|
الخروج من المعتقل بكفالة المنفى (1)
هاتف جنابي
الحوار المتمدن-العدد: 2041 - 2007 / 9 / 17 - 09:08
المحور:
الادب والفن
الخروج من المعتقل بكفالة المنفى(1-3) لم أكنْ أتخيلُ في يوم من الأيام أن أقدِمَ على تلخيص تجربتي في الكتابة والحياة على أنها مشهدٌ مقتطع من مسرحية المنفى الشائكة غير المكتملة حتى النهاية، بطبيعتها الكوميدية-المأساوية، المشرعة على كافة الاحتمالات. ثمة شعور يلاحقني مثل ظلي، بأنني أسير بخُفين ِ من رمل ومخيلة بسعة الغياب، تلاحقني أنّى اتجهتُ الصحراءُ، وفي ذاكرتي ختمُ اللغة العربية. لا أعرف متى ولدت بالضبط، شأن غالبية العراقيين من أبناء جيلي والجيل اللاحق، وعليه فمرة كنتُ أدعي لنفسي الكبرَ وأخرى الفتوة، وهذا الشيء الوحيد الذي أعْلِنُ فيه انتهازيتي وهذا نوع من الاغتراب! ولادتي في إحدى قرى الفرات الأوسط الحافلة بالخضرة والمياه، في عائلة موسرة نوعا ما، غير متعلمة تمتد جذورها حتى أعالي الفرات: أبواي أميان غير أنهما طيبان ومتسامحان. جعلتني القرية مشدودا إلى الطبيعة أكثرَ من أجواء الكونكريت والضجيج. أكملتُ في مدرسة القرية(القرى)الوحيدة الصف الخامس الابتدائي. من بين الذين أتذكرهم من زملائي: (س)ابن عمي و(ع)ابن مُؤَذّن الجامع الوحيد في الناحية. كان يأتي مع أبيه – معلم التربية الدينية. لم يسلم أحدٌ من زملائي من وخزات دبّوسه الطويل تحت الأظافر، بسبب نقص في حفظ بعض الآيات. أول كأس للعرق العراقي أذوقه في حياتي وأنا في الصف الخامس الابتدائي، جعلني أستفرغ حالا قدّمه لي ولابن عمّي زميلنا(ع) الذي سرقه من أبيه. كان مذاقه مقرفا فعلا، أعطاني مناعة ضدّ العرق العراقي. لقد فجَعَنا زميلنا آنذاك بقوله: إن والدَه كان يشرب كلّ يوم حتى في المنارة! لا ريب في أن هذه الواقعة لايمكن تعميمها أو سحبها على الكثيرين من الأبرياء، لكنها علقت في ذاكرتي بفعل الطفولة التي واجهتُ في فترتها الطبيعة والبيئة الاجتماعية وحيدا باعتباري أكبرَ أفراد العائلة. ترسّختْ في ذهني فكرةُ أنّ كلّ شيء نسبي، حتى العفّة. تعلمتُ من أمّي الشعرَ حيث كانت تحفظ وتنشد على مسمعي الكثير من مقطوعات وأناشيد الشعر الملحون العراقي، ومن أبي التسامح والانفتاح على الآخر بقليل من الأمل وببعض الشك في العالم، إنقاذا للنفس من الطناطل المتربصة بها. هذه الفسحة بيني وبين الآخر تدربتُ عليها في صغري بحكم التربية العائلية، لكنْ، نظرا لاختلاطها بفكرة احترام الآخرين والانفتاح عليهم والوقوف معهم عند الشدائد، جعلها تتعرض لبعض المُنغّصات، على أساس أن الاختلاط يجلب المنفعة بقدر ما يجلب النحسَ. كانت طفولتي، رغم قسوتها ورتابة الحياة القروية، تتسم بالوداعة النسبية، لكنها واجهت محاولة محقها في سن الحادية عشرة على الأرجح، حينما تمّ تهريبي من أرض أبي (أثناء غيابه) قبل منتصف الليل، بسبب صراع بين الفلاحين على الأرض. لقد هربنا من أرضنا حفاظا على أرواحنا من