصر التي اغتالت الرئيس السادات، لقي نفس مصير قطب، وتم اعدامه عام 1982.
بعد عشرين عاما اضيف الى هذه الادبيات كتاب ايمن الظواهري، المفكر المدبر في "القاعدة" والذراع اليمنى لاسامة بن لادن، وعنوانه "فرسان تحت راية الرسول". الكتاب الذي تم تأليفه بعد احداث 11 ايلول اثناء تواجد مؤلفه في كهوف قندهار، هو محاولة لتبرير سيرة الجهاد الاسلامي المصري الذي يقوده الظواهري.
الكتاب الذي نشر على حلقات في صحيفة "الشرق الاوسط" السعودية (الصادرة في لندن) في كانون اول (ديسمبر) 2001، حظي برد سريع من صحيفة "الحياة"، السعودية ايضا، التي نشرت كتاب المحامي المحسوب على الجماعة الاسلامية المصرية منتصر الزيات بعنوان "ايمن الظواهري كما عرفته". ويرد الزيات في كتابه على الظواهري الذي صفى حساباته مع تنظيم الجماعة بقيادة الشيخ عمر عبد الرحمن، الحبيس في امريكا، بعد ان اعلنت مبادرتها وقف العمليات المسلحة ضد النظام المصري عام 1997.
ملامحه الفكرية
يرى الاسلام الاصولي في التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العصري، ردة للجاهلية. وفي حين يحلل الماركسيون تقدم التاريخ حسب قوانين اجتماعية واضحة انطلاقا من النظرية المادية الجدلية، فبالنسبة لمفكّري الاسلام الاصولي، من امثال المولى مودودي الباكستاني وسيد قطب المصري، فان الحداثة، وما يرافقها من تطور وعلم، هي انحراف عن الاسلام، لأنها تخضع كل شيء لحكم المنطق والعقل وليس للارادة الالهية.
والجاهلية، في الاسلام الاصولي، ليست مرحلة تاريخية سابقة لتكوين الدولة الاسلامية، بل هي حالة نفسية اهم ملامحها الوثنية والجهل بوجود الاله وبتعاليمه. وردا على هؤلاء الذين يقيمون الفصل بين ظهور الدين والتطور الاجتماعي، يكتب حسين مروه في كتابه الشهير "النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية" الذي كلفه حياته:
"واما معاداة هذه النظرة للعلم فمن حيث الموضوعات العلمية التي اثبتت تجارب التطور الحضاري صحتها، تنفي نفيا قاطعا نشوء ظاهرة الدين في مجتمع ما، وفي عصر ما، نشوءا فجائيا من خارج اطار التاريخ لهذا المجتمع او هذا العصر، ومن خارج سياق التطور البشري على الارض ذاتها. ان العلم الاجتماعي المستند الى مراقبة القوانين الموضوعية الجدلية لحركة التاريخ البشري، يثبت ان كل دين من اديان البشرية انما ظهر ليحمل شكلا غير مكتمل من انعكاس العلاقات الاجتماعية في تصورات الناس وافكارهم في مراحل معينة من التاريخ". (اصدار: دار الفارابي الطبعة السادسة 1988، ص 304)
حسب التحليل الذي يسوقه مروه، فان الاسلام كدين توحيدي نشأ انعكاسا لعملية الانتقال من المجتمع الجاهلي القبلي المبعثر، والذي آمنت فيه كل قبيلة باله خاص بها، الى مجتمع موحد في اطار سياسي اقتصادي واجتماعي شامل، تؤمن باله واحد. اما الاصوليون فلا يجهدون في البحث عن تفسير تاريخي علمي، لان المشيئة الالهية هي التفسير الوحيد لنشوء الاسلام وانتشاره.
التقدم التاريخي من مرحلة الوثنية الى التوحيد الى العلمانية، مع تطور العلم والثورات الصناعية والتكنولوجية، هو في نظر الاصوليين تراجع تاريخي الى فترة الجاهلية، ولا بد للمسلم من اعلان الجهاد ضده.
واذا كان جهاز الدولة الاسلامية، حسب التحليل العلمي، اداة ضرورية لتوحيد المناطق المتباعدة جغرافيا وحضاريا والتي لا تمت بعلاقة للثقافة العربية، فان الاصوليين يعتقدون ان تأسيس الدولة كان بداية الانحراف والردة، وما يطلبونه هو العودة لاصول الاسلام كما كانت زمن الخلفاء الراشدين.
