|
-نون- سحر الموجي
محمد المصري
الحوار المتمدن-العدد: 2049 - 2007 / 9 / 25 - 11:27
المحور:
الادب والفن
بأربعة كلمات : هوَ عمل أدبي حقيقي ! ولتوضيح "لماذا" هو حقيقي ، يلزمنا بعض التوغل بداخله
مازلت أتذكر تلك النصيحة التي سمعتها عند صدور رواية سحر الموجي الجديدة "نون" منذ عدة أشهر عن ضرورة قراءة روايتها الأولى دارية قبل الشروع في قراءة جديدها ..
وما خرجت به عند قراءة دارية كان شيئاً شديد التميُّز .. خصوصاً إن كانت البداية الروائية لكاتبة بدأت بعد سن الثلاثين ، دمج واعي جداً لخيوط الواقع والحلم ليبدو كلاهما انعكاساً شديد الدقة للآخر .. حضور مميز لثقافة المكان وأثره – خصوصاً مصر القديمة - .. الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التي تشكل جزءً من بنية الرواية .. الأساطير الفرعونية التي تجعل من شخصيات الرواية ذات جذور راسخة – وإن كانت أسطورية وغير مرئية - .. لغة مميزة شديدة الشاعرية مع استخدام واعي لعامية الحوارات ، كل ذلك مع بناء روائي شديد التماسك ، هُناك بعض العيوب بالطبع ككل البدايات ولكنها في المجمل رواية "ثقيلة" تقرأ بأكثر من مستوى ورؤية وتشكل واحدة من أهم الروايات النسوية في تلك الفترة .. سواء نسبة لكاتبتها .. أو لبطلتها التي تبحث عن ذاتها وسط مجتمع وظروف متخبطة ..
واستكمالاً لما تم في دارية تبدو نون وكإنها رؤية أكثر اتساعاً لخيوط مجتمع .. ومسار حياة تحاول الكاتبة فهمه عبر أربع شخصيات هذه المرة "سارة .. حسام .. نورا .. دنيا" يمرون بتجارب شديدة الصدق والحياتية ما بين الألم والضعف .. ويقين القدرة على المواصلة ..
لعله من المهم بالنسبة للقارئ معرفة أن المسار الرئيسي الذي يُشكل بناء نون رباعية الفصول والخاص بشخصيات "تبدأ من الأبيض ثم تشعر بجمر الأحمر فتمر بسراديب الأسود لتصل بعد ذلك – في رحلة بعث جديدة – لذهب الروح" قد تم ذكره بشكل رمزي سريع في الصفحات الأخيرة لرواية سحر الموجي السابقة كيقين وصلت إليه شخصيتها الأساسية ، الضفة .. الجبل .. الغابة الحبلى بأسرارها .. وتجويفات الكهوف الجبلية التي لا نعلم ماذا تحوي .. وذات تحاول العبور للجهة الأخرى لتشهد الشروق من هناك وتعانق أمواج البحر المملوءة برائحة اليود ، حُلم يشكل المسار الرمزي للطريق سرعان ما تصحو منه دارية وتسحب ورقة بيضاء .. وتكتب ! الحل الذي وصلت إليه "دارية / سحر" في نهاية روايتها الأولى هو الانعكاس الفعلي لحلمها ، وهو انعكاس يتضح حتى في مفاصل مجموعتها القصصية الممتازة "آلهة صغيرة" عن قط يقرر التمرد على صاحبه أو رجل خمسيني يتساءل بحزن عن حياته الماضية أو شخصيات خيالية تبحث عن الحُب في كون يحاول قهره أو حتى استحضار شهرزاد ذاتها لتكمل الحكي ! ، أفكار تتشابك وتتكامل فيما بينها لتشكل ما يشبه المشروع الروائي للكاتبة ..
وما يجعل نون هي أهم – وأفضل – حلقات هذا المشروع ليسَ فقط تميزها على الأعمال السابقة من الناحية التقنية الكتابية .. ولكن أيضاً لأن سحر الموجي نفسها قد أصبحت أكثر وعياً وفهماً لمسار الحياة .. لتنقل إلينا عبر روايتها رباعية الفصول والشخوص يقينيات "حتحور" عنهم .. عنا .. عن عالم يبقى فيه السحر رغم كل سراديبه السوداء ..