الثأر الذي حُمّل أبي، بدون وجه حق، مسئوليته. لم يكنْ والدي آنذاك في البيت الذي لم يَعُدْ إليه مطلقا. أتذكر حدّ التفاصيل المملة، تلك الليلة الحالكة بصراخها وعويلها، برعبها وأحداثها الحاسمة في حياتي وحياة أسرتي. هرّبتني أُمّي تحت جنح الظلام إلى بيت الجيران الذين خبئوني في زريبة مع أبقارهم، ومنها نُقلتُ إلى كراج المدينة الوحيد بقارب عتيق، كنا نجدف بأعصابنا. لقد نجوتُ من الموت بأعجوبة، إذْ كان عليّ أنْ أقتلَ بدلا من الأب البريء الغائب حينئذ. كان هربي بمثابة أول انسلاخ واقتطاع لي من جذوري، أول منفى في حياتي. كل شيء كان مخيفا يشي بالرعب ولا سبيل لتغييره، كأنه قدر لامفر من مواجهته. فالخوف والارتياب والحذر من الكلمات أشياء دخلت القاموسَ العائلي دفعة واحدة، تبعها إحساسٌ بالغربة وفقدان الأرضية الصلبة التي كنا نستند إليها، حتى خامرنا شعور بذنب لم نقترفه أبدا. انتقلنا من فضاء مفتوح أخضر ولازوردي نمتلك حضورا ملموسا فيه، إلى مدينة صفراء رمادية غامضة كتيمة مغلقة على الغرباء من أمثالنا. كنتُ أكبرَ إخوتي، الأمر الذي جعلني أحسّ بمسؤولية أكبرَ من طاقتي، خصوصا وأن أبي أخذ يخسر في تجارته ويفقد أرضَه تدريجيا. كانت النجف النقيض الطبيعي لمسقط رأسي: خضرة تقابلها صحراء، بيت حدوده البساتين والفواكه والحقول مقابل بيت وأزقة تزورها الوحشة واليرابيع والعقارب والصراصير أحيانا ويرقص فيها الغبار، فضاء ترقبك فيه النجوم والطيور والحيوانات وحكايات الجن والطناطل والمياه وأنت جزء منها مقابل أزقة ماكرة وبيوت محكمة الغلق وأسواق يمخرها الغرباء من زوّار العتبات المقدسة. مدينة غامضة غموض الشعر الحديث، ملمومة كقنفذ، مفتوحة على الصحراء من ثلاثة اتجاهات، وعلى نهر الفرات ونخيل الكوفة من جهة الشرق. الجهة الشمالية مشرعة على المقبرة. بالإمكان الوصول إليها خلل بعض السراديب. طبعا، عليّ ألا أنسى الموتى السائرين ليلا في الطرقات. أغلب السكان المجاورين للمقبرة يعتقدون أن ثمت من يراقبهم نهارا ويسير خلفهم ليلا! تشعر وأنت في ذلك الجو بأن الجميع يرونك، أنت الغريب الطاريء، يلاحقونك بنظراتهم، يتفحصونك ويتلصصون عليك ثم يرمونك نهبا للمجهول وأنت لاتراهم وإن رأيتهم فلا تجرؤ على السؤال عن سر مثل هذا الشعور. ثمت مقبرة، كان الموتى يحلمون بها، أصبحت جارة دائمية لنا نحن الأحياء. أخذ يتنامى في داخلي إحساسُ بالظلم والفجيعة وانعدام العدالة في هذا العالم. سبايا تاريخية وشعائر اللطم والعويل تُستعاد في مواسم طقسية متوالية يُمثلها أشباهُ ممثلين وسبايا. رغم ذلك، كانت النجف بأزقتها وطقوسها ومقبرتها المهيبة ومكتباتها مكانا ملائما لي لتطوير مخيلتي وتوسيع مداركي وإشغال الروح والعقل بالتعلم والتأمل والقراءة. كان القرآن الكريم أوّلَ سِفر اقرأه في حياتي، أعدتُ قراءته أكثر من مرة، إحداها بناء على طلب أبي الذي اشترى لي تلك النسخة القرآنية الجميلة. بعده أخذت