من هنا يمكننا ان ندرك لماذا يعتبر الاصوليون النظام الديموقراطي قمة الكفر، فهذا النظام الذي يعتمد على ارادة الشعب يتناقض جوهريا مع الشريعة الاسلامية المعتمدة على الارادة الالهية والتعاليم السماوية او النبوية. النظام الاشتراكي هو بالطبع نظام الحكم الاخطر بالنسبة للاصوليين، اذ انه لا يستند الى ارادة الشعب فحسب، بل ينفي العقيدة الدينية من اساسها ويُخضِع كل شيء في الكون لاختبار العلم والمنطق والعقل.
واذا كان من الصحيح القول ان هذا الموقف من الشيوعية مشترك لكل الاسلاميين وليس للاصوليين فحسب، فان المميز في الفكر الاسلامي الاصولي انه لا يرى في الغرب والشيوعية العدو الوحيد، بل ان عدوه الاخطر هو الانظمة الاسلامية التي تقبل بالديموقراطية نهجا دستوريا، وكذلك الحركات الاسلامية (المعتدلة الاصلاحية) التي تسعى لفرض الشريعة على الدولة من خلال قبولها باللعبة الديموقراطية ومشاركتها في الانتخابات.
وقد وجه الظواهري انتقاداته لحركة الاخوان المسلمين في مصر ومؤسسها حسن البنا في كتاب له بعنوان "الحصاد المرّ للاخوان المسلمين في ستين عاما"، ومما جاء فيه:
"ما يؤسَف له ان الاخوان المسلمين وقعوا في اخطاء عظيمة وسقطات عقائدية، وأصدروا في ذلك بيانات، منها بيان بعنوان بيان للناس من الاخوان المسلمين، وبدأوا يتحدثون عن فقه جديد لا يعرفه علماء الاسلام، سووا فيه بين المسلمين وغيرهم في كل حقوق المواطنة، المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، وقد رد عليهم أخونا احمد عبد السلام شاهين في كتابه فتح الرحمن في الرد على بيان الاخوان".
ويضيف الظواهري في كتابه: "صرّح الاخوان في بيان سابق للبيان المذكور آنفاً انهم يرون ان للنصارى الحق في تولي كل وظائف الدولة ما عدا منصب رئيس الدولة (لماذا؟)، أي انهم لا يرون غضاضة في ان يتولى رئاسة وزراء مصر نصراني! ترى ولماذا لا يكون ايضاً يهودياً؟ أليس في مصر مواطنون يهود؟ أم ان المسألة مسألة دعاية سياسية وليست مبادئ كما يزعمون؟" ("الشرق الاوسط" الحلقة التاسعة، كانون اول 2001)
"حكم المرتد اغلظ من الكفر الاصلي"
يستند الاسلام الاصولي الى احد اهم المفكرين العرب من القرن الثالث عشر هو ابو العباس تقي الدين احمد بن عبد الحليم الحوراني المعروف بابن تيمية. وقد عاش ابن تيمية في فترة حكم المماليك في مصر وسورية، وتعرض للاعتقال عدة مرات بسبب دعوته لنقض النظام القائم والعودة لايام الخلفاء الراشدين. وكانت دعوته محاولة لتصحيح انحراف النظام في سلوكه السياسي والاخلاقي، على شاكلة الحركات التصحيحية المعروفة في تاريخ الاديان. وقد ضمّن ابن تيمية كل هذه الانحرافات في احد مؤلفاته "العمل بالمعروف والنهي عن المنكر".
وكان ابن تيمية من اتباع الفقيه احمد بن حنبل مؤسس احد مذاهب الاسلام الاربعة، وقد جاء بالاجتهاد حول ضرورة تقديم الطاعة للخليفة وعدم احلال الفتنة. الا انه ايد هذه الطاعة ما دام الحاكم يطبق الشريعة، اما اذا انحرف عنها فعلى المسلمين اعلان الجهاد عليه، وذلك على اساس ان "حكم المرتد اغلظ من الكفر الاصلي". من هنا تأتي دعوة الحركات الاصولية للجهاد ضد الانظمة العربية التي لا تطبق الشريعة على اصولها. ويعتبر هذا الجهاد اهم من الجهاد مثلا ضد العدو الصهيوني او الاستعمار الامريكي، الامر الذي يفسر لماذا لم تحتل القضية الفلسطينية حيزا مهما في برنامج هذه الحركات. وقد لخص الظواهري هذا التوجه بقوله ان الطريق الى القدس تمر بالقاهرة اولا.
