|
عن المثقفين المصريين والسينما والصهيونية والتطبيع
أمير العمري
الحوار المتمدن-العدد: 2046 - 2007 / 9 / 22 - 05:00
المحور:
الادب والفن
لاشك أن هناك حساسية خاصة لدى قطاع كبير من المثقفين المصريين من كلمة "إسرائيلي" تلحق بكتاب أو بصحيفة أو بشخص أو بمخرج سينمائي أو بفيلم، أو بأي شئ على الإطلاق. والسبب مفهوم تماما في ضوء الصراع الممتد منذ عشرات السنين مع عدو صهيوني استباح لنفسه كل اشكال الكذب والتضليل والعدوان والتوسع والاستيلاء وتزييف الحقائق والتاريخ. والسبب أيضا مفهوم في إطار رغبة هذا العدو (الإسرائيلي الصهيوني) في كسر إرادتنا ودفعنا دفعا إلى القبول بالأمر الواقع والاستسلام للهزيمة. وعندما نقول (الإسرائيلي الصهيوني) فإننا نقصد تحديدا، كل فكرة أو شخص أو عمل يتبنى الأيدلوجية الصهيونية ويبرر كل ما ارتكبه الصهاينة من أعمال عنف وتصفية مادية لشعب في سبيل احلال شراذم قادمة من أطراف الأرض المختلفة على أرضه. العداء هنا إذن ينصب على المبدأ والهدف والفكرة والسلوك (الصهيوني) الذي يقوم على أيديولوجية استئصالية عنصرية صارمة، وليس على أي شئ (إسرائيلي) هكذا بشكل عام جزافي. وسوف أتجرأ وأقول إن هذا الذي يوصف أحيانا بـ "الإسرائيلي" قد يكون أكثر قربا منا ومن قضايانا وأشد معاداة للصهيونية من كثير من الذين يعتبرون أنفسهم "عربا" ومدافعين عن "المقدسات" و"الثوابت" وغير ذلك. أقول هذا وأعرف مقدما ما يمكن أن يثيره علي هذا من لعنات بل واتهامات من جانب قطاع "فاشي" جاهز تكون واشتد عوده خلال السنوات العشرين الأخيرة من خلال حلف أعمى لا يقل عنصرية وبشاعة عن الصهيونية.
إنس بغداد قبل 4 سنوات، كان لي شرف المشاركة في "اكتشاف" فيلم شديد الأهمية للمخرج السويسري العراقي الأصل سمير جمال الدين في مهرجان لوكارنو السينمائي عندما كنت عضوا في لجنة تحكيم أفلام أسبوع النقاد مع ناقدين من المانيا وسويسرا. هذا الفيلم وهو بعنوان "إنس بغداد: يهود عرب.. الشبكة العراقية" وهو تسجيلي طويل (حوالي ساعتان) يكشف الكثير مما خفى عن اليهود العراقيين وما جرى لهم والعوامل التي دفعتهم إلى الهجرة إلى اسرائيل، ومنها قيام عناصر المخابرات الاسرائيلية بتغذية العنف ضدهم في العراق بل وتفجير قنابل في المعابد اليهودية والمدارس، وأيضا تواطؤ نظام نوري السعيد مع الصهيونية لإبعادهم قسرا وغير ذلك. وكان الفيلم يدور أساسا حول عدد من الشخصيات من الإسرائيليين ذوي الأصول العراقية مثل الكاتب المعروف سمير نقاش (الذي لا يكتب أعماله سوى بالعربية) والكاتب سامي ميخائيل، والناقدة والكاتبة المعروفة إيلا شوحات. وقد نجحت في تلك السنة في إقناع زميلي الناقدين في لجنة التحكيم بمنح الفيلم جائزتنا. وسرعان ما ذاع صيت هذا الفيلم وذهب إلى عدد كبير من المهرجانات. وبعد عودتي إلى مصر نظمت عرضا للفيلم في جمعية نقاد السينما المصريين وقت رئاستي لها في صيف 2002، كان هو العرض الثاني للفيلم في العالم بعد لوكارنو مباشرة، ثم عرضته في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في اطار الأسبوع الثقافي الذي تقدم فيه عدد كبير من الاساتذة بأوراق ومداخلات تبحث في إسرائيل من الداخل ومستقبل الصراع العربي الاسرائيلي. وناقشت الفيلم مع عدد كبير من طلاب الجامعة الذين أبدوا اهتماما كبيرا بالفيلم، وتأثروا كثيرا للصور التي عرضها ليهود من العراقيين الذين هم أكثر وطنية وحبا لبلدهم الأصلي من بعض العرب، وقد عبروا في الفيلم من خلال استعادة الذكريات والأحلام، والغوص في كتاباتهم عن هذه المشاعر، وكشفوا بجرأة وحسم، بشاعة الصهيونية الأمر الذي جعل سمير نقاش يقول إن إسرائيل لا تستخرج من الإنسان إلا كل ما هو بشع ومدمر. وقد بلغ حماسي