أقرأ أشعارَ شاعر العامية العراقية بامتياز(الحاج زاير) الذي تعلمتُ منه تركيب الصورة الغريبة الموحية المفاجئة وإعمال الخيال فظل يلاحقني حتى يومنا هذا. إنه في تاريخ الشعر الشعبي العراقي بمثابة الرسام(-Bosch بوش) في تاريخ الرسم الأوروبي! بعد ذلك أخذت اقرأ إمرأ القيس وطرفة بن العبد فوجدت وشائج تمردية وتطلعية بيني وبينهما غير قليلة، فألفيتُ نفسي أعود إليهما حتى في غربتي. تبعتهما بقراءة المتنبي مقترنة بمحاولة حفظ أشعاره ألفبائيا(مقلدا ماشاع عن الجواهري من حفظ أشعار المتنبي كاملة) وحين وصلتُ إلى حرف الباء استوقفني بيته الشهير(من قصيدة ميمية يعاتب فيها سيف الدولة): أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي وأسْمَعتْ كلماتي مَنْ به صَممُ فتوقفتُ عن الحفظ واكتفيتُ بقراءته عدة مرات. لقد صدمني بيته بسبكه من جهة ولكن باعتداد الشاعر المبالغ بنفسه وفخفخته من جهة أخرى- الأمر الذي لم أكنْ أميل إليه البتة، فخفتُ الوقوع أسيرَ شعره والبقاء في أسر الكلاسيكية. فانصرفتُ عنه لقراءة نسخة"المواقف والمخاطبات" للنفري، اهتديتُ إليها بفضل صاحب المكتبة التي كنتُ أتردد عليها آنذاك وأستعير منها كتبا بمبلغ زهيد وأحيانا بدون مقابل. الكتب الوحيدة التي كانت في حوزتي الشخصية في المرحلة الأولى من قراءتي هي: القرآن الكريم، ديوان امريء القيس، ديوان طرفة بن العبد، ديوان المتنبي(شرح العُكبري، ألحقته فيما بعد باقتناء نسخة ثانية بشرح عبد الرحمن البرقوقي)، "كتاب المواقف والمخاطبات" للنفري، بعض كتب الصوفية ونسخة صفراء تضم أشعار الحاج زاير والكتابات المتوفرة لبقية المتصوفة، وكراسات في السحر والتعزيم. ورسالة الغفران للمعري، ونهج البلاغة، ودواوين شعرية حديثة قليلة العدد، لكنها متنوعة. كنتُ أقرأ بعضَ النصوص المعقدة دون أن أفهم كنهها حتى النهاية. قرأتُ ما أمكن قراءته من كتب التراث والكتب المترجمة التي ازداد عددها لدى دخولي الجامعة أواخر الستينيات. حتى أنني تعودتُ أثناء دراستي على الاستعارة من أصحاب كشكات الكتب بعض المجلات والدوريات والكتب لقراءتها مقابل مبلغ زهيد، وأذكر أن السيد "أمين" الذي عمل في مكتبة بالباب الشرقي قد ساعدني في هذا الشأن كذلك. بعد سنوات وبمحض الصدفة. تفاجأت بلقائه موظفا في مكتبة "الساقي" في لندن فعرفني دون تردد. مثل هذه الأحداث جعلتني أقترب من فكرة أن تجربتي تشكلت على صورة دوائر وحلقات متشابكة ذات مفاصل مربوطة بخيط اسمه العمر والصدفة والمغامرة المفروضة. أول كتاب استعرته أثناء الدراسة من زميلتي النصرانية(ع) التي عشقتها سرّا، هو "الكتاب المقدس" بعهديه القديم والجديد وبطبعة فريدة، فألفيتُ نفسي أعيدُ قراءته مرات. استوقفني فيه كلّ من المزامير وسِفر أيوب ونشيد الإنشاد وسفر الجامعة، ولما لاححظت زميلتي تعلقي بالكتاب أهدته لي في نهاية السنة الأولى. قلتُ لها آنذاك: "ياليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما" فأدركت ِالقصد! على أن هذا الهاجس سيتكرر في حياتي وشعري مرارا في لبوس متعددة ومتنوعة. كانت مجموعتنا(صفّنا) متفتحة وطموحة للغاية، ضمتْ شعراء وكتابا وأكاديمين فيما بعد، من أمثال الشاعر نبيل ياسين، والشاعرة ناهدة محمد علي، والكاتب حكمت هلكوت وسواهم، وزميلات وزملاء ظريفين آخرين. كان زميلنا الوسيم"عدنان" يجلس في الصفوف الخلفية ويهمس"اليوم لونه وردي"! مشيرا إلى ما تلبسه أنذاك أستاذتنا في البلاغة الشاعرة "عاتكة الخزرجي" التي كانت عادة ما تلبس تنورات قصيرة وتضع ساقا على ساق. وكانت لنا علاقات شعرية مع أجيال سبقتنا وأتتْ بعدنا. تعلمتُ من امريء القيس وطرفة بن العبد التمرد وعدم الركون إلى المسلمات؛ ومن المتنبي اهتديتُ إلى أهمية اللغة وقضية السبك ودقة المعاني؛ ومن زهير بن أبي سلمى التأني ومراجعة النصوص؛ وبفضل المتصوفة التركيز على الجوانب الباطنية والتأملية، بحيث أخذت أحتقر المظاهر والفخفخة باعتبار الحياة حلما قصير الأمد؛ ومن المعري أن الشعر لايمكن أن يكون مجرد احتفاء بالشكل وتنميق الكلمات. الشعرُ بدون معنى لا يُعمّرُ طويلا. لقنني النفّري درسا مبكرا بأن الكلام يمكن أن يكون شعرا بلا وزن وقافية. ألم يقلْ الشاعرُ والمفكرُ الفرنسي(أوسكار ميلوش) في كتيّبه "بضع كلمات حول الشعر" بأن مستقبل الشعر قد يكون في نص قريب من ترتيلة وشكل العهد القديم بسلاسته وعمقه؟! لو نقلنا ذلك إلى تراثنا الأدبي، لأصبحنا قريبين من مقولة: "السهل الممتنع" بدون أوزان، ولربما حتى أمامَ تجربة النثر القرآني. رغم ما أخذتُ أهتدي إليه، خصوصا في غربتي، من دراسات وأشعار ونصوص مثيرة غير متوفرة بالعربية، إلا أن ماصاغه امرؤ القيس في البيت التالي: فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً ولكنها نفسٌ تَسَاقطُ أنفسا ظل يتمرأي أمامي إلى يومنا هذا، مزيحا بيت المتنبي الآنف الذكر بامتياز. بالمناسبة للمتنبي بيت جميل يتماهى مع هذا المعنى وهو: أرواحناُ انْهملتْ وعِشْنا بعدها منْ بعدِ ما قَطرتْ على الأقدام وثمت شاعر آخر قال بمثله: وليسَ الذي يَجري من العينِ ماءَها ولكنها روحي تذوبُ فتقطرُ جعلني بيتُ "الملكِ الضِلّيل" أحسّ بأن موتي قد جزأته الظروفُ لتعبث بي وبأمثالي أطول مايمكن، أعتى ما يمكن وأقسى ما يمكن. على أنني أخذت أتماهى مع هذا المصير لأنه أتاح لي أن أتطور على سجيتي وبطريقتي الخاصة وفقا لإيقاع حياتي ومخيلتي وعقلي والظروف التي عشتها. أقول ذلك وأنا أحس بنموّ تصاعدي تدريجي لا قفزوي. القفز السريع يُشبه الانفعال والومضة التي تلمع وسرعان ما تنطفيء. لم تكنْ ثمت بدائل أخرى متوفرة في مدينة الطقوس والكبت والحياة الجوانية المتكتمة غير شعيرة التأمل والقراءة، خاصة وأنني كنتُ أخشى الاختلاط بالشباب الأكبر مني سنا، ناهيك عن كبار السن، خوفا من الانحراف الأخلاقي أو التعرض للاغتصاب الجنسي الذي طالما حذرني منه