ويقينيات حتحور تلك شديدة البساطة والبراءة للدرجة التي نجعلنا ننساها وسط صخب الحياة .. وعلى قدر بساطتها وعلى قدر ما نستشفها منذ البداية بفطرتنا .. على قدر ما تتوه منا وسط الطريق ونُكمل الرحلة في محاولة استعادة ما كان معنا بالفعل !
مُنذُ البداية تُحدد لنا سحر على لسان حتحور الطرق الثلاث : "طريق السلامة : الذي لا يحمل معرفة ، وطريق الندامة : الذي ليس له وجود ، طريق ذهب الروح : حين تنقيها الآلام والتجارب لتصبح ذهباً حقيقياً في كاملِ نقاؤه" ، ومن خلال ذلك التحديد يتشكل بداخلهم/بداخلنا سؤالٌ عميقٌ عن من يحدد الطريق : هل الحياة هي من تحددنا ؟ أم نحنُ من نُحَدَّدها ؟؟
هناك شيء ما يثيرني بشدة في تلك الرواية .. وهو الطريقة التي يتم بها استكشاف مناطق الألم الإنساني والتعامل معه بكل تناقضتنا البشرية التي نراها في حياتنا ، هنا شخصيات تحاول الهروب من تلك الآلام لأن مواجهته صعبة بالفعل .. تتشكك حيناً في بعض مبادئها الحياتية .. وتسخر حيناً آخر مما تؤمن به .. ولكن في النهاية تصل أغلب الشخصيات لحتمية المواجهة والموت الذي يفتح أبواباً أخرى للحياة نكون فيها نحن بعدما لامس الألم جزءً من روحنا فنقاها ..
تلك الأمور تتضح بشدة في اللحظات المفصلية والأساسية في حياة الشخوص الأربعة .. يستكشفون حينها أشياء بقدر ما تفاجأهم بقدر ما تفاجأنا .. سحر ممتازة بشدة في بحثها الواعي عن جذور شخوصها التي لا تنفصل عن واقعهم الحالي ، في فصل من أفضل فصول الرواية على المستوى الأدبي تتذكر سارة تلك اللحظات التي جرى فيها تختينها عنوة في بيت جدتها بالصعيد .. تلك اللحظات التي تتشكل بشكل بديع ما بين الواقع والحلم تُبرز لنا الخوف والألم الذي تركته بداخلها ، عدم قدرتها على مسامحة والدها ووالدتها على تركهم لها حتى لو كان ذلك الغضب مستتراً في ضمير طفلة صغيرة ظل ينبض مؤثراً على الدكتورة الجامعية ، تلك التي لم تتجاوز آلام الطفولة وظلت في رحلة بحث عن هذا ( الأمان ) .. أماناً لم تجده مع الزوج الأول فرفض رحمها أن يحمل طفلاً منه .. أماناً دفعها لعلاقتها مع عمرو الذي مثل لها ذلك لفترة قبل أن تتركه لأنها شعرت في لحظة أن ( احتياجها قد يدفعها لخيانته ) .. وأخيراً حاولت أن تجده مع نديم وحينما ظنت أنها وجدته بالفعل تركها فجأة ولم يكن ذهابها للندوة التي تراه فيها للمرة الأخيرة – على سبيل المثال – مجرد رغبة في المواجهة وخوض المعركة الأخيرة في سبيل ذوبان الألم ، ولكنها مواجهة تختبر بها صدق اختيارات سنونها التي مرَّت .. تتخطى بسرعة إحساسها الداخلي بكونها أفضل من امرأة نديم لأن تلك في الحقيقة ليست المشكلة ونديم نفسه لم يعد سوى حلقة مرَّت بها في سبيل بحثها عن الأمان ، جزء من الماضي ينبغي أن يصهرها ألمه حتى آخر قطرة لعل ذلك يبعث في عتمة الروح نقطة نور تحتاجها لترى المستقبل .. تتجه نحو المعبد .. نحو الشرق .. متحدة مع روح حتحور .. تلك الباقية بداخلها في عالمٍ آخر ، سارة في الحقيقة تستكشف أن احتياجها يتجاوز الأمان الخارجي الذي قد يعيطه لها أي من هؤلاء قدرما هو احتياج "لأمانٍ داخلي" تصل إليه في النهاية ، أمان يمثل تصالحاً كاملاً مع كل جذور الماضي بكل ما احتواه من وجع ..