لهذا الفيلم المتميز في كل جوانبه الفكرية والفنية، إلى حد رغبتي في عرضه في افتتاح مهرجان الإسماعيلية السينمائي ذلك العام حتى بعد أن كنت قد تركت إدارته وانقطعت علاقتي به تماما، فأرسلت نسخة الفيديو التي حصلت عليها من مخرجه سمير إلى الأستاذ صلاح مرعي الذي كان (واظن أنه لا يزال كذلك) مرتبطا بمهرجان الإسماعيلية السينمائي المتخصص في الأفلام التسجيلية والقصيرة، على أن يتولى القائمون على أمر المهرجان استقدام النسخة السينمائية من الفيلم الكبير ودعوة مخرجه والاحتفاء به كما يليق وإدارة مناقشة مثمرة حول الفيلم. لكنني تلقيت من الأستاذ صلاح مرعي ما يفيد أن الفيلم طويل أكثر من اللازم وبالتالي لن يمكن عرضه في المهرجان، بل ربما يكتفون بعرض نسخة الفيديو عرضا محدودا! وما حدث أن الفيلم، كما أشرت، مضى يشق طريقه إلى عدد من المهرجانات الدولية ويحصل على الجوائز، ويعرض عروضا عامة في عدد من العواصم الأوروبية وغيرها. وفي العام التالي 2003 عرض بالفعل في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة في مهرجان الإسماعيلية السينمائي كما عرفت من قراءة أخبار ذلك المهرجان، وحصل كما كنت اتوقع على الجائزة الكبرى للمهرجان، وهو تكريم يستحقه. ولم أسمع أن أحدا من المثقفين أو النقاد والصحفيين المصريين الذين شاهدوا الفيلم في عروضه الثلاثة في مصر – في جمعية النقاد أو في جامعة القاهرة أو مهرجان الاسماعيلية – اعترض على الفيلم أو هاجمه أو تقدم بشكوى ضده إلى وزير الثقافة بدعوى أنه فيلم إسرائيلي (أي معاد بالضرورة) ويتعين منع عرضه ومحاسبة من أتى به. ولم أعرف أن أحدا على الإطلاق اعترض على حصول الفيلم على الجائزة الكبرى لمهرجان تقيمه وزارة الثقافة وأظن أن الوزير نفسه – فاروق حسني – هو الذي وزع جوائزه في تلك السنة. عقدة الذنب ولكن لأننا عشنا قبل فترة قصيرة مأساة التدمير الإسرائيلي للبنية التحتية في لبنان وقتل مئات الأشخاص وتدمير منازلهم، والعدوان الفاجر على كل القيم والأعراف كما تمثل في الحرب ضد مقاتلي حزب الله وضد الشعب اللبناني كله، ثارت مجددا الروح الوطنية والقومية واستيقظت مرة أخرى "عقدة الإحساس بالذنب" المستقر لدى الكثير من المثقفين المصريين منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل وما أعقبها من افتتاح سفارة إسرائيلية في مصر ورفع العلم الإسرائيلي في وسط القاهرة. هذه العقدة بكل أسف تغذي تصرفات ومواقف الكثير من المثقفين، وخصوصا الصحفيين التقدميين أو المعتبرين كذلك والذين أكن لهم شخصيا الكثير من الود والاحترام، وتدفعهم دوما إلى محاولة تأكيد رفضهم لأي شكل من أشكال التطبيع، وإعلان تبرؤهم من أي شئ قد تشتم منه شبهة فتح الباب أمام أي شئ "إسرائيلي"، والوصول إلى الاستبعاد التام والقاطع والنهائي – دون حتى أدنى فرصة لمحاولة الفهم- لإمكانية أن يكون ذلك "الشئ" الإسرائيلي معاديا للصهوينية مثلنا تماما بل وربما أكثر من بعضنا. والأمر المخزي والمحير أيضا أن يلجأ البعض – كما حدث بالفعل – إلى أسلوب تحريض السلطة ضد قطاع آخر من المثقفين يحاول أن يجتهد في هذا المجال، والمطالبة بالمنع والمحاسبة كما حدث أخيرا، بل وكما هو الحال في كل مرة تثور فيها الروح الوطنية انفعالا بحدث سياسي أو رغبة في أن يؤكد البعض منا لأنفسهم على نقائهم ورفضهم ومناهضتهم لشتى أشكال التطبيع، حتى لو لم تكن هذه أصلا هي القضية، وحتى إذا كان معنى ذلك تحريض سلطة هي التي فتحت الباب امام إسرائيل وأمام سفارتها، وهي التي تتبادل المراسم معها وتوقع المعاهدات الاقتصادية والأمنية وتتبادل معها المعلومات ، وغير ذلك. فما مغزى الشكوى إلى وزير الثقافة هنا والإشادة بدوره واستجابته للمنع والحظر