الوالدان! حتى أن خبرا شاع بأن بعضَ رجال الدين ومدير متوسطة الخورنق التي تعلمتُ فيها كان مولعا بالغلمان! كان المدير المذكور يضرب التلاميذ بخيزرانة لا تفارقه طول فترة الدوام الرسمي وعلى مرأى الجميع، كان ديكتاتورا محليا صغيرا. كنتُ أعتقد أن النجف مدينة تُعِدّ نفسَك فيها وترحل. مدينة أضرحة وطقوس جوانية وأسرار وغياب عززه قبر المهدي المنتظر بين النجف والكوفة. بقيتُ فيها من الصف السادس الابتدائي حتى نهاية المدرسة الإعدادية، بعدها انتقلتُ إلى بغداد للدراسة في قسم اللغة والأدب العربي بجامعة بغداد.، تخرجتُ منها في 1972 حيث استدعوني إلى الخدمة العسكرية لمدة سنة كجندي مكلف. بعد التخرج، أرسلوني إلى الزبير في البصرة ووضعوني في كتيبة دبابات جاثمة يعلوها الغبار المتطاير من كل اتجاه. تحدها الصحراء من حدب وصوب، وفي جنوبها البعيد يقع "حيّ الطرب" – مبغى غجري، وخلفه الحدود الكويتية. زرته بمعية زميلين من الحامية: محام بصراوي ومدرس لغة إنجليزية. لا أعرف مصير(أبي قتيبة)، بينما هاجر الثاني إلى أميركا حيث أصبح أستاذا. كتبتُ مجموعة من قصائدي على الرمل، مثلما كتبت بعضها تحت"اليطغ" السرير الحديدي المتداعي، بغرض التمرن أولا، ولخوفي من التهلكة فيما لو نقلتها على الورق ثانيا. كل شيء سحقته بساطير العسكر، كل شيء محته الريحُ. وردتْ مقاطع منها في قصيدة "العزف على الجمجمة"(1972): قد أسفحُ فوق الجلد بكائي، قد أرسم فوق الرّمل ضريحا، يحمل عنوانَ الروح". عدتُ فيما بعد إلى هذه الفكرة عدة مرات وفي أوقات متفرقة، وبتنويعات مختلفة، حتى أنها دخلتْ قاموسي البولندي وتشبثت ببعض أحلامي. كان قد أشيع بأننا لن نتعيّنَ في سلك التعليم طالما بقينا خارج صفوف الحزب الحاكم، لكن بعد انتهاء الخدمة صدرَ قرارٌ بتعييني في مدينة كركوك، فكان ذلك بمثابة إبعاد لي، لكنني تعاملت معه فيما بعد على أنه رحمة بي مقارنة بجو العاصمة الملبد بالغيوم والغموض المتفاقم. كانت الملاحقات والمداهمات تتم في تلك الفترة بنوع من التكتم لكنها أخذتْ تنفلت بوتيرة متصاعدة، حتى بلغتْ أوجها في أواخر السبعينيات، تمهيدا لظهور فترة المحق الكلّي والتزييف الشامل. في مكتبات النجف الخاصة والعامة وأيامها المستسلمة للكتمان شرعتُ بتلمس نفسي شعرا. الشعرُ هو الذي بحثَ عني وليس العكس. جاءني الشعرُ منقذا ووسيطا بين عوالم متناقضة: العسرُ بعد اليُسر، الريف والمدينة، الانفتاح والانغلاق، الخضرة والصحراء، الاكتفاء الذاتي بما تهبه الأرضُ مجانا، بحقولها وبساتينها ثم البحث بصعوبة عن لقمة العيش: (بائعا للسجائر وبعض ملابس النساء الداخلية خفية، في آخر كل أسبوع، في المقاهي والشوارع، طيلة سبع سنوات)، الانسلاخ عن الجذور والبحث عن مأوى، شعور حاد بالاغتراب والخوف من المجهول، فقدان الطفولة دفعة واحدة وترميم حياة بالغة على عجل. خروجنا الأول مسرعين من الدائرة الأولى وسَمَ حياتي حتى النهاية بميسم الرحيل والمنفى وعدم الاستقرار، وصعوية الانتماء إلى المكان. ما الذي يربطك بمكان أنت عابرٌ فيه؟ في بغداد عشتُ ودرستُ وكتبتُ وصادقتُ طيلة أربع سنوات، وسكنت في أحياء متفرقة ومتباعدة منها: في الأعظمية، وراغبة خاتون والبتاوين في غرفة لدى عائلة مسيحية(كانت تعاملني كأحد أبنائها). تحولت العاصمة بعدها إلى مكان أعود إليه بمثابة عابر سبيل. لاعلاقة مباشرة لي بتجمعاتها الأدبية والسياسية. كنتُ ومازلتُ أعمل ك(سولو-solo)- على طريقة العزف المنفرد، متوجسا من التجمعات وكثرة العلاقات التي قد تمتص طاقتي ووقتي فيما لا نفع فيه. لكنني ألحقت بنفسي ضررا مؤقتا، لأن حالتي المذكورة قد ساهمتْ في تأخر نشر كتبي. حياتيا، كان عليّ مواجهة إفلاس أبي وغربتي وقدري كإنسان عاش في واقع الحال أعزل إلا من الشعر. أنقذني الشعرُ ومنحني جلالة العزلة وأناقة الكلمة ومناعة ذاتية لاتتوفر للكثيرين من بني البشر، بحيث وَفرَ عليّ مواجهة معاناة الشعور بالوحشة والتجاهل، وعدم الاستقرار وحيدا. أصبح الشعر رفيقي وشفيعي في مواجهة أمكنة متغيرة وحياة متلونة وقاسية. علمني الشعرُ والحكايات أنْ أصمد وأتخيل بسعة الكون، لكن قراءة النثر من قصة ورواية وتاريخ وميثولوجيا وفكر وسِيَر ذاتية ومسرحيات أعطتني بعضا من المعرفة وسعة النظر، وسهلت عليّ كتابة الشعر كذلك. كنتُ أقرأ بنهم كأنني سأموت غدا. كتبتُ القصة القصيرة والشعر بنفس الوقت، لكنني توقفتُ عن ممارستها في العام 1989 بعد أن احترقت مخطوطتان شعريتان لي ومخطوطتي القصصية الأولى الوحيدة في حريق شب في شقتي في وارسو أثناء حضوري أمسية شعرية في بيت الثقافة وسط المدينة القديمة. كان صديقي الشاعر البولندي يقرأ قصائده الصادرة عن البيت الثقافي ذاته في سلسلة تحمل عنوانا لافتا "المخطوطات تحترق"! غريبٌ أمرُ هذه الدنيا. كتبت بعدها قائلا: "الحياة، هي الأمل الوحيد المتبقي للموت
يالها من قصيدة عظيمة هذه الفكرة المحتضرة!". وفي مكان آخر قلتُ:
"إذا أردتَ الضحك فاضحكْ وإذا أردتَ البكاءَ فابكِ، لكنْ لاتتكلمْ بهاتين اللغتين".
(يتبع)
#هاتف_جنابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقدمة في المنفى والمهجر
-
الأكتاف المبللة
-
حوار مع -الحوار المتمدن-
-
العملية الإبداعية الحلقة الأخيرة
-
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي
...
-
الكاتب البولندي ريشارد كابوشتشينسكي نموذجا للكتابة عن أثمان
...
-
أنثروبولوجيا العائلة
-
الأسئلة وحواشيها
-
أحلام وأباطيل أخرى
-
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي2
-
فضاءات-وصايا- انبعاث
-
ملاحظات أولية في المعرفة والعلم والعمل
-
قصيدة البياض في طور النقاهة
-
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي
-
أبقار إسرائيلية في لبنان
-
هل إسرائيل بحاجة إلى -حماس- و-حزب الله-؟
المزيد.....
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|