|
البناء العلامي للشخصية السينمائية
ماهر مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 2044 - 2007 / 9 / 20 - 12:39
المحور:
الادب والفن
حينما نقارن بين الشخصية في الادب الروائي والشخصية السينمائية، نتذكر وبشكل مباشر مقولة كريستيان ميتز، ان الفن السينمائي ذا مدلول مباشر على العكس من الفن الروائي الذي لا يعتمد المدلول المباشر،( الصورة المرئية في الاول، والكلمة المكتوبة في الثاني)، هذه المقولة تربطنا بالشكل العلامي والبناء الذي تكون عليه الشخصية سواء في الرواية او الفلم، ولكن في كلتا الحالتين تبقى الشخصية حاملة للمعنى، بغض النظر عن النوع العلامي الذي تمثله، الا ان ما يميز الشخصية السينمائية عن الشخصية الروائية، هو كونها وعاء يحمل الفعل ورد الفعل اكثر من كونه وعاء يحمل الفكر او البناء الفلسفي، فما يمكن ان تكونه الشخصية الروائية بسبب الوسيلة الفنية (الكلمة المكتوبة)، حاملة للافكار بفضل تيار الوعي او البناء النفسي للشخصية، تكون الشخصية السينمائية على العكس من ذلك، فهي تحتاج الى الفعل ورد الفعل لتصل الى المتلقي ما تحمله من افكار او قيم، وهنا تكمن صعوبة بناء الشخصية الفلسفية او حاملة الافكار في السينما، لان الحوار او الصوت من خارج الكادر لا يعد الحل الامثل لبناء الشخصية قدر اعتماد صانع العمل للفعل ورد الفعل لاخبارنا، فلو طالعتنا شخصية سينمائية لتقول انها تحمل افكار او تمثل جملة افكار فلسفية، فيجب ان ينعكس ذلك على سلوكها اي افعالها، في حين يمكن للشخصية الروائية ان تخبرنا طالما ان عملية السرد الكلمي هو السمة المهيمنة على النص الروائي، وهذا يحيلنا الى سؤال في غاية الاهمية: هل تبقى الشخصية السينمائية ذات مستوى واحد، او بناء فكري واحد على طول احداث الفلم السينمائي؟ بمعنى اخر: هل يمكن للبناء العلامي للشخصية ان يتطور او يتحول، نتيجة ما تكتسبه الشخصية من معرفة او افكار جديدة كما هو الحال عند الشخصية الروائية؟ والجواب هو: نعم تمتلك الشخصية السينمائية امكانية كبيرة في التبدل والتحول، واكتساب بناء علامي يختلف عما هو في بداية احداث الفلم، واذا كان ميتز يرى ان المدلول المباشر للفن السينمائي يكمن في ايقونية الصورة المرئية، فأن بناء النسق او السياق في عملية ربط اللقطات، هو من يؤدي وظيفة انتاج مستويات من المعنى، فيتلاشى المدلول المباشر على مستوى الصورة، سيما وان الشخصية السينمائي تعتمد على عمليات تحول كثيرة، فالبناء الايقوني سرعان ما يتلاشى ليكون بناء مرمز لفكرة معينة او مؤشر على شخصية او احداث لا ترتبط مباشرة بقصة الفلم، طالما ان التناص السينمائي يستفاد من الارث الهائل للسينما في بناء الاحداث الفلمية. ان الفكر في الصورة السينمائية يتطلب نمطا مميزا من الشخصية، وتأكيد تميز الشخصية يأتي من تحديد انوع الافعال التي يقوم بها لايصال المعنى للمتلقي اولا، وثانيا عملية بناء سرد الاحداث الفلمية وتبنى النسق السردي المؤدي الى تبلور الافكار، طالما ان التوظيف العلامي للشخصية في السينما هو الاساس في نقل المعلومه، بالاعتماد على السياق الذي يمثل المرجعية الفكرية التي تقوم عليها الصورة في الفلم قيد الدراسة، فلا تمثل الشخصية السينمائية في بداية كل فلم الا بناء ايقوني ذا مدلول مباشر،(تماثل الدال والمدلول بمستوى واحد من المعنى)، اي ان العملية اشبه ببطاقة تعريف، شكله، عمله، علاقاته، بيئته، واخيرا افكاره التي تظهر من خلال بدأ مرحلة اللاتوازن ونشوب الصراع، بعد هذه المرحلة لابد ان تظهر الشخصية في بناء علامي مغاير او متحول، والتحول العلامي هنا لا يقصد به التكثيف او التضمين العلامي، بل تبدل وتطور افكار الشخصية الذي ينعكس على افعاله، فما يقوم به من افعال هو الذي يخبرنا عن افكاره الجديدة، او قد تكون عملية ترسيخ للافكار، الا ان هذه