و"التصدي" للخطر الصهيوني الكاسح الذي يهدد الأمة بمناسبة عرض فيلم كما حدث من صحفية في صحيفة "العربي الناصري". المغزى المباشر، دون أن يستدعي الأمر توفر عبقرية ما أو ذكاء خاص، هو أن السيد الوزير منشق على حكومته ورئيسه، وأنه اصبح فجأة صاحب وزارة ثقافة "قطاع خاص" أو دولة داخل الدولة، أو أنه، وهو المدافع المبرر لكل سياسات حكومته (ولا يمكنه أصلا غير ذلك!) قد أصبح مناضلا ضد الصهيونية وانضم إلى حزب معارض يعتبر – بكل اسف – أن كتابا مثل "برتوكولات حكماء صهيون" يعد أساسا أيديولوجيا صلبا وأصيلا، وأنه يصلح أن نعتمد عليه لخدمة قضايانا الوطنية، رغم سمعته السيئة في كل أرجاء العالم باعتباره أكثر الكتب عنصرية في التاريخ. لقد كانت المواقف الصلبة المعادية للصهيونية لرجال مثل نعوم شومسكي واسرائيل شاحاك وموريس جاكوبي وأفي مغربي وتوم سيجيف وألفريد ليلنتال وماكسيم رودنسون، وهم من اليهود، هي التي كشفت وفضحت مواقف الحركة الصهيونية من خلال التحليل والنقد والمواقف الصلبة التي لا تعرف المساومة. وقد اتهم هؤلاء من قبل الأبواق الصهيونية بالتهمة المضحكة الشهيرة، أي بأنهم من اليهود "الكارهين لأنفسهم"!
وقد وقع 400 مثقف اسرائيلي أخيرا على بيان جاء فيه أن "إسرائيل تنفذ جرائم حرب واسعة، تهدم دولة، وتحول أكثر من نصف مليون شخص إلى لاجئين. قرى كاملة دمرت، عشرات الوف العائلات هجّرت، مئات القتلى وآلاف الجرحى من المواطنين. كل التبريرات لن تقدر على تنظيف هذه الجرائم. خطف الجنديين، المعاناة، القتل وهدم الأماكن المأهولة في شمال البلاد لا تستطيع التغطية على الأعمال البربرية التي تنفذها إسرائيل، في ما تتواصل المذابح في غزة. يجب ايقاف هذه الجرائم حالاً". فما معنى هذا؟ أليس معناه أن هناك تحولا يحدث وإن ببطء داخل الكيان الصهيوني؟ ألا يمكننا أن نحول هؤلاء الـ 400 مثقف في اسرائيل إلى 4 آلاف وأربعين ألفا، أم سنظل نغلق الباب على أنفسنا ونرفض الانصات لأي صوت يهودي منصف يأتي من داخل اسرائيل أو من خارجها؟ وما مغزى أن يوقع 40 سينمائيا إسرائيليا، منهم سيمون بيتون واموس جيتاي وأفي مغربي، بيانا يدين السياسة الاسرائيلية بدرجة أقوى كثيرا من ادانة معظم الحكومات العربية لها خلال الحرب اللبنانية الأخيرة! أظن أنه يتعين الآن على كل المثقفين المصريين أن يحددوا موقفهم بوضوح لا لبس فيه: هل هم معادون للصهيونية كأيدولوجية عنصرية معادية للإنسان والتاريخ ولوجود إسرائيل الصهيونية، أم معادون لكل يهودي أو كل إنسان يعيش على أرض فلسطين التي يسمى جزء منها الآن بإسرائيل، ولكل شئ يأتي منها أو ينسب إليها ومنهم أيضا فلسطينيون يحملون رغما عنهم، الجنسية الإسرائيلية؟ وهل المطلوب بالفعل القضاء على كل اليهود الذين يعيشون داخل إسرائيل، أم تحويل اسرائيل إلى دولة علمانية ديمقراطية لكل من اليهود والفلسطينيين المسيحيين والمسلمين، دون أي تميز أو تفرقة، ولنسمها عندئذ فلسطين أو اسؤائيل.. لا يهم؟ إذا كانت الإجابة أن لا فرق بيم اليهود والاسرائيليين والصهاينة وانهم جميعهم أعداء للاسلام ولامة العرب، وأن بروتوكولات حكماء صهيون (المرجع الفكري المتهافت لفصيل كبير من اشباه المثقفين في بلادنا) يقر بأنهم ضالعون في مؤامرة سرية على العالم منذ فجر التاريخ، فلن يصبح هناك أي مجال لأي مناقشة حقيقية بهدف تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام. وسيبقى التاريخ يعيد نفسه دوما.. ولكن على شكل مهزلة كبرى بالطبع!
#أمير_العمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -الملكة- لستيفن فريرز: دراما الصراع المكتوم بين الحكومة
...
-
بعد مائة عام من التاريخ
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|