الضلع الثاني من مربع شخوص الرواية ربما يكون الضلع الأكثر تعقيداً على الإطلاق .. ربما لأنه أكثر من امتلك وجوهاً متتابعة في بنيته المُحكمَة ، حُسام الشاب الصعيدي الصغير .. ذلك الذي نشئ دون تأثير حقيقي لأب غائب دائماً وسط خمسة أولاد .. يبدو غير راضياً على الوضع الذي نشئ فيه .. يبحث عن لحظات حميمية تجمعه بأبيه أو بإحدى أخوته ولكن دائماً ما تبرز بالنسبة له والدته "فاطمة" كأكثر من أثر عليه ، يتذكر جيداً تلك المظاهرة التي خرج فيها من أجل سليمان خاطر متحدياً الخوف والضعف شاعراً بإحساس بالآدمية "يفرحك ويعذبك لإنك هتفضل طول عمرك تدوَّر عليه" .. ذلك الإحساس بالقوة والتحدي الذي استمر مع حسام .. طالب الاقتصاد والعلوم السياسية في مصر الذي يحلم "بتغيير الوضع السياسي في مصر" ! .. إحساس يدعم بقصة حب رقيقة مع "سلمى" التي تتشكل في أعيننا بالفعل باعتبارها رمزاً للحلم ، في اللحظة التي تذهب فيها سلمى يذهب معها هذا الوجه الحالم من حسام .. ليس فقط لكونها ذهبت ولكن لأن هموم الحياة قد بدأت تتضح أمامه .. هموم تجعل الأحلام تفر من بين أيدينا ، حسام الرجل .. يسير في خطى واثقة – وإن كانت رتيبة – نحو وضع اجتماعي جيد وزوجة وأطفال .. ولكن رغم ذلك فهو يشعر بفقده بحسام الإنسان الذي ذهب مع سلمى .. يدفعه ذلك في الدخول في علاقته مع ليلى .. هل كانت بالفعل تعيد إليه نفسه أم كانت مجرد "مُسَكَّن" يساعده على تصديق أن هناك شيء ( آخر ) خلاف تلك الحياة الرتيبة التي يحياها ؟؟ .. في نظري أنها بالفعل مجرد مسكن سرعان ما ضاعف الألم حينما "ذهبت" مرة أخرى .. الاكتشاف المبدئي الذي يصل إليه حسام يبدأ حينما يراها مرة أخرى في مشهد غريب يوصله في النهاية لسؤال "ماذا يريد ؟" ، الأمر يشبه بحثك عن شيء لفترة وحينما تصل إليه تكتشف أن قدر احتياجك إليه ليس كما ظننت .. فتبدأ في التساؤل عما تريده حقاً .. وهو السؤال الذي يدفعه بعد ذلك لاكتشافه الأكثر أهمية في أهم ما يخصه بتلك الرواية ..