يتبين اذن ان اعلان الحركات الاصولية، في القرن الواحد والعشرين، الجهاد على امريكا في حين تخلت عن مجاهدة الانظمة العربية "المرتدة"، هو بلا شك انحراف كبير عن عقيدة ابن تيمية والسلفيين. والحقيقة ان قرار الجهاد ضد امريكا جاء من اعتبارات سياسية اكثر منها شرعية. فبن لادن والظواهري اللذين تكلما باسم الامة الاسلامية عبرا في الحقيقة عن اقلية، وبقيت رسالتهما بعيدة عن هموم الناس ومحصورة في النخب المثقفة. وللوصول الى قلوب العامة، كان من المستحيل اقناع الناس بالجهاد ضد انظمتها والعودة للعيش كما كان الحال قبل 1.400 عام، وكان من الاسهل تغذية عواطفها الناقمة على الغرب وامريكا.
ولم يكن صدفة ان الجماعات الاصولية طُردت من كل البلاد العربية حيث حاولت فرض رؤيتها الخاصة. وقد وصلت الامور الى درجة المجازر، كما كان في مصر والجزائر، لان الجماهير العربية التي تطمح للاستفادة من التقدم التكنولوجي، رفضت ان تعود 1.400 عام الى الوراء. من هنا وجد الظواهري في افغانستان الطالبانية (عام 1996) الدولة الاسلامية المثالية، فهي عبارة عن مجتمع قبلي يفتقد اسس الدولة العصرية التي يمكنها ان تذيب كل القبائل والاعراق ضمن قومية واحدة في اطار النظام الديموقراطي المحرّم شرعا.
افغانستان بقيت فعلا من افقر الدول في العالم واكثرها تخلفا، وهي لذلك كانت الاقرب من ناحية اجتماعية واقتصادية الى فترة الخلفاء الراشدين. ولم يكن صدفة ايضا ان بن لادن لم يستثمر ملياراته في تطوير البنية التحتية لهذا البلد المنكوب وبناء مؤسساتها، لان كل تطور اعتبر بدعة وكفراً وجاهلية.
هذا المجتمع القبلي البدائي هو بالنسبة للظواهري ميزة ايجابية نظرا لبساطته، ويتجاهل ان طبيعة المجتمع القبلية هي التي فتتت البلاد في حروب اهلية منذ جلاء السوفييت اواخر الثمانينات، بل يرى ان: "الشباب المسلم خاض في افغانستان معركة تحرير الارض المسلمة تحت شعارات اسلامية خالصة، وهو امر في غاية الخطورة، اذ ان كثيرا من معارك التحرير التي جرت على ارض عالمنا الاسلامي اختلطت فيها شعارات القومية الوطنية بالاسلام، بل واحيانا بشعارات اليسار والشيوعية، مما احدث لدى الشباب المسلم انفصاما بين عقيدته الجهادية الاسلامية التي يجب ان تقوم على اساس اخلاص الدين لله، وبين تطبيقها الواقعي".
ويضرب الظواهري مثالا على ذلك قضية فلسطين "حيث اختلطت الشعارات والعقائد تحت شعار التحالف مع الشيطان من اجل تحرير فلسطين، فتحالفوا مع الشيطان وخسروا فلسطين".
بهذا الكلام يكون الظواهري قد شطب 50 عاما من النضال الفلسطيني من اجل الحرية والاستقلال، وربما هي محاولة لتبرير عدم اهتمامه بهذه القضية التي كانت وما زالت في قلب العرب والمسلمين في العالم اجمع وحظيت بدعم الاتحاد السوفييتي السابق وحركات التحرر الوطنية في العالم. القضية الفلسطينية اصبحت اليوم بضاعة يتاجر بها بن لادن ويدعي انه يجاهد من اجلها وفي سبيلها ليبرر ارهابه، وذلك بعد ان فقد القاعدة الشعبية في العالم العربي الذي لم يتقبل مفاهيمه السلفية التي اثبتت فشلها عند اول اختبار.
الصبار 150