الافكار تدخل في مرحلة الاختبار، ففي فلم (غاندي)، نرى ان المحامي الشاب الذي يعمل في احدى المستعمرات البريطانية، كان في بداية الامر مجرد بناء ايقوني، شاب متمدن، يمتهن المحاماة، مثقف، ينتمي بكليته الى البيئة الانكليزي التي كان يؤمن بها، الا ان عملية الصراع الذي دار بين افكاره من جهة وافكار اقرانه من جهة اخرى، والصراع الرئيس بينه وبين الاحتلال البريطاني، جعل من ايقونة الشخصية (غاندي)، رمز ومؤشر، يحيل الى مرجعيات اخرى ترتبط بقضية الوطن، وما عادت ازيائه التي طالعنا بها في بداية الفلم، هي نفسها، حينما حاك قطعة القماش التي بالكاد تغطي بعض اجزاء جسده، وهنا اكد انسلاخه من البيئة الانكليزية، بعد انزياح افكاره بالانتماء لها، فخلال عملية السرد الفلمي، وتداخل الافعال مع ردود الافعال، وكذلك تطور الصراع الفكري بين العقلية الاستعمارية والعقلية الوطنية التحررية، تغير وتحول البناء العلامي للشخصية، فاصبحت مؤشر على مقاومة اللاعنف، وبناء رمزي يمثل جميع اطراف الهند الشاسع للنهوض بعملية التحرر من المحتل، لان عملية توليد وانتاج المعنى الجديد في المستوى الثاني، لابد ان يختلف عن المعنى الاول، اي الدلالة الايقونية، والا فما الجدوى من انتاج معاني متعددة للنص الجديد، وهذا ما يتطلب شخصية جديدة تحمل افكار جديدة وقيم جديدة. ولابد للبناء العلامي ان يتحول عند رسم الشخصية السينمائية، وعملية التحول تظهر من خلال الزي او المكان الجديد او الوظيفة الجديدة، وكذلك العلاقات الجديدة، ونوع الافعال التي يقوم بها، ولا يكفي ان نقول تحول علامي دون ان نرى مؤشرات هذا التحول على افعال الشخصية السينمائية. وهذا ما رأيناه في فلم (الرسالة) اخراج (مصطفى العقاد)، فشخصيات (الحمزة، وزيد، وعمار بن ياسر، وجعفر، وخالد بن الوليد.. وشخصيات اخرى)، حينما كانت في زمن الجاهلية وما تحمله من افكار توافق طبيعة البيئة والمكان، فضلا عن نوعية الافعال التي كانوا يقومون بها، كان البناء ايقونيا مباشرا، يحيل الى مجتمع جاهل بدوي، بكل قيمه وتقاليده، وتسطح افكاره، فتتساوق العلاقات التماثلية بين الافكار السيئة والملابس والبيئة وطبيعة الافعال، وهو ما يؤكد العلاقة المتشابهة بين الدال والمدلول بالنسبة للشخصية، ولكن حينما انتشر الاسلام، وتبدل المدلول الفكري للشخصيات حاملة المعنى، نرى ان عملية التحول الفكري قد انعكست على افعالهم وكذلك بيئتهم، وازيائهم، اي ان البناء الايقوني تحول الى بناء اخر جديد يتمثل بالقيم والافكار الجديدة، فكانوا بناء اشاري، وحتى مرمز عن نوعية الافكار التي اكتسبوها واصبحو اثر دال على وجودها وسط المجتمع الجاهلي، فنرى ان عملية التحول ترتبط ايضا بالشخصيات الاخرى، اي الانداد، او الشخصيات السلبية، فعملية المقارنة الشكلية بينهما تحيل الى بناء فكري جديد وتحول علامي مختلف عما كان سابقاً، وهذا ما يؤكد ان دراسة العلامة وبنائها لا يرتبط بذات العلامة وانما بالعلاقات التي تقيمها العلامة مع ما يليها وما يسبقها، فلا تغدو العلامة هي المعيار، بل مجمل العلاقات المتداخلة سواء كانت السياقية او النسقية بين العلامات. ونؤكد ان التحول يعمل على بناء شخصية جديدة من خلال انتاج علاقات جديدة تتجاوز العلاقات التماثلية نحو علاقات سببية او علاقات فكرية بين مجمل البناء العلامي للشخصية السينمائية، فيتحول مستوى الشخصية من التسطيح الى مستوى اخر، يحيل المتلقي الى معاني جديدة قد ترتبط بذات الفلم السينمائي او تحيل الى احداث وافعال اخرى، يحاول الفلم طرحها او اثارتها، وهذا ما يتطلب تعدد المستويات الدلالية للشخصية نفسها وأبتعادها عن احادية المعنى صوب معان اخرى ترتبط بذات الشخصية وما تمثلة بعد عملية التحول.
د.ماهر مجيد مخرج واكاديمي
#ماهر_مجيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|