بعد الكثير من الهروب والركض .. دوامات الماضي والحاضر .. اخفاء الهم الشخصي في ثوب الهم العام يقرر حُسام أن يذهب في رحلة في الصحراء تكون رحلة بداخل النفس أولاً وأخيراً – على النسق الذي ابتدعه العظيم بهاء طاهر في أعماله التي دارت في الصحراء - .. يبدو لنا أن حسام قد بدأ بالفعل في استكشاف مناطق جديدة بداخل نفسه .. مشاعر حب اتجاه دنيا لا تبدو ( كوسيلة ) تسكن له ألم سلمى قدرما تبدو ( كغاية ) في حدَّ ذاتها .. يُعيد تقييم علاقته بمنى على منهج جديد لا يدور – كما كان دائماً – عما احتاجه هو منها ولم يجده .. ولكن عما أعطاه إليها لينتظر مقابله .. هل منحها مشاعر حب حتى يطالبها بالرد ؟ وهل يجرؤ على المطالبة وهو من طوَّر من قدراته كي يستبدلها في السرير بمرأةٍ أُخرى من خلقه ؟؟ ، بعد كل هذا يذهب حسام إلى الواحة مصحوباً بقناعة أن "الحياة كانت كريمة أوي معايا" – أليست نفس القناعة التي قادت بقية الشخصيات لاكتشاف ذاتها ؟! – ليعيد النظر من البعيد ليكتشف في لحظة خاطفة "تصور إن موضوع سلمى ده كان وهمك !" مجرد وهم وهروب صنعه لنفسه .. لكي يهرب من التفكير في الآتي رابطاً إياه بماضي لن يعود أو كما قال هو حجراً على الحاضر من أجلِ لحظة فاتت .. اكتشاف حسام هذا مؤلم حقاً وموجع صدقاً .. لأنه يكشف خرافه سنوات مضت في البحث عن شيء لن يعود بدلاً من التفكير في صنع شيء جديد يدفعنا للحياة ، ولكن بقدر ما هو موجع ومؤلم .. بقدر ما يفتح له طاقة نور جديدة ليرى الأمور بعينٍ جديدة بعد أن ذهبت غشاوة الوهم .. ألم تبشرهم حتحور بالموت الذي يفتح أبواب حيوات أخرى ؟؟
الضلع الثالث في مربع سحر الموجي والذي يلحق بسارة وحسام على درب الكهانة "دُنيا" .. منذُ البداية تتشكل أمامنا كطفلة مشاكسة تحاول الوصول .. تواجه صدامات المنزل وخلافات العمل بحثاً عن ( هوية واضحة ) .. ليس فقط على المستوى الفعلي – الابنة الفلسطينية التي لم تستطع بعد الحصول على الجنسية المصرية – ولكن على المستوى الرمزي أيضاً ، تحاول أن تجد نفسها بين المظاهرات .. التفاعلات السياسية .. المنظمات المدنية لحقوق الإنسان .. ولكن الرسالة واضحة "رحلة البحث يجب أن تبدأ من الداخل" ، تخبر سارة عن حلمها الدائم "عصافير محبوسة بداخل أقفاص تحاول أن تلحقهم بالماء والطعام قبل أن يموتوا" وتخبرها سارة أن تلك العصافير هي روحها القادرة على الطيران رغم بقائها وسط القهر والظلمة تدافع عن نفسها حتى من دون زاد ، دنيا في الحقيقة تبني أغلب خيوط حياتها – حتى علاقتها بالله – كانعكاس لرفضها لقرارات ورغبات والدتها .. وبعد مرورها بتجربة عاصفة وجرح غائر تبدأ في التصالح مع ذاتها في رحلة بعث على نسق آخر – اليوجا هذه المرة ! – تبدو بعدها أكثر اتساقاً مع ما تريده ..
عن طريق أضلاع المربع الثلاثة ( سارة .. حسام .. دنيا ) تنحاز سحر الموجي لإيجابية الإنسان في تشكيل نفسه .. أننا لسنا طرفاً ( سالباً ) في تلقي آلام الحياة ومصاعبها ولكننا طرف ( فاعل وحقيقي ) يصنع من تلك الآلام تجارب تبنيه داخلياً ليصبح .. أفضل ! تؤكَّد هذه القناعة لدينا عبر شخصية الرواية الرابعة "نورا" .. نورا كذلك مرت – كالجميع – بتجارب عصيبة .. عدم التفاهم مع الأهل .. مشاكل في العمل .. انهيار بضع أحلام صغيرة .. والطامة الكبرى في الرجل الوحيد الذي أحبته وائتمنته على نفسها وأسرارها بعد زواجهما ولكنه في لحظة تهور يخون تلك الثقة لتجد نفسها متهمة أمام أهلها بنومها مع رجال آخرين قبله لتفقد حينها الأمان "انتَ ليه مش عايز تفهم يا خالد إني فقدت معاك الأمان .. أنا ممكن أعيش من غير حب ، لكن من غير أمان .. استحالة" ، هل كان جرح نورا أقوى من جراحهم جميعاً ؟ ربما .. ولكنها لم تستطع المواجهة ولو للحظة .. فتهرب عن طريق هموم لا تشكل أساس مشكلتها .. تلوم الزحام والعمل والبيت .. بل وإعالة كل احتياجها للأمان والدفء نحو الاحتياج الجنسي لتدخل في علاقات متتالية لا تزيدها سوى جراحاً ولم تستطع أن تواجه نفسها في النهاية بجوهر المشكلة بل استمرت في الهروب بالمعنى المادي – سجائر الحشيش والمخدرات والعلاقات الجنسية – والرمزي – إحساسها الدائم بالظلم والقهر أكثر من الآخرين – لذلك فالرواية تنتهي مع عدم وصول نورا للطريق الصحيح الذي وصل إليه أصدقاؤها الثلاثة ..
نورا كذلك تعكس جزءً من أكثر ما أقدره في تلك الرواية وهو "فلسفة الخيارات" .. تلك المتاهة التي وَضعتنا سحر الموجي داخلها مسيطرة عليها إلى حدًّ بعيد ، تلك الخيارات التي يمكن أن نسلكها ونحددها .. وعن طريقها نتحدد عبر دروب أخرى نسيرها .. نظرة فاحصة للتجارب الإنسانية التي نعيشها تتم من خلال معالجة عميقة للغاية أوصلت شخوصها لنهاية رواية ظلت مستمرة حتى بعد انتهاء آخر صفحاتها ! سارة تمر بتجربة رجل يتركها بصمت تاركاً فيها جرح قد لا ينسى .. ( خيارها ) أوصلها لأن تواجه ذلك الألم لكي تكمل طريقها .. نورا تهرب من تلك المواجهة وتشعر دائماً بظلم الحياة ولا تستطيع التوصل لمبادئ حتحورية قد تدفعها ( للمسامحة ) ، المسامحة التي حققها حسام مع المرأة التي تركته أيضاً وفشلت نورا في أن تحقيقها حينما وقف أمامها خالد ، كلاهما – حسام ونورا – حاولا الهرب من مشاكلهما الخاصة عبر مشاكل أخرى .. حسام عبر الهم العام .. ونورا عبر وسائلها المختلفة – الجنس والمخدرات خصوصاً - .. ولكن إلى أين قادت خياراتهما التالية كل منهما ؟ ، تتقاطع نورا كذلك مع دنيا في دوامة المشاكل مع الأهل ورفضهم لتحركاتها .. ولكن مع الوقت تصل دنيا لتصالح مع ذاتها يمكنها من ( حب ) أهلها بالفعل .. ذلك الحب الذي لا يواجه سوى بالحب ! على عكس صدامات متتالية لنورا مع أهلها ، حتى الأحلام التي امتلكها كل منهم .. كيف عادت دنيا لتحقيق حلمها الأخير بالتصوير ؟ وكيف تخلت نورا عن حلم امتكلته بموهبتها في الرسم ؟
تفاصيل أخرى كثيرة تحقق تلك النظرة العميق لفلسفة الخيارات تلك .. تصل في النهاية إلى كوننا من نختار الطريق رغم كل المصاعب التي تواجهنا .. لنصبح في النهاية تلك الذات التي نكونها في مقابل ذات أخرى كنا لنصيرها لو سلكنا خيارات أُخرى ، نظرة سحر الموجي تلك تستحق الكثير من التقدير .. دون النظر لأي اعتبارات أخرى في الرواية ! ..
وفي في خضم تلك الرحلة تبقى الكثير من التفاصيل التي يمكن التوقف أمامها .. ذلك السرد الحي الممتلك بالفعل روحاً حقيقية تجعلنا نرى المحكي عنهم كشخوص حقيقة من لحمٍ ودم ، ذلك التشبث الواضح بروح الأسطورة ، حتحور .. سخمت .. ماعت .. نوت .. تستحضرهم سحر ويتلبسونها لتسرد بهم أحداث روايتها مانحة إياها روحاً لا تنسى وتشكل من خلالهم لوحة أخرى في خلفية الرواية كرموزٍ – غير مستهلكة – للحب والنور والخير .. وكذلك الغضب والشر ، حضور مميز للحوار العامي البسيط الذي ينساب ببساطة بين شاعرية السرد ، تشكيل جيد للجانب السياسي بداخل الرواية .. لا يبدو دخيلاً – وإن بدا مباشراً وركيكاً أحياناً - على شخصيات لا تنفصل عن همها العام ومشاكل وطن وعالم تحيا بداخله .. وهو كذلك يشكل خلفية زمنية مناسبة لما يحدث ، هناك رسم واعي لخيوط المجتمع المصري في الألفية الثالثة .. عالم الجامعة والمظاهرات .. إناس يمرون سريعاً يعيشون في حالة تغيب فكري كامل عما يحدث .. شوارع القاهرة بزحامها وشتائمها وروحها الخاصة .. شخصيات ذات توجه سلفي متعسف – أخت حسام وزوجها مثلاً – في مقابل شخصيات لا تنتمي للمجتمع سوى اسماً فقط وتمارس حياتها الخاصة في انفصال كامل عن أية معايير – تامر ونورا وغيرهم - ، تفاصيل تعطي للرواية تميزاً في مناطق عدة تقرأ بأكثر من مستوى وتفاصيل تشكل جزءً من بنيتها المميزة ..
تقول دنيا في أحد حوارات الرواية – بعد أن تخيلت سارة أن حتحور قد تكتب قصتهم ! – "معاناة البشر شبة بعض حتى لو اختلفت التفاصيل" ويبدو أن طموح سحر الموجي في تحقيق رواية تتشابة همومنا بهموم أبطالها حتى لو اختلفت التفاصيل قد جعلها تنجح ، فالرواية انعكاساً لنا بالفعل .. آلامنا ومتاعبنا وطموحاتنا في الوصول ، وكما أن حياتنا مستمرة كنهرٍ هادئ لا نرى نهايته .. تأتي نهاية الرواية دون نهاية فعلية ، وكأن حتحور فجأة قد توقفت عن الحكي مع استمرار شخوصها في المضي قدماً ، سحر الموجي تمنح أبطالها فترة هدوء في النهاية يستحقونها – ونستحقها نحن أيضاً - .. تصل بسارة إلى نقطة قد لا تنتهي عندها الآلام ولكننا نصبح بالفعل في حالة اطمئنان على امرأة وصلت لأكثر درجات اليقين بأن الحياة "كانت كريمة معايا أوي" .. يقين أوصلها كذلك لأكثر درجات التسامح ، تعطي دنيا فرصة لتشاهد بعينيها نجاحاً تحققه وطرق عدة قد تخطوها بعينٍ لامعة وجدت نفسها أخيراً ، تمنح حسام مولداً جديداً لا نعرف إلى أين سيذهب بعده ولكنه بالتأكيد سيصبح أفضل ، بل وحتى نورا تنهي الرواية تاركه الحكاية تمضي ببعض الأمل في أن تستعيد نفسها في يومٍ ما .. ليست نهاية مريحة على الإطلاق .. ولكنها نهاية على نسق "سنتركهم الآن .. تمضي بهم الحياة بآلامٍ أخرى وأحزانٍ أُخرى ولكنهم سيملكون القوة التي تمكنهم من التغلب عليها في رحلتهم نحو ذهب الروح .. هل سيصلوا ؟" تاركه لنا متسمع كبير للإجابة .. متسع بطول طريق الحياة نفسه .. فالاختيار لنا أولاً وأخيراً !!
إنها رواية مهمة وشديدة التميز .. حية ومُرهقة بقدر إرهاق الحياة ذاتها .. عن الطرق التي يمكن أن نسلكها .. عن خيارتنا التي نحددها وتشكل ماضينا الذي لا نستطيع الانفصال عنه فيما بعد .. عن الحب وأثره في نفوسنا وفي تفاعلتنا مع الغير .. عن صداقة تدفعنا نحو الاستمرار .. عن روح تنقيها نار الألم والتجارب ليبقى في النهاية ذهب الروح في كامل نقاؤه .. عن الخلاص الذي نبحث عنه ولا نجده سوى بداخلنا .. رواية مهمة عن إناس كانوا فقط أنفسهن .. أو كافحن كي يكن كذلك ..
#محمد_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة التنفيس
-
الدَّين .. العقل والعِلم .. هل هناكَ تناقض ؟؟
-
رسالة إلى الدكتور يوسف إدريس
-
أخبار من عاصمة الجمهورية
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|